[ALIGN=CENTER]كنت مدرساً في حلقة تحفيظ القرآن الكريم بالمسجد ...وكنت أراه كل يوم بعد صلاة المغرب ...في الخامسة عشرة من عمره ...ممسكاً بمصحف صغير يقرأ فيه ...
لا!! لم يكن يقرأ في الحقيقة !!... بل كان يوهمنا أنه يقرأ !!...
لقد كان يختلس النظرات إلينا ...الحين بعد الحين !!...لقد كان يريد أن يعرف ماذا نفعل ؟!!... لقد كان يسترق السمع الفينة بعد الأخرى !!...
كان يريد أن يعرف ماذا نقول ونحن جلوس في حلقة تحفيظ القرآن الكريم في المسجد ؟؟
وكان كلما نظرت إليه ... غض طرفه وعاد إلى قراءته !!!
كان يجلس يومياً هذه الجلسة الخجولة ..وينظر تلك النظرات الغريبة !!
في ذات ليلة ...وبعد انتهاء صلاة العشاء ...عزمت على التعرف عليه ...فاقتربت منه ...ثم بادرته قائلاً:
أنا أسمي " سلمان " اعمل مدرساً في حلقة تحفيظ القرآن الكريم في المسجد ...
فبادرني قائلاً :
وأنا أسمي " خالد " !!
قالها بسرعة ...كأنه يحضر الإجابة من شهور ... وكأنه كان يتوقع هذا السؤال منذ أمد بعيد ...
واصلت حديثي معه قائلاً :
أين تدرس يا خالد؟؟
أجابني على الفور: في السنة الثالثة المتوسطة ... وأحب القرآن الكريم جداً ...
ازداد عجبي من كلامه !! ... ما ضرورة تلك الجملة الأخيرة ؟!!
تشجعت قليلاً ..وقلت له :
خالد هل لديك فسحة في الوقت بعد المغرب ، نأنس بوجودك معنا ، في حلقة القرآن ... وتسعد بمجالسة اخوانك من طلاب الحلقة !!
أجابني متلعثماً :
هاه القرآن ....الحلقة .... نعم ..!! نعم !!...بكل سرور ...سوف آتي انشاء لله إليكم كل يوم بعد المغرب
غمرتني الفرحة فأسرعت أقول له : إذن موعدنا إذا انشاءالله
أمضيت ليلتي...وأنا أفكر في حال هذا الفتى العجيب...استعصى علي النوم... وفر من مقلتي... حاولت أن أجد إجابة لما رأيت وسمعت !! فما استطعت إلى ذلك سبيلا... فقلت في نفسي:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وضعت جنبي على شقي الأيمن...ولفني الليل بين إردائه...وأخذني النوم في أحضانه... وتمتمت قائلا: اللهم أسلمت وجهي إليك..وفوضت أمري إليك....الخ
ومضت الأيام...وخالدا مستمرا معنا في حلقة القرآن...كان نشيطا في الحفظ والمراجعة...أحب الجميع....وأحبه الجميع...كان لا يفارق المصحف....ولا يترك الصف الأول
لم نكن ننكر عليه أي شئ... إلا شئ واحدا...شروده الطويل...وتفكيره الساهم !!
كنا نحس أن جسده معنا في المسجد... لكن روحه تمضي سابحة في ملكوت أخر..
كنت أفاجئه أحيانا....فأساله عن شئ ما...وهو شارد الذهن ساهم البال...
فكان لا يملك إلا أن يلملم هروبه الذهني...وشروده الفكري ويعتذر بأي عذر...
وهو يعلم إننا لا نصدقه فيه...أحسست أن لديه سرا كبيرا... وانه يخفي بين ضلوعه أمرا خطيرا...فعزمت على معرفة هذا السر الدفين...حتى أتمكن من التعامل معه كما ينبغي...
أخذته يوما إلى شاطئ البحر...فلعل سره الكبير يلتقي مع هذا البحر الكبير...فيفرغ ما في نفسه من هم... ويخرج ما في روحه من الم ومعاناة
وصلنا إلى البحر...ومشينا على شاطئه..كان الوقت مساءا....وكان القمر بدرا منيرا...والليل ساجيا..
منظر عجيب...التقى فيه سواد السماء مع سواد البحر...
ووقف نور القمر الفضي.... حائرا بينهما كوقوفي حائرا أمام خالد !!
المنظر كله صمت... في صمت
وفجأة.....اخترق هذا السكون الصامت... صوت بكاء حار... ونحيبا مر...و نشيج ملتاع...
انه صوت خالد وهو يبكي... لم أشأ أن اقطع عليه لذة البكاء... وطعم الدموع... فلعل ذلك يريح نفسه... ويزيل همه..
وبعد لحظات قال خالد: اني أحبكم.. أحب القران... وأهل القران... أحب الصالحين الطيبين المتطهرين الملتزمين... ولكن أبي... أبي ؟؟
فقلت له: أبوك ؟!! ما بال أبوك ؟!
فأجابني والعبرة تخنقه:أبي يحذرني دائما من أن أخالطكم وأصاحبكم !! انه يخاف منكم...
انه يكرهكم !!!... لقد كان دائما يبغضني فيكم... ويستشهد على ذلك بالقصص وحكايات وأساطير وروايات !!.. لكنني عندما أراكم في الحلقة تقرؤون القران... كنت أرى النور في وجوهكم... والنور في ثيابكم... والنور في كلامكم... بل كنت أرى النور في صمتكم... كنت اشك في كلام والدي..ز
فلذلك كنت دائما اجلس بعد صلاة المغرب... انظر إليكم... وأتخيل نفسي معكم... اقتبس من نوركم... وارشف من معينكم..
سكت خالد برهة... ثم تابع حديثه قائلا:
أتذكر ياأستاذ سلمان حين أتيتني بعد صلاة العشاء... لتدعوني للانضمام إليكم في حلقة القران الكريم... لقد كنت انتظرك منذ زمن بعيد.. لتمسك بروحي... وتجعلها تحلق مع أرواحكم... في عالم الهداية والاستقامة... عالم السعادة والفلاح...
لقد كانت كلماتك تلك ياأستاذ سلمان بمثابة المصباح الذي أنار لي درب الهداية... فتشجعت ودخلت الحلقة... واجتهدت في الحفظ.. لم أكن أنام بالليل... كنت اقضي الليل مع القران والدموع... والبكاء والخشوع..
لقد شعرت فعلا حين صاحبتكم بطعم السعادة ولذة العيش... لقد كنت اشعر وأنا معكم بسعادة غامرة لم اشعر بها قط في حياتي... لقد كنت القران أنيسي في خلوتي دائما.. لم اشعر معه بالوحشة أبدا...
سكت خالد قليلا... ثم واصل حديثه بنبرة متهدجة:
لاحظ أبي التغير الذي طرا على حياتي... وعرف بطريقة أو أخرى... أنني دخلت حلقة تحفيظ القران... وعرف أني مشيت مع المطاوعة...
ومضت الأيام حتى جاءت تلك الليلة التي لن أنساها ما حييت قط !!
كنت في البيت مع أمي و أخوتي...ننتظر حضوره من المقهى كعادته اليومية... لنتناول طعام العشاء سويا... فدخل أبي البيت... بوجهه المظلم وتقاطيعه الغاضبة...
وجلسنا على مائدة الطعام... الكل صامت كالعادة !!... كلنا نهاب الكلام في حضوره..
فجأة !! ... قطع أبي الصمت بصوته الجهوري... وبصراحته المعتادة قائلا:
لقد سمعت أنك تمشي مع المطاوعة !!
فاجأني كلامه...عقد لساني... ذهب بياني.. اختلطت الكلمات في فمي !!
لم ينتظر أبي حتى يسمع مني جوابا...بل تناول إبريق الشاي الموضوع على المائدة... ورماه بقوة في وجهي !!
دارت الدنيا في راسي.. واختلطت الألوان في عيني... سقطت على الأرض.... حملتني أمي الحبيبة... صحوت من إغماءتي الخفيفة... على يديها الدافئة... وإذ بابي يصيح فيها قائلا:
اتركيه... وألا أصابك مااصابه !!
استللت جسمي من بين يدي أمي... وتحاملت على نفسي لأذهب إلى غرفتي..سرت نحو غرفتي... وصوت سبابه المتواصل وشتائمه المقذعة لي...يطرق مسامعي بقوة وعنف...
بعد تلك الحادثة... لم يكن يمر يوم إلا وهو يضربني !!... يشتمني !!... يركلني !!... يرميني بأي شئ يجده أمامه !!
وبدون ذنب ارتكبه !!.... حتى أصبح جسمي لوحة مرعبة.... اختلطت فيها الألوان الداكنة... والجراح الغائرة !!
انفجر خالد حينها بالبكاء... حاولت تهدئته وتسكينه... بعد قليل هدا بكاؤه..
ثم واصل حديثه قائلا:
صدقني يااستاذ سلمان.... لقد كرهت أبي... أبغضته.. امتلأ قلبي بالحقد عليه !!
في ذات يوم من الأيام... ونحن على مائدة الطعام... قال لي ذلك الأب الظالم:
قم ولا تأكل معنا !!.... وقبل أن أقوم عن المائدة.... قام هو وركلني في ظهري برجله الغليظة... ركلة أسقطتني على صحن الطعام...
أظلمت الدنيا في عيني...وغلى الدم في عروقي... ولم اعد أفكر سوى في الانتقام من هذا الأب الظالم القاسي... تخيلت نفسي وأنا اصرخ في وجهه وأقول له:
سوف اقتص منك... سوف أضربك كما تضربني... واشتمك كما تشتمني !!...
سوف اكبر... وأصبح قويا... وسوف تكبر وتصبح ضعيفا... عندها سأفعل بك كما تفعل بي الآن... وحينها أجزيك شر ما جزيتني !!!
ثم هربت.....خرجت من المنزل... أصبحت اجري واجري على غير هدى ... وبدون هدف ... حتى ساقتني رجلاي إلى هذا البحر !!!
فأمسكت بالمصحف... أقرا فيه وابكي بحرقة ولوعة... حتى لم استطع أن أواصل قراءة القران.... من كثرة البكاء وشدة النحيب..
ولما وصل خالد إلى هذا القدر من الكلام... فتركته يبكي ويبكي... لان البكاء في كثير من الأحيان يكون هو راحة وهو السعادة...
لم انطق بكلمة.. فقد ربط العجب لساني !!
واستعجم بياني !!
هل أعجب من هذا الأب الوحشي الذي خلا قلبه من معاني الرحمة والأبوة...
وعشعشت في قلبه شتى أنواع القسوة والغلظة ؟؟
أم أعجب من هذا الابن الصابر على البلاء... الذي أراد الله له الهداية و الاستقامة... فألهمه الثبات رغم الضغوط الرهيبة التي يواجهها ؟؟
أم أعجب من كليهما.... حين استحالت رابطة الأبوة والبنوة بينهما إلى أشلاء وقطع ممزقة ؟؟
أفقت من خواطري تلك... على صوت خالد وهو يناديني أستاذ سلمان !!
أمسكت بيده...ومسحت بيدي على رأسه... انه كاليتيم بل اشد من اليتيم...
كفكفت دموعه بيدي.... ضممته إلى صدري... لعله أن يجد شيئا من الحنان الذي لم يشعر به طوال حياته... دعوت له... ونصحته ببر والده... والصبر على أذاه.... ولو حصل منه ما حصل !! ... ولو فعل ما فعل !!
ووعدته بان أقابل والده بنفسي...
واكلمه واستعطفه ليسمح لخالد بالعودة إلى حلقة التحفيظ.... وافترقنا على ذلك...
ومرت الأيام وأنا أفكر في الطريقة التي أفاتح بها والد خالد في موضوع ابنه...
وكيف أتكلم معه ؟؟؟ ... وكيف أقنعه !؟
وأخيرا... استجمعت قواي... ولملمت أفكاري... وقررت أن تكون المقابلة اليوم الساعة الخامسة عصرا...
وفي الموعد المحدد.. سرت إلى منزل والد خالد... وسارت معي أفكاري الكثيرة.. وتساؤلاتي العديدة...
طرقت باب المنزل... فتح الباب... وإذا بذلك الوجه العابس... وتلك التقاطيع الغاضبة تقابلني...
وقبل أن أتكلم... امسك أبو خالد بتلابيب ثوبي.. وقال:إليه.. وقال :
أنت المطوع الذي يدرس خالد في المسجد ؟؟!!!
نعـــــــــــم !!
فقال والشرر يتطاير من عينيه: والله لو رايتك تمشي معه مرة أخرى كسرت رجلك !!
.... خالد لن يأتيكم بعد الآن !!
ثم جمع لعاب فمه.. وقذف به دفعة واحدة في وجهي.. ثم أغلق الباب بقوة..
فمسحت مااكرمني الله به في سبيله.. ورجعت ادراجي وأنا اسلم نفسي وأقول لها:
رسول الله عليه الصلاة والسلام... فعل به أكثر من هذا.. لقد كذبه قومه وشتموه ورموه بالحجارة وادموا رجله وكسروا رباعيته... ووضعوا القاذورات فوقه... وأخرجوه من بلده... وطردوه من أرضه..
ومرت الأيام تلو الأيام... والشهور تلو الشهور... ونحن لا نرى خالدا... فأبوه يمنعه من الخروج حتى للصلاة في المسجد.. ونحن يمنعنا من رؤيته وزيارته...
دعونا لخالد كثيرا... وسألنا الله أن يلهمه الصبر والثبات أمام هذا البلاء...
بعد فترة من الزمن... انتقلت عائلة خالدا إلى الحي المجاور... وانقطعت أخبار خالد عنا بالكلية... ومرت السنون... ونسينا خالد في غمرة الحياة ومشاغلها...
وفي ذات ليلة... وبعد أن صليت العشاء في المسجد... إذ بيد غليظة تمسك بكتفي من الخلف !!....آه !!... أنها ذات اليد التي أمسكت بعنقي قبل سنين !!
التفت إليه..... يالهي !!...... انه نفس الوجه !!.... نفس التقاطيع !!... ونفس الفم الذي أكرمني بما لا استحق !!... انه أبو خالد !!
يتبع...[/ALIGN]