أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



ومن ذلك ما يعمل العبد في سره وعلنه:

وفي هذه السياقات يذكر الله تعالى من أسمائه وصفاته ما يجعل العبد يشعر بأن الله معه في كل أحواله، يعلم هواجس نفسه وحركات أعضائه وما ينطق به لسانه وذلك هو معنى رقابة الله على عبده ويسميه العلماء: الواعظ الأعظم والزاجر الأكبر، وفي هذه السياقات يناسب ذكر أسمائه: السميع البصير العليم عالم الغيب والشهادة اللطيف الخبير...

من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً(58)}[النساء]. ناسب أمره بأداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل بين الناس، ذكر اسميه: السميع والبصير، ليعلم المأمورون بذلك أنه تعالى لا تخفى منهم على الله خافية؛ لأنه يسمع كل ما يقولون، ويبصر كل ما يفعلون.

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(135)}[النساء]. فالله تعالى خبير بمن عدل أو ظلم، فلا يظنن أحد أن ظلمه واتباع هواه يخفى على الله تعالى.

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ(5)}[آل عمران]. وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(77)}[البقرة].

فاليهود الذين اشتهروا بالحيل والخداع، حذر بعضهم بعضاً من إخبار المسلمين بما ذكر في كتابهم التوراة من صدق رسولهم محمد عليه الصلاة والسلام، فأنكر الله تعالى عليهم ظنهم أن ما يقومون به من الحيل وإخفاء ما عندهم يخفى على الله تعالى الذي يعلم سرهم وإعلانهم.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(7)}[المجادلة]. والآيات واضحة في إحاطة علم الله بكل شيء.

ومثله قوله تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ(30)}[آل عمران].

فكل أعمال المخلوقات تكون حاضرة معهم يوم القيامة أمام من لا يخفى عليه شبء منها.

وفي حديث جبريل المشهور قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)[ مسلم (1/37).].

والذي يشهد قلبه إحاطة علم الله بكل شيء لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء يدفعه ذلك إلى تحري ما يرضي ربه ليفعله، وما يسخطه ليجتنبه، وستكون في قلبه رقابة ذاتية لا تفارقه وذلك هو عين الصلاح الذي تنشده الأمة الإسلامية، بل العالم كله؟

ومع كمال علمه، كمال قدرته؛ فإذا أضيف إلى ذلك علم العبد بكمال قدرة الله التي لا يشذ عنها شيء والتي يصورها قوله جل شأنه: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(47)}[آل عمران] ، زاده ذلك حرصاً على فعل الخير وترك الشر، لعلمه أن الله الذي أحاط بكل شيء علماً، قد أحاط بكل شيء قدرة، فكما لا يخفى عليه شيء فإنه لا يعجزه شيء ومن ذا الذي لا يرغب في ثواب العليم القدير على ما يقدم من الحسنات، ومن لا يخاف من العليم القدير أن يعاقبه على ما يأتي من السيئات؟!

ومن كمال قدرته وكمال علمه تعالى أن جعل أعضاء الإنسان تسجل عليه أعماله التي يباشرها بتلك الأعضاء، فإذا جاء وقت الجزاء والحساب شهدت عليه بكل ما اقترف، وأين يفر الإنسان من جلده وسمعه وبصره ويده ورجله، وهي تلازمه في كل مكان، بل بها يتعاطى الخير أو الشر؟!

إن أعضاء الإنسان آلات تصوير " كاميرات" تصور حركاته في الليل وفي النهار، في الضوء وفي الظلمة، في السر وفي العلن، وهي كذلك آلات تسجيل " كاسيت " تسجل أصواته لتحتفظ بها فتفاجئه بما لم يكن يتوقع من شهادتها عليه، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ(23)}[فصلت].

وقال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)}[النور].

فالعلم بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا والإيمان بها، وتزكية النفس بها والتربية على معانيها والتعبد لله بها، كل ذلك له أثره العظيم في صلاح الفرد والأسرة والأمة.

ولهذا يكثر ذكر اسم الله تعالى وغيره من أسمائه في القرآن والسنة في المناسبات المتنوعة في الموضوعات الإيمانية والأخلاقية والفقهية القضائية والأسرية، والجهادية والمالية وغيرها، لربط حركات المسلم وتصرفاته في تلك الأبواب كلها بالله تعالى، وكذلك أمر الله تعالى بالإكثار من ذكره، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً(41)}[الأحزاب].

كما ذكر الله تعالى أن من صفات عباده المؤمنين الإكثار من ذكره الذي أمرهم به، فقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ(35)}[الأحزاب]. لأن الذي يكثر من ذكر الله _ بلسانه وقلبه - ويفقه معاني أسمائه وصفاته، الغالب أن يداوم على طاعته فيفوز برضاه، بخلاف من رددها بلسانه وقلبه لاهٍ، فإنه لا يحوز المقصد الذي أراده الله من ذكره بأسمائه الحسنى، وإن كان يرجى له مع تكرارها أن ينال بركتها فيحاول التفقه في معانيها والتعبد المطلوب بها.

ومن هنا كان المكثر من الصلة بأسماء الله - حفظاً وعلماً وتعبداً - جديراً بوعد الله له بالجنة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعاً وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة) [البخاري (3/185)، ومسلم (4/262).].

وما ذلك إلا للتأثير الرباني الذي تحدثه معاني تلك الأسماء في حياة محصيها المتعبد لربه بها؛ لأنها زكته فأكثر من طاعة مولاه وازداد من شكره على ما أنعم عليه من التوفيق، وابتعد عن معاصيه، فهو دائماً مع ربه تراه في كل ميدان من ميادين الطاعة فإذا فتشت عنه في ميادين أهل الفسق والفجور لم تجد له أثراً إنه من أهل الله وفي ركب عباده الصالحين: {ومَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً(69)}[النساء].

إن المؤمن بأسماء الله وصفاته المتعبد بها، ومنها علم الله المحيط بكل شيء وقدرته الشاملة التي لا يشذ عنها شيء، لا بد أن تحدث في قلبه تلك الرقابة التي يسميها العلماء: (الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم) والتي لا تفارقه، فإذا وسوست له نفسه بفعل ما هو فساد، أو ترك ما هو صلاح أو وسوس له الشيطان بذلك، ذكَّره ذلك الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم، بالعليم القدير الرقيب فتفتحت بصيرته، ورجع إلى ربه، وجعل الشيطان يولي خاسراً خزيان.

قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(201)}[الأعراف].

تأمل ذكر اسميه تعالى: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} بعد أمر الله من أصابه نزغ من الشيطان بالاستعاذة به تعالى من نزغه، وتأمل قوله: {تَذَكَّرُوا} بعد قوله: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ}، ماذا يتذكرون إلا واعظ الله في قلوبهم من أثر أسمائه الحسنى وصفاته العلا التي امتلأت بها قلوبهم حباً لله وولاءً وتقرباً إليه لنيل رضاه، ومهابةً، وإجلالاً، وخوفاً منه وهرباً من سخطه وعقابه؟!

ثم تأمل ثمرة الاستعاذة بالله السميع العليم في قول تعالى: {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} وما هو إبصارهم إلا رجوعهم إلى ربهم والسير في صراطه المستقيم الذي توجههم إليه أسماء الله وصفاته، وذلك هو عين الصلاح الذي تنشده الأمم في هذه الحياة.

وبهذا يعلم أن الإيمان بربوبية الله وخلقه وتدبيره، والإيمان بأنه الإله المعبود الحق وحده، والإيمان بأسمائه وصفاته والتعبد بها مع فقه ما آمن به، إن ذلك كله هو قاعدة قواعد الإسلام وأساس صلاح العالم، وكل فساد يحدث في الأرض، فسببه ما يحدث من خلل في تربية النفوس وتزكيتها على أساس تلك القاعدة.

قال ابن القيم، رحمه الله عن هذا المطلب العظيم - الإيمان بأسماء الله وصفاته والتعبد بها -: "وهو باب المحبين حقاً لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبع من معرفته أحد منهم، بل كل ما بدا له منه علم ازداد شوقاً ومحبة وظمأ.. ولا يتصور نشر هذا المقام حق تصوره - فضلاً أن يوفاه حقه - فأعرف خلقه به وأحبهم له، عليه الصلاة والسلام: يقول: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبة التامة عليها، وهل مع المحبين محبة إلا من آثار صفات كماله، فإنهم لم يروه في هذه الدار وإنما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه، فاستدلوا بما علموه على ما غاب عنهم، فلو شاهدوه، ورأوا جلاله وجماله وكماله سبحانه، لكان لهم في حبه شأن آخر، وإنما تفاوتت منازلهم ومراتبهم في محبته على حسب تفاوت مراتبهم في معرفته والعلم به.." [طريق الهجرتين وباب السعادتين: 561 ـ 562، طبع قطر.].

قلت: ولهذا كان المكثر من حفظ أسماء الله المتعبد بها لربه، جديراً بدخول الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، ـ مائة إلا واحداً ـ من أحصاها دخل الجنة)[ البخاري: (3/185) ومسلم (4/262).]. وفي رواية: (من حفظها).

وما ذلك إلا لتأثير تلك الأسماء في محصيها المتعبد بها لربه؛ لأنها زكته بألفاظها التي ذكره بها وبمعانيها التي تدبرها وعمل بمقتضاها، فأكثر من طاعة الله وشكره على نعمه وابتعد عن معاصيه، فلم يترك صلاحاً يقدر على فعله إلا أتاه، ولم ير فساداً إلا تجنبه وأباه.