ثمة قواسم مشتركة بين تاريخ 6 مايو 1992 وتاريخ 28 فبراير 2005، ففي هذين التاريخين أسقط الشارع حكومة عمر كرامي.
في المرة الأولى استقال كرامي بعدما "احترقت" حكومته بفعل "ثورة الدواليب" التي تلت انهيار العملة الوطنية وصعود نجم رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري بعد الانتخابات النيابية.
وفي المرة الثانية سقطت الحكومة بفعل مأتم أسمته المعارضة بـ"انتفاضة الاستقلال" التي تلت التمديد لرئيس الجمهورية الحريري. حيًّا وميتًا كان الحريري سببًا في سقوط حكومة عمر كرامي.
حِمل ما عاد يحتمل!
كرامي "دولته" لم تتحمل أكثر من ذلك، فقد بدا واضحًا أن الهجمات ستزداد داخل مجلس النواب وخارجه، التقريع والاتهام كان على رءوس الأشهاد، كل الشعب اللبناني كان يشاهد فيلم الشتم الطويل للرئيس كرامي، الفضائيات العربية قطعت برامجها أيضًا لتبث ذلك الفيلم المشوق.
لم يبق من بد أمام كرامي لاتخاذ خطوة تأخر اتخاذها كثيرًا بدافع الحرص على البلد.. بعد كلمة النائب بهية الحريري -شقيقة الرئيس الراحل رفيق الحريري- حدّث كرامي نفسه بالاستقالة، ثم تأكدت الرغبة لديه بعد كلمة النائب مروان حمادة -الذي نجا من محاولة اغتيال قبل أشهر-.
قال كرامي في نفسه ما الذي يجبرني على تحمل كل ذلك؟ ما دام نواب المعارضة والشارع عمومًا يعتبرني المسئول عن المشكلة، وهو غير متخوف من الانقسام أو الفراغ الدستوري أو الوضع الاقتصادي، فلمَ البقاء في وضع خاسر سياسيًّا وشعبيًّا وفيه الكثير من "التجني"؟!.
تجمّل كرامي بالصبر حتى انتهاء الجلسة الصباحية، بعدها "امتشق" قلمه وكتب بيان الاستقالة، وقبل الجلسة المسائية بعشر دقائق اتصل بالرئيس لحود وأبلغه رغبته بالاستقالة فطالبه الأخير بالتريث، لكنه قال: "إن شاء الله خير".
الوزراء المقربون من كرامي عرفوا قبل لحظات من تلاوته بيان الاستقالة أمام مجلس النواب. رئيس مجلس النواب نبيه بري كان قد سمع برغبة كرامي تلك قبيل الجلسة الصباحية، لكن كرامي لم يخبره شيئًا قبل إعلانها في المساء مخافة أن يسعى لثنيه عن عزمه، كان كرامي غير قادر على البقاء ساعة واحدة في البرلمان ليسمع المزيد من "الشتائم"، فمجرد دخوله إلى المجلس طلب الإذن بالكلام من رئيسه، ثم طرح عن كاهليه حملاً ثقيلاً ما عاد يحتمل.
قفزة في المجهول
في المجلس النيابي وقف النواب يصفقون، المعارضون وبعض الموالين!، أما في الخارج فقد أسكرت الفرحة الجموع المحتشدة بالآلاف منذ الليل، قالت المعارضة: إن خطوة تحققت والتحرك السلمي سيستمر.
أما السلطة فقد شعرت بأنها باتت مكشوفة أمام سهام المعارضة التي كانت تنصب على رئيس مجلس الوزراء وبعض الوزراء، وبغيابهم باتت كل الطبقة السياسية مستهدفة وعلى رأسها الرئيس العماد إميل لحود، قادة الأجهزة الأمنية مستهدفون أيضًا، ليس بالإقالة فقط بل وبالمحاكمة أيضًا، وفوقها سخط الشعب الغاضب!.
سوريا أيضًا شعرت بالإحراج، فلقد باتت المعارضة شريكًا حقيقيًّا في صناعة القرار، والمجلس الموالي التي تريده سوريا بعد الانتخابات النيابية بات في مهب الريح!.
وبعيدًا عن التداعيات التي أحدثتها استقالة كرامي على هذا الطرف أو ذاك، إلا أن المواطن اللبناني شعر مرة جديدة أن البلد قد انتقل للمجهول، لا سيما أن إرهاصات الإخلال بالأمن قد توزعت بين بيروت ( ظهور مسلح) وطرابلس (أعمال شغب أدت إلى مقتل مواطن وإصابة آخر) والجنوب (اعتداء على عمال سوريين وتدمير لتمثال الرئيس حافظ الأسد في بلدة قانا).
من يتجرأ؟
لا شك أن لبنان سوف يواجه مشكلة تأليف حكومة جديدة، فلا تزال الأغلبية النيابية موالية لسوريا، ما يعني أن المعارضة غير قادرة على تشكيل حكومة، وبالمقابل فإن الشارع يموج بالشعارات المناوئة للسيطرة السورية على لبنان، وهذا يعني أن أي حكومة موالية لسوريا لا بد أن تأخذ في الحسبان هذا الواقع وإلا كان مصيرها كمصير حكومة كرامي. وإذا لم تكن المعارضة أو الموالاة قادرة على تشكيل الحكومة في هذا الظرف العصيب فإن حكومة تكنوقراط أو حكومة قوامها مجموعة من القضاة من ذوي السمعة الجيدة ربما تكون هي الخيار الأمثل. ولكن يبقى السؤال من يجرؤ على تولي رئاسة الحكومة لمدة لا تزيد عن شهرين (لحين إجراء الانتخابات النيابية) ويتحمّل ثقل المرحلة؟
إن أية شخصية سنية ذات وزن لن تخاطر برصيدها الشعبي أو الشخصي؛ لأن أية حكومة قادمة ستكون محكومة بالواقع الذي يطلب منها الكثير ولا يزودها إلا بالقليل.
لا سيما أن المخاطر المحدقة بهذه الحكومة كثيرة، ومن بينها:
1- خطر الفلتان الأمني وانفلات السيطرة على الشارع.
2- مشكلة العلاقة بين السلطة والمعارضة والتصعيد المتبادل والحوار المقطوع بينهما.
3- تحقيق الانسحاب السوري عسكريًّا وأمنيًّا قبل الانتخابات النيابية.
4- الإشراف على الانتخابات النيابية، وتحمل مسئولية أي تدخل فيها.
5- متابعة التحقيقات بمحاولة اغتيال النائب مروان حمادة ومجزرة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وكشف الحقيقة بشأنهما، كائنًا من كانت الجهة المنفذة والمحرضة.
6- معضلة القبول بالمفتشين الدوليين التي ترضي المعارضة وتغضب الموالاة.
لقد ارتاح رموز الموالاة الآن من عبء المسئولية الملقاة على عاتقهم جراء مشاركتهم في الحكومة، ومن المتوقع الآن أن يشنوا هجومًا معاكسًا، ما سيجعل الوضع جحيمًا لا يطاق لأي رئيس حكومة جديد؛ لأن سهام المعارضة ستصيبه إن كان مواليًا، وستستهدفه رمايات الموالاة إن كان معارضًا، و"سيـُشتم" منهما معًا إن كان محايدًا.
رد مع اقتباس
