بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصة امرأة لها ارتباط بقصة سليمان عليه السلام
إنها بلقيس
تبدأ قصتها باستعراض عسكري ، قام به سليمان عليه السلام
يتفقد به جنوده
وكان الله سبحانه وتعالى قد سخر له الجنود ، ليس فقط من البشر
بل حتى من الجن ، والحيوانات ، والطيور .
حُشر هؤلاء الجنود جميعاً وأخذ يتفقدهم
مع الاستعراض ، اُفتقد الهدهد
فبدأ يسأل عنه : أين الهدهد ؟ .. وكيف يغيب عن هذا اللقاء الهام ؟
إن لم يأتني بسبب وجيه فسأقتله .
جاء الهدهد وقال بمنتهى الجُرأة : أُحطت بما لم تحط به !!
تخيلوا جندي صغير ، يكلم الحاكم ، والقائد بهذا الأسلوب القوي ، والصريح .
" وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ "
سبأ : هم حمير ، ملوكـ اليمن .
عندي أخبار هامة
ما هو هذا الخبر الذي جاء به الهدهد ؟
قال الهدهد :
" إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ "
امرأة تحكم اليمن ، سبأ وما حولها
يقول الله على لسان الهدهد : " وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ "
ما كل شي ؟
إنه العلم ، والجاه ، والجمال ، والقوة ، والحكمة ، والجيوش
ومن أعجب ما عندها عرش عظيم يضرب به المثل
ثم يخبر الهدهد سليمان عليه السلام ويقول :
" وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ "
حتى كلام الهدهد فيه حكمة عظيمة
ماذا اختار من علم الله ؟
إنه : إخراجه للخبأ
فالهدهد يضرب به المثل في اكتشاف الماء المخبأ تحت الأرض
فا الله الذي أعلمه بهذا
فأشار إلى شيء هو يتقنه ، ويعلم أن مصدره من الله
ثم بدأ يثني على الله " هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ "
لماذا اختار العرش ؟
لأنه رأى عرشاً عظيماً لدى بلقيس .
هنا قال تعالى على لسان سليمان عليه السلام :
" قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ "
فهو لم يحكم قبل أن يتأكد
" اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا "
كتب رسالة موجهة إلى بلقيس
" فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ "
فطار الهدهد حتى وصل إلى قصر بلقيس
وبينما بلقيس في فسحة قصرها ، إذ نزل عليها رسالة
فقرأت الرسالة وتعجبت
فأمرت بجمع كبار القوم فقالت :
" قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كريم "
فقرأت عليهم الرسالة :
" إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ "
هو في فلسطين ، وهي في اليمن
فأخذت تشاورهم :
" قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونَ "
تستطيع إصدار قرارها بنفسها
لكن من حكمتها أن استشارت قومها
" قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ "
فلم يعطوها أي رأي ، مجرد قوة
وهي من جاءت بالرأي ، فكانت هي أحزم رأياً منهم
فبعض النساء تفوق الرجال بحكمتها
" قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ "
فكانت تخاف من أن يُفسد بلدها ، ويُذل قومها
يقول تعالى : " وكذلكـ يفعلون " : يعني هذا الأمر صحيح
فحكمتها صحيحة ، وقولها صحيح
فقررت أن تختبر الأمر
يقول تعالى على لسانها : " وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ "
فهي تريد معلومات أكثر عن سليمان
فإن كان قوياً جداً فلن تصادمه
وإن كان ضعيف فستقاتله
وإن كان ذا أخلاق وقيم فهي ستتعاون معه .
فالرسل الذين سيذهبون بالهدية سيكشفون لها الحال الذي عليه سليمان
ولما وصلوا الرسل ، رأوا مُلكاً عظيماً لسليمان
ورأوا ملكاً سُخر له ما لم يُسخر لأحد غيره
فتقدموا بهديتهم وهم مستصغرينها أمام هذا المُلكـ العظيم
فلما رأها سليمان ، عرف مقصدهم ، وأنهم كانوا يظنونه ملكاً عادياً سترضيه الهدية
وكان الرد الحاسم :
" فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ "
أي إن لم يستسلموا فسنأخذ منهم كل شيء ، وهم أذلة
عادت الرسل إلى بلقيس ، وأخبروها بالخبر
فعلمت أنها لن تستطيع الوقوف أمام هذا الجيش الجبار
فقرروا الاستسلام حفاظاً على دولتهم وممالكهم
وأرسلوا إلى سليمان أنه سيأتي وفد بقيادة بلقيس ، وأعيان القوم
يعلنون الاستسلام والإنضمام إلى دولته .
فأراد سليمان أن يختبرها ، ويعرف مدى قوة عقلها
يقول تعالى : " قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ "
فقال له عفريت من الجن : أنا آتيكـ به قبل أن تنتهي من جلستكـ هذه مع قومكـ
" قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ "
فقال آخر :
" قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ "
فأتى به فعلاً .. وشكر سليمان ربه
" فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ "
فما طغى بوجود النعمة عنده ، بل شكر
ولما رأى العرش أمامه قال : نكروا لها عرشها ، أي غيروا من شكله
" قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ "
فلم يجرح فيها ويقول من [ الضالين ] ، بل قال [من الذين لا يهتدون ]
وصل وفد بلقيس إلى فلسطين
ودخلوا على سليمان في قصره ، واستقبلهم وجلسوا إليه
فنظروا إلى عرشهم متعجبين
فقال لها سليمان : أهكذا عرشكـ ؟
فالإجابات المحتملة على هذا السؤال : نعم ، أو لا
لكنها قالت : " كأنه هو " تحتمل نعم ، أو لا ، أو أنه شبيهه
" فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ "
فلما سمع سليمان جوابها الذي فيه علمُُ عجيب قال :
" وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ "
لكن علمها لم ينفعها ، لأنها بقيت على الكفر ، بينما نحن مسلمين .
" وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ "
وأراد سليمان أن يريها العظمة التي سخرها الله له
ويريها أن الله أقدر ، وأعلم ، وأجل ، وأعلا
فأخذها سليمان عليه السلام إلى الصرح
وكان هذا الصرح من زجاج تجري تحته المياه
وأول ما دخلت ، لم تميز أن الماء يجري من تحت الزجاج
فكشفت عن ساقيها ، حتى لا تبتل ملابسها بالماء
" قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا "
فضحكـ سليمان عليه السلام
" قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ "
فعلمت أنه لا يستطيع على هذا كله إلا شخص مدعوم بقدرة غير بشرية
فلما رأت هذا الأمر أمامها أسلمت
وهذا دليل آخر على رجاحة عقلها .
" قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "
وفي روايات كثيرة تشير إلى أنها تزوجت من سليمان عليه السلام ـ والله أعلم ـ
[align=right]* نساء خالدات / للدكتور طارق السويدان .[/align]