أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



الله وحده هو الذي يرزق مخلوقاته كلها فلا رازق سواه كما أنه لا خالق ولا مبدع غيره، وقد نبَّهنا تعالى في كتابه على ذلك، وأكَّده كثيراً بأساليب متنوعة؛ لأن الرزق إحدى القضايا الكبرى التي تهم الإنسان في حياته ويخاف من انقطاعها، والذي يضعف إيمانه ويقل يقينه بأن الله تعالى هو وحده واهبه ومانعه ويظن أن رزقه مرتبط بأي مخلوق من خلق الله يقدر على منحه له أو منعه منه، لا بد أن يسلم نفسه له ويتبعه ويصير متعلق القلب به شبيهاً بالحيوانات المستألفة التي يدربها من يسوسها على السمع والطاعة له عن طريق ما يجود به لها من الطعام والشراب، إذا هي نجحت في الطاعة، ويحرمها منهما إذا هي فشلت في ذلك، فإذا افتقر أو فارق الحياة علمت أنه لا حول له ولا قوة في رزقها.

فقد أكثر الله تعالى في كتابه من بيان أن الرزق كله بيده يؤتيه من يشاء واسعاً كثيراً، ويقدره لمن يشاء ضيقاً قليلاً، ليعلم الإنسان أن غير الله لا يقدر على منحه ولا منعه، ويكون عبداً له لا لسواه من العبيد، مهما ظهرت لهم من سلطة وعظمة في الدنيا.

ولنتأمل بعض تلك الآيات التي تثبت في قلب المؤمن اليقين الجازم بأن الخالق وحده هو الرزاق:
قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)}. [هود] الآية الكريمة عامة في كل دابة في الأرض، والدابة كل ما يدب على الأرض ـ من المخلوقات التي لا حياة لها إلا بالرزق ـ ويشمل ذلك الطيور على اختلاف أنواعها؛ لأن طيرانها في الجو ليس دائماً، فهي تتناول طعامها وشرابها في الأرض وتنام على الأرض أو على الأشجار النابتة فيها.

ويجوز في غير القرآن أن تقول: "وما دابة في الأرض إلا على الله رزقها" مبتدأ وخبر، والنكرة في سياق النفي يفيد ظاهرها العموم، كما هو معروف عند العلماء، والقاعدة عندهم أن ما أفاد ظاهره العموم قد يخرج منه بعض أفراده بالتخصيص، كما تقول: ما جاء من القوم أحد، يجوز أن يكون جاء بعضهم، فإذا أدخلت "مِن" على النكرة المنفية، فقلت: ما جاء من القوم من أحد أفاد ذلك التنصيص على عموم النفي، فلا يبقى احتمال خروج بعض أفراد المنفي من هذا النفي بل القوم كلهم مقطوع بنفي مجيئهم، والأمر كذلك في الآية فقد دخلت "مِن" على النكرة وهي "دابة" ومعنى ذلك أن كل ما يدب على الأرض قد كتب الله على نفسه رزقه، وهو وحده الذي يرزقه.

ومثل الآية السابقة قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)}. إلى أن قال تعالى: {... اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)}.[العنكبوت]

وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}. [الذاريات] أكَّد الله تعالى في هذه الآية اختصاصه برزقه مخلوقاته بحرف إن المفيدة للتأكيد، والجملة الإسمية: المبتدأ والخبر المعرفان بأل وهما "الله..الرزاق" وبالضمير الفاصل بينهما "هو" والمقصود من هذه التأكيدات، هم الذين مسخ الشيطان فطرهم الذين لم يهتدوا بهدى الله تعالى ولم يتفكروا بعقولهم فيما أوجده الله تعالى من الكون العلوي والسفلي، بخلاف من آمن بالغيب وصدق رسوله فيما جاء به من الوحي وفكر فيما خلق الله من السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من دقة وإتقان، فإنهم يعلمون أنه لا رازق سوى الله تعالى، قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ(21)} [الملك]

فإذا تصورالعاقل الكم الذي لا يحصيه إلا الله من الدواب صغارها وكبارها التي لا يرزقها على هذه الأرض إلا الله الواحد تعالى، أوجب له ذلك غاية التعظيم والتمجيد للخالق الرازق العظيم، وخشع له قلبه وأخبتت له جوارحه في كل لحظة يتفكر فيها في اسم الله الرازق.

وإذا ما تفكر العاقل في الأسباب التي هيأها الله تعالى ولا يزال يهيئها لإيجاد رزقه سبحانه لهذه الدواب، ومنها الإنسان لأنه يدب على الأرض، زاده ذلك لربه إجلالاً وتعظيماً وإخباتاً، فالمطر الذي يودعه الله في السحب والهواء الذي يسخره ليسوق السحاب إلى حيث شاء من أرضه، فيعصره على أرض ميتة فيحييها به، والشمس التي تنعش بأشعتها الزروع والأشجار، والأرض الخصبة التي ينبت الله فيها ذلك تلك الزروع والأشجار، وسُوق الشجر والزرع التي جعلها تتشرب الماء لسقيها وتنميتها وبقائها مخضرة حتى تؤتي ثمارها، ثم تسخير الله لكل دابة السبل التي تتمكن بها من تناول رزقها، كل ذلك وغيره مما لا يحصيه إلا الله تعالى من أسباب الرزق، إن ذلك موجب للعاقل كمال الخضوع وغاية الرهبة والخشوع والمحبة للخالق المبدع الرازق.

إضافة إلى الأسباب التي زود الله بها الإنسان لصنع رزقه وتناوله، كعقله الذي يمكنه من التفكير في ذلك مثل التجارة والزراعة والصناعة وأدواتها، وكذلك الأدوات التي أوجدها في ذاته كاليدين والرجلين والجهاز الهضمي والجهاز الإخراجي، وغير ذلك مما يشمله قوله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ(21)}. [الذاريات] أفلا يوجب ذلك كله للعقلاء من خلق الله أن تخبت لله قلوبهم وتخشع وتزداد من شكر الله على نعمه؟