أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمن الرحيم

هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي(وفقه الله)، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بها.

وقفات مع صبر سحرة فرعون وما كان منهم من ثبات

الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد وعلى آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن قوة يقين العبد وثبات إيمانه على الحق يظهر جليا عند تتابع الفتن وترادف البلايا والمحن،فهناك تظهر حقيقة ثقته بالله جل وعلا،وصدق توكله عليه سبحانه.
فأهل الإيمان الصادق الراسخ في القلوب لا يصرفهم عن الحق صارف مهما كان أثره، ولا يمنعه من الصدع به مانع مهما كانت قوته،وتأثيره على من خالفه.
أيها الأحبة الكرام لقد كرر الباري سبحانه خبر سحرة فرعون في كتابه العزيز في أكثر من سورة، لأنهم ضربوا في الثبات على الدين وقوة اليقين برب العالمين رغم تهديد فرعون اللعين، أفضل الأمثلة،وسطروا لنا أروع القصص .
فلقد أرسل عدو الله في طلبهم، بعد أن جاءه موسى عليه السلام ودعاه للإيمان بالعزيز الرحمن، وترك ما يدَّعيه من كذب وطغيان،وأظهر عليه السلام دعوته بالبينات التي أيده بها رب البريات، ومن ذلك العصا التي ألقاها موسى أمامه، فأصبحت بإذن الله جل جلاله ثعبانا مبينا، فظن فرعون وزبانيته أن الذي جاء به موسى عليه السلام ما هو إلا من قبيل السحر الذي يريد أن يصرفهم به عن دينهم!، فاتفق فرعون مع أشياعه أن يبطلوا ما جاء به موسى عليه السلام، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ليجمعوا له كل سحار عليم.
فجاء السحرة مسرعين راغبين في الدنيا الفانية،بعد أن اتفقوا على الاجتماع في ميقات يوم معلوم،قال تعالى:( فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين )[الشعراء : 41]
وازداد شغفهم بعد أن وعدهم اللعين بأن يكونوا كذلك من المقربين و(قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين )[الشعراء :42]
يقول الإمام ابن كثير –رحمه الله-:"أي : وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي ". تفسير ابن كثير (3/335)
ويقول الشيخ السعدي–رحمه الله- :"وعدهم الأجر والقربة منه، ليزداد نشاطهم،ويأتوا بكل مقدورهم،في معارضة ما جاء به موسى ".تفسير السعدي (ص 591)
فلما سمعوا بما وعدهم به فرعون اللعين من حطام الدنيا الزائلة!فرحوا بذلك أشد الفرح!وأقبلوا على موسى عليه السلام يتحدونه فقالوا له (يا موسى إما أن تلقي وإما نكون نحن الملقين)[الأعراف :115] ظانين أن ما عندهم من باطل ! أقوى مما عنده من الحق،فقال لهم موسى عليه السلام وهو واثق بربه جل وعلا ، متيقنا أن ما جاء به هو الصدق من ربه سبحانه العظيم،وأن ما عندهم هو كذب وزخرفة من الشيطان الرجيم (ألقوا)[الأعراف: 116].
قال الإمام ابن كثير-رحمه الله-:"قيل الحكمة في هذا، والله أعلم، ليرى الناس صنيعهم ويتأملوه، فإذا فرغوا من بهرجهم ومحالهم جاءهم الحق الواضح الجلي بعد التطلب له، والانتظار منهم لمجيئه،فيكون أوقع في النفوس". تفسير ابن كثير ( 2/238)
فلما ألقوا ما عندهم من الدجل! اغتر بهم الجهلة من الناس،يقول تعالى:(فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) [ الأعراف :116]
لأن الجهلة من الناس يتأثرون بالباطل!وينخدعون بزيفه!ويتناسون دائما أن العمل الفاسد مآله إلى الزوال والاضمحلال بعون الله الكبير المتعال،وإن كانت له في بعض الأمكنة أو الأزمنة جولة فإن للحق عليه بعون الله جل وعلا دولة، ولأهله النصر والتمكين من رب العالمين،فالعاقبة بإذن أرحم الرحمين لأهل الصلاح المتقين، الذين لا يؤثر عليهم الباطل، ولا يتزعزع يقينهم وإيمانهم بخالقهم وناصرهم سبحانه،ولهذا قال لهم موسى( عليه السلام) متيقنا بنصر الله جل جلاله له ، غير مباليا بتأثر الجهلة من الناس بباطلهم،(ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين) [يونس:81]
قال الشيخ السعدي –رحمه الله- :"فإنهم يريدون بذلك-أي السحرة-نصر الباطل على الحق،وأي فساد أعظم من هذا؟ وهكذا كل مفسد،عمل عملا،واحتال كيدا،أو أتى بمكر،فإن عمله سَيَبطل ويَضمَحِل،وإن حصل لعمله رواج في وقت ما،فإن مآله الاضمحلال والمحق".تفسير السعدي(ص371)
فأوحى رب العزة جل وعلا لنبيه الكريم بعد أن ثبته في هذا الموقف العظيم أن لا تغتر بالذي تراه،و ألقي ما في يدك تبطل بإذني ما زعموا من كذب وطغيان وتبين للناس أن ما جئت به هو صدق من الرحمن ، فقال سبحانه :( لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى)[ طه:69]
قال الإمام الطبري –رحمه الله- :" (إنك أنت الأعلى) على هؤلاء السحرة وعلى فرعون وجنده والقاهر لهم ".تفسير الطبري (16/186)
وقال الشيخ السعدي –رحمه الله-:"كيدهم ومكرهم -أي السحرة -، ليس بمثمر لهم ، ولا ناجح فإنه من كيد السحرة ، الذين يموهون على الناس ، ويلبسون الباطل ويخيلون أنهم على الحق ، فألقى موسى عصاه ، فتلقفت ما صنعوا كله ، وأكلته ، والناس ينظرون لذلك الصنيع".تفسير السعدي (ص 509)
ويقول الشيخ الشنقيطي-رحمه الله-:" (ولا يفلح الساحر حيث أتى) أي : لا يفوز ولا ينجو حيث أتى من الأرض".أضواء البيان (4/40)
فعلم السحرة يقينا بعدما رأوا أن سحرهم قد تلاشى وباطلهم قد اضمحل وزال، أن الذي جاء به موسى عليه السلام ليس بسحر ولا بكذب،وأنه من الله جل وعلا،فبادروا للإيمان مباشرة بالملك الديان،قال تعالى:(وألقي السحرة ساجدين (120) قالوا آمنا برب العالمين (121) رب موسى وهارون) [ الأعراف:120-122]
يقول الإمام الطبري –رحمه الله- : عندما عاينوا من عظيم قدرة الله ساقطين على وجوههم سجدا لربهم يقولون( آمنا برب العالمين) يقولون: صدقنا بما جاءنا به موسى، وأن الذي علينا عبادته هو الذي يملك الجن والإنس وجميع الأشياء، وغير ذلك، ويدبر ذلك كله (رب موسى وهارون) لا فرعون".تفسير الطبري ( 9/22)
وقال الإمام ابن كثير –رحمه الله- :"فظن فرعون أنه يستنصر بالسحار على رسول عالم الأسرار!، فخاب وخسر الجنة واستوجب النار ".تفسير ابن كثير (2/428)
فلما رأى عدو الله فرعون هذا الموقف من السحرة، وكيف صاروا من أهل الإيمان بعد أن كانوا من أهل الإفك والطغيان، بدأ يلقي عليهم أنواع التهديد ، ويتوعدهم بأشد أنواع الوعيد، زاعما هذا المفتري الكذاب أنه أشد عذابا من الرب العزيز الحميد ، فقال لهم:(فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمنَّ أينا أشد عذابا و أبقى)[طه :71].
قال الشيخ الشنقيطي –رحمه الله-:"هددهم مقسماً على أنه يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف : يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى مثلاً . لأنه أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة . لأنه إن كان قطعهما من جهة واحدة يبقى عنده شق كامل صحيح ، بخلاف قطعهما من خلاف . فالجنب الأيمن يضعف بقطع اليد ، والأيسر يضعف بقطع الرجل كما هو معلوم . وأنه يصلبهم في جذوع النخل ، وجذع النخلة هو أخشن جذع من جذوع الشجر ، والتصليب عليه أشد من التصليب على غيره من الجذوع ".أضواء البيان (4/ 63)
فكان ردَّهم عليه بعد أن قوي يقينهم واشتد إيمانهم، (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات و الذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا )[طه:72].
قال الإمام ابن القيم –رحمه الله-:"ولما تمكن الإيمان من قلوبهم علموا أن عقوبة الدنيا أسهل من عقوبة الآخرة وأقل بقاء وأن ما يحصل لهم في الآخرة من ثواب الإيمان أعظم وأنفع وأكثر بقاء ".الصواعق المرسلة (4/1389)
يقول الشيخ السعدي –رحمه الله- :" لما عرف السحرة الحق ، ورزقهم الله من العقل ، ما يدركون به الحقائق ، أجابوا بقولهم (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات):الدالات على أن الله هو الرب المعبود وحده، المعظم المبجل وحده،وأن ما سواه باطل،ونؤثرك على الذي فطرنا وخلقنا، هذا لا يكون (فاقض ما أنت قاض) مما أوعدتنا به،من القطع والصلب والعذاب.(إنما تقضي هذه الحياة الدنيا)أي:إنما توعدنا به،غاية ما يكون في هذه الحياة الدنيا،ينقضي ويزول ولا يضرنا،بخلاف عذاب الله،لمن استمر على كفره،فإنه دائم عظيم".تفسير السعدي(ص509)
أيها الأحبة الأفاضل إن في ثبات هؤلاء السحرة رغم ما سيحل بهم من هذا العدو الظالم ، لدليل ظاهر على أن الإيمان إذا قوي في القلب ازداد به يقين العبد بربه جل وعلا، ولهذا ثبت الأنبياء و الأتقياء والأصفياء في أشد مواطن المحن والبلاء ، فلم يغيروا دينهم ولم يبدلوا عقيدتهم ويتركوا دعوتهم رغم ما نزل بهم من أنواع الابتلاء ، فهذا إبراهيم عليه السلام عند ألقاه أعداء الجبار في النار ما كان منه إلا الثبات وتفويض أمره لرب الأرض والسموات ، متيقنا أن أرحم الراحمين لن يُضيع أنبياءه المرسلين ولا عباده الصالحين، فقال عليه السلام : "حسبنا الله ونعم الوكيل "، فعن عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما- قال :" (حسبنا الله ونعم الوكيل ) قالها إبراهيم عليها السلام حين أُلقي في النار ،وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا :( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) [آل عمران:]". رواه البخاري (4287)
يقول الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- :"فينبغي لكل إنسان رأى من الناس جمعا له، أو عدوانا عليه، إن يقول: (حسبنا الله ونعم الوكيل) فإذا قال هكذا كفاه الله شرهم، كما كفي إبراهيم ومحمدا عليهما الصلاة والسلام، فاجعل هذه الكلمة دائما على بالك، إذا رأيت من الناس عدوانا عليك فقل: (حسبنا الله ونعم الوكيل) يكفك الله عز وجل شرهم وهمهم". شرح رياض صالحين (1/557)
فردَّ الله جل جلاله كيد الكافرين، وحفظ عبده من مكر المجرمين، وجعل مخالفيه هم الأخسرين، وأمر سبحانه النار أن تكون عليه بردا وسلاما، بعد أن أراد أعدائه أن تكون حرا وإيلاما،فقال سبحانه:( قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) [الأنبياء:69]
قال الشيخ السعدي –رحمه الله-:" فكانت عليه بردا وسلاما ، لم ينله فيها أذى ، ولا أحس بمكروه ". تفسير السعدي( ص 527)
وهذا المصطفى صلى الله عليه وسلم لما خرج مهاجرا إلى المدينة فارا من بطش كفار قريش، ومعه الصديق –رضي الله عنه- ، تبعهم أعداء الدين فدخل صلى الله عليه وسلم ورفيقه –رضي الله عنه- غار حراء ، فجعل الكفار يترددون حوله ولم يروه، لأن الله جل وعلا أعماهم عن الغار ، فما رأى الصديق – رضي الله عنه- ترددهم وقرب أعداء الدين منهما ، خشي أن يكشفوا مكانهما ، فقال لنبي الله صلى الله وسلم :( يا رسول الله لو أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إلى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ ) فقال له صلى الله عليه وسلم متيقنا بحفظ ربه جل وعلا له :"يا أَبَا بَكْرٍ ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا ". رواه البخاري (3453) ومسلم (2381) واللفظ له ، من حديث أنس –رضي الله عنه-.
يقول الإمام النووي –رحمه الله- :" وفيه –أي الحديث- بيان عظيم توكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام، وفيه فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه وهي من أجل مناقبه، والفضيلة من أوجه منها هذا اللفظ، ومنها بذله نفسه ومفارقته أهله وماله ورياسته في طاعة الله تعالى ورسوله، وملازمة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاداة الناس فيه، ومنها جعله نفسه وقاية عنه ،وغير ذلك ".الشرح على صحيح مسلم ( 15/150)
ويقول الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-:" والله ظننا لا يغلبهما أحد، ولا يقدر عليهما أحد، وفعلا هذا الذي حصل؛ ما رأوهما مع عدم المانع، فلم يكن هناك عش كما يقولون ولا حمامة وقعت على الغار، ولا شجرة نبتت على فم الغار، وما كان إلا عناية الله عز وجل؛ لأن الله معهما". شرح رياض صالحين (1/330)
فعلينا أيها الأفاضل أن نستفيد من هذه القصص التي دلت على صدق اليقين برب العالمين الذي كان من السحرة والنبيين رغم ما حلَّ بهم من بلاء ،ونجعلها لنا عبرة نتذكرها عندما تنزل بنا البلايا و المحن،ولنحذر أن نضعف أمام الباطل وزخرفته مهما كثر أتباعه ولنفوض دائما أمورنا لخالقنا سبحانه، فإننا إذا صدقنا معه جل وعلا وأخلصنا في عبادته فلن يضيعنا أبدا.
ولنتصفح دائما تراجم سلفنا الصالح،خاصة ممن اشتهر أنهم امتحنوا وعذبوا ليتركوا دينهم وعقيدته الصافية ، كالإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم ، وغيرهم كثير (رحمهم الله)، فأبوا إلا الصبر والثبات لعلمهم أن ما عند الله جل جلاله خير وأبقى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:"أما أهل السنة والحديث فما يُعلم أحدٌ من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده،بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك،وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن،وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين كأهل الأخدود ونحوهم،وكسلف هذه الأمة والصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة".الفتاوى (4/50)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يقوي إيماننا ويزيد يقيننا به سبحانه، وأن يَقينا وإياكم شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه سبحانه وهو راض عنا،فهو سبحانه قدير وبالإجابة جدير.

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أبو عبد الله حمزة النايلي