.
اليوم « كلٍ في بيته ولا عليه من أحد » .. ولا حتى « سلام من بعيد»


حارة زمان .. وحشتنا لياليك وقلوب ناسك الطيبة


سوق مقيبرة وسط الرياض قبل نحو 65 عاماً حيث كانت الحياة الاجتماعية شاهدة على التواصل بين الجميع

كانت عبارة عن مسرح صغير في محيطه الجغرافي.. كبير في قيمه المجتمعية، ولم تكن حينها معاول الترف والمدنيّة تضرب أطلال «حارة زمان» التي تعايش الصغير والكبير، الغني والفقير مع عالمها المفعم بروح التقارب والتزاور والتكاتف بين أبناء وبنات الجيران، كلٌ بما يقدره الله عليه يجتمعون سوياً في أفراحهم وأتراحهم وفي شوارعهم ومنازلهم وإن قل عددهم أو زاد؛ فهم جميعاً سعيدون بمحيطهم الاجتماعي الذي آن لنا في هذا الوقت أن نسميه «حارة زمان»، والتي ما زلنا نستدعي أيامها وذكرياتها وجميل عهدها.

دكان الحارة
في زاوية الحارة كان ثمة دكان صغير لا يتجاوز الأربعة أمتار في ثلاثة تتوسطه ثلاجة البيبسي القديمة التي لطالما تسابق صبيان الحي للظفر بمنتوجاتها، والتي كان العم «أبو صالح» يربط في زاويتها عبر حبل من الخوص «مفك» قوارير هذا المشروب الغازي، الذي يحرص الأطفال على معرفة الصورة التي تحتويها أغطية هذه القارورة، وتلك في حين يلجأ بعضهم إلى جمع أغطية هذه المشروبات للعب بها أو استخدامها كعملة نقدية فيما بينهم.
كان دكان «أبو صالح» يزدان بأنواع الحلويات والبسكويت، ففي حين كان بسكويت ال»مينو» يتصدر الأرفف الواسعة كانت حلوى «الموز» و»علك ستيف» و»علك أبو طابع» وحلاوة «الكورة» و»البلوط» و»أبو بقرة» و»الجنيهات» و»أبو صغيرة»؛ تتنافس مع بسكويت «السعادة» و»أبو ميزان» وعصير «الجواهر الثلاث»، ومفاجآت «شختك بختك» وعلوك «طرزان» وغيرها من حلويات زمان التي كانت مصدر إقبال أبناء وبنات الحارة .

مسرح صغير
كان الأطفال الصغار يجمعون «القواطي» وربما عمروا إلى ثقب إحداها من جهتين وإدخال أنبوب حديدي في هذين الثقبين ليصنعا غسالة ملابس صغيرة، أو أن يجعلوا من علب زيوت «شل» المستطيلة عربة صغيرة تسير على عجلات مصنوعة من بطاريات «الجحر» ذات السالب والموجب المنتهية الصلاحية، كما كان «الجذعان» يربطون أقدامهم بعمودين من الخشب ويسيران كأطول من رجال «السيرك المسرحي».

ولا بأس حينها أن تشاهد حمد «المستعجل» وهو «يدربي» وسط أزقة الحارة «لستك البيجو» الخاص بوالده الذي كان سبباً رئيساً لتندر بنت الجيران به، وبما طال هندامه من سواد «اللستك»، حيث كانت مثل هذه الصور والمواقف شبه اليومية أمراً واقعاً ومشاهداً في حياة حارة زمان التي تعيش «نبض» الحياة بتكاتف أهلها وتقارب أحوالهم الاجتماعية والمعيشية.

منافسة وترقب
في إحدى زوايا الحي كان بعضٌ من «عيال الحارة» ما زالوا يتنافسون على «العكوس»، حيث اللعب بحماس وندية قائم بين اثنين منهم يحمل كل واحد منهم مجموعة من الكروت أو الصور لبعض المشاهير في الفن والدراما العربية والعالمية كصور «استيف أوستن رجل الستة ملايين دولار»، أو «محمد علي كلاي» أو منافسه «فريزر» يرمي كل متسابق كرته فيتبعه الآخر إلى أن يتشابه الكرتان فيظفر بالحصيلة الذي وضع كرته مؤخراً، وهناك سوف يوزع هذا الفائز ما يسميه أبناء الحارة آنذاك «بركات»، وهي بمثابة الهدية لمن ساندوه في التشجيع وآزروه في معركته الضارية مع منافسه، وفي حال تعادل الاثنين ولم يكسب أي منهم فإنهم قد يلجآن في حالة موافقة كليهما إلى ما يسمونه «الطيران»، حيث يؤخذ من كل لاعب كرتاً واحداً فقط ويرمى الكرتان عالياً والكرت الذي يسقط على الأرض منقلباً يخسر الرهان، كما يلجأ البعض في حال تعادل كفتيهما إلى ما يسمونه «لك لي»، وهي أن يوضع كرت واحد من بين الكروت بصورة مقلوبة، ويبدأ أحد المتسابقين العد فيضع الكرت الأول لخصمه، ويقول: «لك» ثم يضع الكرت الثاني لنفسه ويقول: «لي»، وهكذا «لك لي» حتى يصل الكرت المقلوب الذي يظفر به أحدهما ويظفر معه بكافة «العكوس» التي تم الرهان عليها.


أهل الحارة كانوا على قلب واحد حباً واحتراماً من الصغير والكبير

كان للعبة العكوس خطط وحيل لا يجيدها إلاّ اللاعب الذكي والمتمرس، وهو ما يسمونه حينها «حبْيل» أي أنه «يحبْل» بمعنى بخطط؛ كأن يضع إحدى الصور في آخر الكروت وإن شاهد خصمه وضع صورة مشابهة أنزل كرته بسرعة وخفة بحيث لا بشعر به منافسه، أو أن يعرف من خصمه مواقع بعض الصور فيرصدها ويضع مثلها وهكذا، وحينها كان بعض الحضور ممن يستقبلون «البركات» من الفائز يحتالون هم أيضاً بأن يضع أحدهم يده اليمنى على كتف أحد المتبارين والأخرى على كتف الآخر ويردد أثناء رمي الكروت «يا رب هذا»؛ فيظن كلا الاثنين أنه يسانده فلا يبخسه نصيبه من «البركات» التي هي عبارة عن عكس أو عكسين كجزء مما ظفر به الفائز.


صغيرات يلعبن «الدبق» أمام منزلهن

بنات الحارة
في الزاوية الأخرى من الحي كانت «بنات الحارة» يجتمعن بأدب وحشمة ليلعبن عند باب منزل إحداهن لعبة ال»دبق» التي تتلخص في جمع بعض القطع الصغيرة من الخرز والأزرة والقطع البلاستيكية والخزف ورميها في مكان محدد على الأرض؛ تتوسطه حفرة صغيرة لا يتجاوز قطرها خمسة سنتمترات تقوم المتسابقات بضرب هذا الخزف حتى يصل إلى الحفرة وتكمل كل متسابقة كافة قطعها وأزرتها، ومن تسبق في وضع كافة خزفياتها في الحفرة تكون هي الفائزة.

كما كانت البنات آنذاك يلعبن لعبة الحكي وهي أن تؤلف إحداهن - ممن تجيد فن الحبكة القصصية - قصة متكاملة الفصول والأجزاء متسلسلة الأحداث، وتعبّر القاصة عن الموجودات والعناصر الحية بالرسم بالرمل البارد «المرشوس» بالماء، وتجد مثل هذه اللعبة آذاناً صاغية من كثير من بنات الحي، لا سيما في حال كانت القاصة تملك مقومات الإبداع والخيال القصصي، وهو ما قد يجلب بعض «عيال الحارة» للسماع في حال كانت الإثارة «الدرامية» ذات مجال خصب يستلهم من خلاله الفتيان روح التجربة والمغامرة .


المشراق جمع كبار السن على الذكريات وأخبار «هنا لندن»

مشراق أبو ناصر
في وسط الحارة كان مشراق «أبو ناصر» عامر «بشيبان» الحي الذين بدأ حديثهم عن بيروت، وكأنه تغزل بأيام الشباب حين التجارة بين العراق والشام لا يقطعها إلاّ الحديث عن «النخيل» و»الكنّه» و»الزواج» و»التعدد»، وهكذا «جاك الذيب جاك وليده» حتى يدوي صوت المذياع الذي يتصدر جلستهم «هنا لندن»، ويبدو حينها الصمت هو سيد الموقف إلى أن تنتهي أخبار الساعة التاسعة صباحاً من لندن؛ لتشنّف أُذنيك بتحليلات إخبارية وتنبؤات سياسية واقتصادية، قد تجمع لك بين نزول سعر «البرحي» و»السلّج»، ورفض الجنرال «ديغول» لسياسات «روزفلت» في إغراق السوق العالمية أو ربط ما نتج عن اجتماع زعماء عصبة الأمم بكساد بضاعة «أبو مزنة» التي جلبها من حيدر آباد.


حارة مصدة من الجهة الجنوبية الغربية لمدينة الرياض 1362ه-1943م

حارة اليوم
في عصرنا الحالي تقطعت أوصال الحارة من خلال التوسع الأفقي للمدن وانحسار خروج الأطفال إلى الشوارع وتزاور الجيران، ففي الوقت الذي كانت فيه الدور والمنازل ضيقة كانت الصدور والقلوب واسعة للجميع؛ حتى أصبحت لقاءات أهل الحارة في زمننا هذا شبه مقتصرة على السلام والمقابلة في المساجد أوقات الصلوات الخمس، أو عبر التواصل الإلكتروني من خلال البرامج الحاسوبية الحديثة، كما أصبح دكان الحارة الذي يزدان بمبرد المياه الغازية أشبه اليوم بسوق شاملة لكل احتياجات الأسرة، وفي حين كان الأطفال والبنات وحتى الشباب والكهول يجدون في أزقة وشوارع الحارة أنسهم وفرحهم، بل ويقضون فيها جل ساعاتهم وأوقاتهم؛ أصبحت مظاهر الحارة الحديثة الآن خالية من كل ذلك ما عدا اجتماعات العمالة المنزلية المتمثلة بسائقي هذه الأسر الذين أصبحوا الآن ينقلون صباحاً ومساءً نساء كن قبل أكثر من أربعين سنة يلعبن «الدبق» و»الدور» و»الخطة»؛ في حين ما زال الكهول من رجال هذا الزمان يمعنون النظر جيداً في زوايا حارتهم القديمة ويتذكرون أيام الصبا وهم يرددون قول الشاعر:

تـولى زمـانٌ لعـبـنـا بـه

وجـاء زمـانٌ بنا يـلعـب




الشارع جمع الجيران على مائدة واحدة ونفوسهم راضية وسعيدة



دكان الحارة ملتقى الصغار والكبار خاصة في أوقات العصر



ألعاب شباب الحارة لا تنتهي في سعادة غامرة



مطاردة سيارة «الفليت» متعة صغار الحارة



مائدة العيد في مشراق أوشيقر قبل نحو 30 عاماً