أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم





{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون]

في هذه الآيات الإحدى عشرة في أول سورة "المؤمنون" ذكر الله تعالى ثمان صفات تؤهل أهل الإيمان للتزكية والفلاح، وهي شاملة لفعل الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، وترك الأعمال السيئة الظاهرة والباطنة، وللأفعال المتعدية واللازمة:

الصفة الأولى: الإيمان الشرعي الذي بينه الله تعالى في آيات كتابه، ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات] وليس مجرد ادعاء الإنسان أنه مؤمن، والآية الكريمة السابقة، رد على من ادعى ذلك، دون أن يتحقق بالإيمان الذي أراده الله، وهذه الصفة هي الأساس وبدونها لا تتحقق الصفات الأخرى.

الصفة الثانية: الخشوع في الصلاة، والخشوع لله مطلوب من المسلم في كل وقت، ولكنه في الصلاة التي يقف فيها مناجيا ربه، مستحضرا عظمته، متدبرا ما يقرأ أو يسمع من الآيات، والأذكار التي يرددها في قيامه وركوعه وسجوده وتشهده، وفي رفعه وخفضه، يكون خشوعه فيها أشد من غيرها، راجع رسالة: "أثر فقه عظمة الله في الخشوع له"

http://www.al-rawdah.net/r.php?sub0=...1=khoshoo&p=27

الصفة الثالثة: الجد في العمل الصالح، والإعراض عن "اللغو" قال في اللسان: "اللغو واللغا السقط، وما لا يعتد به، من كلام وغيره، ولا يحصل منه على فائدة، ولا على نفع".

قال سيد قطب، رحمه الله في ظلاله: "لغو القول، ولغو الفعل، ولغو الاهتمام والشعور . إن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر . . له ما يشغله من ذكر الله، وتصورجلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق. وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب، ويشغل الفكر، ويحرك الوجدان . . وله ما يشغله من تكاليف العقيدة: تكاليفها فيتطهيرالقلب، وتزكية النفس وتنقية الضمير . وتكاليفها في السلوك، ومحاولة الثباتعلىالمرتقى العالي الذي يتطلبه الإيمان. وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عنالمنكر،وصيانة حياة الجماعة من الفساد والانحراف. وتكاليفها في الجهاد لحمايتهاونصرتهاوعزتها، والسهر عليها من كيد الأعداء . . وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفلعنهاالمؤمن، ولا يعفي نفسه منها، وهي مفروضة عليه فرض عين أوفرضكفاية. وفيها الكفاية لاستغراق الجهد البشري والعمر البشري.والطاقةالبشرية محدودة. وهي إما أن تنفق في هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيهاوإما أن تنفق في الهذر واللغو واللهو. والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى انفاقها فيالبناءوالتعمير والإصلاح ..." انتهى.

الصفة الرابعة: أداء الزكاة - التي فرضها الله - وفصلها رسوله، عليه الصلاة والسلام، في مصارفها، وهي قرينة الصلاة في القرآن والسنة.

الصفة الخامسة: حفظ الفروج عن المحرمات من الزنا واللواط، والبعد عن كل الوسائل المفضية إلى ذلك، ومن ذلك ما نص الله تعالى عليه، في قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ(31)} [النور].

وقوله تعالى في حجاب المرأة الشرعي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)} [الأحزاب].

وقوله سبحانه عن بيان صوت المرأة الذي تكون له آثار سيئة في قلوب مرضى القلوب: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)} [الأحزاب]

فصوت المرأة الذي تخضع به، لفتنة الرجال، عورة لا يجوز لها تعاطيه، أما صوتها الطبيعي في مخاطبتهم، بلا خضوع مفتن، فليس بعورة، وقد كان الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، يخاطبون النساء، والنساء يخاطبنهم، وهذا المعنى كثير جدا، في السنة، ومنه مخاطبتهم لنساء النبي عليه الصلاة والسلام، حيث كانوا يسألونهن عن بعض الأحكام والأخلاق، وبخاصة عائشة، رضي الله تعالى عنها، كما كانوا يسألونهن بعض حاجاتهم، كما قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ...(53)} [الأحزاب]

وقد حذر الله تعالى الذين يطلقون أبصارهم للنظر إلى ما حرمه عليهم من النظر، مجاهرة ظاهرة للناس أو خفية، لا تظهر لهم، لشدة إخفاء صاحبها بنظر عينه الخائنة، فقال:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر]. وما ورد في ذلك من أحاديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام مفصلة، للرجال والنساء، كالنهي عن الخلوة بالأجنبية وغير ذلك.
الصفة السادسة: أداء الأمانات إلى أهلها: وهي إحد أركان قيام الدولة الإسلامية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا... (58)} [النساء]

http://www.al-rawdah.net/vb/showthread.php?t=1052

الصفة السابعة: الوفاء بالعهود: والوفاء بالعهود من أهم صفات المؤمنين الصادقين، ولا ينقض العهد إلا الذين ملأ الرجس قلوبهم، وهم المنافقون، والعدل إحدى الوصايا العشر العظيمة التي ذكرت في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ...} إلى قوله تعالى: {... وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا.. (152) }. [الأنعام] وفي سورة الإسراء ذكر العدل، مع أحد عشر قضاء أمر بها عباده، فقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً (34)} [الإسراء]

الصفة الثامنة: المحافظة على الصلوات، ويلاحظ أن الله تعالى ذكر صفة الخشوع في الصلاة، بعد ذكر الإيمان مباشرة، وجعل الصلاة، الصفة الثامنة، ويبدو – والله أعلم – أن ذلك إيذان بأهمية الخشوع، وأن الذي يتصف به في صلاته، هو الجدير بالمحافظة عليها، بخلاف اللاهي فيها، فإن لهوه يحجبه عن عنايته بها ومحافظته عليها، ولا يحافظ عليها إلا الخاشع، لأن الخاشع فيها يشعر بالطمأنينة والقرب من الله، ويقوي في قلبه حب الطاعة وبغض المعصية، فيكون دائما في شوق إليها، وقد يشير إلى ذلك، قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (أقم الصلاةَ يا بلالُ ، أرِحْنا بها). [أبو داود،وصححه الألباني] وهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ... (45)} [العنكبوت]

فهذه الصفات الثمان التي ذكرت، في مطلع سورة "المؤمنين" إذا حققها المؤمن في نفسه، يكون جديرا، بتزكية نفسه، وتطهير قلبه من المعاصي والآثام، وإحلال اليقين والإخلاص في سويداء قلبه، وحقيقا بهداية الله له، وإصلاح معاشه وسعادته في دنياه، وقربه من ربه في الآخرة، في جنة الفردوس، ومرافقته، لنبيه عليه الصلاة والسلام، وسائر إخوانه، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.

وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} ثناء عظيم على من حاز هذه الصفات في مطلع سورة "المؤمنون" لأن الفردوس هو أعلى مراتب الجنة، كما وصفه بذلك الرسول عليه الصلاة والسلام، وحث أمته إذا سألت ربها المن عليها بدخول جناته، أن تسأله الفردوس الأعلى منها، كما روى ابو هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه عليه الصلاة والسلام ، قال: (إن في الجنة مائةَ درجة، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذاسألتُم الله فاسألوه الفِرْدَوس، فإنه أوسطُ الجنة وأعلى الجنة، وفوقَه عرش الرحمن، ومنه تَفَجَّرُ أنهار الجنة). [أخرجه البخاري]

وقد امتن الله تعالى على عباده المؤمنين، برحمته لهم، حيث وفقهم لتزكية أنفسهم، وأنه لولا تلك الرحمة التي منحهم وذلك التوفيق الذي سددهم به، لما حصلت لهم التزكية، فقال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور]

كما وعد تعالى من تزكى منهم بالإيمان القوي، وعمل بمقتضاه باطنا وظاهرا، فعمل الأعمال الصالحة التي أمره بها، وشرعها له، بالدرجات العالية الرفيعة في الجنة، فقال تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)} [طه] وأن تزكيتهم أنفسهم التي يطهرون بها قلوبهم، إنما تعود عليهم وتنفعهم، لأنهم يحتاجون إليها، ليثيبهم عليها، والله غني عنها وعنهم، قال تعالى: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)} [فاطر]

وقد دلت نصوص القرآن، أن أساس التزكيات، إنما هو القلب، وكذلك التدسيات والقذارات، فالقلب هو الذي يحرك أعضاء الجسد كلها، إلى الطاعات أو المعاصي، فبصلاحه تكون أعضاء الجسد صالحة، وبفساده، تكون أعضاء الجسد فاسدة، فهو الآمر الناهي للجسد، إن أمره بخير فعله، وإن أمره بشر ومنكر تعاطاه.

فالإنسان العاقل، لا يقدم على أي فعل، واجب، أو محرم، أو مكروه، أو مباح، أو مندوب في الشرع، إلا بإرادة القلب، ولهذا علق الله من اختار الدنيا على الآخرة، أو العكس على إرادة كل منهما، فقال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)} [آل عمران]

وذكر الله تعالى أن الذين يؤدون مناسكهم في الحج، ثم يدعونه ليحقق لهم ما يريدون، ينقسمون قسمين:

القسم الأول: همه الدنيا ومصالحها المادية فقط من المال والجاه والمنصب والأولاد والقوة وغيرها، لا فرق عنده بين الاستمتاع بذلك عن طريق حلال أو حرام.

القسم الثاني: قصده وغايته من دعائه إياه، أن يجود الله عليه برحمته في الآخرة، برضاه عنه، وإدخاله جنة نعيمه، وينجيه من نار جهنم، ويؤتيه من فضله المقيم لحياته في الدنيا.

فالقسم الأول الذين يريدون العاجلة فقط، هم أبعد الناس عن كل أنواع التزكية وهم محرومون من رحمة الله في الآخرة، بل هم مأزورون، لأنهم هم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك.

والقسم الثاني الذين اختاروا الآخرة بإخلاص، وسألوا رزقهم من الله في الدنيا، فوعدهم سبحانه بتحقيق ما طلبوه بدعائهم له، وسعيهم في كسب رزقهم باتخاذ الأسباب المشروعة، كما قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)] [البقرة]

والإشارة في قوله: أولئك، تعود إلى القسم الثاني، أما القسم الأول، فقد ذكر جزاءهم في قوله: {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}

هاتان الآيتان، جاءتا في سياق أداء مناسك الحج، التي هي من أعظم ما يطلب المرء في عملها تزكية نفسه، كما روى أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه، قالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقولُ: (منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ). [البخاري ومسلم].

وفي حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: قال : كان أكثر دعاءِ النبي عليه الصلاة والسلام: (اللَّهمَّ آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حَسنة ، وقِنا عذابَ النار) [أخرجه البخاري ومسلم]

والدعاء باللسان في هذا المقام وغيره، لا بد أن يكون صادرا عن القلب، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك، قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)] [آل عمران] فإرادة القلب هي أساس الأقوال والأفعال.

وكون القلب هو المحرك لنطق اللسان، وفعل الجوارح، كفتح العين وغمضها، وبطش اليد وقبضها، ومشي الرجل ووقوفها، وقيام الجسم واضطجاعه، وكل حركات الجسم، مرهون بإرادة القلب وأمره، حقيقة لا يمترى فيها، فهو في الحقيقة مناط التكليف في الدنيا، ومحل الجزاء في الآخرة.

من ذلك تعليق إثم كاتم الشهادة بقلبه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} [البقرة] فهذه الشهادة لا ينطق بها القلب، وإنما ينطق بها اللسان، ولكن اللسان، لا ينطق إلا إذا أمره القلب.

ومن ذلك كفارة اليمين التي فرضها الله على الحانث فيها، لا بد أن ينعقد عليها القلب، ولا يؤاخذ الحالف بمجرد نطق اللسان، كما قال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)} [البقرة]

وتأمل قول الله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)} [النساء] وفكر بقلبك، وانظر بعينك، واسمع بأذنك، وقارن بين ما يريده الله لخلقه – وبخاصة المسلمين – وما يريده هؤلاء؟ الله تعالى يريد لهم الطهارة ومعالي الأمور والعدل وحسن الأخلاق، والتوبة إليه من الآثام والأرجاس، وهم يريدون لأنفسهم تدنيس قلوبهم، وقذارة أنفسهم، وسقوط هممهم، ونشر الفواحش والمنكرات التي تجعلهم عبيدا للشيطان، وهدفا لإجلابه عليهم بخيله ورجله، فهم إنما يفعلون ذلك كله بإرادة من قلوبهم، تحرك بالسوء والشر أجسامهم، فإرادة قلوبهم هي التي جعلتهم يسعون في الميل العظيم الذي أرادوه، وأراد لهم الله غيره.

وقد بين رسول الله عليه الصلاة والسلام، أن الأصل في تحريك الجسم بجميع أعضائه، إنما هو القلب، روى النُّعمان بنِ بَشيرٍ رضيَ اللَّه عنهما قال: سمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُولُ: (إِنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ، وإِنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهما مُشْتَبِهاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَن اتَّقى الشُّبُهاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشبُهاتِ، وقَعَ في الحَرامِ، كالرَّاعي يرْعى حَوْلَ الحِمى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَع فِيهِ، أَلاَ وإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمهُ، أَلاَ وإِنَّ في الجسَدِ مُضغَةً إذا صلَحَت صَلَحَ الجسَدُ كُلُّهُ، وَإِذا فَسَدَتْ فَسدَ الجَسَدُ كُلُّهُ: أَلاَ وَهِي القَلْبُ) [البخاري ومسلم].

قال ابن تيمية، رحمه الله: في مجموع الفتاوى: " ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سَرَى ذلك إلى البدنبالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليهوسلم في الحديث الصحيح‏: ‏‏(‏ألا وإن في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحت صَلَح لهاسائر الجسد، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ لها سائر الجسد، ألا وهي القلب‏)‏.

وقال أبو هريرة‏:‏ "القلب مَلِكٌ والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملكطابت جنوده، وإذا خَبُثَ الملك خبثت جنوده، وقول أبي هريرة تقريب، وقول النبي صلىالله عليه وسلم أحسن بياناً، فإن الملك وإن كان صالحاً فالجند لهم اختيار، قد يعصونبه ملكهم وبالعكس، فيكون فيهم صلاح مع فساده، أو فساد مع صلاحه، بخلاف القلب؛ فإنالجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام‏: ‏‏(‏إذاصلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد‏)‏

فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً، لزمضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهلالحديث‏:‏ قول وعمل، قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازمله، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد؛ ولهذا قال‏:‏ من قال من الصحابه عنالمصلي العابث‏:‏ لو خَشَع قَلْبُ هذا لخشعت جوارحه‏.‏" انتهى

ففي حديث النعمان، ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، ظهور الحلال الذي شرع الله حله، وظهور الحرام الذي شرع الله تحريمه، وأن هناك شبهات، لا يعلمها إلا القليل من الناس، ولذلك يشرع في حق من لا يعلمها، أن يتورع من تعاطيها، حذرا من أن يتعاطى محرما بدون علم، وشبه هذا التورع والحذر، بحذر راعي الغنم وغيره من الحيوانات، من أن تقع في زرع محميٍّ، فترتع فيه بغير قصد منه، فيبعدها عما يحيطها من حماها، وليس عن الزرع فقط، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (فَمَن اتَّقى الشُّبُهاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ) ما يدل على أن هؤلاء المتقين المستبرئين لدينهم وعرضهم، لا يقوون على ذلك إلا إذا تدبروا بقلوبهم، وتأملوا بعقولهم العواقب الوخيمة، فإذا لم يتدبروا ويتعقلوا، ويفضلوا تنزيه أنفسهم من تلك الشبهات، تعرضو للطعن في دينهم، والوقوع في أعراضهم، وذلك هو لب التزكية الربانية النبوية الإبراهيمية المحمدية.

ثم زاد الأمر بيانا، بمشبه به محسوس يعلمه كل الناس، ولا يتعاطون التعدي عليه، وهو أن لكل ملك من ملوك الدنيا حمى يحظر على الناس الاقتراب منه، والناس يخافون أن يقتربوا منه لسطوة الملك، وقدرته على معاقبة من تجاوز حظره، والمقصود من ذلك بيان أن الناس إذا كانوا يحذرون الملوك، فلا يقربون حماهم، فإن محارم الله يجب أن تكون أشد حرمة واحتراما وبعدا عنها، فلا يقعوا فيها، لأن بعض الملوك قد يتخذ حمى غير مشروع، بل قد يكون ظلما، والله تعالى لا يشرع إلا ما فيه مصلحة لخلقه، وهو أرحم بهم من أنفسهم، ولا يظلم ربك أحدا، وهو أشد قوة من جميع المخلوقين، وأعظم قدرة على جزاء من اعتدى على محارمه، فيجب طاعته فيما شرع.

وكثير من الناس، قد يقعون في تعاطي المحرمات بسبب ميل قلوبهم، إلى الشهوات التي يزينها لهم الشيطان وأتباعه، مع شعورهم بقلوبهم، بأن ما مالت إليه تلك القلوب، بعدم الاطمئنان إلى تعاطيه، فتغلبهم الشهوة ووسوة الشيطان، فلا يتورعون، ومما يعين من يريد اتقاء الشبهات والحذر من الوقوع فيها، تحقيق ما دل عليه الحديث الذي رواه وابصةَ بنِ مَعْبِدٍ رضيَ اللَّه عنه قال: أَتَيْتُ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فقال: ( جِئْتَ تسأَلُ عنِ البِرِّ؟ ) قلت: نعم، فقال: (اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، البِرُّ: ما اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، واطْمَأَنَّ إِلَيْهِ القَلْبُ، والإِثمُ ما حاكَ في النَّفْسِ وتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ، وإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوكَ) [قال النووي رحمه الله في رياض الصالحين: حديثٌ حسن، رواهُ أحمدُ، والدَّارَمِيُّ في [مُسْنَدَيْهِما".]

وَروى أبو هُريْرة رضي الله عَنْهُ، قال: قالَ رَسُولُ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: (إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعمالِكُمْ) [مسلم.]

في هذا الحديث قسم الإنسان قسمين اثنين، القسم الأول: جسم وصورة، والقسم الثاني قلب وعمل، وأوضح أن الله تعالى لا ينظر إلى القسم الأول في الإنسان نظر تكريم وحب ورتبة تقربه إليه، بل ينظر إليه، إذا خلا من القسم الثاني نظر سخط ومقت، فهو عنده كما قال الله تعالى فيمن يزعم أنه يتقرب إليه بنحر الأضاحي في الحج، بدون تقوى له ولا إخلاص، فلا يقبلها الله منه لمجرد سفك دمها وتوزيع لحمها، وإنما يتقبلها منه لتقواه، كما قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ... (37)} [الحج] ولكنه ينظر إلى القسم الثاني، الذي هو القلب الذي يثمر إيمانه ويقينه وتقواه العمل الصالح الذي يتقرب به إلى ربه.

احفظ هذه القاعدة: " القلب أساس التزكية والتدسية " وتدبر قول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1): (9)} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}. وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس] وغيرها من الآيات.

وتدبر كل أمر يأمرك الله به، أو أمرك به رسوله، وكل نهي تقرأه في القرآن أو السنة، واعلم ان طاعتك لهما في ذلك تزكية، وعصيانك لهما تدسية ومعصية، وانظر في مرآة قلبك، هل حرك لسانك، بالنطق بالخير، أوالصمت عن الشر، وحركات جسمك كلها، هل عملتْ خيرا أو شرا، وفكر في عاقبة أمرك في ذلك كله، فجسمك وأعضاء جسمك كلها، هي جنود لقلبك، فإذا رزقك الله مُلك قلبك، بمراقبة ربك، أمنت من هلاكك بما قد تفعله أعضاؤك، وإن ملكك الشيطان، فالتقم قلبك، وملك زمامه بالوسوسة واتباع ما يأمره به من خطواته، أهلكتك جنود قلبك: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً (36) } [الإسراء]

فالقلب هو مأوى كل خير وبر ، وفيه تكمن جميع الصفات الحميدة، وهو كذلك مسكن كل سوء وشر، وفيه تنبت كل الخلال الذميمة، يتضح ذلك في حديث حُذيْفَة بنِ الْيمانِ، رضي اللَّه عنه، قال: حدثنا رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، حَديثْين قَدْ رَأَيْتُ أَحدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتظرُ الآخَرَ: حدَّثَنا أَنَّ الأَمَانَة نَزلتْ في جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرآنُ فَعلموا مِنَ الْقُرْآن، وَعلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، ثُمَّ حَدَّثنا عَنْ رَفْعِ الأَمانَةِ فَقال: (يَنَـامُ الرَّجل النَّوْمةَ فَتُقبضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ...) إلى أن قال: (حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ في بَنِي فَلانٍ رَجُلاً أَمِيناً .. وَمَا في قلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلِ مِنْ إِيمانٍ.) [متفقٌ عليه]ومعلوم أن المنافقين هم الذين تجتمع في قلوبهم الخيانة والكذب والغدر وخلف الوعد ونقض العهد، وهم الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، أو يظهرون الطاعة، ويخفون المعصية.