أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



1 ـ شرك الربوبية وأنواعه.

2 ـ شرك الألوهية وأنواعه.

3 ـ شرك الأسماء والصفات وأنواعه.

( 1 ) شرك الربوبية وأنواعه:

تمهيد: تعريف الشرك:

الشرك في اللغة: قال في اللسان: (الشِّرْكَةُ والشَّرِكَةُ سواء: مخالطة الشريكين.. وقد اشترك الرجلان وتشاركا وشارك أحدهما الآخر.. والاسم: الشِّرْك، والجمع أشراك.... وأشرك بالله جعل له شريكاً في ملكه..) [راجع المادة (ش ر ك) في اللسان وغيره.].

أما الشرك في اصطلاح الشرع، فهو: أن يَجْعَلَ العبد لله نداً في ربوبيته، أو ألوهيته، أو مشابهاً له في أسمائه وصفاته [وهي المباحث الثلاثة التي سبق الكلام فيها.].

وقد شمل ذلك حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إذ قال: سألت رسول الله عليه الصلاة والسلام: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) [اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: رقم الحديث: (53، ص: 16).].

أنواع الشرك: يظهر مما سبق أن الشرك يكون في أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

شرك الربوبية: وشرك الربوبية نوعان:

النوع الأول: إنكار وجود الخالق مطلقاً: كما هو حال فرعون الذي ادعى عدم علمه بوجود إله غير نفسه [وغالب المنكرين لوجود الخالق مكابرون، ومنهم فرعون الذي قال الله تعالى عنه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}. (النمل: 14)، وقد سبق في المبحث الأول من الفصل الأول أن كل ما في الكون من المخلوقات دليل على وجود الله وتدبيره للعوالم كلها، وأن منكره يعد شاذاً في هذا الكون.].

كما قال تعالى عنه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ(38)} [القصص].

وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً(37)} [غافر].

وكما هو شأن الشيوعيين الماركسيين في عصرنا الحاضر، ويسمي هذا النوع من الشرك بشرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك.

النوع الثاني: أن يعترف العبد بخالق للكون في الجملة، ولكنه يعتقد أن معه خالقاً آخر خلق بعض المخلوقات، كاعتقاد المجوس بوجود خالقين: وهما النور الذي خلق الخير، والظلمة التي خلقت الشر.

وحكم من صدر منه هذا الشرك (شرك الربوبية) بنوعيه ظاهر، فكفره أعظم أنواع الكفر المخلد في نار جهنم؛ لأن غالب الأمم كانت تقر بربوبية الله، ولا تعترف بخالق سواه، وإن أشركت معه غيره في العبادة، فالذي ينكر ربوبية الله أو يزعم أن للكون خالقين أو أكثر شاذ في هذا الوجود [راجع شرح الطحاوية: 82 ـ 87.].

( 2 ) شرك الألوهية وأنواعه:

والشرك في الألوهية نوعان:

النوع الأول: أن يسوي الله بغيره في عبادته كما يقول النصارى: إن عيسى هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، وكأن يسجد لصنم أو قبر أو يستغيث به أو يدعوه طالباً منه ما لا يقدر عليه إلا الله [ويجب أن يفرق بين الاستغاثة والدعاء وبين التوسل بالذات أو الجاه، فدعاء غير الله أو الاستغاثة بغيره فيما لا يقدر عليه إلا الله عبادة يكفر صاحبها إذا أقيمت عليه الحجة. أما التوسل بالذات أو الجاه ففيه خلاف بين العلماء قديماً وحديثاً، وغاية ما قال فيه منكروه أنه بدعة، ولم يقل أحد منهم: إنه شرك، كما قد يظنه بعض الجهلة المتسرعين في إصدار الأحكام بدون علم.].

وكذلك أن يحب غير الله - حب عبادة - كما يحب الله، أو ينحر دابة عبادةً وتقرباً إلى غير الله، ويدخل فيه التوكل والاعتماد على غير الله، بحيث يعتقد أن الْمُتَوَكَّلَ عليه يجلب له النفع أو يدفع عنه الضر، من دون الله، كجلب رزق أو جاه أو منصب، ودفع مرض أو فقر أو موت، أو غير ذلك مما يترتب عليه تعظيم المخلوق كتعظيم الخالق، أو الخوف من المخلوق كالخوف من الخالق، وهو خوف العبادة الذي يجعل صاحبه يلجأ إلى المخوف منه كما يلجأ إلى الله أو أشد وهذا شرك أكبر. [ولا يدخل في ذلك الخوف الطبيعي، كخوف الإنسان من سبع، أومن عدو صوب إليه السلاح ليقتله أو يأخذ ماله؛ لأن هذا الخوف ـ الطبيعي ـ ليس خوف عبادة وتعظيم.].

ومعلوم أن الشرك الأكبر لا يغفره الله تعالى، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48)} [النساء].

ويدخل في ذلك من حرم ما أحل الله أو أحل ما حرم الله متعمداً، ومن أطاعه واتبعه في ذلك التحليل والتحريم مع علمه بمخالفته دين الله؛ لأن ذلك يعتبر عبادة له من دون الله، كما ورد ذلك في حديث عدي بن حاتم عندما قدم على النبي صلى عليه الصلاة والسلام، فسمعه يقرأ قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(31)} [التوبة]. فقال عدي -ـ وكان نصرانياً -: لسنا نعبدهم! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟) قال عدي: بلى [جواب عدي هذا يدل على أنهم كانوا يتبعون أحبارهم ورهبانهم في التحليل والتحريم، مع علمهم بمخالفة ذلك لدين الله، ولو كانوا يتبعونهم في ذلك مع الجهل به، لقال للرسول ‘: نحن لا نعلم أن ما حرموا أو أحلوا يخالف دين الله.] ، قال: (فتلك عبادتهم) [سنن الترمذي: 5/278، رقم الحديث: 3095، وهو في صحيح الترمذي للألباني (3/56)، وحسنه.].

ويدخل في ذلك اعتقاده جواز الحكم بغير ما أنزل الله فيما يخالف حكم الله، سواء أَحَكَمَ هو ـ أي معتقد الجواز أو جوَّزَ ذلك لغيره بالفتوى أو بالرضا [راجع: مقدمة المؤلف: الفقرة الخامسة تحت عنوان: أهمية الموضوع، والمبحث الخامس من: الفصل الثالث من هذا الكتاب.]. ـ.

أما إذا حكم الحاكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا، لغرض من الأغراض، كأخذه رشوة، أو لمصلحة قريب أو صديق.. مع اعتقاده أنه عاص في ذلك، وأن الحكم بما أنزل الله واجب، فلا يدخل في هذا النوع من الشرك، بل هو من كبائر الذنوب التي تجب التوبة منها، وإذا لم يتب فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه بقدر معصيته ثم أدخله الجنة [راجع شرح الطحاوية، ص: 363.].

وبهذا يُعلم أن من حرم ما أحل الله أو أحل ما حرم الله، مجتهداً - وهو من أهل الاجتهاد - أو جاهلاً، لا يحكم عليه بالكفر، بل لا يؤثم ولا يفسق، وإنما ينال المجتهد من الله الأجر على اجتهاده، ويغفر الله له خطأه، ولا يؤاخذ الجاهل بجهله.

وكذلك من اتبع من أحل الحرام أو حرم الحلال مع عدم علمه بمخالفة ذلك لدين الله لا يكون كافراً ولا آثماً، لعدم قيام الحجة عليه [راجع مجموع الفتاوى لابن تيمية: (7/70 ـ 71).].

وحكم مرتكب هذا النوع من الشرك أنه كافر كفراً أكبر مخلِّدا في النار إذا قامت عليه الحجة ومات على ذلك.

النوع الثاني: أن يعبد الله تعالى وحده، ولكنه لا يخلص له الإخلاص الكامل في عبادته، بل يتصنع فيها للمخلوقين، كأن يحسن صلاته ويطيلها ليثني عليه الناس، أو يتصدق، أو يجاهد، أو يجتهد في طلب العلم الشرعي، ليرائي بذلك، أو يحلف بغير الله غير معتقد تعظيم المحلوف به كتعظيم الله أو أشد [أما إذا حلف بغير الله معتقداً تعظيم المحلوف به مثل تعظيم الله أو أشد فإن اعتقاده ذلك ـ لا مجرد الحلف ـ شرك أكبر؛ لأنه جعل لله نداً بذلك الاعتقاد] ، فهذا وأمثاله شرك أصغر، لا يخرج صاحبه من الملة، ولكنه على خطر عظيم، فأول ما تسعر النار بمن قرأ القرآن ليقال: إنه قارئ، أو أنفق ماله ليقال: إنه جواد، أو قاتل الكفار ليقال: إنه شجاع كما ورد بذلك الحديث الصحيح [متفق عليه وهو في رياض الصالحين، رقم: 1617، ص: 620).].

( 3 ) شرك الأسماء والصفات وأنواعه:

والشرك في أسماء الله تعالى نوعان:

النوع الأول: إنكارها وجحدها مطلقاً، بحيث لا يُثْبِتُ - الجاحد - لله تعالى شيئاً من أسمائه وصفاته الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، فهذا شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام؛ لأن في ذلك تعطيلاً لما أخبر الله تعالى به عن نفسه من أسمائه وصفاته، وفيه تكذيب للقرآن والسنة الصحيحة، وهو شبيه بمن جحد وجود الله تعالى، وهذا هو مذهب غلاة المعتزلة، ومعطلة الجهمية [مجموع الفتاوى: (10/55)، (6/35).].

النوع الثاني: تشبيه الله تعالى أو أسمائه وصفاته، أو تشبيه شيء منها بأسماء المخلوقين أو صفاتهم كما يصف اليهود الله تعالى بصفات النقص التي يتصف بها المخلوقون، كوصفهم له بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك، وكما يصف النصارى بعض المخلوقات - كعيسى عليه الصلاة والسلام - بالصفات الإلهية التي لا يتصف بها إلا الخالق سبحانه، وكذلك بعض الجهمية الذين جعلوا صفات الخالق من جنس صفات المخلوقين [مجموع الفتاوى: (6/35).] ، وهذا أيضاً شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام لما في ذلك من المخالفة الصريحة للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية ودلالتها القطعية على نفي المشابهة. ووجود الاشتراك في مجرد اللفظ بين أسماء الخالق وصفاته وبين أسماء المخلوق وصفاته لا يلزم منه الاشتراك في حقيقة المعاني [مثال ذلك: أن من أسماء الله تعالى (العزيز)، وسمى بعض المخلوقين (العزيز) كما في قوله تعالى: {قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ}، ومن صفاته (الرحمة) ووصف بعض المخلوقين بـ(الرحمة) فليس العزيز كالعزيز، ولا الرحيم كالرحيم، الاشتراك في اللفظ لا يلزم منه الاشتراك في حقيقة المعنى وكيفيته، ومن أوضح الأدلة على ذلك أن الله تعالى يوصف بأنه موجود، ويوصف المخلوق أيضاً بأنه موجود، وهل ذات الله الموجود كذات المخلوق الموجود؟ كلا!.]ـ.

حكم المتأولين:

وهناك طائفة لا تجحد أسماء الله وصفاته، ولا تشبه الله ولا شيئاً من أسمائه وصفاته، بالمخلوقين، ولكنها تثبت بعض صفاته إثباتاً يليق بجلاله، وتؤول بعضها الآخر ظناً منها أن إثباتها على ظاهرها يلزم منه التشبيه، وهذا هو مذهب جمهور الأشعرية، فما حكم هذه الطائفة؟

بادئ ذي بدء نقول: إن هذا المسلك غير صحيح لوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: مخالفته لنصوص القرآن والسنة، ولما درج عليه السلف في القرون المفضلة من الصحابة وأتباعهم، فلم يرد عنهم أنهم أولوا شيئاً من أسماء الله وصفاته.

الوجه الثاني: توهمهم أن إثبات ما أولوه من صفات الله يلزم منه التشبيه، وهذا خطأ أيضاً، فإثبات صفات الله على ظاهرها اللائق بجلال الله، مع النفي القاطع لمماثلتها لصفات المخلوقين، لا يلزم منه ما توهموه من تشبيه، كما قال الله تعالى مبيناً ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}. فقد نفى عن نفسه التشبيه، وأثبت على أساسه صفتي السمع والبصر.

الوجه الثالث: تناقضهم في إثبات بعض الصفات على أساس التنزيه، وتأويل بعض الصفات خشية التشبيه، والواجب إثبات جميع أسماء الله وصفاته على أساس التنزيه، فما قالوه فيما أثبتوه يجب أن يقولوه فيما أولوه، وإلا لزمهم أن يؤولوا كل الصفات؛ لأن ما أثبتوه بدون تأويل - مثل السمع والبصر - يمكن أن يتوهم فيه المشابهة، كما توهموها في صفة الرحمة - مثلاً - لأن المخلوقين لهم سمع وبصر كما أنهم يتصفون بصفة الرحمة، ثم إن صفات الله يجب أن يقال فيها ما يقال في ذاته، فكما نثبت لله تعالى ذاتاً لا تشبهها ذوات المخلوقين، كذلك يجب أن نثبت له صفات لا تشبهها صفات المخلوقين.

وهنا ثلاثة تنبيهات مهمة:

التنبيه الأول: أنه لا يلزم من إتيان شخص معين ما ثبت شرعاً أنه كُفر أن يحكم على ذلك الشخص بأنه كافر، وإن كان يطلق لفظ الكفر عموماً على من أتى الكفر، فيقال - مثلاً - من فعل كذا فقد كفر، ولكن لا يقال ذلك عن شخص بعينه إلا بوجود شروط وانتفاء موانع، فمن الشروط التي إذا وجدت حكم على المعين إذا أتى كفراً ـ أنه كافر: أن تقوم عليه الحجة، بأن يكون على علم بأن ذلك كفر؛ لأن من شرط التكليف القدرة على ما يُكَلَّفَه الإنسان، ولا قدرة لجاهل بالحكم على فعله أو تركه، والله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، ومن الموانع الصِّغر - أي عدم البلوغ- فإذا أتى الجاهل بالحكم ما هو كفر لم يحكم عليه بأنه كافر لانتفاء الشرط، وإذا أتى ذلك من لم يبلغ سن التكليف لم يحكم عليه بالكفر لوجود المانع.

وقد وضَّح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى تمام الإيضاح، ومن ذلك قوله: "وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع، يقال: هي كفر قولاً يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يُحكَم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر، حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه، مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال، لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى عليه الصلاة والسلام قالها، وما كان الصحابة يشكون في أشياء، مثل رؤية الله وغير ذلك، حتى يسألوا عن ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليم لعلي أضل عن الله ونحو ذلك، فإن هؤلاء لا يُكَفَّرون حتى تقام عليهم الحجة بالرسالة، كما قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب في أماكنها.." [مجموع الفتاوى: (35/165).].

وقال في موضع آخر: "فهذا الكلام يمهد أصلين عظيمين:

أحدهما: أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول، وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يُرى في الآخرة، أو أنه على العرش، أو أن القرآن كلامه، أو أنه كلم موسى، أو أنه اتخذ إبراهيم خليلاً كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك، وهذا معنى كلام أئمة السنة وأهل الحديث.

والأصل الثاني: أن التكفير العام، كالوعيد العام، يجب القول بإطلاقه وعمومه.

وأما الحكم على المعين بأنه كافر، و مشهود له بالنار: فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه... وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم ـ بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار ـ لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم الحجة الرسالية التي يتبين بها بأنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.
وهذا الكلام في تكفير جميع المعينين.. فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة.." [مجموع الفتاوى (12/497 ـ 501، وراجع:523).].

ويدخل في ذلك المعطلة والمشبهة من أهل القبلة، فلا يحكم على معين منهم بالكفر المخرج من الملة إلا إذا قامت عليه الحجة وتبينت له المحجة، مع أن أئمة الإسلام أطلقوا الكفر على هاتين الطائفتين بصفة عامة.

قال ابن تيمية رحمه الله: "والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة، وأمثال هؤلاء.. مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال: إنه جهمي كفره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين دَعَوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة، وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم أنه كفر، وكان ينكره ويجاهدهم بحسب الإمكان، فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة، وإن كانوا جهالاً مبتدعين وظلمة فاسقين" [مجموع الفتاوى: (7/507).].

وسيأتي الكلام على التنبيهين: الثاني والثالث.