خـ/ زيانة (الشرف الرفيع)
قُضي على الناس منذ بدء الخليقة أن تبعثرهم العدائية والظلم، وتخرج بهم الخيانة والمصالح والتبعية وعبادة الأهواء - إن جاز التعبير – عن جادة الحق والصواب..
وحيث كان الهبوط والصعود في الأخلاق ديدن هذه البشرية أو بعضها، تُولد من أرحام المجتمعات كل يوم خيانة، ظاهرها عند الخائن الرحمة والراحة والكبرياء، وباطنها عند المخون الألم والظلم والحسرة والحق المفقود...
هذه المرة ولدت خيانة من رحم امراءة وليست من رجل، لأنه طالما كانت الخيانة معلقة بمفاصل الرجال ، وطالما علقت بشرف النساء فقط.. ولكنها في الحقيقة تتقاسمها بنات حواء مع أولاد آدم، لم أستطع أن اُسَمِ الخيانة باسم حواء؛ فلو فعلت ذلك لثارت كل الحواءات وأبنائها عليّ وسأكون حينها ظالما ونعود إلى حلقة الظلم المُفرغة..فخرجت عن هذا المحظور، وقررت أن أتحاشاه ولا أقع فيه.
بحثت في قاموس الأسماء عن اسم مرادف للخيانة فلم أجد للخيانة اسما مناسبا يليق، وأعياني البحث من ليلى إلى لبنى إلى بثينة إلى عزة إلى ميّ ...واستحيت من الشعراء العذريين أن استعير من قصائدهم أسماء أولئك النسوة لأن ما فاح من قصائدهم وعلاقتهم بتلك الأسماءغير ما فاح من القصيدة هذه فليس عذريا ما ورد هنا، ثم وصلت إلى أسماء جديدة في شاطئ مقابل مخالف مغاير لها وزن صرفي مشابه تقريبا لـ - خيانة – فعرَضَت أمامي جُمانة وريَّانة وأمانة ...وكان آخرها اسم (زيانة) وكدتُ أستقر عليه، واستميح واعتذر من الزيانات الأُخريات على اصطفاء هذا الإسم فاسخف ما نحمله الأسماء كما قيل..
ثم قررت ألا أتجنب الوقوع في المحظور –كما ذكرتُ – فحسب، بل ألا اقترب منه؛ وهذا مبدأ قرآنيٌ سامٍ حيث قال تعالى :{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً }الإسراء32، {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ }الأنعام152، { وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ }الأنعام151 ووجدت في تلك اللحظة أن اسم ( زيانة ) له وزن (خيانة) نفسه وعينه، وكأن ( زيانة) والخيانة هنا أرادتا أن تؤكدان القاعدة اللغوية التي تقول : إن التقارب في المبنى يولد تقاربا في المعنى؛ فليس يَفرق بين زيانة وخيانة إلا الحرف الأول فحسب..
وربما جمعتا نفس الصفات
وكأنهما قررتا أن تختصران لي وتريحاني من رحلة البحث عن الاسم المناسب، واتفقتا على أن استعمل اسم (خيانة) هنا في هذه البويتات المقصوصة بدلا من (زيانة) فلا فرق كبير يُذكر..إلا حرف واحد.. إلا حرف واحد...والمعنى هنا واحد.
أما لماذا بُحت بهذه القصة أو هذه الخيانة فلأنه {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً }النساء148
من زيانة أوخيانة - كما اتفقنا - ولدت هذه الأبيات، كتَبَتْهَا هذه الموبوءة بمواقفها أحرفا تتبعثر عندها كل معاني الوفاء والصفاء، وتذوب على أطرافها معاني الإنسانية والعقل والدين..وتنزاح من عباءتها عواطف النساء جميعهن، وتنعدم من أعصابها عظمة وشخصية المرأة "وليس الذكر كالأنثى" كعقلانية خديجة - رضي الله عنها -، وحكم بلقيس ملكة سبأ، ورأي وصلاح وثبات آسية امرأة فرعون مصر أمام فرعونها، وكمال مريم ابنة عمران؛ فولدت هذه الأبيات ولادة قيصرية موجعة، حَوَتْ تجربةً شعورية أكثر منها شاعرية، فهي تحكي قصة حلم ليس إلا، لم يولد ولادة طبيعة حقيقية..فجاءت مصاريعه مفككة يضرب الثاني الأول أو يسبقه لا يسابقه، لأن أركان القصة ضرب أحدهما الآخر، ولأن أحدهما سبق الآخر إلى ميدان النصر، والفوز بالخيانة والغدر.من أجل ذلك كله قلتُ
:
يتبع ...