عن أبي موسى - رضي اللَّه عنه - قال : « قام فينا رسول الله - صَلَّى اللَّه عليه و سَلَّم - بخمس كلمات فقال :
" إن اللَّهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ , يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَ يَرْفَعُهُ , يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ , حِجَابُهُ النُّورُ ، وَ لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتْ سَبَحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ " ..


نظرات في المعنى :
1. قصور العقل الإنساني عن إدراك كَنْهْ الله تبارك و تعالى لأنه " ليس كمثله شيء و هو السميع البصير " ، لأنه " لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير " ، و مع ذلك فقد استطاع الحديث بكلماته المحدودة أن يعبر عن موضوع في غاية الدقة ؛ لأنه يتعلق بذات الله سبحانه و تعالى ..


2. الحديث يورد صفاتٍ لله تعالى ليست لأحد من خلقه :
أ ) فهو لا تأخذه سنة و لا نوم : لا ينام ؛ لأن النوم من مستلزمات الضعف و التعب ، و لا ينبغي له أن ينام لأنه القائم بشؤون مخلوقاته ، المصرف لأحوال كونه ، المدبر لأمور عباده " اللهُ لاَ
إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم " ..


ب) و هو الذي يتولى زنة أعمال العباد بميزان ( القسط ) ذلك الميزان العجيب " وَ نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَ إِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَ كَفَى بِنَا حَاسِبِينَ " ..
فهو ميزان لا يترك حبة من خردل دون تقويم ، فيا ربح من ثقلت موازينه "فأما من ثقلتموازينه فهو في عيشة راضية " ، و يا خسارة من خفت موازينه " و أما من خفت موازينهفأمه هاوية " ..


ج ) و هو الذي تبلغ إليه أعمال العباد فوراً – و هو أعلم بها - ، و المعنى : عرض الأعمال على الله ..
و الحديث صوَّرها بصورة الرفع – كما ترفع التقارير إلى الملوك و الرؤساء – ليعلم العبد أن هذه الحياة ليست عبثاً " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً و أنكم إلينا لا ترجعون " ..
و لا يستطيع أحداً أن يفرَّ من سلطان الله ، و لا أن يفلت من قبضته عز و جل ، و كيف يكون ذلك ؟؟
" و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السماوات مطويات بيمينه سبحانه و تعالى عمَّا يشركون " ..
د) و هو محجوب عن خلقه ، فلا يرونه و هم على هذا الضعف من التكوين ، فحجابه عن خلقه النور ، و هذا النور يشبه أن يكون ناراً تحرق من يقترب منها ، و من أجل ذلك كان حجاباً كثيفاً ، مانعاً من أن يراه أحداً من مخلوقاته ، و هو على مثل هذا الضعف ( قصة نبي الله موسى مع تفسير قوله تعالى : " قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ "
و ملخص الكلام في هذه القضية : أن الله – عز و جل – قد علق رؤيته على شيء ممكن " وَ لَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي " ، و لكن حجاب الله نورٌ كثيف ، لا يقدر شيء على مواجهته ، فالجبل على ما هو معهود فيه من الضخامة و الرسوخ ، قد اندك و تزلزل من نور الله " فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا " ، فما بالُنا بالإنسان ؟؟؟ لقد أُغمي على موسى " وَ خَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ "..
فانعدام الرؤية للخالق في الدنيا ، لضعف في تكوين الإنسان ، و إلا فإن المؤمنين في الجنة يرون ربهم " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ **إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ " ..


نظرات في البلاغة :
1. الحديث يؤدي الغرض منه أصدق أداء ، فهو يهدف إلى :
أ) تنزيه الخالق – عز و جل – عن المماثلة ..
ب) ترهيب المخلوق من أن يتهاون في حياته اعتقاداً منه في أنه سيُترك سُدى ، مما يجعله في موقف لا يحسد عليه أمام الخالق : " وَ وُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَ وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً " ..
ج) زرع الخوف من الله في قلوب العباد مع تحذيرهم من الوقوع في المعاصي ..

2. استخدام الصورة الحسية لتقريب تلك المعاني إلى الأذهان ، لأن أنس النفس موقوف على أن تنقل من محسوس مشاهد إلى معنوي ..

3. تهيئة أذهان الحاضرين : المعاني حين تتقبلها النفس بقبول حسن ، بحاجة إلى مثل هذه التهيئة ، التي ترهف الأحاسيس لما يُلْقَى من كلام ، و رسول الله صلى الله عليه و سلم - في هذا الحديث شد انتباه الصحابة بالفعل و القول ، بالفعل حينما قام من مجلسه واقفاً ، و أما بالقول فواضح من الحديث الشريف ..

4. التأكيد بــ ( إنَّ ) و ( اسميَّة الجملة ) ، لنفي أي شك ، و إزالة أي ريب ، و مطاردة أي وهم يكون الشيطان مصدرها ..

5. اختيار اسم ( الـلــه ) من بين أسمائه الحسنى ، لأنه علم على الذات العليَّة ، الكافر و المؤمن مستويان في العلم به " وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَالسَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ " ، بخلاف ( الرحمن ) مثلاً : " و إذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا و ما الرحمن أنسجد لما تأمرنا و زادهم نفورا " ..

6. ما تفيده الجملة الاعتراضية ( - عز و جل - ) من التنزيه و التعظيم ..

7. جملة ( لا ينبغي له أن ينام ) متممة للمعنى ، فـــ ( لا ينام ) نفي للماضي و الحال ، فجاءت جملة ( لا ينبغي ) لنفي ذلك عنه في المستقبل ، ليعمَّ النفي جميع الأزمنة ..

8. التعبير بالمضارع في : ( يخفض ، و يرفعه ، و يرفع ... ) لاستحضار تلك الصورة ليتأمل فيها و التعبير بالمضارع يتلاءم مع ما يبديه الله – سبحانه – من أمور عباده ( فهي أمور يبديها لا يبتديها ) ..

9. التحسين اللفظي بالتضاد بين ( يخفض ، و يرفعه ) ، و بين ( الليل ، و النهار ) ، و في ذلك إبراز للمعنى مصداقاً لقولهم ( و الضد يُظهِرُ حسنه الضد ) ..

10 . التصوير العجيب في قوله ( حجابه النور ) : الشخص حينما يسمع كلمة ( حجاب ) ، يتوقع أن يكون ذلك الحجاب ظلاماً كثيفاً لا يبين ما وراءه ، أما أن يكون ( النور ) هو الحجاب ، فذاك تصور عجيب و فريد ، و في هذا تأكيد على عدم المماثلة لشيء من المخلوقات ..
و قوله : ( لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتْ سَبَحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ ) ، توضح شدة ذلك النور ، و مدى قوته ، فهو لو انكشف ، لاحترقت المخلوقات عن آخرها ..


منقول من كتاب : أضواء على البلاغة النبوية ..
أ.د. إبراهيم طه الجعلي ..