أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


المحاضرة الثالثة عشر
حقيقة التفويض وأثرها على فهم علم التوحيد
· أسباب القول بالتفويض .
يمكن إجمال الأسباب الداعية للقول بالتفويض في الأمور التالية:
أولا: الأصول العقلية المستمدة من الفلسفة اليونانية كقولهم بنفي حلول الحوادث ليتوصلوا إلى تعطيل الصفات الفعلية كالاستواء والنزول والرضا والغضب، وقولهم بنفي الجسمية ليتوصلوا إلى تعطيل الصفات الخبرية كالوجه واليدين وغيرها، وقولهم بنفي التحيز والجهة ليتوصلوا إلى تعطيل العلو والفوقية .
ثانيا: من الأسباب الرئيسية أيضا دعوى الخوف على عقائد العوام، وإلزام قطاع كبير من المسلمين بانتحال هذه المذاهب، كتبني بعض المؤسسات التعليمية لهذا الأمر، كما قال صاحب جوهرة التوحيد:
وكل نص أوهم التشبيه: أوّله أو فوِّض ورم تنزيها
فيدعى أن مذهب السلف الصالح هو التفويض، ومن ثم يشب طالب العلم من مهده على ذلك وهو لا يعرف غير هذا الاعتقاد حتى يصبح أستاذا كبيرا في الجامعة أو مدرسا في المادة يدافع عما درسه بقوة ظنا منه أنه على شيء، وإذا ظهر لهم الحق في هذا الموضوع فقل من لا تأخذه عزة المكانة، فيتراجع عن عقيدته ليلحق في ركب السلف .
ثالثا: تقليد بعض المشاهير الذين تبنوا القول بالتفويض عن حسن نية، كتبني بعض الجماعات الإسلامية لعقيدة مؤسسيها دون نظر أو تمحيص، ومحاولتهم الخلط بين قضية التفويض ومذهب السلف .
رابعا: الجهل بمذهب السلف من ناحية وانعدام القناعة بالمذهب الأشعري من ناحية أخرى، إذ أن الخلف من الأشعرية وغيرهم قاموا بلىّ أعناق النصوص بصورة لا تخفي على عاقل، فأغلبهم لا يقر في نفسه تفسير الاستواء بالاستيلاء والقهر والغلبة، وإذا أقر به على مضد أقر به ليتملص من إثبات صفة الاستواء التي ظاهرها عنده باطل قبيح، فإذا خلا بنفسة تردد على ذهنه سؤال لا يفارقه، ومن الذي نازع الله على العرش حتى قهره واستولى عليه ؟! فلا يجد جوابا شافيا فيُرضى نفسه بالسكوت والتفويض وترك الأمر برمته مدعيا أن هذا مذهب السلف .
· لوازم القول بالتفويض:
يجب على العقلاء من المسلمين التنبه إلى خطورة القول بالتفويض وسلب كلام الله عن معناه، أو محاولة تقبيح إثبات الصفات في نفس السامع تحت مسمى التجسيم وإثبات الأعضاء والجوارح لله U، لأن القول بالتفويض يؤدى إلى إلزامات قبيحة يتمثل أبرزها فيما يلي:
1 ـ أن القرآن ملئ بالحشو الذي لا فائدة منه مما يحتم حذفه ليوصف بالكمال وهذا باطل لقوله تعالى: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فصلت:42 .
2 أن الله خاطب عباده بالألغاز والأحاجي وهو قادر على عكس ذلك وهذا باطل لأنه يؤدى إلى القول بأن كلام الله بلا معنى، فقال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) النحل:103، وقال U: (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر:23، فوصف كلامه بأنه أحسن الحديث .
3 - أن الرسول S بلغ ما لا يعلم ولم يفهم ما جاء في التنزيل وهذا باطل لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إبراهيم:4 .
4 - أن الصحابة خدعوا أنفسهم بادعائهم الفهم وموافقة النبي S في إيمان لا يعلمون حقيقته وهذا باطل لقوله تعالى عنهم: (أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) الأنفال:74، ولقوله U: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الأنفال:2، فكيف يزدادون إيمانا بتلاوة ما ليس له معنى ؟ .
5 - أن القول بالتفويض يلزم منه أن ظاهر النصوص يحمل معنى مستهجن يخاف المفوض من مواجهته وهذا باطل لأن الله U أمرنا بتدبر آياته وفهمها في حدود مدركاتنا، فقال جل ذكره: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) النساء:82.
وفي الحقيقة إن القول بالتفويض ما هو إلا محاولة للهروب من مواجهة الأدلة لقوة ما ورد فيها من إثبات الصفات .
· أثر عقيدة التفويض في الدعوة إلى عدم الكلام في توحيد الصفات:
نظرا لأن بعض المنتسبين لمذهب الخلف قد يواجهون بقوة عند قولهم بتأويل نصوص الصفات لاسيما إذا كان التأويل أقرب إلى التحريف، فإنهم يتملصون من مواجهة الحق بدعوى السكوت وعدم الخوض في المتشابه كما هو حال السلف، أو زعمهم أن مسائل الصفات لا يترتب عليها عمل ولا سلوك، فيكفينا المحكم من القرآن والسنة وما يدعوا إلى تأليف القلوب، وهذه دعوة قديمة منذ أن ظهرت عقيدة التفويض ولم يدرك كثير من الناس ما عليه السلف.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن قول القائل: لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها، إما أن يريد بذلك أنه لا تتلى هذه الآيات وهذه الأحاديث عند عوام المؤمنين، فهذا مما يعلم بطلانه بالاضطرار من دين المسلمين، بل هذا القول إن أخذ على إطلاقه فهو كفر صريح، فإن الأمة مجمعة على ما علموه بالاضطرار من تلاوة هذه الآيات في الصلوات فرضها ونفلها واستماع جميع المؤمنين لذلك، وكذلك تلاوتها وإقرائها واستماعها خارج الصلاة هو من الدين الذي لا نزاع فيه بين المسلمين، وكذلك تبليغ الأحاديث في الجملة هو مما اتفق عليه المسلمون وهو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين، إذ ما من طائفة من السلف والخلف إلا ولا بد أن تروي عن النبي S شيئا من صفات الإثبات أو النفي، فإن الله يوصف بالإثبات وهو إثبات محامده بالثناء عليه وتمجيده، ويوصف بالنفي وهو نفي العيوب والنقائص عنه سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا .
وأما أن يريد أنه لا يقال حكمها كذا وكذا إقرارا أو تأويلا أو غير ذلك فإن أراد هذا فينبغي لقائل ذلك أن يلتزم ما ألزم به غيره، فلا ينطق في حكم هذه الآيات والأحاديث بشيء، ولا يقول الظاهر مراد أو غير مراد ولا التأويل سائغ، ولا هذه النصوص لها معان أخر ونحو ذلك، إذ هذا تعرض لآيات الصفات وأحاديثها على هذا التقدير، وإذا التزم هو ذلك وقال لغيره التزم ما التزمته ولا تزد عليها ولا تنقص منها فإن هذا عدل، بخلاف ما إذا نهي غيره عن الكلام عليها مع تكلمه هو عليها كما هو الواقع .
وكذلك قوله ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها، إن أراد أنها أنفسها لا تكتب ولا يفتى بها فهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام كما تقدم، وإن أراد لا يكتب بحكمها ولا يفتي المستفتي عن حكمها، فيقال له فعليك أيضا أن تلتزم ذلك ولا تفتي أحدا فيها بشيء من الأمور النافية، وحينئذ يكون أمرك لغيرك بمثل ما فعلته عدلا، أما أن يجيء الرجل إلى هذه النصوص فيتصرف فيها بأنواع التحريفات والتأويلات جملة أو تفصيلا، ويقول لأهل العلم والإيمان أنتم لا تعارضوا ولا تكلموا فيها فهذا من أعظم الجهل والظلم والإلحاد في أسماء الله وآياته .
كما أن سلف الأمة وأئمتها ما زالوا يتكلمون ويفتون ويحدثون العامة والخاصة بما في الكتاب والسنة من الصفات، وهذا في كتب التفسير والحديث والسنن أكثر من أن يحصيه إلا الله .
وقد قيل إن مالكا لما صنف الموطأ قال: جمعت هذا خوفا من الجهمية أن يضلوا الناس، لما ابتدعت الجهمية النفي والتعطيل .

· مثال تطبيقي على فهم حقيقة التفويض عند السلف والخلف:
قال ابن رجب (وأما طريقة أئمة أهل الحديث وسلف الامة: فهي الكف عن الكلام في ذلك من الطرفين، وإقرار النصوص وإمرارها كما جاءت، ونفي الكيفية عنها والتمثيل .
وقد قال الخطابي في الأعلام: مذهب السلف في أحاديث الصفات: الإيمان، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها .
ومن قال: الظاهر منها غير مراد، قيل له: الظاهر ظاهران: ظاهر يليق بالمخلوقين ويختص بهم، فهو غير مراد، وظاهر يليق بذي الجلال والإكرام، فهو مراد، ونفيه تعطيل .
ولقد قال بعض أئمة الكلام والفلسفة من شيوخ الصوفية الذي يحسن به الظن المتكلمون: إن المتكلمين بالغوا في تنزيه الله عن مشابهة الأجسام، فوقعوا في تشبيهه بالمعاني، والمعاني محدثة كالأجسام، فلم يخرجوا عن تشبيهه بالمخلوقات .
وهذا كله إنما أتى من ظن أن تفاصيل معرفة الجائز على الله والمستحيل عليه يؤخذ من أدلة العقول، ولا يؤخذ مما جاء به الرسول . وأما أهل العلم والايمان، فيعلمون أن ذلك كله متلقى مماجاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن ما جاء به من ذلك عن ربه فهو الحق الذي لا مزيد عليه، ولا عدول عنه، وأنه لا سبيل لتلقي الهدى إلا منه، وأنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله الصحيحة ما ظاهرة كفر أو تشبيه، أو مستحيل، بل كل ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله، فإنه حق وصدقٍ، يجب اعتقاد ثبوته مع نفي التمثيل عنه، فكما أن الله ليس كمثله شيء في ذاته، فكذلك في صفاته .
وما أشكل فهمه من ذلك، فإنه يقال فيه ما مدح الله الراسخين من أهل العلم، أنهم يقولون عند المتشابهات: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) آل عمران:7 . وما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في متشابه الكتاب، أنه يرد إلى عالمه، والله يقول الحق ويهدي السبيل . وكلمة السلف وأئمة أهل الحديث متفقة على أن آيات الصفات وأحاديثها الصحيحة كلها تمر كما جاءت، من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل .
سأل رجل الحسن عن شيء من صفة الرب عز وجل، فقال: أمروها بلا مثال .وقال وكيع: أدركت إسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعراً يحدثون بهذه الأحاديث، ولا يفسرون شيئاً . وقال الأوزاعي: سُئل مكحول والزهري عن تفسير هذه الأحاديث، فقالا: أمرها على ما جاءت . وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي ومالكاً وسفيان وليثاً عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة والقرآن،فقالوا: أمروها بلا كيف .وقال ابن عيينة: ما وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره، ليس لأحد أن يفسره إلا الله عز وجل .وكلام السلف في مثل هذا كثير جداً . وقال أشهب: سمعت مالكاً يقول: إياكم وأهل البدع، فقيل: يا أبا عبد الله: وما البدع ؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان) .
قال العبد الفقير إلى الله تعالى مرعي بن يوسف الحنبلي المقدسي: (اعلم أن من المتشابهات آيات الصفات التي التأويل فيها بعيد فلا تؤول ولا تفسر وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها فقد روى الإمام اللالكائي الحافظ عن محمد بن الحسن قال اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه وقد روى اللاكائي أيضا في السنة من طريق قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى طه 5 الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعه والبحث عنه كفر وهذا له حكم الحديث المرفوع لأن مثله لا يقال من قبيل الرأي وقال الإمام الترمذي في الكلام على حديث الرؤية المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري وابن المبارك ومالك وابن عيينة ووكيع وغيرهم أنهم قالوا نروي هذه الأحاديث كما جاءت ونؤمن بها ولا يقال كيف ولا نفسر ولا نتوهم وذكرت في كتابي البرهان في تفسير القرآن عند قوله تعالى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام البقرة 210 وبعد أن ذكرت مذاهب المتأولين أن مذهب السلف هو عدم الخوض في مثل هذا والسكوت عنه وتفويض علمه إلى الله تعالى) .
انظر أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات .

· التفوض آخر مهرب لتقديم العقل على النقل.

قال ابن أبي العز: وهذا حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة وعند التعارض يتأول النص ويرده إلى الرأي والآراء المختلفة فيؤول أمره إلى الحيرة والضلال والشك كما قال ابن رشد الحفيد وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم في كتابه تهافت التهافت : ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به ؟ وكذلك الآمدي أفضل أهل زمانه واقف في المسائل الكبار حائر وكذلك الغزالي رحمه الله انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فمات و وصحيح الإمام البخاري على صدره وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي قال في كتابه الذي صنفه : أقسام اللذات :
(نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال)
(وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال)
(ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه : قيل وقالوا)
(فكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا)
(وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال)
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات : (الرحمن على العرش استوى) (إليه يصعد الكلم الطيب) وأقرأ في النفي : (ليس كمثله شيء) (ولا يحيطون به علما) ثم قال : ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي
وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم حيث قال :
(لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم)
(فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم)
وكذلك قال أبو المعالي الجويني : يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به وقال عند موته : لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي أو قال : على عقيدة عجائز نيسابور وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوما فقال : ما تعتقده ؟ قال : ما يعتقده المسلمون فقال : وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به ؟ أو كما قال فقال : نعم فقال : أشكر الله على هذه النعمة لكني والله ما أدري ما أعتقد والله ما أدري ما أعتقد والله ما أدري ما أعتقد وبكى حتى أخضل لحيته و لابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق :
(فيك يا أغلوطة الفكر ... حار أمري وانقضى عمري)
(سافرت فيك العقول ... فما ربحت إلا أذى السفر)
وقال آخر : أضطجع على فراشي وأضع اللحفة على وجهي وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي منها شيء
ومن يصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق كما قال أبو يوسف : من طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب المال بالكيمياء أفلس ومن طلب غريب الحديث كذب وقال الشافعي رحمه الله : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام وقال : لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ماظننت مسلما يقوله ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه - ما خلا الشرك بالله - خير له من أن يبتلى بالكلام انتهى
وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز فيقر بما أقروا به ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كان يقطع بها ثم تبين له فسادها أو لم يتبين له صحتها فيكونون في نهاياتهم - إذا سلموا من العذاب - بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب
والدواء النافع لمثل هذا المرض ما كان طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله - إذا قام من الليل يفتتح الصلاة - : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم خرجه مسلم توجه صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبية جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه إذ حياة القلب بالهداية وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الثلاثة بالحياة : فجبرائيل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها فالتوسل الى الله سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول المطلوب والله المستعان.
شرح العقيدة الطحاوية 208

نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني
وصلي اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم