أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


معترك الأقران في مسائل رؤية الله والاستواء والقرآن (2)


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم وبارك..
أما بعد: فهذه هي الحلقة الثانية من مقالنا معترك الأقران، في مسائل رؤية الله والاستواء والقرآن، لبيان وجه التقارب والتوافق بين متأخري الأشاعرة والمعتزلة والجهمية، وظهور خلاف أبي الحسن الأشعري لمتأخري الأشاعرة، وأنه مات على الإثبات للصفات الخبرية في الجملة، سوى مسائل معدودة ستذكر بتوضيح إن شاء الله تعالى..
وكنا في الحلقة الأولى تكلمنا عن تمهيد مطول، في بيان مخالفة متأخري الأشاعرة لشيخهم أبي الحسن، ونقلنا ما كان بينهم وبين شيخهم من خلاف، وأثبتنا من كتب الشيخ أنه على مذهب السلف في الجملة، وذكرنا كذلك بعض الخلافيات العقدية والمنهجية بين متأخري الأشاعرة أنفسهم بعضهم بعضاً، وها نحن بعون الله تعالى نردف تلك الحلقة بالحلقة الثانية وفيها الكلام على المثال الأول وهو:

المثال الأول: رؤية الله في الآخرة

قد أذاع الأشاعرة عن أنفسهم أنهم مخالفين للمعتزلة وأضرابهم في إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، فصالوا وجالوا مموهين على الناس أنهم كسروا المعتزلة، ونصروا مذهب السلف، وحملوا رايته كذباً وزوراً.
وحقيقة قولهم في هذا الإثبات الدعي، أنهم على الإنكار لحقيقة الرؤية، وذلك أنهم هربوا من التشبيه إلى التعطيل، فأثبتوا رؤية بلا مقابلة أو جهة، حتى أضحكوا عليهم الخلق.
فالفرق بينهم وبين المعتزلة أنهم قالوا بجواز الرؤية عقلاً وأثبتوها لفظاً من السمع، ولكنهم أحالوا حقيقتها عقلاً، والمعتزلة لم ينكروها لفظاً جاء به السمع، ولو جحدوا وروده لكفروا يقيناً، وإنما أعملوا عقلهم فاستحالوها بالكلية وقالوا بعدم الجواز عقلاً، فجاء هؤلاء فنفوا لوازم الرؤية التي هي من تمام نعمة الله على المؤمنين من عباده، ففي طريقة إثباتهم للرؤية نفوا العلو.. مع أن أدلة العلو أضعاف أضعاف أدلة الرؤية.
ويضاف إلى ذلك: أنهم خالفوا طريقة السلف في إثبات الرؤية، فالسلف أثبتوها بالسمع الصحيح عقلاً ونقلاً، وهؤلاء أثبتوها بدليلين عقليين أفصح عنهما الأشعري والأشاعرة، أحدهما:
كل موجود يجوز أن يرى، فدليل الوجود كافٍ عندهم لجواز الرؤية.
والثاني: أن من رأى نفسه يجوز أن يراه غيره، والله يرى نفسه فيجوز أن يراه غيره.
ومع أن أصل قولهم في الرؤية مبني على هذين الدليلين العقليين، فقرروا بهما الجواز، أما الوقوع فاعتمدوا فيه على السمع، أي أدلة القرآن والسنة.
ولكن: هل هم في الحقيقة يثبتون ما أثبته السلف في هذه المسألة، ويتبعون الوحي إيماناً وتصديقاً ؟
ويقال لهم أولاً:
السلف أثبتوا العلو والرؤية معاً، بل المنقول عنهم في إثبات العلو أضعاف المنقول في إثبات الرؤية، فهل تستطيعون أن تصرحوا أن المؤمنين يرون الله مع إثبات علوه ؟
لن ينبس أحدهم ببنت شفة، وسيدور على الغافلين دور الكلاب حول الدور، ويروغون روغان الثعالب حول القبور، ويتقلقلون تقلقل البقل في القدور ..
فأي عقل دل الأشاعرة على صحة اعتقاد رؤية بلا محل أو جهة؟
بل نفي الجهة يلزم منه عقلا نفي الرؤية من الأصل، لأن الرؤية تكون في محل ومقابلة باتفاق العقلاء وأهل الشرع كله، بل وأهل الملل كتابيهم ووثنيهم، وأما رؤية من لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا داخل ولا خارج، فمحالة عقلاً ومردودة شرعاً، لأنها رؤية للعدم المحض، والعدم لا يرى فضلاً عن أن يقال أنه موجود.
فإما أن ينفوا العلو فيلزمهم معه نفي رؤيته عزوجل، وإما أن يثبتوا علوه تعالى كضرورة من أجل إثبات رؤيته، وإلا فنقول لهم ما قالته المعتزلة: " من سلّم أن الله ليس في جهة وادّعى مع ذلك أنه يُرى، فقد أضحك الناسَ على عقله " . [ انظر شرح الأصول الخمسة 249-253 والمغني 4/139 للقاضي عبد الجبار المعتزلي ]
والمعتزلة يبطلون أدلة الرؤية بأدلة عقلية، فقالوا: أن العين المجردة لا ترى إلا مادة محسوسة ذات لون وحجم والله ليس كذلك، وأن الرؤية تستلزم محل وجهة بالضرورة وهي من صفات الأجسام، فأغاروا إلى أدلة الرؤية من القرآن والسنة فأولوا معناها إلى العلم والمعرفة ونفوا أن تكون رؤية حقيقية بالأبصار.
وعين دليل المعتزلة هو عين دليل نفي العلو عند الأشاعرة، فكيف خالفوهم في إثبات رؤية بلا مقابلة؟
إن القوم يستروحون أن يكونوا برزخاً بين المعتزلة وأهل السنة، فيختارون منهجاً يجمع شيئا من هنا وشيئا من هناك.
فلو أننا قلنا أن دليلهم على الرؤية سمعي صرف - كما يتشدقون بذلك وهم فيه مدعون - فيجب أن يثبتوا الرؤية كما وردت في السمع، لأن لفظ الحديث جاء بتشبيه الرؤية برؤية الشمس والقمر في علوهما.
ففي صحيح البخاري (9/127) رقم7436: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ البَدْرِ، فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ».
وفي صحيح البخاري (9/128) رقم7437: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ؟»، قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ، لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟»، قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ».
وفي صحيح البخاري (9/127) رقم7435: عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا ». فلم يدع لمتأول كلاماً .
وفي صحيح البخاري (9/131) رقم7440 : عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: .... " فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، قَالَ: ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ ". الحديث. والأدلة كثيرة جداً في القرآن تصريحاً وفي السنة من رواية ثلاثين صحابياً .
فهذا نبي الهدى صلى الله عليه وسلم يصرح في حديث أنس أنه يرى الله، وأن الله يقول له ارفع محمد فيقول فأرفع رأسي.. فأثبت الرؤية والعلو في أًصح الكتب بعد كتاب الله تعالى .
فأخذ هؤلاء نصف الدليل السمعي وتركوا نصفه، وقالوا رؤية بغير جهة، وهذا تلاعب بالعقول، وخلل في الفهم أدى إلى خطأ في الاعتقاد.
وإنما أراد أتباع السلف منهم أن يؤمنوا بالرؤية إتباعاً للنص، ولا ينفون ما أثبته الله ورسوله وجمهور السلف.
فإذا بهؤلاء المخانيث يجوزون الرؤية لأنها غير محالة عقلاً، ثم بعد ذلك يقبلون ما جاء من أدلة سمعية في الرؤية بعد هذا الاستدلال العقلي.
وثانيا: لم يسلم الدليل السمعي من تخرصهم بالكذب على الله، فغير أنه جاء في المرتبة الثانية بعد العقل، فقد قدحوا في لوازم الرؤية فأبطلوا حقيقتها عقلاً عند كافة العقلاء.
ومن وجهة نظري: أن الأشاعرة في هذه المسألة أرادوا الهرب من تكفير المعتزلة لمثبتي الرؤية ..
وذلك أن المعتزلة أجمعوا على أن مثبت العلو والرؤية كافر، والشاك فيه كافر، أما من أثبت الرؤية بلا كيفية فلم يجسروا على تكفيره .
فالسلف أثبتوا الرؤية بلا كيفية، لكنهم يقولون بأدلة العلو .. والأشعرية أثبتوا الرؤية ونفوا العلو في كيفية الرؤية.. ولذلك هربوا من تكفير المعتزلة لهم .. وهذا من أوضح ما يكون .. غاية ما في الأمر أن المعتزلة قالوا عنهم مغفلين أضحكوا الناس عليهم لأن من أثبت الرؤية بلا محل فجاهل غاية في الجهل، وحق لهم ذلك.
فهؤلاء القوم مخانيث للمعتزلة عملياً، ولا يستحقون أن يقال عنهم إنهم أقرب الناس إلى أهل السنة، بل هم مخادعة أهل السنة الذين يحاولون أن يجمعوا بين نقيضين، ليسلموا من اعتراضات المعتزلة فوقعوا فيما هو أضر على الشريعة.
وأنا أتكلم عن متأخريهم الذين لم يتوبا من علم الكلام..
إذاً: الأشعرية أثبتوا الرؤية بلا جهة موافقة للمعتزلة في شقٍ، وموافقة للسلف – زعماً- في شق، وجمهورهم يقول بذلك، غير أن بعضهم رأى قوة أدلة المعتزلة واستهزاءهم بهم فعدل إلى حقيقة قول المعتزلة وهو أن الرؤية مزيد علم بالله تعالى وليست رؤية بصرية بالعين كما قاله الغزالي [في معارج القدس 189-192]
وقال [في الاقتصاد في الاعتقاد ص40] أن الرؤية نوع إدراك ومزيد كشف بالإضافة إلى التخيل!!.
والرازي [ كما في الأربعون في أصول الدين 1/268 وأصول الدين 68-69] مال إلى أن الرؤية البصرية ضعيف، وهو قريب من مذهب المعتزلة أو محصل له.
وقال الآمدي [ غاية المرام 159] عن جواب الأشعرية لخصومهم بمثال المرآة هروباً من القول بالجهة: " لكن فيه نظر، وهو مما لا يكاد يقوى ".
فالأشعرية متفقين مع المعتزلة في المنهج الكلامي وأصوله، ومع ذلك خالفوهم في النتيجة، بل نقضوا أصولهم وأضحكوا الناس عليهم.
فدليلهم العقلي الأول في إثبات الرؤية هو الوجود: فلأن الله موجود فيجوز أن يرى ..
وتجويزهم الرؤية بلا جهة كتجويزهم رؤية الأصوات، وسماع الألوان !!! وأمثال هذه الترهات المضحكة.
وورد عليهم اعتراضات عجز عن حلها أكبر منظريهم فقال الرازي [ الأربعون في أصول الدين 1/278-277] بعد أن أورد اثني عشر اعتراضا على هذا الدليل: " فهذا ما عندي من الأسئلة على هذا الدليل، وأنا غير قادر على الأجوبة عنها، فمن أجاب عنها أمكنه أن يتمسك بالدليل ". اهـ
وقال[ في معالم أصول الدين ص68]: " العلة هي الوجود، والله تعالى موجود، فوجب القول بصحة رؤيته، وهذا عندي ضعيف ".
وأورد على هذا الدليل اعتراضات كثيرة، وقال [ في المطالب العالية 2/87] عن هذا الدليل: " وأوردنا عليه اعتراضات قوية لا يمكن دفعها البتة، وإذا عرفت ضعف دلائل الفريقين فنقول: بقي هذا البحث في محل التوقف ".
وبعد أن أثبت العجز عن حل الإشكالات عول في هذه المسألة على الظواهر السمعية، مقتديا فيها بقول الماتريدي، فقال [ الأربعون في أصول الدين 1/277] : " وهو أنا لا نثبت صحة رؤية الله تعالى بالدليل العقلي، بل نتمسك في هذه المسألة بظواهر القرآن والأحاديث، فإن أراد الخصم تعليل هذه الدلائل، وصرفها عن ظواهرها بوجوه عقلية يتمسك بها في نفي الرؤية، اعترضنا على دلائلهم وبينا ضعفها، ومنعناهم من تأويل هذه الظواهر ".
ويا عجباً لكم، عندما نمنعكم من تأويل الظواهر وصرفها عن معناها المتبادر في حق الله تعالى تقوم قيامتكم، ولما أفلس دليلكم العقلي هاهنا- وفي غيره على الحقيقة - تحاربون من يؤول الظواهر السمعية، فأي تخبط هذا ؟ وأي هوى هذا ؟ وأي خبل هذا الذي تخرجه قريحة عقولكم فتخرجونها على الناس عقيدة تبدعون من خالفكم فيها؟
وقد حاول الآمدي جاهداً في الرد على هذه الإشكالات، مقننا مقعدا حقيقة الوجود، وبعد إسهابه قال عاجزاً: " وهذا الإسهاب أيضاً مما لا يشفي غليلاً ".!!!!
وقال [ في غاية المرام ص159] عن الدليل العقلي عند قومه من الأشاعرة: " وقد سلك المتكلمون في ذلك من أهل الحق [ يعني قومه الأشاعرة ] مسالك لا تقوى ..؟.
وقال عن المتعلق بهذا الدليل أنه منحرف عن سواء الطريق، فقال [ في غاية المرام ص159]:
" ومن نظر بعين التحقيق علم أن المتعلق به [ أي المتعلق بدليل الوجود ] منحرف عن سواء الطريق ".
وأورد الشهرستاني [نهاية الإقدام في علم الكلام ص: 124-128] اعتراضات خمسة أوردها المعتزلة على الأشاعرة، ثم حاول جاهدا الرد عليها وتفنيدها، لكنه أفلس أخيراً فقال:
واعلم أن هذه المسألة سمعية، أما وجوب الرؤية فلا شك في كونها سمعية، وأما جواز الرؤية فالمسلك العقلي ما ذكرناه وقد وردت عليه تلك الإشكالات ولم تسكن النفس في جوابها كل السكون ولا تحركت الأفكار العقلية إلى التفصي عنها كل الحركة فالأولى بنا أن نجعل الجواز أيضاً مسألة سمعية وأقوى الأدلة السمعية فيها قصة موسى عليه السلام وذلك مما يعتمد كل الاعتماد عليه ".
فأظهروا أخيراً الاعتماد على السمع بعدما أفلس دليلهم العقلي ..
ولما بالغ الإيجي في المواقف [3/166] على نصرة الدليل العقلي في الرؤية، بين الجرجاني في شرح المواقف[ص208-209] أن المعول في الرؤية هو الدليل السمعي، وأن الدليل العقلي – الذي بالغ المصنف في الترويج له على حد قول الجرجاني- فيه تكلفات كثيرة قال عنها الجرجاني: " وفي هذا الترويج [ أي ترويج الإيجي للدليل العقلي ] تكلفات أخر، يطلعك عليها أدنى تأمل ".
ثم أخيراً عول على ما اختاره الرازي [وهو اختيار الماتريدي] وهو أن المعول على الظواهر السمعية، فكأنهم اخترعوا طريقة جديدة لإثبات الرؤية، وأن السلف لم يثبتوها من قبل إيماناً وتسليماً.
ويقال لهم هنا بعد نكوصهم على أعقابهم خاسرين في جولتهم مع المعتزلة:
كيف أثبتم الرؤية بالدليل السمعي - القرآن والسنة - ومن المتقرر عند بعض متعصبيكم من متأخري الأشاعرة والمتكلمين أن الأخذ بظواهر القرآن والسنة من أصول الكفر، أو هي أصول الكفر؟
وتقولون: ظواهر آيات الذكر قطعية الثبوت ظنية الدلالة، وأحاديث الرؤية تقولون أنها أحاديث آحاد ظنية الثبوت ظنية الدلالة، أي أن أدلة القرآن والسنة ليست بقطعية، فاستدللتم بالظني في عقيدتكم هاهنا، فما المخرج لكم من هذه ؟
فبان بهذا أن القوم ليس عندهم إيمان يقيني بالرؤية، لا بالدليل العقلي الذي نقض عليهم واعترفوا بعجزهم عن رده، ولا بالدليل السمعي الذي يعتقدون أنه ظني لا تقرر به عقيدة، فما هي حقيقة الرؤية عند هؤلاء القوم؟
حقيقة إدعاء استدلالهم بالسمع في موضوع الرؤية:
فهم وإن كانوا يدعون إثباتها بالأدلة السمعية، فهي عندهم في المرتبة الثانية بعد الاستدلال العقلي، ووجه استدلالهم بالسمعي مجرد تحويش لا ضرورة له، أفصح بمعنى هذا الآمدي فقال [ غاية المرام 177]: وعلى الجملة، فلسنا نعتمد في هذه المسألة على غير الدليل العقلي الذي أوضحناه، إذ ما سواه لا يخرج عن الظواهر السمعية والاستبصارات العقلية، وهي مما يتقاصر عن إفادة القطع واليقين فلا يذكر إلا على سبيل التقريب واستدراج قانع بها إلى الاعتقاد الحقيقي، إذ رُبَّ شخص يكون انقياده إلى ظواهر الكتاب والسنة واتفاق الأمة أتم من انقياده إلى المسالك العقلية والطرق اليقينية لخشونة معركها وقصوره عن مدركها .." اهـ
فيقال:
1- هذا النص من أوضح ما يكون في تلبيس الأشاعرة على الناس بدعواهم أنهم مثبتة يعظمون القرآن والسنة وأقوال السلف، وما هو في الحقيقة إلا خداع.
2- أن المعول عند الآمدي والأشاعرة عموماً هو العقل، والسمع مجرد حواشي يجملون به الحكاية ليس إلا، فهذه قيمة القرآن والسنة والشريعة عند أولئك المخانيث.
3- أن أدلة القرآن والسنة ولو بلغت ما بلغت فهي قاصرة عن إفادة اليقين والقطع عند أولئك المتكلمين الذين لا يقيمون لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وزنا.
4- إنكم إذ قدمتم العقل على النقل في هذه المسألة الغيبية التي لولا ورود الشرع بها ما علمناها، فكيف بكم تقدمون أدلة عقلية نقضها عليكم عقلاء أمثالكم، بل نقضتموها أنتم على أنفسكم كما نقلنا أعلاه؟.
أليس هذا هو الخبل بعينه: أن يردوا الاستدلال بالوحي الإلهي ويقدموا الاستدلال بالعقل البشري مع اعترافهم أنه مسلك ضعيف معترض عليه من قبلهم ومن غيرهم ؟
5- أن استدلال أهل السنة بالأدلة السمعية ( القرآن والسنة ) مبني على أنها أدلة شرعية وعقلية في آنٍ ، فكل دليل نقلي صحيح معه الدليل العقلي الصريح، فالقرآن والسنة عند أهل السنة، أدلتهما قطعية الدلالة وتفيد اليقين، أما أهل الكلام - معتزلة كانوا أو أشاعرة – فأدلة القرآن والسنة عندهم ظواهر ظنية لا تفيد اليقين والقطع.
والحديث المتواتر والآحاد عند أهل السنة إذا صح وتلقته الأمة بالقبول يفيد العلم واليقين، بينما أهل الكلام عندهم المتواتر قطعي الثبوت والآحاد ظني الثبوت وكلاهما ظني الدلالة لا يفيد قطعاً ولا يقيناً ولا تثبت به عقيدة.
فهل يتساوى الفريقان ؟ كلا والله .
الإدعاء بحجية إجماع الصحابة
ويتشدقون عندما يعرضون أدلة الرؤية أن إجماع الصحابة على إثباتها ..
والقاصمة التي تثبت نفاقهم هنا، أن يقال لهؤلاء المخانيث: إجماع الصحابة على أي شيء هو؟
على رؤية حقيقية أم على رؤية بلا مقابلة أو جهة ؟
فإن قالوا على رؤية بلا مقابلة، فقد كذبوا عليهم، لأن الصحابة عرب أقحاح يعلمون يقيناً أن الرؤية لا تكون إلا مواجهة ومقابلة، وعلى من ادعى ذلك عليهم أن يخرج علينا بدليل من كلامهم أنهم أثبتوا رؤية بلا جهة أو مقابلة.
وإن قالوا بل رؤية حقيقية، فلا يتشدقوا بذكر إجماعهم، ويعلموا أنهم لطريقهم مخالفون، وعن هديهم صادون.
وبهذا يظهر تدليس هؤلاء القوم بدعواهم أنهم يقتدون بالسلف مصدقون حقيقة بالشرع ..
وقد صرح إمامهم الأشعري خلاف ما يدعون، فنقل الإجماع من الصحابة على أن الرؤية في الآخرة بالعين، فقال في الإبانة: " وقد روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل تراه العيون في الآخرة وما روي عن أحد منهم أن الله تعالى لا تراه العيون في الآخرة فلما كانوا على هذا مجتمعين وبه قائلين وإن كانوا في رؤيته تعالى في الدنيا مختلفين ثبتت في الآخرة إجماعاً وإن كانت في الدنيا مختلفا فيها ". اهـ
هذا تقرير الأشعري نفسه، وقد أثبت الرؤية بالعين حقيقة في الآخرة، ولم يقل أنها رؤية بلا مقابلة .. فهل قال بمثل قوله أتباع مذهبه ؟
حقيقة الرؤية عند متأخريهم مجرد تخييل وزيادة علم
وحقيقة الرؤية عند متأخري الأشاعرة الذين وقعوا في عقوق شيخهم: أنها رؤية تخييلية، ليست رؤية حقيقية لذات الله عزوجل، وإنما نوع إدراك للذات بالتخيل والكشف لا بالعين المبصرة ..، وإن كانوا يجملون في معتقدهم أنها رؤية حقيقية بالعين، إلا أنهم أو متأخريهم ومنظريهم كالرازي والغزالي يثبتون في حقيقة الرؤيا أنها مزيد علم وكشف بالمرئي وليست بالعين المجردة.
يقول الغزالي [ الاقتصاد في الاعتقاد 43-46] في حقيقة الرؤية: ولا حقيقة لها إلا أنها نوع إدراك هو كمال، ومزيد كشف بالإضافة إلى التخيل، فإنا نرى الصديق مثلاً ثم نغمض العين فتكون صورة الصديق حاضرة في دماغنا على سبيل التخيل والتصور، ولكنا إذا فتحنا البصر أدركنا تفرقه ".اهـ
ثم نافح عن هذا الرأي منافحة، وشرحه شرحاً مطولاً [ في معارج القدس في معرفة النفس ص179-182] وأثبت أخيراً أنه موافقاً للمعتزلة في أن الرؤية هي العلم أو مزيد علم وكشف على حد قوله.
فالرؤية بلا جهة ومقابلة ليست عندهم رؤية حقيقية بل تخييلية، كما يقول الغزالي في مكان آخر أن عنب الجنة وفواكه الجنة مجرد تخييل وليس حقيقة، كذا قال، فرد عليه تلميذه ابن العربي وأفحمه فقال [ في قانون التأويل ص650 ]: جرى بيني وبين بعض الأشياخ [ هو الغزالي ] كلام في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الكسوف حين قال في عنقود العنب " فلو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا " فأشار إلى أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة وأن معنى أكلها: أن يخلق للعبد في نفسه مثلها، لا أن تنتقل من الغصن إلى البطن كما ينتقل مثال العلم من النفس إلى النفس بوساطة التعبير، وهذا تقصير عظيم فانه تمثيل أجساد بأعراض!! واعجبو لهذا الكلام، فانه قلب للتأويل وقد قام الدليل على أن ما في الجنة أجساد مخلوقة، بيد أنها معصومة عن الاستحالة والتعفن بدوام البقاء .. الخ ما قال.
والرازي يقرر [ في المطالب العالية 2/83-87] أن الرؤية بالعين مستبعد جداً !! وأن الرؤية بجوهر النفس الناطقة هو الأقرب إلى العقل.
فعقيدة القوم خيال في خيال، يتخيلون أشياء فيحكونها كمعتقد للمسلمين، كما قالوا بالكسب وحقيقته خيال، فالكسب من العبد هو أصل فعل الرب!! والقول بالكلام النفسي خيال لا حقيقة له في الواقع، فلا يقال عما تحدث به نفسك أنه كلام كما اتفق عليه العقلاء .. وكل ترهاتهم خيال في خيال ..
فالأدلة العقلية التي أثبتوا بها الرؤية أدلة منقوضة من المعتزلة وغيرهم ومن الأشاعرة أنفسهم، فأما المعتزلة فقد ردوا عليهم بردود كثيرة ووضعوا عليهم اعتراضات أفلسوا في حل إشكالها كما في شرح الأصول الخمسة ص 239-261 والمغني في أبواب التوحيد والعدل 4/66-67 وكذلك ابن رشد في الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة كما سيأتي.
وأما الأشاعرة فنقدوا أدلة عقولهم بأنفسهم وصرحوا بضعفها وعدم مقدرتهم على حل الإشكالات الواردة عليها، كما في الأربعون للرازي 1/301-303 ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ص278 وغاية المرام ص 168-171 وغيره من مراجع.
وجه كون الأشاعرة موافقون للمعتزلة في الرؤية:
الباحث عن منهج كل من المعتزلة والأشاعرة، يجد أن الفريقين اتفقا في أصل دينهم في العلم بالله وصفاته على دليل حدوث الأجسام، المسمى بدليل الجواهر والأعراض، وآمنوا به كدليل عقلي يقيني لا تشوبه شائبة، ومن ثم التزموا لوازمه والتي منها، نفي علو الله على خلقه وكونه في السماء، ومنه نفي الجهة في الرؤية.
ولما كان هذا الدليل قد أفضى إلى القائلين به إلى توهم الجسمية في حق الخالق عزوجل، فقرروا بقياسهم الفاسد أن الرؤية تستلزم كون المرئي في جهة من الرائي أو مقابلاً له أو حالاً في المقابل أو في حكم المقابل، وكذا الشعاع واللون وغير ذلك مما قالوه ..
والحق أن القوم بهذا من أكبر المشبهة يقيناً، لأنهم شبهوا الخالق بالمخلوق، ومن ثم راحوا ينفون عن الله تلك الشبهات.
فلو أنهم سلموا بأن ذات الخالق غير ذات المخلوق، لقالوا أن لوازم الإثبات في حق المخلوق منتفية في حق الخالق.
ومن ثم ادعوا أن إثبات الرؤية تستلزم كون الباري في جهة، فيكون محدوداً محصوراً، فالرؤية تؤدي إلى حدوث المرئي، وإلى حدوث معنى فيه، لأن الشيء إنما يرى إذا كان مقابلاً وهذا من صفة الأجسام، فوجب من إثبات الرؤية إثبات الجسمية لله تعالى، ومن ثم يكون محدثاً .. فثناهم هذا الهذيان عن الإيمان بحقيقة الرؤية.
فاتفق الفريقان في حقيقة نفي الرؤية، المعتزلة تصريحاً، والأشعرية تلميحاً أفضى عند متأخريهم إلى التصريح بأن الرؤية علمية فقط وليست بالعين المجردة، فالخلاف بينهما في الرؤية لفظي كما بينا أعلاه، فتراهم يستدلون للرؤية بنفس دليل نفي العلو، ولكنهم ادعوا أنهم يؤمنون بالرؤية ولم يلتزموا لوازمها المتفق عليها بين العقلاء.
فجمهور الأشاعرة عندما أثبت الرؤية ونفي لوازمها، أضحك العقلاء عليه، وخرج بغوامض من القول لم يقل بها أحد غيرهم، لأنهم اعتمدوا في إثبات الرؤية على دليل الوجود، فكل موجود يجوز أن يرى، فصرحوا بناءاً على ذلك: أن الأعمى في الصين يجوز أن يرى النملة في الأندلس، وأنه من الممكن أن يكون حولنا جبال شاهقة ولا نراها.. وأنه يجوز رؤية الطعوم والروائح والأصوات.. إلى آخر ترهاتهم .. التي لا يقبلها عقل ولا يقرها نقل.
ابن رشد يوافق أن الأشاعرة ينكرون الرؤية في الحقيقة:
وموضوع الرؤية من المسائل التي انتقدها ابن رشد على مذهب الأشاعرة، وصرح أنهم في الحقيقة نفاة للرؤية تماماً كالمعتزلة والجهمية، فقال في الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة (77-80):
فمنها ما يعرض من ذلك في الرؤية التي جاءت بها السنة الثابتة، وذلك أن الذين صرحوا بنفيها فرقتان: المعتزلة والأشعرية. فأما المعتزلة فدعاهم هذا الاعتقاد إلى أن نفوا الرؤية، وأما الأشعرية فأرادوا أن يجمعوا بين الأمرين فعسر ذلك عليهم, ولجئوا في الجمع إلى أقاويل سوفسطائية...
وقال: وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين، أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس، فعسر ذلك عليهم ولجأوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة، أعني الحجج التي توهم أنها حجج وهي كاذبة. اهـ
وقد نقد حججهم العقلية في نفي رؤية بلا جهة، وأبان عن خروجهم عن حد المعقول، وأن أقوالهم هجينة مستغربة لا تصح من عاقل. وراجع نقده لهم بتوسع.
مخالفتهم لشيخ مذهبهم أبو الحسن الأشعري:
صرح الأشعري في رسالته الإبانة، بل في بابه الأول الذي عقده لإثبات رؤية الله سبحانه بالأبصار في الآخرة.
فصرح أن الرؤية بالأبصار، وليست بالعلم مخالفة للمعتزلة ومخانيثهم من متأخري الأشاعرة.
وقال تحت هذا الباب مخالفاً الفرقتين كلتاهما، ومقرراً مذهب السلف:
قال الله تعالى: ( وجوه يومئذ ناضرة ) يعني مشرقة ( إلى ربها ناظرة ) يعني رائية وليس يخلو النظر من وجوه نحن ذاكروها: إما أن يكون الله سبحانه عنى نظر الاعتبار كقوله تعالى ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) أو يكون عنى نظر الانتظار كقوله تعالى ( ما ينظرون إلا صيحة واحدة ) أو يكون عنى نظر التعطف كقوله تعالى ( ولا ينظر إليهم يوم القيامة ) أو يكون عنى نظر الرؤية.
فلا يجوز أن يكون الله عز وجل عنى نظر التفكير والاعتبار لأن الآخرة ليست بدار اعتبار.
ولا يجوز أن يكون عنى نظر الانتظار لأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجه فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه كما إذا ذكر أهل اللسان نظر القلب فقالوا " انظر في هذا الأمر بقلبك " لم يكن معناه نظر العينين وكذلك إذا ذكر النظر مع الوجه لم يكن معناه نظر الانتظار الذي يكون للقلب وأيضا فإن نظر الانتظار لا يكون في الجنة لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير وأهل الجنة في ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من العيش السليم والنعيم المقيم وإذا كان هذا هكذا لم يجز أن يكونوا منتظرين لأنهم كلما خطر ببالهم شيء أتوا به مع خطوره ببالهم.
وإذا كان ذلك كذلك فلا يجوز أن يكون الله عز وجل أراد نظر التعطف لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع من أقسام النظر وهو أن معنى قوله ( إلى ربها ناظرة ) أنها رائية ترى ربها عز وجل.
ومما يبطل قول المعتزلة: أن الله عز و جل أراد بقوله ( إلى ربها ناظرة ) نظر الانتظار أنه قال ( إلى ربها ناظرة ) ونظر الانتظار لا يكون مقرونا بقوله ( إلى ) لأنه لا يجوز عند العرب أن يقولوا في نظر الانتظار " إلى " ألا ترى أن الله تعالى لما قال ( ما ينظرون إلا صيحة واحدة ) لم يقل " إلى " إذ كان معناه الانتظار، وقال عز وجل مخبرا عن بلقيس ( فناظرة بم يرجع المرسلون ) فلما أرادت الانتظار لم تقل " إلى " .
وقال امرؤ القيس : فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب.
فلما أراد الانتظار لم يقل " إلى " فلما قال سبحانه ( إلى ربها ناظرة ) علمنا أنه لم يرد الانتظار وإنما أراد نظر الرؤية، ولما قرن الله عز وجل النظر بذكر الوجه أراد نظر العينين اللتين في الوجه كما قال ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ) فذكر الوجه وإنما أراد تقلب عينيه نحو السماء ينظر نزول الملك عليه يصرف الله تعالى له عن قبلة بيت المقدس إلى القبلة .
فإن قيل: لم قلتم إن قوله تعالى ( إلى ربها ناظرة ) إنما أراد إلى ثواب ربها ناظرة ؟
قيل له: ثواب الله غيره والله سبحانه وتعالى قال ( إلى ربها ناظرة ) ولم يقل إلى غيره ناظرة، والقرآن العزيز على ظاهره وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة وإلا فهو على ظاهره. اهـ
فلم ينفي الجهة، ولم يقل كقول متأخريهم، الرؤية بغير جهة ..
وقال في رسالة إلى أهل الثغر (ص: 237):
الإجماع الحادي عشر: وأجمعوا على أن المؤمنين يرون الله عز وجل يوم القيامة بأعين وجوههم على ما أخبر به تعالى في قوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) وقد بين معنى ذلك النبي ودفع كل إشكال فيه بقوله للمؤمنين ( ترون ربكم عيانا ) وقوله ( ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته ) فبين أن رؤيته تعالى بأعين الوجوه ولم يرد النبي أن الله عز وجل مثل القمر من قبل أن النبي شبه الرؤية بالرؤية ولم يشبه الله تعالى بالقمر وليس يجب إذا رأيناه تعالى أن يكون شبيها لشيء مما نراه كما لا يجب إذا علمناه أنه يشبه شيئا نعلمه ولو كان يجب إذا رأيناه عز وجل أن يكون مثل المرئيين هنا لوجب إذا كان الله رائيا لنا وعالما بنا أن يكون مثل الرائين العالمين منا. اهـ
فلم يذكر الرؤية بغير جهة أو مقابلة كما فعل متأخريهم.
وقال في مقالات الإسلاميين (1/227) عن معتقد أهل السنة أصحاب الحديث:
ويقولون: إن الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون قال الله عز وجل { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } وأن موسى عليه السلام سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا وأن الله سبحانه تجلى للجبل فجعله دكاً فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة. اهـ
وقرر أنه على هذه العقيدة، ولم يذكر الرؤية بغير جهة أو مقابلة ..
وعندما تكلم عن الرؤية في كتاب اللمع الذي ملأه بقواعد علم الكلام وحججه وجداله، قال مثل ما قاله في الإبانة، ولم يصرح بنفي الجهة في إثبات الرؤية كما فعل متأخري الأشاعرة.
والحق أنني كنت أعتقد أنه تكلم على نفي الجهة في مسألة الرؤية من كتاب اللمع، ففوجئت عندما قرأت باب ( الكلام في الرؤية ) من ص61-68 كاملاً أنه لم يصرح أنه ينفي الجهة مع إثبات الرؤية.
والعجيب: أن ينقل ابن فورك في مجرد مقالات الأشعري - وقد عقد فصلاً لذلك – وقرر أن الأشعري يقول أن الله يرى في الآخرة بالأبصار، ولم يقل بالعلم والكشف والتخييل كما قاله المتأخرون، وذكر ابن فورك نفسه في مشكل الحديث وبيانه [ ص221] أن الرؤية بصرية بالعين واستدل بحديث جابر " ترون ربكم عياناً " إلا أنه وافق المتأخرين أن الرؤية بلا جهة أو مقابلة ..
ثم ذكر ابن فورك في مجرد مقالات الأشعري [ ص82] أنه يشترط عدم المقابلة في الرؤية كما اشترطها أتباعه فقال: فأما الشرائط التي يذكرها نفاة الرؤية في جواز رؤية الشيء، فليس شيء منها عنده شرطاً، كنحو ما يذكرون من المقابلة والتلون والقرب والبعد والكثافة واتصال الشعاع وسائر ما يذكرونه.
وكان يقول: إن جميع ذلك أوصاف المشاهد وليس شيء منها شرطاً ولا علة في جواز مشاهدته، وكان يقول أن لا معتبر بمجرد المشاهدة في باب القياس والاستدلال والاستشهاد بالشاهد على الغائب إلا بعد أن تنضم إليه الدلالة، فيفرق بين الأوصاف والعلل والشروط والحقائق، فيجري من ذلك ما حكمه حكم الوصف دون الحقيقة. اهـ
فمن أين نقل هذا الكلام عن الأشعري ؟ وكيف تقول عليه ما لم يقل ؟
فأي برهان تريدون وأنتم لشيخكم مخالفون وعن عقيدته ناكصون ؟ ألا قاتل الله الجهل ..
وأقول: أنه إن وجد قول لأبي الحسن بما يتوافق وقول من يقول منهم أن الرؤية بلا جهة أو مقابلة، فمخرج ذلك عائد لأمرين:
إما أنه قول له قديم حين تابع ابن كلاب ولم يترك علم الكلام تماماً، ونقول ذلك لأنه قول مخالف للمعتزلة، ومخالف لمذهب السلف في آن، فيكون في مرحلة سماها البعض الطور الثاني لأبي الحسن.
أو أنه كان عليه ثم تاب منه أو علم عواره والإشكالات الواردة عليه فرجع عنه وسلم تسليما لمذهب السلف في الإثبات للرؤية بلا نفي للجهة، ووجد هذا في بعض كتبه القديمة والتي يستدل بها متأخري الأشاعرة.
ولذلك قال الإمام السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 19): وأفصح [الأشعري] في بعض كتبه أنه يرى بالأبصار، وقال في موضع آخر: لا تختص الرؤية بالبصر ولا تكون عن مقابلة لأن ما يرى مقابلة كان جسماً. فهو إذا قال: إنه يرى بالأبصار لم يجز في العقل أن تكون الرؤية عن غير مقابلة، وإن قال: إن الرؤية لا تخص البصر عاد إلى قول المعتزلة وصارت الرؤية في معنى العلم الضروري، وقد حكي عن بعض متأخريهم أنه قال: لولا الحياء من مخالفة شيوخنا لقلت إن الرؤية هي العلم لا غير. اهـ
فهو على هذا له قولين: وأحدهما مناقض الآخر، وقد قدمنا أنه في كتبه المشهورة أثبت الرؤية البصرية بالعين، وهي بالضرورة بجهة ومقابلة، فكيف استجاز لمتأخري أتباعه أن يخالفوه ؟
على أننا نرجح أن قوله بالرؤية مع عدم الحديث عن الجهة والمقابلة، هو آخر أمره عندما استقر به المقام في بغداد معقل أتباع السلف، ولا نقول كقول بعض أتباعه أنه ربما نافق!! وإنما نقول لعل الله هداه إلى الحق ومات عليه، فرحمه الله وغفر له ولجميع المسلمين.
تقرير شيخ الإسلام أنهم والمعتزلة سواء في نفي الرؤية:
وظهر بهذا أن الأشاعرة توأم المعتزلة أو مخانيثهم ، بل صرح شيخ الإسلام ابن تيمية بأنهم تبع للمعتزلة في هذا فقال في بيان تلبيس الجهمية:
" إن أئمة أصحاب الأشعري المتأخرين كأبي حامد وابن الخطيب وغيرهما لما تأملوا ذلك عادوا في الرؤية إلى قول المعتزلة أو قريب منه، وفسروها بزيادة العلم كما يفسرها بذلك الجهمية والمعتزلة وغيرهم ". اهـ
وقال[في الفتاوى 16/85]: " ولهذا صار حذاقهم إلى إنكار الرؤية وقالوا قولنا هو قول المعتزلة في الباطن ".اهـ
فالخلاف بين الأشعرية والمعتزلة لفظي، لا يتعدى أن تكون الفرقتان في هذه المسألة كفرقة واحدة.
والخلاف بين الأشعرية وأهل السنة أتباع السلف معنوي، مخالف للشرع والعقل معاً.
ورحم الله شيخ الإسلام، كم كان بصيراً بالقوم وبعقائدهم وبكلامهم، وما يصرحون به وما يدلسون به على الناس، وشاء الله أن كل ما ينقله عنهم يوجد في كتبهم بلفظه ومعناه، فكم قرأ هذا الهمام من كتبهم ؟ وكم عقيدة عرفها وفهمها أكثر من معرفة وفهم أصحابها ؟
رحمه الله تعالى وغفر له، والله إن الأمة لتفتخر بهذا الرجل إلى يوم الدين إذ إنه في مصاف كبار أئمة الدين وعلماء الملة، بل هو معجزة تمشي على الأرض صنعها الله لتقرير الحق ونصرة أهله.

والله أعلى وأعلم.