[align=center]أبو رفيدة
إني في البداية أتمنى وأرجو من الله عز وجل أن يعود كل حاج إلى أهله سالماً غانماً مغفوراً له ، مقبولاً سعيه ، وأقول لكل حاج : كيف تجد قلبك الآن وبماذا تحس ؟ وما هو شعورك ؟
هل تعود فتنغمس في الدنيا كما كنت من قبل أو لابد من التغيير ؟ { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الرعد : 11] . وهذا التغيير ما هي خطواته وما مراحله ؟
أخي الحاج : لقد قضيت أياماً منذ خروجك من بيتك عاقداً العزم على الحج وأنت مع الله - عز وجل - قلباً وقالباً ، مؤتمراً بأمره ، بعيدا عن نهيه ، تاركاً الأهل والدنيا وراء ظهرك ، تنتظر حتى تأتي الميقات فتحرم، ثم تلبس الإحرام وتنوي، وتأتي البيت الحرام فتطوف وتسعى وتبيت وتقف بعرفات ، وترمي وتتحلل ..
خروج من طاعة إلى طاعة ، ومن أمر الله إلى أمر الله .. فاحذر أن ترجع إلى بلدك فتخالف أمره سبحانه فلابد أن تستمر على ذلك ؛ لأن أمر الله لا ينفكُّ عنك منذ مجيئك إلى هذه الدنيا ومنذ ولادتك ..
وها قد عدت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك فاحذر أن تسود هذه الصفحة البيضاء بخطاياك ، وزينها بحسناتك لتقابل الله - عز وجل - على ذلك ، ذكر في البخاري ( 1521 ) ومسلم (1350) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( من حج لله فلم يرفث ولم يفسق ، رجع كيوم ولدته أمه ) ..
يقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله - : مباني الإسلام الخمس ، كل واحد منها يكفر الذنوب والخطايا ويهدمها ، ولا إله إلا الله لا تبقي ذنباً ، ولا يسبقها عمل ، والصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفِّرات لما بينهنَّ ما اجتنبت الكبائر، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحج الذي لا رفث فيه ولا فسوق ، يرجع صاحبه من ذنوبه كيوم ولدته أمه ..
وقد استنبط معنى هذا الحديث من القرآن طائفة من العلماء ، وتأولوا قول الله - تعالى - : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى } [ البقرة : 203 ] ، بأن من قضى نسكه ورجع منه فإن آثامه تسقط عنه إذا اتقى الله - عز وجل - في أداء نسكه ، وسواء نفر في اليوم الأول من يومي النفر متعجلاً ، أو تأخر إلى اليوم الثاني .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من قضى نسكه ، وسلم المسلمون من لسانه ويده ، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) . رواه عبد بن حميد في مسنده (1150) وابن حجر في المطالب العالية (1162) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - وفي صحيح مسلم (21) من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وأن الحج يهدم ما قبله ) ..
وفي البخاري (1773) ومسلم (1349) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) ..
قيل للحسن : الحج المبرور جزاؤه الجنة قال : آية ذلك أن يرجع زاهدا في الدنيا ، راغبا في الآخرة ، وقيل له : جزاء الحج المبرور المغفرة قال : آية ذلك أن يدع سيئ ما كان عليه من عمل .
فأنت أيها الحاج بينك وبين الله عهود أكيدة :
أولها : يوم { ألست بربكم قالوا بلى } [الأعراف : 172] والمقصود الأعظم من هذا العهد ألا تعبدوا إلا إياه .. وتمام العمل بمقتضاه أن اتقوا الله حق تقواه .
وثانيها : يوم أرسل إليكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه في كتابه : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ البقرة : 40 ] ..
قال سهل التستري : من قال لا إله إلا الله فقد بايع الله ، فحرام عليه إذا بايعه أن يعصيه في شيء من أمره ، في السر والعلانية ، أو يوالي عدوه ، أو يعادي وليه .
يـا بني الإسـلام مـن علمكم ....................... بعد إذ عاهدتم نقض العهود
كل شيء في الهوى مستحسن ....................... ما خلا الغدر وإخلاف الوعود
وثالثها : لمن حج إذا استلم فإنه يجدد البيعة ، ويلتزم الوفاء بالعهد المتقدم : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [الأحزاب : 23] والحرّ الكريم لا ينقض العهد القديم .. فإذا دعتك نفسك إلى نقض عهد مولاك فقل لها : { معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون } [ يوسف : 23 ] .
من رجع من الحج فليحافظ على ما عاهد الله عليه ، وعلامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها ، وعلامة ردها أن توصل بمعصية ، ما أحسن الحسنة بعد الحسنة ، وما أقبح السيئة بعد الحسنة !!
ذنب بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها . النكسة أصعب من المرض الأول ، ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة ، ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل ، وغني قوم بالذنوب افتقر ، سلوا الله الثبات إلى الممات ، وتعوذوا من الحور بعد الكور ، كان الإمام أحمد يدعو ويقول : اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك . [/align]