أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


سؤال لأهل الاختصاص: هل تصح نسبة هذا الحديث لمسند الإمام أحمد؟

حَدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلى الله عَلَيهِ وَسَلمَ قَالَ: حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُويْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، عَلَيْهَا السَّلاَمُ.
هذا الحديث لم يقع في أيٍ من نسخ المسند الخطية، واستدركه محققو طبعة عالم الكتب (4447م)، عن ابن حجر.
فقد ورد في "أطراف المسند" (1/ق30)، والمطبوع منه (981)، و"إتحاف المهرة" (1800)، وكذلك ورد في "فضائل الصحابة" للإمام أحمد (1332) و (1338)، و"المستدرك" للحاكم (4810)، نقلًا عن كتاب "فضائل أهل البيت"، وهو من رواية القطيعي.
في حين لم يستدرك هذا الحديث، بهذا الإسناد، محققو طبعات المسند الأخرى: المكنز, والرسالة، والميمنية، ولا ورد في "جامع المسانيد" لابن الجوزي، أو "جامع المسانيد والسنن" لابن كثير، أو "غاية المقصد" للهيثمي.
والذي يظهر لي، والله أعلم، أن هناك عدة قرائن تدل على خطأ نسبة هذا الحديث، بهذا الإسناد، للمسند، وقبل أن أبدأ بسردها، أحب التنبيه على أنها مجرد قرائن، وليست أدلة دامغة، فكل قرينة من هذه القرائن لا تكفي بمفردها للدلالة على الخطأ، لكنها بمجموعها تأخذ قوة، وتُرجّح خطأ نسبة هذا الحديث، بهذا الإسناد، للمسند، فالمسألة في النهاية اجتهادية، وفيما يلي التفصيل:

(1) جاء حديث أنس هذا في جميع النسخ الخطية للمسند من طريق واحد فقط، برقم (12586) في طبعة المكنز، ورقم (12418) في طبعة عالم الكتب, ورقم (12391) في طبعة الرسالة، وهو طريق: [عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس]، وأضاف ابن حجر له طريقاً آخر، وهو طريق: [عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أنس].

(2) ذِكْرُ "الزهري" في هذا الإسناد خطأ، والصواب "قتادة" بدلًا من "الزهري"، هكذا جاء هذا الحديث في جميع كتب السنة التي وقفت عليها، فقد روى عبد الرزاق هذا الحديث عن معمر، عن قتادة، في مصنفه، وفي تفسيره، وبلغ عدد من روى هذا الحديث عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، (13) راويًا، بما فيهم الإمام أحمد في مسنده، ولم يأتي هذا الحديث عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، إلا فيما نسبه القطيعي للإمام أحمد في "فضائل الصحابة"، وابن حجر في كتابيه "أطراف المسند"، و"إتحاف المهرة".
ومن الغريب أن يتفرد الإمام أحمد عن عبد الرزاق بالإسناد الذي فيه "الزهري"، رغم أن عدد من وقفنا عليهم ممن رووا هذا الحديث عن عبد الرزاق غير الإمام أحمد (12) راوياً، جميعهم رووه عنه بالإسناد الذي فيه "قتادة" فقط.
فلماذا انتشرت رواية عبد الرزاق التي فيها قتادة في كثير من كتب السنة، بينما لم تأتي رواية عبد الرزاق التي فيها الزهري إلا في "مسند أحمد"، و"فضائل الصحابة"، وكلاهما من رواية القطيعي!!!
ولو كان هذا الحديث عند عبد الرزاق من رواية الزهري، لماذا لم يورده في "مصنفه"، كما فعل مع رواية قتادة؟ هل كانت رواية قتادة عنده أفضل وأهم من رواية الزهري؟
وهل كان عبد الرزاق عندما يروي هذا الحديث في مجالس التحديث يتعمد ألا يذكر إلا رواية قتادة ليخص الإمام أحمد برواية الزهري؟
المتبادر للذهن أن هذا الحديث لو كان عند عبد الرزاق من طريق الزهري، لصاح به كما صاح برواية قتادة، بل وقد يُقرنهما في رواية واحدة بقوله: حدثنا معمر، عن قتادة والزهري، عن أنس.
ولو فرضنا جدلاً صحة تفرد الإمام أحمد، أليس من الغريب أن يُضاف إلى ذلك تفرد معمر عن الزهري بحديث لا يشاركه فيه أحد؟ أين بقية تلاميذ الزهري؟
ولو فرضنا أيضاً صحة تفرد معمر عن الزهري، أين هذا الحديث من الذين اهتموا بجمع حديث الزهري؟ كيف غاب عنهم؟ وكيف اختفى من جميع كتب السنة إلا "مسند أحمد"، و"فضائل الصحابة"، وكلاهما من رواية القطيعي!!!
أليس من الغريب، أن راويًا مثل الزهري، أحد الأئمة الأعلام المشهورين المكثرين، ممن تدور عليهم الأسانيد، لا يوجد حديثه هذا إلا عند الإمام أحمد.
أنا لا أنفي وجود التفرد في كتب الحديث، بل إن كتب الحديث طافحة بآلاف الأحاديث التي فيها تفردات، لكن تفرد راوٍ بحديث ما هذا شيئ، وتفرد كتاب بحديث عن أحد الأئمة المشهورين المكثرين هذا شيئ آخر. فالأول مقبول، وله أمثلة كثيرة في كتب السنة، أما الثاني فيثير الشك في النفس.
وكلما تعددت التفردات في الإسناد الواحد، كلما زاد الحديث غرابة، وكلما كان التفرد عن أئمة مشاهير مكثرين مثل الزهري، كلما زاد الحديث أيضاً غرابة، وكلما كان التفرد في طبقات متأخرة كلما كان أكثر نكارة. والتفرد هنا وصل إلى القطيعي، المتوفى سنة 368 هـ.
ومما يزيد الأمر غرابة، أن الإمام أحمد، الراوي الوحيد لهذا الإسناد - إن صح ذلك - هو من أكثر المحدثين ذمًا للغرائب.
ثم إن التفرد عن الأئمة المشاهير المكثرين كالزهري، وقتادة، ومالك، وشعبة، ليس كالتفرد عن غيرهم، ممن هم أقل شهرة وأقل تلاميذًا، فالأول يسميه بعض الأئمة المتقدمين بالمنكر، ومنهم الإمام أحمد نفسه، بينما الثاني يقبله أغلب الأئمة إذا كان التفرد من ثقة، ولم تدل القرائن على وهمه.
ولنضرب مثالًا على ذلك حتى يتضح الأمر:
حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، حديث فيه تفرد في أكثر من طبقة من طبقات إسناده، لكنه منتشر في كتب السنة، وليس حكرًا على كتاب واحد، كما هو الحال هنا في حديثنا المنسوب للإمام أحمد، وقد تلقى الأئمة حديث "إنما الأعمال بالنيات" بالقبول، رغم التفردات التي فيه، لأنها وقعت في طبقات متقدمة من الإسناد، وجاءت عن رواة ليسوا بالمشاهير المكثرين، نعم هم ثقات معروفون، لكن هناك فرق كبير بين التفرد عن راوي ثقة، روى عنه بضعة تلاميذ، وبين التفرد عن إمام مشهور، روى عنه تلاميذ كثيرون، قد لازموه فترات طويلة، وحرصوا على حفظ حديثه، ورحل إليه المحدثون من كل صوب وحدب، واهتم بجمع حديثه كل من لم يلحق به، شتان بين هذا التفرد وذاك.
ولو قال قائل: ما علاقة صحة إسناد الحديث، بصحة نسبة الحديث للمسند؟
قلت: إن تصحيح نسبة الحديث للمسند يقتضي الحكم على الإمام أحمد بالشذوذ والخطأ، فأيهما أولى، أن نحكم عليه بذلك، أم نلصق الوهم بغيره، سواء كان الوهم من ابن حجر، أو من القطيعي، أو من ناسخ نسخة المسند التى نقل منها ابن حجر هذا الحديث، أو لعل أحدًا أقحمه عمدًا في نسخة المسند التي كانت عند ابن حجر، وذلك بنقله من كتاب "فضائل الصحابة".
وهذه كلها مجرد احتمالات، قد يكون أحدها صحيحًا، وقد يكون سبب الخطأ شيئ آخر، فليس المهم هنا معرفة من أين جاء الخطأ، بقدر ما يهمنا معرفة صحة نسبة هذا الحديث، بهذا الإسناد، للمسند.
وفيما يلي قائمة بأسماء الرواة الذين رووا هذا الحديث عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، كما صوبته، وعددهم (13) رواياً:
1 - أحمد بن حنبل، ورواه عنه راويان:
أولاً: عبد الله بن أحمد بن حنبل، انظر: "المسند" (12586)، و"مجلسان من أمالي أبي محمد الجوهري"، رواية ابن المظفر (الحديث رقم 12 في المخطوط).
ثانياً: محمد بن رزق الله الكلوذاني، انظر "الشريعة"، للآجري (1604).
2 - يحيى بن معين، انظر: "شرح مشكل الآثار"، للطحاوي (147).
3 - إسحاق بن إبراهيم الدبري، انظر: "مصنف عبد الرزاق" (20919)، و"المعجم الكبير"، للطبراني (22/ 402)، و"مستدرك الحاكم" (4809)، و"الحلية"، لأبي نعيم (2675)، و"معرفة الصحابة"، له أيضًا (7325)، و"شرح السنة"، للبغوي (3955)، و"التفسير"، له أيضًا (2/ 37)، و"تاريخ دمشق"، لابن عساكر (6102).
4 - سلمة بن شبيب، انظر: "تفسير عبد الرزاق" (403).
5 - محمد بن عبد الملك بن زنجويه، انظر: "جامع الترمذي" (3878)، و"مناقب علي"، لابن المغازلي (409)، و"تاريخ دمشق"، لابن عساكر (13808)، و"المختارة"، للضياء (2401).
6 - الحسن بن علي، انظر: "الآحاد والمثاني"، لابن أبي عاصم (2960).
7 - محمد بن مهدي، انظر: "مسند أبي يعلى" (3039).
8 - محمد بن علي النجار، انظر: "تفسير ابن المنذر" (450)، و"الشريعة"، للآجري (1603).
9 - أحمد بن سفيان، انظر: "صحيح ابن حبان" (7003).
10 - عبيد الله بن فضالة، انظر: "صحيح ابن حبان" (7003).
11 - الحسين بن مهدي، انظر: "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، للآلكائي (2744)، و"تاريخ دمشق"، لابن عساكر (13809).
12 - محمد بن يحيى بن فارس، انظر: "الاستيعاب"، لابن عبد البر (4/ 383).
13 - محمد بن عبد الأعلى، انظر: "الشريعة"، للآجري (1863)، و"الاستيعاب"، لابن عبد البر (4/ 450).

(3) أخرج الحاكم هذا الحديث في مستدركه مرتان: (4809) و (4810)، أخرجه أولاً من طريق قتادة، ثم قال: هَذَا الْحَدِيثُ فِي "المسند"، لأَبِي عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ هَكَذَا. وَأَخْبَرْنَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، فِي "فَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ"، تَصْنِيفُ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ .... الحديث.
فدل كلام الحاكم على أن رواية الزهري لم ترد في "المسند" , وإنما وردت في كتاب "فضائل الصحابة" فقط، أو "فَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ" كما سماه الحاكم، وأن رواية قتادة فقط هي التي وردت في "المسند"، ونسخة الحاكم من "المسند"، لابد وأنها من أفضل النسخ، لأنه سمعها مباشرة من شيخه القطيعي.

(4) قال ابن حجر بعد ذكره لهذا الحديث في "أطراف المسند": "وقع هذا الحديث الأخير في مسند ابن مسعود، فحولته إلى هنا". قلت: يقصد حوله إلى مسند أنس.
وقال بعد ذكره لهذا الحديث في "إتحاف المهرة": "أورده في مسند ابن مسعود، وليس هو محله".
قلت: من المعروف أن "المسند" يحتوي على بعض الحالات المشابهة لهذه الحالة، لكنها قليلة جداً مقارنة بالعدد الكبير من الأحاديث التي جاءت على الصواب في أماكنها، وحديث الزهري بالأخص لو كان فعلاً في المسند، لكان أولى الأماكن به، هو بعد أو قبل حديث قتادة مباشرة، فكلاهما من مسند أنس، وكلاهما بمتن واحد، والزهري، وقتادة، قد تابع كل منهما الآخر، وهكذا أغلب أحاديث "المسند" التي فيها متابعات لنفس حديث الصحابي، دائمًا ما نجدها في مكان واحد، فوجود هذا الحديث في غير محله، وخاصة وجوده في آخر مسند ابن مسعود، وهو من رواية أنس، يوحي بأنه مقحم في "المسند".

(5) لو صح أن الأمام أحمد تفرد بهذا الإسناد فعلًا، ففي الغالب سنجد حديثه هذا منتشرًا في كتب الغرائب، والواقع أن هذا الحديث، بهذا الإسناد، ليس له أي ذكر في كتب الغرائب، على كثرتها، وأخص منها هنا بالذكر كتابين:
الكتاب الأول: "المعجم الأوسط" للطبراني، فقد كان يجمع فيه الغرائب، وأحد أهم شيوخه في هذا الكتاب هو عبد الله بن أحمد، فقد روى عنه فيه (74) حديثًا، منها (18) حديثًا عنه عن أبيه، ومن هذه الأحاديث عن أبيه، (11) حديثًا، جميعها موجود في "المسند"، ومن هذه الأحاديث التي في "المسند"، حديث برقم (4296) في "المعجم الأوسط"، قال فيه الطبراني: "تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ"، والعشرة الباقية ذكر الطبراني أن التفرد فيها من رواة آخرين في الإسناد.
فلماذا لم يُضِف الطبراني إلى تلك الأحاديث الأحد عشر التي في "المسند"، حديث الزهري الذي نتحدث عنه، رغم أنه أولى بالذكر من كل ما ذكره في هذا الكتاب، نظراً لشهرة رواة هذا الحديث، وكثرة التفردات فيه.
الكتاب الثاني: "الغرائب والأفراد" للدارقطني، والذي جمع أطرافه محمد بن طاهر المقدسي، فهو من أجمع كتب الغرائب، ومع ذلك، لا يوجد فيه حديث الزهري هذا.
فهل نسي الطبراني والدارقطني هذا الحديث، رغم أن فيه تفرد في ثلاث طبقات من الإسناد، فقد تفرد به معمر عن الزهري، وتفرد به عبد الرزاق عن معمر، وتفرد به أحمد عن عبد الرزاق، بينما لم ينسيا أسانيد ليس فيها إلا تفرد واحد، ومن رواة أقل شهرة بكثير من الثلاثة السابقين!!!
وهل نسي الحاكم طريق الزهري عندما بين أن الحديث الذي في المسند، هو من طريق قتادة فقط؟
وهل فات طريق الزهري كل من ألف في الحديث ووصلتنا كتبه؟

(6) لم نجد أحداً من المتأخرين نسب رواية الزهري هذه إلى مسند الإمام أحمد، غير ابن حجر في كتابيه، "أطراف المسند"، و"إتحاف المهرة"، فلم ترد هذه الرواية في "جامع المسانيد" لابن الجوزي، أو "جامع المسانيد والسنن" لابن كثير، أو "غاية المقصد" للهيثمي.

(7) ابن حجر رغم إمامته وعلو شأنه في هذا العلم، إلا أنه بشر، قد يعتريه الوهم والخطأ، وليس حديثنا هذا بأول حديث يهم فيه في كتابيه "أطراف المسند" و"إتحاف المهرة"، فمن تدبر هذين الكتابين سيظهر له أن ابن حجر قد وهم في أحاديث كثيرة، ومن ضمن تلك الأوهام حديثان يشبهان حديث الزهري الذي نتحدث عنه، فلم أجدهما في أي كتاب آخر من كتب السنة، على كثرة ما بحثت، رغم أنهما من رواية أئمة مشاهير مكثرين، ولم أجد أحدًا من المتأخرين نقلهما في كتاب من كتبه، ولم يثبتهما محققو طبعات المسند: عالم الكتب، والرسالة، والمكنز، وهما الحديثان رقم (4699) و (8464) في "أطراف المسند".

(8) رغم أن محققي طبعتي الرسالة والمكنز قد اطلعوا على استدراك هذا الحديث من قِبَل محققي طبعة عالم الكتب، إلا أنهم لم يستدركوه في طبعتيهما، مما يدل على استنكارهم له.

وبعد أن انتهينا من سرد القرائن على عدم صحة نسبة هذا الحديث إلى "المسند"، بالإسناد الذي فيه الزهري، نأتي الآن لكتاب "فضائل الصحابة"، الذي هو من رواية القطيعي أيضًا، فقد جاء فيه هذا الحديث من طريق الزهري في موضعين مختلفين: (1332) و (1338)، وأخرجه الحاكم عن القطيعي من هذا الكتاب أيضاً، مما يُبعد وقوع التصحيف، ويدل على صحة ثبوت هذه الرواية في "فضائل الصحابة"، لذا فإن الذي يظهر لي، والله أعلم، أنه وهم من القطيعي نفسه، وليس هذا بمستبعد، فقد قال الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (5/ 116) عنه:
وكان بعض كتبه غرق، فاستحدث نسخها من كتاب لم يكن فيه سماعه، فغمزه الناس، إلا أنا لم نر أحدًا امتنع من الرواية عنه ولا ترك الاحتجاج به.
وروى الخطيب البغدادي عن أبى الحسن بن الفرات قوله: كان ابن مالك القطيعي مستورًا، صاحب سنة، كثير السماع، سمع من عبد الله بن أحمد وغيره، إلا أنه خلط في آخر عمره، وكف بعده وخرف، حتى كان لا يعرف شيئًا مما يقرأ عليه.
كما روى الخطيب البغدادي عن محمد بن أبى الفوارس قوله: أبو بكر بن مالك كان مستورًا، صاحب سنة، ولم يكن في الحديث بذاك، له في بعض المسند أصول فيها نظر، ذكر أنه كتبها بعد الغرق.
قلت: ومن كان هذا حاله، فالأولى أن يلصق به الوهم عند التفرد، بدلاً من أن يلصق بالإمام أحمد، أو بابنه عبد الله، وخاصة أن القطيعي أورد هذا الحديث في "فضائل الصحابة"، من طريق الزهري، في موضعين، ورغم أن الإسناد واحد في كلا الموضعين، إلا أن المتن مختلف، ففي الموضع الأول (1332) جاء المتن هكذا: حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهَا السَّلاَمُ.
وفي الموضع الثاني (1338) أورد القطيعي حديث الزهري بعد حديث قتادة، ثم قال: فذكر مثله سواء، ومتن قتادة جاء هكذا: حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ.
ففي الموضع الأول ذكر ثلاث نساء فقط، ولم يذكر آسية امرأة فرعون، كما أنه قال عن فاطمة: "عليها السلام"، دونا عن البقية، بينما ليس ذلك في الموضع الثاني.
واتهام القطيعي بالوهم في حديث تفرد به عن عبد الله بن أحمد عن أبيه في "فضائل الصحابة"، ليس مما يقدح في رواية القطيعي لمسند أحمد، فقد قال ابن حجر في لسان الميزان (1/ 419) عن القطيعي: "كان سماع أبي علي بن المذهب منه لمسند الإمام أحمد قبل اختلاطه، أفاده شيخنا الحافظ أبو الفضل بن الحسين".
قلت: أما "فضائل الصحابة"، فلم نجد فيما بحثنا فيه، شيئًا يدل على أن القطيعي إنما رواه قبل الاختلاط.
ومع ذلك فأحاديث هذا الكتاب مقبولة، مادام أن لها متابعات وشواهد تدل على أن للحديث أصل، أما أن يتفرد القطيعي في هذا الكتاب بحديث مثل حديث الزهري السابق، وتدل القرائن الكثيرة على أنه خطأ، فينبغي التروي كثيراً قبل إثبات صحة نسبة هذا الحديث للإمام أحمد.
ثم إن ثبوت الحديث في "فضائل الصحابة"، لا يستلزم ثبوته في "المسند"، فقد احتوى "فضائل الصحابة" على (984) حديثًا لعبد الله بن أحمد عن أبيه، منها (435) حديثاً ليست في المسند، أي حوالي النصف، فليس بالغريب أن يكون حديث الزهري المزعزم أحدهم.
فالخلاصة، الذي يظهر لي أن هذا الحديث ليس من المسند، وإنما هو من أوهام القطيعي في "فضائل الصحابة"، وقام أحد النساخ بإقحام هذا الحديث في أحد نسخ المسند في غير محله، واعتمد ابن حجر على تلك النسخة في كتابيه "أطراف المسند" و"إتحاف المهرة"، ولم يتنبه لنكارة التفرد في الإسناد، والله تعالى أعلم.

وبما أن المسألة اجتهادية، فقد يُخالفني البعض فيما توصلت إليه في هذا البحث، فمن وافقني، فليذكر ذلك، ومن خالفني، فليذكر ذلك أيضًا، لكن مع بيان أدلته، ورده على ما ذكرته في هذا البحث، لعلنا نستفيد جميعًا من هذه المناقشة.