أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين.
أما بعد :
لقد كان الاجتهاد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى منتصف القرن الرابع هجري أمرا فطريا مارسه الصحابة رضوان الله عليهم والتابعون ومن خلفهم من العلماء بكل بساطة ويسر ، فكان بحق عاملا من عوامل ازدهار التشريع الاسلامي بشكل جعله يتلاءم مع تغير الزمان والمكان ، ويستجيب لحاجات الناس المختلفة ، ومقتضيات الحيات المتغيرة ، فنتج عن ذلك ثروة فقهية كبيرة لا نظير لها في التاريخ.
ثم وقع ما وقع بعد القرن الرابع الهجري من انقسام الرقعة الإسلامية ، وتفكك روابط الأمة وضعفها وانحطاطها ، وبدأ الكلام في الدين من غير أهل النظر والاجتهاد.
فأفتت طائفة من العلماء بقفل باب الاجتهاد ، وتحريمه على العلماء القادرين عليه ، وسد بابه دونهم ، وقد زاد في تكريس هذا القول التشديد والتعسير في شروط المجتهد ، وتقرير صعوبة الاجتهاد وفداحته على الناس بعد القرن الرابع الهجري.
وقد كانت النتيجة الحتمية لهذا الاغلاق ركود الحركة الفقهية ، وجمود العلماء ، وطغيان فكر التقليد ، وساد في أذهان الناس أن بلوغ درجة الاجتهاد أصبح مستحيلا ، فصار لكل يردد عبارة : " ما ترك الأولون للآخرين ".

على أن القول بسد باب الاجتهاد ، وصعوبته وتعذره على العلماء بعد عصر الأئمة المجتهدون وجد من العلماء سواء من الأقدمين أو المعاصرين من يفند هذا القول وبين خطأه.



قال الشوكاني :
" ومن حصر فضل الله على بعض خلقه ، وقصر فهم هذه الشريعة على ما تقدم عصره ، فقد تجرأ على الله عز وجل ، ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده ، ثم على عباده الذين تعبدهم الله بالكتاب والسنة "

ولدراسة هذا الموضوع فقد ارتأيت تقسيم محاول هذا العرض الموجز إلى المباحث التالية :

• شروط الاجتهاد عند العلماء.
• تجزء الاجتهاد.
• تيسير أدوات الاجتهاد في هذا العصر.
• خاتمة.













البحث الأول : شروط الاجتهاد عند العلماء :

يعتبر منصب الاجتهاد من أسمى المناصب الدينية والدنيوية، لأن صاحبه يتكلم مبينا حكم الله سبحانه وتعالى ، ولقد كان الصحابة والتابعون يفهمون نصوص الشرع، ويدركون مقاصده بحكم سليقتهم العربية، وتتلمذهم على مصدر الشـرع وهو النبــي صلى الله عليه و سلم، فلم يكونوا بحاجة إلى قواعد تضبط لهم فهم النصوص واستنباط الأحكام، ولكن بعد أن طرأ على الناس ما أفسد سليقتهم العربية، وبعد الناس عن إدراك مقاصد الشرع، كان لابد من وضع ضوابط للاستنباط، وشروط للاجتهاد ، وذلك تنظيما للاجتهاد، ومنعا لمن يحاول أن يندس بين المجتهدين ممن ليس أهلاً للاجتهاد، فيتقول على الله بغير علم، ويفتي في دين الله بما ليس فيه.‏

وقد شدد بعض العلماء في شروط الاجتهاد وخفف آخرون، ورأى جماعة منهم الاعتدال، واختلفت عبارات المصنفين في تحديد هذه الشروط.
ومع ذلك فإن جميع ما ذكروه من شروط مرده إجمالا إلى معرفة مصادر الشريعة ومقاصدها، وفهم أساليب اللغة العربية، وأن يكون المجتهد على درجة من الصلاح، تجعله يتحرى في اجتهاده، ويحرص على مطابقة شرع الله وتقديمه على هواه.
وحتى نتعرف على هذه الشروط سأحاول استعراض ما ذكره أربعة من أعمدة الفكر الأصولي وهم الشافعي ، والشرازي ، والغزالي ، والشاطبي حتى نقف على تطور هذه الشروط والوقوف على بصمات كل عالم منهم.
شروط الاجتهاد عند الشافعي : لا يفرق الامام الشافعي بين القياس والاجتهاد في كتابه الرسالة ، حيث يعتبر الإجتهاد عين القياس قال : " قال : فما القياس ؟ أهو الاجتهاد؟ أم هما مفترقان ؟ قلت : هما اسمان لمعنى واحد"
وقال أيضا : " والإجتهاد القياس"
لذلك وجدناه عند استعراض شروط الاجتهاد استبدل اللفظ بالقائس حيث قال :
" ولا يكون له أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف ، وإجماع الناس ، واختلافهم ولسان العرب....ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل ، وحتى يفرق بين المشتبه ، ولا يعجل بالقول به دون التثبت "
فالشروط التي ذكرها الشافعي هنا تعتبر جد متقدمة على اعتبار أن كتاب الرسالة هو مهد الفكر الأصولي.

شروط الاجتهاد عند أبي إسحاق الشرازي :
عند مطالعتي لباب " القول في الإجتهاد " من كتاب اللمع لصاحبه أبي إسحاق الشرازي لم أقف له على أي ذكر لشروط الإجتهاد في هذا الباب ، وبعد تقليب لصفحات الكتاب وجدته قد تطرق للموضوع ضمن باب " صفة المفتي والمستفتي " وهذا يدل على أنه لم يكن يفرق بين المجتهد والمفتي ، إذ يعتبرهما بمرتبة واحدة ، ويدل أيضا بشكل ضمني أن الإفتاء لا ينبغي أن يكون إلا من مجتهد.
أما فيما يخص شروط الإجتهاد التي تعرض لها في كتابه فقد سار على طريق أغلب الأصوليين في عرض لائحة طويلة من الشروط :
تتضمن معرفة آيات الحلال والحرام ، والإحاطة بالسنن وطرق تعرف الأحكام منها ، وحكم الأفعال النبوية ، ومعرفة الناسخ والمنسوخ ، واللغة والاجماع ، والقياس ، ووجوه الترجيح ، وترتيب الأدلة.

شروط الإجتهاد عند الغزالي :
يعتبر الغزالي حلقة من أهم حلقات التطور في الفكر الأصولي ، إذ يعتبر مرحلة فاصلة ولا أدل على ذلك من كون أغلب من جاء بعد قد اقتفى أثره.
وبخصوص موضوعنا " شروط الإجتهاد " نجد الغزالي قد اشترط شرطين أساسين لا يكون العالم مجتهد إلا بتوافرهما :
الأول : أن يكون محيطا بمدارك الشرع ، متمكنا من استثارة الظن بالنظر فيها وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره.
الثاني : أن يكون عدلا مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة.
وهذا التقسيم من الغزالي يباين فيه كل من سبقه حيث انطلق من فكرتين رئيستين ، الفكرة الأولى تتجلى في حفظ مقصود الشرع ، فالغزالي أدرك للوهلة الأولى أن غاية المجتهد هي حفظ مقاصد الشرع لذلك قال : " أن يكون محيطا بمدارك الشرع "
أما الفكرة الثانية فتتعلق بقضية التخفيف التي تعرض لها أثناء تفصيله لشروط المجتهد ، حيث كان يورد الشرط ويقول " وتخفيفه " وذلك إيمانا منه بعدم القدرة على تحصيل كل العلوم بالطريقة التي نص عليها علماء الأصول خاصة وإن لم يتعلق الأمر بالمجتهد المطلق.
قال الغزالي : " اجتماع هذه العلوم الثمانية إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع "

شروط الاجتهاد عند الشاطبي :
إذا كان الشافعي هو واضع علم الأصول ، والغزالي هو مجدد هذا العلم ، فإن الشاطبي هو مبدع النظر المقاصدي في الفكر الأصولي فإلى أي حد تجلى هذا النظر في الشروط التي وضعها الشاطبي للإجتهاد؟
قال الشاطبي : " إنما تحصل درجة الإجتهاد لمن اتصف بوصفين :
أحدهما : فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
والثاني : التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها "
قالشاطبي بهذين الشرطين يباين كل ما كان متداولا قبله ، فإذا كانت المقاصد فيما قبل تذكر ضمن سلسلة طويلة من الشروط لا تمييز لأحدها عن الآخر ، فالشاطبي هنا جعل من المقاصد أهم شرط للاجتهاد ، فالشاطبي إذن ينطلق من فكرة معينة وهي أن من يتعامل مع النصوص فهما وإدراكا واستنباطا عليه أن يكون مدركا لمقاصد الشارع وغاياته.
كما أن الشرط الثاني وهو :" التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها " ما هو في الحقيقة إلا خادم للشرط الأول على اعتبار أن العلم بالعربية هو وسيلة الفهم والإدراك لأن النصين الأساسيين الكتاب والسنة بلغة العرب.
وبالتالي فإذا تعلق الأمر بالاستنباط فإن النظر الإجرائي يقتضي العلم بالعربية " مادة النصوص " ، وإن تعلق بالمعاني لزم العلم بالمقاصد.
هذا وما جاء به الشاطبي ليس جديد على إطلاقه فقد تطرقنا قبله إلى قولة الغزالي : " أن يكون محيطا بمدارك الشرع " إنما الجديد الذي أضافه الشاطبي هو التنصيص على المقاصد بهذه القوة ، وجعلها في مرتبة الشرط الأهم والبارز إن لم نقل الوحيد.

المبحث الثاني : تجزؤ الاجتهاد :

قد يتساءل البعض لما أقحمت هذا المبحث ضمن هذا العرض الذي يتناول شروط الاجتهاد خاصة وأن الأصوليين جعلوا كل منهما قسما مستقلا بذاته ، غير أنني أجد مبحث تجزؤ الاجتهاد شديد الصلة بموضوعنا ، لأن القائلين بالتجزؤ من الأصوليين يعتبرونه نوعا من أنواع التخفيف الذي يراعي قدرة المجتهد في عدم الإحاطة بكل مسائل الشرع أصولا وفروعا، كما أن الشروط التي تحدث عنها العلماء يقصد بها الاجتهاد المطلق.
يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي بعد تعرضه للشروط الواجب توافرها في المجتهد :
" اجتماع هذه العلوم الثمانية إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع "
كما قال ابن الصلاح :
" إنما يشترط اجتماع العلوم المذكورة في المفتي المطلق في جميع أبواب الشرع ، أما المفتي في باب خاص من العلم نحو علم المناسك أو علم الفرائض ، أو غيرهما فلا يشترط فيه جميع ذلك."
فهذ الكلام من الغزالي وابن الصلاح يفيد أن محل التجزؤ إنما هو في الشروط الواجب توافرها في المجتهد ، فمن اكتملت فيه هذه الشروط كان مجتهدا مطلقا ، ومن لم تكتمل فيه كان اجتهاده جزئيا.

فما المقصود بتجزء الاجتهاد ؟ وما هي أراء العلماء فيه ؟
يقصد بتجزؤ الاجتهاد : أن يتمكن العالم من استنباط الحكم في مسألة من المسائل دون غيرها ، أو في باب فقهي دون غيره.
وقد اختلف العلماء في مسألة تجزؤ الاجتهاد بين قائل به وبين مانع له :
أولا : القائلون بالتجزؤ : ذهب أكثر العلماء إلى القول بالتجزؤ على اختلاف بينهم في المقصود بالتجزؤ بين قائل به مطلقا ، أو في باب دون باب ، أو في باب المواريث دون غيره من الأبواب.
واستدلوا بما يلي :

أولا : إمكان تحصيل شروط الاجتهاد في المسألة الواحدة ، ويتم هذا بشرطين :
1 العلم بأدلة الفن الواحد.
2 العلم بطرق النظر في الفن أو المسألة.
وبالتالي إذا تحقق هذان الشرطان ، فقد حصل تجزؤ الاجتهاد فالمجتهد المطلق قد تحصلت لديه شروط الاجتهاد في جميع الأبواب الفقهية ، والآخر في فن معين وبالتالي فهم سواء في هذا الفن ، ذلك أن النظر في مسألة معينة لا علاقة له بغيرها من المسائل.
يقول الغزالي : " من عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي ، وطريق التصرف فيه ، فما يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرف قوله تعالى : {وامسحوا برءوسكم} وقس عليه ما في معناه"

ثانيا : لو لم يتجزأ الاجتهاد ، لزم أن يكون المجتهد عالما بجميع المسائل حكما ودليلا ، وهذا منتف لأنه خارج عن قدرة البشر ، ولم يرد لا عن الصحابة الكرام ولا عن التابعين ولا الأئمة المجتهدين من بعدهم بل المروي عن أغلبهم التوقف في بعض المسائل.
فهذا الإمام مالك وهو مجتهد بالاجماع : سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين منها : " لا أدري "
ثانيا القائلون بالمنع :
منهم أبو الوليد الباجي حيث قال : " فإن قصر عن هذه الخصال لم يكن من أهل الاجتهاد ، ولم يجز الرجوع إلى شيء من أقواله وفتاويه" وبه قال الفناري الحنفي والشوكاني ..
ومن المعاصرين علي حسب الله وعبد الوهاب خلاف الذي يقول : " إن الاجتهاد لا يتجزأ أي أنه لا يتصور أن يكون العالم مجتهدا في أحكام الطلاق وغير مجتهد في أحكام البيع"
وقد استدل المانعون بما يلي :
أولا : إن شروط الاجتهاد هي الطريق الموصل للاجتهاد ،فإذا لم تكتمل هذه الشروط لا يكون الشخص أهلا للاجتهاد فأكثر العلوم تتعلق ببعضها البعض ، وعليه لا يعتد باجتهاد من لم تتوفر فيه هذه الشروط
ثانيا : الاجتهاد ملكة والملكة غير قابلة للتجزؤ ، وعليه لا يتجزأ الاجتهاد ، والملكة تتحقق بمجموعة علوم إن أتقنها الشخص كان مجتهدا ، وإن لم يتقنها لم يكن مجتهدا
بعد استعراض أدلة كل فريق فالذي يبدو أقرب إلى الصواب هو مذهب الأكثرية ، على اعتبار أنهم قرروا ضرورة توافر شروط الإجتهاد بما في ذلك مقاصد الشريعة ، واشترطوا أيضا معرفة ما يتصل بموضوع الاجتهاد ، كما أن القول بعدم تجزؤ الاجتهاد ينافي مقتضيات الواقع الحالي الذي أصبحت الاحاطة فيه بكل العلوم أمرا متعسرا.
كما أن القول بتجزؤ الإجتهاد اعتبره العلماء كنوع من التخفيف منعا لسد باب الاجتهاد بالكلية.

المبحث الثالث : تيسر شروط الاجتهاد في هذا العصر :

لقد صرح كثير من العلماء بأن الاجتهاد أصبح متيسرا بعد القرن الثاني الهجري وذلك نظرا للثورة العلمية التي أحدثها علماء الشريعة في كافة الفنون كجمع القرآن ووضع التفاسير عليه ، وتدوين الحديث النبوي الشريف ووضع الشروحات عليه ، وما ظهر من العلوم الخادمة للمصدرين الرئيسين كالتفسير والفقه والقراءات وأصول الفقه وعلم المصطلح....
قال ابن حمدان : " ومن زمن طويل عدم المجتهد المطلق ، مع أنه الآن أيسر منه في الزمن الأول لأن الحديث والفقه قد دونا ، وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآياث والآثار ، وأصول الفقه والعربية ، وغير ذلك لكن الهمم قاصرة ، والرغبات فاترة ونار الجد والحذر خامدة ، اكتفاء بالتقليد واستغفاء من التعب الوكيد .."
وقد نقل الشوكاني عن الزركشي قوله في إطار رده على منكري وجود المجتهد بعد الأئمة المتبوعين:
" وإن كان ذلك باعتبار تيسر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين وصعوبته عليهم وعلى أهل عصورهم ، فذه أيضا دعوى باطلة ، فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسره الله للمتأخرين تيسيرا لم يكن للسابقين ، لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دونت وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره ، والسنة المطهرة قد دونت وتكلم الأئمة على التفسير والتجريح والتصحيح والترجيح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد ، وقد كان السلف الصالح ومن قبل هؤلاء المنكرين يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر، فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجتهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح وعقل سوي"
وإذا تقرر هذا الأمر في القرن الثاني وما بعده فهو أدعى وآكد في عصرنا مع التقدم العلمي والتكنلوجي الواسع الذي سهل على العلماء الحصول على المعلومة واستثمارها ، فأصبح يكفي المرء أن يقوم بضغطة زر حتى يخرج أمامه جميع ما قيل في المسألة من آيات الله ، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء في المسألة ...وكل هذا يمثل نوعا من التخفيف فيما يخص الشروط التي وضعها العلماء فأصبح في نظري من أهم الشروط التي لا ينبغي الإغفال عنها هي : مقاصد الشريعة ، واللغة العربية.
قال الشيخ المراغي شيخ الأزهر الأسبق : " ومعظم هذه الشروط يشتمل عليه ثلاثة فنون : الحديث ، واللغة ، وأصول الفقه ، وقد جمع العلماء آيات الأحكام في غير ما كتاب ، وجمعوا أحاديث الأحكام في غير ما كتاب ، وجمعوا الناسخ والمنسوخ في غير ما كتاب ، وجمعوا مواقع الاجماع في غير ما كتاب ، وأصبحت الأحكام مدونة في كتب الفقه ، وفي شرح الحديث وكتب التفسير ، وقد انتهى زمن الرواية للحديث ..."
كما قال الشيخ محمد رشيد رضا : " ليس تحصيل هذا الاجتهاد الذي ذكروه بالأمر العسير ، ولا بالذي يحتاج فيه إلى اشتغال أشق من اشتغال الذين يحصلون درجات العلوم العالية عند علماء هذا العصر في الأمم الحية كالحقوق والطب والفلسفة ، ومع ذلك نرى جميع علماء التقليد منعوه ، فلا تتوجه نفوس الطلاب إلى تحصيله"
كما قال الدكتور يوسف القرضاوي : " إن هذه الشروط التي اشترطها الأصوليون للمجتهد في استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية ليس تحصيلها متعذرا ولا متعسرا ، كما يوهم بعض الناس الذين يردون أن يضيقوا ما وسع الله ، ويغلقوا بابا فتحه رحة بعباده ، وهو الإجتهاد "
كما قال الدكتور وهبة الزحيلي :
" والاجتهاد ممكن كل الإمكان ولا صعوبة فيه ، بشرط أن ندفن تلك الأوهام والخيالات ، ونمزق ذلك الران الذي خيم على عقولنا وقلوبنا من رواسب الماضي وآفات الخمول، والظن الآثم بعدم إمكان الوصول إلى ما وصل إليه الأولون ، فكأن ذلك نوع من المستحيل ......... إن استكمال شرائط الاجتهاد ليس من العسير في شيء بعد تدوين العلوم المختلفة ، وتعدد المؤلفات فيها ، وتصفية كل دخيل عليها "

خاتمــــــــــــــة :

بعد استعراض هذه المباحث يمكننا الخروج بالخلاصات التالية :
1. اشتراط العلماء لمجوعة من الشرائط لممارسة الإجتهاد لم يكن من قبيل التعجيز وإنما كان ذلك لحفظ الدين من أقوال الجاهلين.
2. يعتبر القول بتجزؤ الاجتهاد نوعا من التخفيف ال>ي يفرضه العقل والواقع والشرع على اعتبار عدم القدرة على الإحاطة بكل العلوم.

3. إن التطور التقني والتكنلوجي الذي شهدته الحياة المعاصرة جعل أمر الاجتهاد أمرا غير متعسر ، إذ وقع التخفيف في الكثير من العلوم.

4. إن المشكل في نظري ليس في استحالة شروط الاجتهاد أو صعوبة تحصيلها ، وإنما في في عدم القدرة على تجاوز ذلك العائق النفسي الذي ظل جاثما على صدر الأمة من جراء دعوى سد باب الاجتهاد وانقطاعه بعد الأئمة المجتهدين ، وأن الأولين ما تركوا للآخرين من شيء ، أضف إلى ذلك سيطرة إديولوجيات معينة على الساحة العلمية تريد للوضع أن يبقى على ما هو عليه دون إعمال للعقل ، واستنفار للهمم لمواهجة متطلبات الواقع ، وكل من يحاول الخروج من هذا الطابع العام يواجه بالإنكار وتوجه إليه سهام الإبتداع في الدين.


تم بعون الله وتوفيقه




















لائحة المصادر والمراجع المعتمدة :

• الرسالة للامام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي ، تحقيق أحمد محمد شاكر ، مكتبة دار التراث ، طبعة 2005.
• اللمع في أصول الفقه للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشرازي ، دار الكلم الطيب ، دمشق.
• إحكام الفصول في أحكام الأصول لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي تحقيق عبد الله الجبوري ، مؤسسة الرسالة بيروت.
• المستصفى لحجة الإسلام محمد بم محمد الغزالي أبو حامد ، تحقيق محمد عبد السلام عبد الشافي ، دار الكتب العلمية بيروت.
• أدب المفتي والمستفتي للإمام المحدث أبي عمرو عثمان المعروف بابن الصلاح ، تحقيق الدكتور موفق بن عبد الله بن عبد القادر ، مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة.
• الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي الغرناطي ، تحقيق الشيخ عبد الله دراز ، طبعة دار الحديث القاهرة.
• إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول لمحمد بن علي الشوكاني ، دار الكتاب العربي، 1999.
• تفسير المنار لمحمد رشيد رضا ، دار المعرفة بيروت.
• أصول التشريع الإسلامي لعلي حسب الله ، دار المعارف القاهرة.
• الأصول العامة للفقه المقارن ، لمحمد تقي حكيم ، دار الأندلس للطباعة والنشر.
• علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ، طبعة دار الحديث.
• الاجتهاد المعاصر بين الإنضباط والانفراط ليوسف القرضاوي ، دار التوزيع والنشر الإسلامية القاهرة.
• أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي ، دار الفكر ، الطبعة الثالثة :2005.