أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم





جُسَيم الرب: آية للمؤمنين وفتنة للملحدين
إبراهيم الرماح

اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وسبحان الله وبحمده "الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً".

"هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".

"أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".

قصة (جسيم الرب):
في عام 1964 قَدَّم الفيزيائي (بيتر هيجز) وآخرون نظريةً عن الجسيم المسؤول عن كتلة الجسيمات الأولية –وهي البوزونات: الجسيمات حاملة الطاقة، والفرميونات: الجسيمات حاملة المادة أو الكتلة-، واقترحوا نموذجاً لآلية تكتسب بواسطتها الجسيمات كتلتها عن طريق تآثرها –التآثر هو التأثير ثنائي الاتجاه- مع مجال سمي بـ (مجال هيغز)، وسمي الجسيم المقترح لإكمال النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات باسم: بوزون هيجز (Higgs Boson).

ثم شاع في وسائل الإعلام تسميته بــ: جسيم الرب (God Particle) بعد ظهور كتاب (ليون ليدرمان) بعنوان: (جسيم الرب: إذا كان الكون هو الجواب، فما هو السؤال؟)
(The God Particle: If the Universe Is the Answer, What Is the Question?)
وقد عارض مقدم النظرية (بيتر هيجز) هذه التسمية.

وقال ليدرمان: إنه سماه بهذا الاسم لأن فَهْمَ طبيعة هذا الجسيم مركزيٌ ومهم جداً لفهم بنية المادة وكيف نشأ هذا الكون والنظرية الكبرى التي تحكمه؛ فهو الجسيم الذي يُظن أنه المسؤول عن اكتساب المادة لكتلتها.

ثم توالت الأبحاث في هذا المجال، وأُنْشِئَ مصادم الهادرونات الكبير (Large Hadron Collider LHC) بغرض الإجابة عن أسئلة الفيزياء المتعلقة ببناء الكون عن طريق فهم الجسيمات المكونة للكون، وعلاقتها ببعضها، وكيف نشأت وإِلامَ تصير.

ويوجد هذا (المصادم) تحت الحدود الفرنسية السويسرية بالقرب من مدينة جنيف.

وقد تبنت المنظمة الأوروبية للبحث النووي (CERN) بناءه، وشارك في ذلك أكثر من 10000 فيزيائي ومهندس من 100 دولة ومئات من المراكز البحثية. وقد كلف المشروع نحو 7.5 مليار يورو (وهناك تقديرات أخرى لهذا).

ومن المسائل التي جرى بحثها ولا زال مستمراً: مسألة (بوزون هيجز) أو (جسيم الرب) وهل هو موجود فعلاً أم هي مجرد فرضية، وطبيعة المادة المظلمة في الكون، ومسائل أخرى كثيرة.

وفي 4 يوليو 2012، أعلن الباحثون أنهم متأكدون بنسبة 99.999% أن هذا الجسيم موجود.

وتكمن أهمية هذا الاكتشاف في كونه يسهم إسهاماً كبيراً في وضع ما يسمى بـــ (نظرية كل شيء) Theory of Everything، والتي بها تنتظم القوانين المتفرقة التي تحكم حركة الكون تحت قانون واحد. وذكر بعضهم أن هذا الاكتشاف سيحدث ثورة في علم الفيزياء وستتغير تبعاً لذلك بعض مقرراته، كما غيرت قوانينُ اينشتاين في النسبية والكمومية قوانينَ نيوتن ونموذجه الميكانيكي في تفسير الكون.

نظرة الملاحدة لهذا الاكتشاف:
الأصل في العلوم كالفيزياء والأحياء وغيرها أنها علوم موضوعية قوامها التجربة والمشاهدة، لا يدخلها الهوى ولا تخضع للآراء المجردة عن البراهين.

لكن الملاحدة يعمدون بخبث إلى (ربط) تصوراتهم الباطلة عن حقيقة الكون وأيدلوجيتهم الإلحادية بالمكتشفات العلمية حتى يتوهم الجاهل أن للإلحاد سنداً علمياً يدعمه، وهذه هي (الأدلجة) الباطلة.

وفي جولة في بعض المواقع والمنتديات الإلحادية –العربية والانجليزية- وجدت الملاحدة فرحين بهذا الاكتشاف وكأنه الذي سيقوض بنيان الإيمان!

وقد زعم الملاحدة أن وجود هذه الجسيمات يجعل الكون مكتفياً بذاته وأنه خَلَقَ نفسه بنفسه فلا يحتاج إلى خالق مدبر!
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

نظرة المؤمنين لهذا الاكتشاف:
كل اكتشاف جديد يُتوصل إليه في هذا الكون إنما هو دليل جديد على عظمة الله تعالى "الذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ".

قال د. مصطفى محمود في رحلته من الشك إلى الإيمان: "كل يوم يجتمع لدي المزيد من الأدلة بأن الكون هو بالفعل مسرح للتوازن العظيم في كل شيء، وأن كل شيء فيه قد قُدِّرَ تقديراً دقيقاً".

ولا شك أن الفطرة السليمة والعقل الصحيح يثبتان وجود خالق عظيم لهذا الكون، فلا يُتصور أن يكون هذا الكون بدقته العجيبة، وقوانينه البديعة، وصنعته المتقنة، أتى من انفجار عظيم دون أن يكون هناك إلهٌ وضع له هذه القوانين التي تحكمه!

وقولهم إن الانفجار العظيم حصل (صدفة) ونشأ منه هذا الكون الذي يسير فيه كل شيء وفق نظام دقيق ومدار محدد ومقادير وأبعاد معينة = يشبه قول القائل: (إنه يمكن تشكل قاموس ضخم مرتب ترتيباً هجائياً دقيقاً حسب الأحرف نتيجة انفجار مطبعة)!!

سيقول الملاحدة: وجود المادة والطاقة والفراغ كافٍ لنشأة الكون!

فيقال لهم: فأين العلم والقدرة التي تخرجه إلى حيز الوجود؟!
وهل للكون مشيئة وإرادة واختيار؟

سيقولون: لا، ولكنه مع ذلك خلق نفسه!

فيقال لهم: أي الفكرتين أقرب للعقل: كونٌ فاقدُ الإرادة يخلق نفسه بنفسه، أم خالقٌ أزليٌ عالمٌ قادرٌ خبيرٌ خَلَقَ الكون؟!

لا شك أن هذا أقرب للعقل من تصور ِكونٍ مُحْدَثٍ عديمِ الإرادة والمشيئة يخلقُ نفسه! " فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".

وأما هذا الجسيم الذي اكتُشف مؤخراً فلا يعدو كونه أحد المخلوقات التي سخرها الله عز وجل لتوازن الكون .. "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً".

فهذا الاكتشاف لا يساند الإلحاد أبداً وإنما يستخدمه الملاحدة بخبث لتمرير فكرتهم في إنكار الخالق.
وليس كل الفيزيائيين يرون هذا الاكتشاف داعماً للإلحاد، بل المؤمنون منهم بوجود الخالق يرون هذا دليلاً جديداً من دلائل عظمة الخالق وقدرته.

وقد سألت أستاذ فيزياء الجسيمات في جامعة مانشستر: براين كوكس (Brian Cox): هل هذا الاكتشاف يدعم فكرة الإلحاد؟
فقال: لا.

وقد قال العالم جون لينوكس في رده على الملحد داوكنز: إن قوانين الفيزياء لا يمكن أن تخلق شيئاً، إنما تفسر ما هو موجود فعلاً وما يمكن أن يحدث تحت شروط معينة.

وبعضهم سمى هذا الجسيم: جسيم الإيمان (Particle of Faith)؛ لأنه دليل جديد من دلائل عظمة الله تعالى وقدرته وإتقان صنعته "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ".

لماذا يقع بعض عباقرة العلوم في الإلحاد؟
قد يستطيع علماء الطبيعة أن يفهموا (كيف) نشأ الكون، لكنهم لن يستطيعوا الإجابة عن (الغاية) من نشأته و(لماذا) وُجد، إلا بنورٍ من الوحي وأثارةٍ من علم النبوة.
وقد يكون المرء ذكياً في فهم دقائق الأمور لكنه أعمى عن رؤية عظائمها.
ومثالٌ على عمى البصائر ما قاله (واينبيرج): لا يمكن إثبات دليل على عدم وجود الخالق، لكنه ملحد لأن الأدلة على وجود الخالق ليست كافية في نظره.
ويقول: إذا أرسل الخالقُ صواعقَ على كل الكافرين فهذا دليل قوي على وجوده!

وهذا كما أخبر الله تعالى عن كفار قريش: "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ".

فما هو إلا العناد والمكابرة "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُواً".
وهذا الكِبر والغرور هو الذي يحملهم على إنكار وجود الخالق جل وعلا "وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ".

(فالعبد مفتقر إلى الله في أن يهديه ويلهمه رشده، وإذا حصل له علمٌ بدليل عقلي فهو مفتقر إلى الله في أن يُحدث في قلبه تصور مقدمات ذلك الدليل ويجمعها في قلبه، ثم يُحدث العلم الذي حصل بها.

وقد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظراً ويعميه عن أظهر الأشياء، وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظراً ويهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به.

فمن اتكل على نظره واستدلاله أو عقله ومعرفته خُذل؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كثيراً ما يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، ويقول في يمينه: "لا ومقلب القلوب"، ويقول: "والذي نفسي بيده"، ويقول: "ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه".

وكان إذا قام من الليل يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"). ]درء تعارض العقل والنقل [ 34/9

خاتمة:
كثيرٌ من الملاحدة الغربيين كانت خلفياتهم نصرانية، أو متأثرة بوثنيات الرومان واليونان وما فيها من أساطير و(آلهة) عديدة متصارعة!
ولذلك فإن نظرتَهم إلى الأديان عموماً وازدراءَهم لها ناشئٌ عن استدعاء أذهانهم لهذه الأفكار الخرافية، فَسَوَّوْا بذلك بين جميع الأديان ورأوها مواداً للأساطير (الميثولوجيا).

لهذا وغيره ينبغي علينا حين نرد على هؤلاء ألا نضع أنفسنا في موقف المدافع عن الأديان جملةً ضد الإلحاد، بل يجب أن نضع الإسلام (وحده) في مواجهة الإلحاد؛ فالأديان الأرضية الوضعية -كمن يعبد الشمس أو القمر أو النار أو البقر أو غير ذلك- فيها من السخف والتهافت ما لا يصمد أمام الأفكار الإلحادية المتدثرة –زوراً وتمويهاً- بالعلم.
وكل الأديان السماوية السابقة قد دخلها التحريف وفيها ما يناقض العقل، كما أن تصورهم عن الخالق جل جلاله تصورٌ باطل؛ فاليهود ينسبون إلى الله تعالى النقائص كالتعب والفقر والبخل والبَدَاء –وهو ظهور الأمور بعد خفائها-، وينسبون إلى الأنبياء –عليهم السلام- رذائل الأخلاق كما هو موجود في كتبهم المحرفة.
والنصارى كذلك، فعقائدهم في التثليث والخطيئة الأولى والصلب والفداء وغيرها أضعف من أن تواجه الأفكار الإلحادية.
كما تجد في كتبهم الأخبارَ ظاهرةَ البطلان والتي تناقض العقل والحس؛ كقولهم إن عمر الدنيا سبع آلاف سنة، وغير ذلك من الأباطيل.

فلا يمكن أن يواجهَ الإلحادَ إلا الإسلامُ وحده بنقائه وصفائه، بعقيدته الصحيحة الواضحة وتشريعاته الكاملة، المتفقة مع العقل والفطرة.

والله أعلم وأحكم. وصلى الله على نبينا محمدٍ وسلم.