بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نواصل معكم بقية أحداث قصة أصحاب الكهف ..
" وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً "
(الكهف:19)
قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُم } أي كما فعلنا بهم من هذه العناية من تيسير الكهف لهم
وإنامتهم هذه المدة الطويلة، بعثهم الله
أي مثل هذا الفعل بعثناهم، فعلنا بهم فعلاً آخر ، { لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُم }
كما جرت به العادة أن الناس إذا ناموا يتساءلون إذا قاموا
من الناس من يقول : ماذا رأيت في منامك ؟
ومن الناس من يقول : لعلَّ نومك لذيذ أو ما أشبه ذلك
{ بعثناهم لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُم } ليس المعنى أنهم بعثوا للتساؤل ولكن بعثوا فتساءلوا .
فاللام جاءت للعاقبة لا للتعليل
كما في قوله تعالى: ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ) (القصص: الآية8)
اللام ليست للتعليل أبداً
ولا يمكن أن تكون للتعليل لأن آل فرعون لم يلتقطوه ليكون لهم عدواً وحزناً
ولكنهم التقطوه فكان لهم عدواً وحزناً.
( قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ) كما جرت العادة
أي كم مدة لبثتم ؟
{ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }
{ لَبِثْنَا يَوْماً } أي كاملاً .
( أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) أي بعض اليوم
ذلك لأنهم دخلوا في أول النهار وبُعثوا من النوم في آخر النهار
فقالوا : { لَبِثْنَا يَوْماً } إن كان هذا هو اليوم الثاني
أو { بَعْضَ يَوْمٍ } إن كان هذا هو اليوم الأول
وهذا مما يدل على عمق نومهم .
( قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ) أي قال بعضهم لبعض
وكأن هؤلاء القائلين قد شعروا بأن النومة طويلة ولكن لا يستطيعون أن يُحدِّدوا
أمَّا الأولون فحددوا بناءً على الظاهر
وأما الآخرون فلم يحددوا بناء على الواقع
لأن الإنسان يفرق بين النوم اليسير والنوم الكثير
ثم قال بعضهم لبعض :
( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ )
الوَرِق : هو الفضة كما جاء في الحديث : ( وفي الرِّقةِ رُبْع العُشْرِ ) كان معهم دراهم من الفضة .
( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ )
تضمن هذا :
أولاً : جواز التوكيل في الشراء، والتوكيل في الشراء جائز، وفي البيع جائز أيضاً
فإن الرسول وكَّل أحد أصحابه أن يشتري له أضحية وأعطاه ديناراً
وقال : اشتر أضحية ، فاشترى شاتين بالدينار ثم باع إحداهما بدينار فرجع بشاة ودينار
فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارك الله له في بيعه ، فكان لواشترى تراباً لربح فيه .
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث أنه يجوز تصرف الفضولي، أي يجوز للإنسان أن يتصرف بمال غيره إذا علم أن غيره يرضى بذلك، فهؤلاء وكلوا أحدهم أن يذهب إلى المدينة ويأتي برزق.
ثانياً: في هذا أيضاً دليل أنه لا بأس على الإنسان أن يطلب أطيب الطعام لقولهم( فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً)
ثالثاً : فيه دليل أيضاً على ضعف قول الفقهاء : إنه لا يصح الوصف بالأفعل
أي لا يجوز أن أصف المبيع بأنه أطيب كل شيء
فلا تقول : [ أبيع عليك برَّاً أفضل ما يكون ] لأنه ما من طَيِّب إلاَّ وفوقه أطيب منه
ولكن يقال : هذا يرجع إلى العرف ، فأطيب : يعني في ذلك الوقت وفي ذلك المكان
وهل من السنّة ما يشهد لطلب الأزكى من الطعام ؟
نعم
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ الصحابة الذين باعوا التمر الرديء بتمر جيد ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم منه
ولم ينههم عن هذا
وما قال : هذا تَرَفُّه ، اتركوا طلب الأطيب
فالإنسان قد فتح الله له في أن يختار الأطيب من الطعام أو الشراب أو المساكن أو الثياب أو المراكب
ما دام الله قد أعطاه القدرة على ذلك فلا يُلام .
( فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) يعني يشتري ويأتي به
فجمعوا بالتوكيل بين الشراء والإحضار .
( وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ) أي يتعامل بخفية لئلاَّ يُشْعَر بهم فيؤذَون
وهذا يعني أنهم ظنوا أنهم لم يلبثوا إلاَّ قليلاً .
ثم علَّلوا هذا
أي الأمر بالتلطف والنهي عن الإشعار بقولهم :
( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ) (الكهف:20)
أي أنهم لا بد أنهم يقتلونكم أو يردونكم على أعقابكم بعد إيمانكم
{ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً } أي إذا عدتم في ملَّتهم أبداً
وفي هذا دليل على أخذ الحذر من الأعداء بكل وسيلة إلاَّ الوسائل المحرمة
فإنها محرمة لا يجوز أن يقع الإنسان فيها.
" وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً "
(الكهف:21)
قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } يعني مثل بعثهم من نومهم
فإن الله أعثر عليهم يعني أطلع عليهم قومهم
( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) أطلع الله عليهم قومهم { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ }
إما أن المعنى بقيام الساعة الذي كان ينكره هؤلاء أو لأن الله تعالى يُنجي المؤمنين من الكفار
لأن هؤلاء السبعة نجوا من أمة عظيمة تقاتلهم وتنهاهم عن التوحيد .
(وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا )
الساعة : أي قيام الساعة .
{ لا ريب فيها } أي لا شك ، واقعة لا محالة .
( إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) متعلقة بأعثرنا
أعثرنا عليهم حتى تنازعوا أمرهم بينهم
تنازعوا فيما بينهم ماذا نفعل بهم ؟ أنتركهم أم ماذا نصنع بهم ؟
( فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً ) يعني ابنوا عليهم بنياناً حتى يكون أثراً من الآثار وحماية لهم .
( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) يعني توقفوا في أمرهم كيف يَبقَونَ ثلاث مائة سنة وتسع سنين لا يأكلون ولا يشربون ولا يتغيرون أيضاً .
( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ ) وهم أمراؤهم
{ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } بدل من أن نبني بنياناً نحوطهم به ونسترهم به ولا يكون لهم أثر أي لنجعلن عليهم مسجداً نتخذه مصلى
والظاهر أنهم فعلوا لأن القائل هم الأمراء الذين لهم الغلبة .
هذا الفعل ، اتخاذ المساجد على القبور ، من وسائل الشرك
وقد جاءت شريعتنا بمحاربته حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في سياق الموت :
( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يُحذِّر ما صنعوا ) .
ثم قال مبيناً اختلاف الناس في عددهم
" سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً "
وهذا ما سنستكمله في الجزء القادم بإذن الله ..
[align=right]* تفسير القرآن الكريم / سورة الكهف ـ ابن عثيمين رحمه الله .[/align]