أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


حول تخطئة حماد بن سلمة في روايته عن ثابت البناني؟!

كتب إلينا بعض الأماثل يسألنا: (متى يمكننا تخطئة حماد بن سلمة في روايته عن ثابت البناني، وما سبيل تقديم رواية غيره عليه في ثابت؟).
فكان الجواب عليه أنْ قلنا:
(معلوم لديكم مقام حماد في ثابت، وأنه أوثق وأثبت أهل الدنيا في الرواية عنه، وإليه المنتهى في ذلك لا يلحقه فيه أحد قط! وكم كان يكشف أوهام النقَلَة بروايته المجردة عن ثابت؟ وكلمات النقاد متضافرة على تصديق هذا المعنى.
ومن ذلك:
قول الإمام أحمد فيما نقله عنه أبو داود في ( مسائله ): ( ليس أحد أثبت فِي ثَابِت ، من حَمَّاد بن سَلَمَة ، هؤلاء الشيوخ يتوهمون ).
وقال أحمد أيضًا : ( حماد بن سلمة أعلم الناس بثابت ، ومن خالف حماد ابن سلمة في ثابت فالقول قول حماد )
وقول مسلم في كتاب التمييز ( ص: 217) :(اجتماع أهل الحديث ومن علمائهم على أن أثبت الناس في ثابت البناني حماد بن سلمة، وكذلك قال يحيى القطان، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل وغيرهم من أهل المعرفة).
وقال أبو حاتم -كما في العلل لابنه (1/405)- :((أضبط الناس لحديث ثابت وعلي بن زيد حمادُ بن سلمة بيَّن خطأ الناس)).
وقال ابن معين -كما في تاريخ الدوري (4/265) :((من خالف حماد بن سلمة في ثابت فالقول قول حماد قيل له فسليمان بن مغيرة عن ثابت قال سليمان ثبت وحماد أعلم الناس بثابت)).
وقال ابن المديني :((لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة)).
وهناك غير ذلك من الكلمات المرادفة لهذا المعنى.
إذا عرفت هذا: استقام للناقد ضِيقَ الطريق في توهيم حماد في روايته عن ثابت، أو تقديم رواية غيره عليه فيه! لكن ذلك غير منعدم على التحقيق، بل وأراه يقع ولكن باستصحاب الدلائل والقرائن الناهضة على ذلك.
1- أما توهيم حماد عن ثابت في بعض ما رواه:
فهذا لا أراه يقع إلا في حالتين لا ثالث لهما:
أ- أن يُقِرَ حماد بن سلمة نفسه بخطأه في بعض ما رواه عن ثابت! وهذا لم أجد له أنموذجًا حتى الآن!
ب- أن يجزم أحد حُذَّاق النقاد المَهَرة بوَهَم حماد فيما رواه عن ثابت! وهذا يكون إما تصريحًا أو تلويحًا.
1- والتصريح: يكون بالجزم بغلط حماد في روايته.
وهذا الضرب لم يقع لي بعد.
2- والتلويح: يكون بالإشارة إلى تقديم رواية غيره عليه.
وهذا لم أقف له إلا على مثال فريد وحسب. وإن كنتُ رأيتُ غيره وقع من بعض الأئمة غير المشهورين بنقد الأحاديث وكشْف العلل. وهو عبد الله بن الإمام أحمد. فنذكر هنا كلام عبد الله، ثم نُتْبِعه بذِكْرِ ذلك المثال الفريد. فنقول:
قد حدَّث حسين بن واقد عن ثابت البناني قال : حدثني عبد الله بن مغفل المزني قال : ( كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله ، وكأني بغصن من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفعته عن ظهره ...
) فذكر الحديث في قصة الحديبية ، وكتاب الصلح، ونزول قوله تعالى :{ عنهم عنهم }.
أخرجه النسائي في الكبرى ، وأحمد، وغيرهما من طريق حسين بن واقد به .
ولكن خولف فيه حسين بن واقد ، فرواه حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك به ...! ونقله إلى (مسند أنس )!
هكذا أخرجه مسلم، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي في الكبرى، وأحمد، وغيرهم من طرق متعددة عن حماد بن سلمة به مُقطَّعًا ، إما بذكر صلح الحديبية وما وقع فيه أو بذكر نزول الآية وسببه .
فجاء عبد الله بن أحمد وقال في المسند [4/86]، عقب روايته عن أبيه: (قال حماد بن سلمة في هذا الحديث : عن ثابت ، عن أنس . وقال حسين بن واقد: عن عبد الله بن مغفل ، وهذا الصواب عندي إن شاء الله) .
هكذا قال عبد الله بن أحمد! ولعله نزع في ترجيح رواية حسين بن واقد لمخالفته للجادة في هذا ، وأما حماد بن سلمة فقد سلك الجادة المعهودة : ثابت ، عن أنس!
لكن هذه النظرة الظاهرة لا تكفي للخدش من تلك الأسطوانة: ( حماد بن سلمة عن ثابت البناني )! وقد تعقبنا كلام عبد الله بن أحمد في كتابنا ( الرحمات ) بقولنا:

(قلتُ: يريد أن رواية الحسين عن ثابت هي المحفوظة! وهذا منه غير مقبول، بل ولا يجيء أصلا إلا إذا كان من فَمِ أبيه أبي عبد اللَّه الشيباني، وتقديم الحسين بن واقد على حماد بن سلمة في ثابت البناني شيء عسِرٌ للغاية، وحماد هو أثبت أهل الأرض في ثابت البناني باتفاق أئمة الحديث، كما نقله عنهم مسلم في كتابه (التمييز) وقد صحَّ عن ابن معين أنه قال: (من خالف حماد بن سلمة في ثابت، فالقول قول حماد ... حماد أعلم الناس بثابت) كما في تاريخه [4/265/ رواية الدوري].
ثم وجدت ابن أبي حاتم قد سأل أباه في العلل [رقم 982]، عن رواية حسين بن واقد عن ثابت عن عبد اللَّه بن مغفل بهذا الحديث ...؟! فقال: (قال أبي: رواه حماد بن سلمة عن ثابت البناني [عن أنس] أن جيشًا لرسول اللَّه (ص) ... ولم يذكر عبد اللَّه بن المغفل).
ثم قال أبو حاتم: (حماد أعلم بحديث ثابت من حسين).
قلتُ: هذا شيء لا امتراء فيه أصلًا! فالصواب هو رواية حماد عن ثابت عن أنس به ... كما أشار أبو حاتم [وقد سقط ذكر (أنس) من العلل لابن أبي حاتم!! فصار الحديث عن ثابت مرسلاً! وهذا لا وجه له عندي!]
والحسين بن واقد وإن وثقه الجماعة، لكن غمزه أحمد وغيره بنكارة في حديثه، وقال الساجي: (فيه نظر؛ وهو صدوق يهم...) راجع التهذيب [374/2].
ووَهْمُه في هذا الحديث ظاهر جدًا بمخالفته حماد بن سلمة في سنده عن ثابت!! فكأن حُسينًا قد اصطدم عِهْنُه بُصُمِّ الصخور!!
فإن قيل: هلَّا حملتم الحديث على الوجهين؛ عِوَضًا عن أن تهملوا أحد الطريقين على نظافة إسناده إلى ثابت البناني؟! ويكون ثابت آنذاك قد سمعه من أنس تارة، ومن عبد اللَّه بن المغفل أخرى! لأن هذا يؤيده تصريح ثابت البناني بسماعه الحديث من عبد اللَّه بن مغفل، كما عند النسائي في (الكبري)!
قلنا: حَمْلُ الحديث هنا على الوجهين غير ناهض عندي! ويدل عليه ما نقلنا آنفًا عن أبي حاتم الرازي وغيره.
أما تصريح ثابت بسماعه له من عبد اللَّه بن المغفل، فهذا وهم ممن دون الحسين بن واقد في سنده، فقد رواه النسائي من طريق محمد بن عقيل الخزاعي عن علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن ثابت قال: حدثني عبد اللَّه بن مغفل ....
وابن عقيل هذا قد أخطأ في أحاديث من حفظه، مع كونه قد وثقه جماعة، فلعلَّ هذا من ذاك.
فإن لم ينهض ذلك، فعلي بن الحسين بن واقد هو حامل لواء هذا الوهم في سنده، فهو مختلف فيه عندهم، وثقه ابن حبان ومشاه النسائي وضعفه أبو حاتم الرازي،
وقد خولف علي بن الحسين فيما أَتَى به عن أبيه من تصريحه بسماع ثابت من ابن المغفل في سنده الحديث، خالفه جماعة كلهم رووه عن الحسين بن واقد عن ثابت بالعنعنة بينه وبين ابن المغفل، ولم يذكروا فيه سماعًا، ومن هؤلاء:
1- زيد بن الحباب عند أحمد.
2-3- ويحيي بن واضح وعلي بن الحسن بن شقيق عند الطبري.
ثم وجدتُ محمد بن عقيل -روايه عن علي بن الحسين بن واقد عند النسائي كما مضي- قد توبع عليه: تابعه عبد الرحمن بن بشر بن الحكم العبدي عند الآجري في (الشريعة) وعبد الرحمن هذا ثقة صاحب حديث.
فالتزق الوهم بعلي بن الحسين رأسًا، وقد عرفت حاله قريبًا، ومثله جائز عليه أن يغلط فيقلب العنعنة سماعًا، وهذا يقع للثقات أحيانًا، فكيف بالمخْتَلَف فيهم؟ واللَّه تعالى المستعان، وعليه التكلان
).
انتهى كلامنا في ( الرحمات ) .


تابع البقية: ...........