أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


تركستان الشرقية بين الأفراح والأتراح

حسام الحفناوي

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

قال الله تعالى في محكم التنزيل:
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:137ـ142].

أي غُصَّة يجدها المرء في حَلْقه عندما يتناهى إلى مسامعه أخبار المجازر الوحشية التي يرتكبها الوثنيون واللادينيون من آكلي الكلاب والقطاط بحق إخواننا المسلمين في تركستان الشرقية[1]؟
فجائع الدهر أنواع مُنَوَّعة وللزمان مَسَرَّاتٌ وأحزان
وللحوادث سُلوان يُسَهِّلها وما لما حَلَّ بالإسلام سُلوان[2]
وكم يجول بخاطره حينئذ من جميل الذكريات وأليمها إن كان على اطلاع على التاريخ القديم والحديث للمسلمين في تلك البقاع؟

يجول بخاطره هزيمة قتيبة بن مسلم لجيوش الترك، والصغد، وأهل فِرْغانة حين زحفت بقيادة ابن أخت ملك الصين في مائتي ألف مقاتل، وكان مع قتيبة نيزك ملك الترك مأسورًا، فكسرهم قتيبة ابن مسلم، وغنم من أموالهم شيئًا كثيرًا، وقتل منهم خلقًا، وسبى، وأسر.[3]

ويجول بخاطره ما كان بين ملك الصين وبين قتيبة من مراسلات، عقيب فتح قتيبة لكاشغر، وغيرها من المدن المتاخمة للصين[4]، وأن قتيبة قد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضهم، ويختم ملوكهم، ويأخذ منهم الجزية، أو يدخلوا في الإسلام، وبعد حوار طويل دار بين رسل قتيبة وملك الصين، قال الملك: انصرفوا إلى صاحبكم - يعني قتيبة - وقولوا له: ينصرف راجعًا عن بلادي؛ فإني قد عرفت حرصه، وقلة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من يُهلككم عن آخركم، فقال له هُبيرة رئيس الوفد: تقول لقتيبة هذا؟! فكيف يكون قليل الأصحاب من أول خَيله في بلادك، وآخرها في منابت الزيتون[5]؟ وكيف يكون حريصًا من خَلَّف الدنيا قادرًا عليها، وغزاك في بلادك؟

وأما تخويفك إيانا بالقتل، فإنا نعلم أن لنا أجلًا إذا حضر فأكرمها عندنا القتل، فلسنا نكرهه، ولا نخافه، فقال الملك: فما الذي يُرضي صاحبكم؟ فقال: قد حلف أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضك، ويختم ملوكك، ويجبي الجزية من بلادك، فقال: أنا أبرّ يمينه، وأُخرجه منها، أُرسل إليه بتراب من أرضي، وأربع غلمان من أبناء الملوك، وأُرسل إليه ذهبا كثيرًا، وحريرًا وثيابًا صينية لا تُقَوَّم، ولا يُدرى قدرها.

ثم جرت لهم معه مقاولات كثيرة، ثم اتفق الحال على أن بعث صِحافًا من ذهب متسعة، فيها تراب من أرضه؛ ليطأه قتيبة، وبعث بجماعة من أولاده، وأولاد الملوك؛ ليختم رقابهم، وبعث بمال جزيل ليبرَّ بيمين قتيبة، وقيل: إنه بعث أربعمائة من أولاده وأولاد الملوك.

فلما انتهى إلى قتيبة ما أرسله ملكُ الصين، قَبِل ذلك منه؛ وذلك لأنه كان قد انتهى إليه خبر موت الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين، فانكسرت همته لذلك.[6]

ويجول بخاطره ما ذكره المؤرخون من هزيمة ساحقة لجيوش الصين، وحلفائهم من الخطا[7] سنة ثمان وأربعمائة على يد طغان خان رحمه الله تعالى ملك التركستان آنذاك؛ فقد ذكر ابن الأثير رحمه الله تعالى في الكامل[8] خروج الترك من الصين في تلك السنة في عدد كثير يزيدون على ثلاثمائة ألف خركاة[9] من أجناس الترك، منهم الخطا، وأن سبب خروجهم أن طغان خان لما ملك تركستان مرض مرضًا شديدًا، وطال به المرض، فطمعوا في البلاد لذلك، فساروا إليها، وملكوا بعضها، وغنموا، وسبوا، وبقي بينهم وبين بلاساغون[10] ثمانية أيام.

فلما بلغه الخبر كان بها مريضًا، فسأل الله تعالى أن يُعافيه؛ لينتقم من الكفرة، ويحمي البلاد منهم، ثم يفعل به بعد ذلك ما أراد[11]، فاستجاب الله له وشفاه، فجمع العساكر، وكتب إلى سائر بلاد الإسلام يستنفر الناس، فاجتمع إليه من المتطوعة مائة ألف وعشرون ألفًا.

فلما بلغ الترك خبر عافيته، وجمعه العساكر، وكثرة من معه عادوا إلى بلادهم، فسار خلفهم نحو ثلاثة أشهر، حتى أدركهم وهم آمنون لبُعد المسافة، فكبسهم، وقتل منهم زيادة على مائتي ألف رجل، وأسر نحو مائة ألف، وغنم من الدواب، والخركاهات، وغير ذلك من الأواني الذهبية والفضية، ومعمول الصين ما لا عهد لأحدٍ بمثله، وعاد إلى بلاساغون، فلما بلغها عاوده مرضه، فمات منه.

قال ابن الأثير: وكان عادلًا، خَيِّرًا، دَيِّنًا، يحب العلم وأهله، ويميل إلى أهل الدين، ويصلهم ويُقربهم.

ثم قال رحمه الله: وما أشبه قصته بقصة سعد بن معاذ الأنصاري[12]، وقد تقدمت في غزوة الخندق.

وقيل: كانت هذه الحادثة مع أحمد بن علي قراخان، أخي طغان خان، وإنها كانت سنة ثلاث وأربعمائة،انتهى[13].

ويجول بخاطره ما ذكره الحافظ ابن رجب الحنبلي في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب الذيل على طبقات الحنابلة أن المسافرين أخبروا أنه نُودي بأقصى الصين للصلاة على ابن تيمية يوم الجمعة: الصلاة على ترجمان القرآن.[14]

ولكنه على الجانب الآخر:
يجول بخاطره ما فعلته الأسرة المنشورية إبان حكمها للصين من إبادة لما يقارب المليون من مسلمي التركستان الشرقية؛ بغية إخضاعهم لحكمها، وقد نجحوا في ذلك سنة أربع وسبعين ومائة بعد الألف من الهجرة، الموافق لسنة ستين وسبعمائة بعد الألف بالتاريخ الميلادي النصراني[15].

ويجول بخاطره ما فعله طاغوت الشيوعية السَّفَّاح ماو تسي تونج من مذابح ليست بدون المذابح المنشورية آنفة الذكر، إن لم تَرْبُ عليها، وأعقب ذلك بتطبيق النظام الشيوعي الصارم عليهم في شتى مناحي الحياة، حتى تحولت حياتهم إلى جحيم ما زالوا يَصطرخون آناء الليل من لَهَبه، ويجأرون أطراف النهار من سَعيره، نسأل الله تعالى أن يُفَرِّج عنهم، ويُعَجِّل بخلاصهم من رِبْقة الشيوعية البغيضة، وما ذلك على الله بعزيز.

قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} [الأنفال:59].
لَعَمْرُكَ ما تَدري الضَّوَارِبُ بالحصَى وَلا زاجِراتُ الطّيرِ ما اللّهُ صانِعُ[16]
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــ
[1] أما تركستان الغربية، فهي تشمل عددا من دول آسيا الوسطى، وقعت فريسة للقياصرة الروس، ثم للبلاشفة الملاحدة، وتحرص الولايات المتحدة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي على السيطرة على تلك المنطقة الغنية بالثروات، وقد نجحت إلى حد كبير في ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وليست تركستان الشرقية هي المنطقة الإسلامية الوحيدة التي ترزح تحت نير الشيوعية الصينية البغيضة، بل تئن التبت الإسلامية أيضاً من جورهم، نسأل الله تعالى أن يعجل بتحرير كل بقعة مغتصبة من أرض الإسلام.
[2] البيتان لأبي البقاء الرندي رحمه الله تعالى من نونيته المشهورة. انظر: نفح الطيب للمقري (4/487).
[3] انظر: تاريخ خليفة بن خياط (ص81)، وتاريخ الطبري (3/677)، وتاريخ الإسلام للذهبي (6/30)، والبداية والنهاية (9/90).
[4] قال الأستاذ محمود شيث خطاب رحمه الله تعالى: وأوغل قتيبة حتى قارب حدود الصين القديمة، ففتح كاشغر، وجنغاريا الواقعة على حدود منغوليا، وترفان على مقربة من الحدود المنغولية، وخوتن الواقعة شمالي التبت وكشمير، وقانو التي تقع تماماً في منتصف الصين الحالية، ولكن المصادر العربية المعتمدة تقتصر على فتح كاشغر في هذه السنة ولا تقدم التفاصيل الإضافية الأخرى عن فتوح المدن الصينية الأخرى. مجلة الأمة، العدد 50، صفر 1405 هـ.
[5] أي في الشام.
[6] انظر القصة بطولها في تاريخ الطبري (4/30ـ32)، والبداية والنهاية (9/162،161).
[7] الخطا كما يسمون في المصادر العربية، ويُسَمَّون أيضًا بالقراخطائيون، أو الكورخانيون: هم من القبائل التركية الوثنية التي كان بينها وبين مسلمي التركستان سِجال. وقد تمكنوا من الاستيلاء على التركستان وبلاد ما وراء النهر بعد أن هزم الملك ـ الذين انضووا تحت طاعته ـ كوخان الصيني السلطان سنجر السلجوقي في معركة تاريخية سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وظلت تلك البلاد في طاعتهم إلى أن حرر علاء الدين خوارزم شاه كثيرًا من هذه البلاد منهم سنة اثنتي عشرة وستمائة، ثم قضى عليهم نهائيًا عقب هزيمتهم على أيدي التتار قبل تملك جنكيز خان. انظر: الكامل لابن الأثير (11/82ـ84)، وأطلس تاريخ الإسلام للدكتور حسين مؤنس (ص238ـ240) وقد ذكر (ص239) أن القراخطاي أصلهم من الصين،انتهى. وأجناس الترك والمغول والصين في هذه المنطقة متشابكة بطريقة معقدة جدًا، وقد كان المغول والتتر وغيرهم من الأمم يكثرون من الإغارة على بلاد الصين، مما حدا بملوكها إلى إنشاء سور الصين العظيم، وكان سلطان ملوك الصين يمتد خارج بلاد الصين في حالات قوة الدولة وعنفوانها، وكانت الأمم المتاخمة للصين تخضعهم لحكمها أحيانًا، وتفككت الصين إلى ثلاث ممالك في بعض الفترات، وفي (ص238) من المصدر السابق أن القراخطاي قد حكموا الصين من سنة 304 بالتاريخ الهجري، ولعلهم حكموا بعض الصين؛ فإن المنشوريين الذين حكموا الصين لقرون عديدة متأخرة هم أول الغرباء الذين يحكمون كامل الصين، وهم من أحد الأجناس التركية يُسمى بالتونغوز، وهم ليسوا صينيين أصالة؛ ولذا اعتبرهم الصينيون دخلاء عليهم. وذكر الدكتور أسامة تركماني في كتابه (جولة سريعة في تاريخ الأتراك والتركمان ما قبل الإسلام وما بعده) أن الخطا من التونغوز أيضًا، لكن هذا لا ينفي التشابك المعقد بين الشعوب المذكورة في تلك المناطق؛ فقد كانت جماعات من الصين قد هاجرت منذ قرون طويلة، واستقرت في التركستان، وكانوا بدوًا، وهناك نشأ نوع من الكتابة يُعرف بالأورخون، كتب به المغول والترك الأُول كما في أطلس تاريخ الإسلام (ص237).
ومن هنا نفهم كلام المؤرخين المسلمين عن خروج الترك من الصين، ويُرفع الإشكال عن ماهية الأمة التي هزمها طغان خان رحمه الله تعالى، وهذا هو المراد من البَسْط المتقدم، والله أعلم.
[8] ابن الأثير في الكامل (9/297).
[9] معناها: الخيمة الكبيرة، وتكون مدورة الشكل، وهي عبارة عن عصي من الخشب تجمع شبه القبة، وتجعل عليها اللبود، ويفتح أعلاها لدخول الضوء والريح، ويسد متى احتيج إلى سده، ويُراد بها أيضًا البيت، أو العائلة، وكانت مساكن الترك في هذه الخركاهات.
[10] بلاساغون: بلد عظيم كان في ثغور الترك، وراء نهر سيحون، قرب مدينة كاشغر، وكان قاعدة خانات تركستان في القرنين الرابع والخامس الهجريين. انظر: معجم البلدان (1/476).
[11] في سير أعلام النبلاء (17/279) أنه قال: اللهم عافني لأغزوهم، ثم توفني إن شئت.
[12] يشير إلى ما أخرجه الترمذي في جامعه (4/144) ـ واللفظ له ـ والنسائي في الكبرى (5/207،206)، وأحمد في مسنده (23/90)، وابن حبان في صحيحه (11/106) من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: رُمي يوم الأحزاب سعدُ بن معاذ، فقطعوا أَكْحَلَه أو أَبْجَلَه، فحَسَمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، فانتفخت يده، فتركه، فنزفه الدم، فحَسَمه أخرى، فانتفخت يده، فلما رأى ذلك ـ أي سعد بن معاذ ـ قال: اللهم لا تُخْرِج نفسي حتى تُقِرَّ عيني من بني قُريظة، فاستمسك عِرقُه، فما قَطَر قطرة، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل إليه ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ فحكم أن يُقتل رجالهم، وتُستحيا نساؤهم، يستعين بهن المسلمون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصبت حكم الله فيهم " وكانوا أربع مائة، فلما فرغ من قتلهم، انْفَتَق عِرْقُه، فمات رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وانظر: السلسة الصحيحة للألباني (برقم67).
[13] وانظر: المختصر في أخبار البشر (2/150)، وسير أعلام النبلاء (17/279،278)، وتاريخ ابن الوردي (1/321)، والبداية والنهاية (12/7)، وتاريخ ابن خلدون (4/392،391).
[14] انظر: الرد الوافر لابن ناصر الدين (ص106)، والشهادة الزكية لمرعي الحنبلي (ص51).
[15] مجلة الوعي الإسلامي بتاريخ 2/7/2009 العدد 526.
[16] البيت للبيد بن ربيعة رضي الله عنه من عينيته المشهورة في رثاء أخيه. انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (3/1337)، وزهر الآداب وثمر الألباب للحُصري القيرواني (1/427).


المصدر: شبكة الألوكة