أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


دور الاحتياج المعنوي في الرتبة البلاغية
المقصود بالرتبة البلاغية :هي الرتبة أو الترتيب الذي يكون بين المتعاطفات،لأن الكلام يترتب بحسب الزمن أو الطبع أو الأهمية أو السبب أو الفضل والشرف،ولكن مهما كان سبب التقديم فإن الكلام يترتب بحسب الأهمية المعنوية عند المتكلم في الأصل وفي العدول عن الأصل كما في الأمثلة التالية:-
1- قال تعالى:وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي"واستواؤها كان بعد غيض الماء،وهذا من التقدم بالزمن لأن الأمرين لم يحدثا معا،ولا يمكن تقديم أحدهما على الاّخر
2- وقال تعالى"الملك القدوس المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر"ثم قال تعالى"الخالق البارئ المصور"(الحشر 23-24)تقدمت الصفات الأولى لأنها صفات أزلية أبدية وافقت الذات الإلهية في القدم ،وهي أخص من الصفات الثانيةلأنها تتعلق بالذات ،أما الصفات الثانية فلها تعلق بغير الله.
3- وقال تعالى:أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم"تقدمت الأنعام على الأنفس لأنه سبق الزرع وبحياة الأنعام حياة للبشر،فتقدمت الأنعام بالسبب.
4- وقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:اثبت أُحُد فإن عليك نبي وصديّق وشهيدان"وذلك عندما صعد أُحُدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان-رضي الله عنهم -،فتقدم النبي على الصديق على الشهيد بالفضل والشرف،وبهذا يترتب الكلام بحسب الأهمية المعنوية.
5- من التقدم بالطبع (العادة والمتعارف عليه بين الناس)تقديم الغفور على الرحيم،فهو أولى بالطبع ،لأن المغفرة سلامة والرحمة غنيمة،والسلامة تطلب قبل الغنيمة،وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال لعمرو بن العاص :أبعثك وجها يسلمك الله فيك ويغنمك،وأرغب لك رغبة من المال "فهذا من الترتيب البديع،بدأ بالسلامة قبل الغنيمة وبالغنيمة قبل الكسب،ولم يتقدم الرحيم على الغفور إلا في موقع واحد من القراّن الكريم وهو أول سورة سبأ،لأن الاّية تترتب من العام إلى الخاص،عدولا عن الأصل ،ولهذا تقدم الرحيم ليتناسب معنويا مع ما قبله ،حيث قال تعالى"الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الاّخرةوهو الحكيم الخبير*يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيهاوهو الرحيم الغفور،وقدم الغفور في هذا الموضع بسبب تقدم صفة العلم،فحسن ذكر الرحيم بعده،ثم ختم الاّية بذكر صفة المغفرة،لتضمنها دفع الشر وتضمن ما قبلها جلب الخير،ولما كان دفع الشر مقدما على جلب الخير تقدم اسم الغفور على الرحيم حيث وقع،ولما كان في هذا الموضع تعارض يقتضي تقديم اسمه الرحيم لأجل ما قبله،قدم على الغفور.فالكلام يترتب بحسب الأهمية المعنوية في الأصل وفي العدول عن الأصل
6- وقال تعالى"وحمله وفصاله ثلاثون شهرا"والفصال بعد الحمل
وقال تعالى:"إذا زلزلت الأرض زلزالها *وأخرجت الأرض أثقالها"وإخراج الأثقال بعد الزلزلة،ولكن قال تعالى"هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملا "والأصل أن يتقدم خلق الحياة على الموت ، من الخاص إلى العام،ولكن عدل عن الأصل وتقدم العام على الخاص من أجل أن يتصل الخاص (الحياة) مع ما بعده،وهو قوله تعالى"ليبلوكم أيكم أحسن عملا " لأن العمل والاختبار يكون في الدنيا وفي الحياة،فالكلام يترتب بحسب الحاجة المعنوية.
7-وقال تعالى:الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحهاإلا زان أو مشرك"حرف العطف(أو) يفيد التخيير ،وتقديم ما بعده على ما قبله لا يغير شيئا ،فنحن نقول:خذ كتابا أو قصة ،أو خذ قصة أو كتابا ويستطيع المأمور أن يأخذ أيهما شاء ،ونستطيع التقديم والتأخير بين المأخوذين،ولكن الله سبحانه وتعالىقدم الزانية على المشركةلأنها مسبوقة بالزاني،وقدم الزاني على المشرك لأنه مسبوق بالزانية،وهذا بسبب الاحتياج المعنوي بين الكلمات.
8- وقال تعالى"صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين"*صدق الله العظيم
"تقديم المغضوب عليهم على الضالين لوجوه عديدة،أحدها:أنهم متقدمون عليهم بالزمان،والثاني:أنهم كانوا هم الذين يلون النبي -صلى الله عليه وسلم-من أهل الكتابين،فإنهم كانوا جيرانه في المدينه،والنصارى كانت ديارهم بعيدة نائية عنه،ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القراّن أكثر من خطاب النصارى،الثالث:أن اليهود أغلظ كفرا من النصارى،ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة،فإن كفرهم عن عناد وبغي ،فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أحق وأهم بالتقديم، وليست عقوبة من جهل كعقوبة من علم وعاند،والرابع وهو أحسنها:أنه تقدم ذِكرُالمنعم عليهم ،والغضب ضد الإنعام،والسورة هي السبع المثاني التي يُذكَر فيها الشيء ومقابله،فذِكرُ المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الازدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالين.
9- وقال تعالى:"وسخرنا مع داودالجبال يسبحن والطير"فإن قلت:لِم قدمت الجبال على الطير؟ قلت:تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة الإلهية،وأدخل في الإعجاز،لأنها جماد والطير حيوان إلا أنه غيرناطق" فالكلام هنا مبني على التسخير والقدرة الإلهية،ولهذا تقدم ما هو أهم في الدلالة على القدرة الإلهية.
10- وقال تعالى:"يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم"قدم الجباه ثم الجنوب لأن مانع الصدقة في الدنيا كان يصرف وجهه أولا عن السائل ثم ينوء بجانبه ثم يتولى بظهره ،ولهذا تقدمت الجباه لترتبط مع الفعل أولا.
11-وقال تعالى:مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين"قدم الصديق لكونه تابعاللنبي،فإنما استحق اسم الصديق بكمال تصديقه للنبي،فهو تابع محض،وتأمل تقديم الصديقين على الشهداء لفضل الصديقين عليهم وتقديم الشهداء على الصالحين لفضلهم عليهم.
فالكلام يترتب بحسب الحاجة والأهمية المعنوية عند المتكلم في الأصل وفي العدول عن الأصل ،والمتقدم في المنزلة والمكانة متقدم في الموقع والمتأخر في المنزلة والمكانة متأخر في الموقع كذلك،والإنسان يتحدث تحت رعاية الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس.