أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


إلى الأستاذ عبدالعزيز الميمني[*]


أنا أحمل لأخي الفاضل العلامة الشيخ عبدالعزيز الميمني من الإكبار لقَدرِه بعد الاجتماع به أضعافَ ما كنتُ أحمل من الشوق إليه قَبْل رؤيته؛ ذلك أنني كنتُ أعرف من آثاره المكتوبة، وآثارُ المرء هي بعضه لا كلُّه، هي أجزاء من نفسه، تُمليها قريحة، ويعبِّر عنها لسان، ويُسطِّرها قلم، أما الآن، فقد عرَفت الميمنيَّ كلَّه، عرفت منه ما وراء القريحة واللسان والقلم، عرفته وعرفني، فكانت معرفته بي مُكمِّلة لمعرفتي به؛ لأن مُناقَلة الحديث، ومنازعة الرأي، وإدارة البحث على فكرة - تُجْلي الجوانبَ النفسيَّة التي لا يصوِّرها القلم، ولا تُسجِّلها الصحيفة، ولا يُقعقِع بها البريد، وتُفضي إلى اشتراكية رُوحيَّة جميلة، أين منها هذه الاشتراكية المادية التي تلوكها الألسنة لفظًا، وتَرشَح بها الأقلام كتابةً؟!



ما زلتُ منذ قرأتُ آثار أخي الميمني، واطَّلعت على أعماله الجليلة لتاريخنا العلمي، أشهد أنه مُنقطِع النظير في سَعة الاطلاع على تراثنا الذي تشتَّت ومزَّقتْه الأحداث، فلم تبقَ منه إلا صُبابة، ولم يبقَ من العارفين بها إلا عِصابة، ولم يبقَ من وسائل إحيائها وربط أجزائها إلا ما يَكثُر فيه الخطأ وتَقِلُّ الإصابة.



وأخي الميمني - ولا أحابيه - يرجع مع سَعة الاطلاع إلى ذِهْن مُشرِق، ورأي في تصحيح النصوص سديد، وحافظة هي رأس المال لمن يتعاطى هذه الصناعة، وحظٌّ من لغة العرب (مفرداتها وأساليبها) يَندُر أن يُتاح لمن نشأ مِثْل نشأته، فهذه هي الأصول التي بوَّأته بين علمائنا المنزلة التي اعترف بها كل مُنصِف، والمُنصِفون هم الناس وإن قلُّوا، وأصل هذه الأصول في نفس أخينا الميمني إخلاصٌ في خدمة العلم عامَّة، وافتنان بلغ حدَّ التتيُّم بما أثَّل علماء الإسلام للحضارة الإنسانية، وغَيرة بلغتْ أقصى حدِّها على بقايا هذا التراث، أن يُضيِّعها الوراث، كما أضاعت ما قبلها الأحداث، ثم حِرصٌ شديد - ولا حرص الفقير الحانق، في المحلِّ الخانق، على الفِلس والدانق - على وصْل ما انقطع، وربْط ما انتشر من هذا التراث النفيس، الذي كان أهله عونًا مع الزمان عليه، فكان من آثار هذه الخلال فيه أن رأيناه يطوف الآفاق، ويُنقِّب المكاتب؛ للحصول على كتاب عربي غَفَل الزمان عن نسخة يتيمة منه؛ ليُولِّد منها ثانية يَردُّ بها غربة الكتاب إلى تأهيل، وغرابتَه إلى تأنيس، ولُبْسَه إلى توضيح، وله في هذا الباب المناقب الكبر، التي عجز عن تحصيلها غيره، فهو يُشبِه محمد بن إسماعيل البخاري حين تفرَّقت الأحاديث في الأمصار، فرحل إليها كلها؛ ليَجمع منها ما شتّ، ويَصِل من حبالها ما انبتّ.



وهذا الفن الذي أصبح أخونا الميمني إمامًا فيه، وعلَمًا من أعلامه - فنٌّ قديم، وضع أصولَه الأولى أسلافُنا فيما كانوا يَحرِصون عليه من معارضة نسخهم من الكتاب بنسخته الأصلية، وبما كانوا يَلتزِمونه من كتابة السمَاعات - وإن كَثُرت - على نسخَهِم، مع شهادة مؤلف الكتاب بخطه أو بخط مَن يرويه عنه مباشرة، ومِنْ دقَّتهم في باب المعارضة أنهم يكتبون عن الكلمة التي انتهى بها المجلس هذه الجُمْلة: (بلغ مقابلة أو سماعًا)، وكانوا لا يُجيزون الأخذ من كتاب ليس عليه هذه الشهادات، كما كانوا يرجعون في الخلاف إلى الأصول القديمة، وحكاية المعري مع شيوخ بغداد معروفة؛ حينما روى كلمة (يوح) بالياء، وعارَضوه بروايتها بالباء، واستظهروا بنسخ جديدة من كتاب للسِّكِّيت أو لغَيره، فقال لهم: هذه نُسخ جديدة رواها أشياخُكم على الغَلَط، فارجعوا بنا إلى النسخ القديمة بدار العلم، فوجدوها كما قال، وهذا أصل له فروع، منها: عنايتهم بتصحيح التصحيف، وتأليفهم المؤلَّفات الخاصة فيه، ولو أن باحثًا تتبَّع هذه الأصول واستقصاها في كتاب، لكان ذلك إسكاتًا لهؤلاء المتبجِّحين من الغربيين الذين يزعمون أن هذا الفن الذي يُطلِقون عليه (فن خدمة النصوص) هو من مُبتكراتهم، ومن خصائص حضارتهم العِلمية الحاضرة، وأنا ما انطوت نفسي على ثقة بهؤلاء المُستشرقين حين يتكلَّمون عن كتبِنا ولغتنا وآثار أسلافنا، ولعلنا نتَّفِق جميعًا على عدم الثقة بهم حين يُحكِّمون آراءهم في ديننا وتاريخنا وآدابنا وشؤوننا الاجتماعية، وإن كنتُ لا أُنكِر أن لبعضهم جهودًا مشكورة في إحياء بعض كتبنا، وهذا أيضًا ليس له كبير شأن، فإن القوم مُتعاوِنون، كل شيء مُيسَّر لهم، وكل شيء يطلبونه من المراجع يجدونه منهم على طرَف الثُّمام، ومِن ورائهم جمعيات ومَجامع تمد وتسعف، ولو كنا نجد عُشر العون الذي يَجدونه، وعُشر التسهيلات التي تهيَّأ لهم من المال والمكاتب الزاخرة الميسَّرة الأسباب، لصنعنا العجائب في هذا الباب.



ومن التحذلق الغالب على معظمهم أنهم يعُدون من أمانة النقل إبقاء الخطأ الصريح على حاله، فكلمة "غير" مثلاً لا تَحتمِل غير معناها في مقامات الاستثناء مثل استعمالها في جملة:﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾، وقد يسهو ناسخ فيترك الغين بلا نقط، فيجدها جرمقاني من هؤلاء الجرامقة فيكتب في التعليق عليها: (في نسخة أخرى: عير)، ويعدُّ هذا من الفنِّ، ولا يكون هذا من الفن إلا إذا كان الخطأ من الفن، وكان الجهل من الفن، وما أُتي هؤلاء إلا من سطحيَّتهم في العربية وقلَّة محصولهم منها، أما العربي، فلا يَحكم على كلمة (عير) في مثالنا إلا أنها خطأ يصحَّح، لا احتمال يُضعَّف أو يرجَّح.



وعلى ذِكْر حظِّ هؤلاء الجرامقة من العربية أقول: إنني تقصَّيت أخبار الكثير من مشهوريهم، فلم أجد واحدًا منهم برع في العربية كما يبرع العربي في لغات الغرب نطقًا وكتابة، بل جميعهم لُكْنُ الألسنة والأقلام، وإنما ينْبُه شأنهم عند أقوامهم وحكوماتهم؛ لأنَّ لهم فيهم مآربَ أخرى، ولا أعتقد أن مُستشرقًا غربيًّا ينبغ في العربية ولو ركب الصعب، وشرب في القعب، وادَّعى الولاء في بني كعب.



وقد وُجِد في عصرنا هذا جماعةٌ من أبناء العرب والإسلام اشتغلوا بهذا الفن، وكانت لهم فيه مقامات محمودة، ونشروا كتبًا لأسلافنا على طريقة العرض والمقابلة بين النُّسَخ والمراجع، فاستولى بعضهم على الأمد الأقصى من الدقَّة والضبط، ولكن هذه الطبقة قليلة العدد، وسدَّد بعضهم في الإحسان وقارَب، وتطفَّلتْ جماعات على هذه المائدة فلم يأتوا بسديد ولا بمفيد، ولم يَزيدوا على أن زاحموا التجَّار الجاهلين، ونراهم يقلِّدون سخفاء المستشرقين في طريقة (غير وعير)، ويَسترون نقصهم بهذا التقليد الذي لا يصلح مَوَاتًا من الكتب، ولا يُحيي أمواتًا من المؤلِّفين، ونشر الكتب كنشر الأموات؛ يجب أن يكون إشاعة للحياة في جميع أجزاء الكتاب، ومن المُحزن أن الظروف وفساد الأخلاق ساعدت على ظهور طائفة جمعتْ ضيقَ الذرع، إلى جفاف الضرع، ولم يكتفِ أحدهم بطبع الكتاب حتى يُعلِّق عليه افتتانًا بهذا اللقب الجديد الذي يفيده قولهم: "نشره فلان وعلَّق حواشيه"، وقرأنا فوجدنا التعليق، أصعبَ على القارئ المغرور من التحليق، ووجدناهم في تلك الحواشي، أشبه بحالة الطواشي، ذِكرٌ ولا آلة، وعائل وهم عالة، ومن عجيب أمر بعضهم أنهم يَبنون آراءهم في الحق على أسس مِن الباطل، ويَبنون استِنتاجات سخيفة على تناسُب الألفاظ وتجانُسها في الحروف والأوزان، ولو أن نسَّابة زعم أن الأقباط من الأسباط لِتَشابُهِ اللفظين، وأن ذارعين من نصر بن قعين لِتجانس الفقرتين، لما كان أسخف مما تبضُّ به هذه الأذهان العقيمة القاحلة، ومِن غريب أمر بعضهم أنهم يخوضون في تعليقاتهم في الأنساب - أنساب الأشخاص، وأنساب الآراء، وأنساب الأبيات- فيقعون في تخليط يُلحق البيتَ بغير قائله، والابن بغير ناجله؛ كل ذلك لأنهم أتَوا هذا الأمر من غير استعداد له ولا استكمال لأدواته، ومن أيسرِ أدواته معرفة المظان، والصبر على مكاره التنقيب والبحث عنها، ونراهم حين يرمون بنُسخ الكتاب الذي ينشرونه إلى السوق يروِّجون له بالدعاية والإعلان، وأنه بتحقيق فلان، فيكون حظ الناشر من الدعاية أكبر من حظ المنشور، والبضاعة الثمينة لا تُباع بالمناداة، وسيان عندي في السخافة والضَّعَةِ مَن نشر مِن هؤلاء كتابًا وسمَّى عمله فيه تحقيقًا، ومَن طبع كتابًا من كتب المعري وكتب على ظهره "حقوق الطبع محفوظة لذرية المؤلف من صُلبه"!



وأخي الأستاذ الميمني مِن أعرف الناس بذلك النوع الذي كان يَجري بين العلماء والأدباء من أسلافنا، وخصوصًا بالأندلس؛ مِن تردُّد الرسائل بينهم في موضوع علمي أو أدبي، ويطلقون عليه اسم (المراجعة)، وقد شاع هذا النوع واختص بمبادئ وخواتيم وملامح كادت تُفرده عن بقية الأنواع كالإخوانيات وغيرها، ومن أمثلته بين علماء الشرق ما وقع من مراجعات بين المعري وداعي الدعاة، ورسالتي هذه إلى أخي الأستاذ هي احتذاء لذلك النوع، وإحياء له، وفتْح لبابه، فليَحمِلْها على محمله، وليُسمِّها باسمه، وليضع اللبنة الثانية في بنائه، ويقيني أن لأخي الأستاذ من سَعة الصدر ما يَنقُل هذه المراجعة من باب التنبيه، إلى باب التنويه، وأن له من حرية الرأي ما جعله يقول كلمة الحق في سيبويه وأنصاره المؤولين لخطئه في تلفيق بيت "فلسْنا بالجبال ولا الحديدا"، فأتى بها شاهدًا مجروح الشهادة، وكلمة الحق في العلم ككلمة الحق في الدين، كلتاهما سابغة الأثواب، مرجوَّة الثواب.



جرى على لساني في أول اجتماع سعدتُ فيه بلقائكم إنشاد بيت مشهور لسُحَيم عبدِ بني الحَسحاس، وهو:
أشْعارُ عَبْدِ بني الحَسْحَاسِ قُمْنَ لَهُ
يومَ الفَخارِ مقامَ الأصْل والوَرقِ



ورويتُ "الورَقَ" بفتح الراء، لا لأنني أحفظه هكذا؛ بل لأنني أفهمه هكذا، وعادتي أنني أحكِّم الفهم في الحفظ لا العكس، ولستُ أُنكر كسر الراء ولا أجهل معناه، وقد سمعتُ مئات من الأدباء يُنشدونه بالكسر، وكنت أناقشهم فيه برأيي الذي سأبيِّنه في هذه الكلمة، فيرجعون إلى الحق.



بادرتم - أيها الأخ الفاضل - إلى رواية البيت بكسر الراء، وفسَّرتم الورِق بمعناه المعروف، وهو الفضة، وزدتم عليه الرقَّة، وكأنكم توهمتم أنني لا أعرف الورِق بالكسر ولا أعرف معناه، فقرأت عليكم آية الكهف؛ دفعًا لذلك التوهم، ولكنكم لم تَسمعوني، كما أنشدتكم قسمًا من الرجز شاهدًا على المعنى الذي قصدته، وهو قول الراجز:

اغفِر خطاياي وثمِّر ورَقي


وهو يعني المال بجميع أنواعه، وراجعتُكم في ذلك المجلس بأن الورَق - وهو المال عامة - أنسب بقصد الشاعر من الورِق الذي هو مال خاص، ولكن حرصَكم على رواية الكسر أضاع صدى تلك المراجعة، ثم سافرتُ إلى دواخل باكستان ونسيت هذه القضية، ولما رجعتُ من جولتي وشرَّفتموني بالزيارة للمرة الثالثة، ذكرتُم لي آية الكهف على أنكم تذكَّرتموها بعد انفِضاض المجلس الأول، فتنبَّه في خاطري أمران: الأول تُوهمكم أنني لا أعرف الورِق بالكسر ومعناه، ولقد عرفتُ هذه الكلمة ومعناها وأنا ابن سبع سنين حينما مررتُ بموضعها في سورة الكهف في طريقي إلى البقرة، ولقد حفِظت القرآن وأنا ابن تسع، وكان عمي - رحمه الله - يُفسِّر لي كل كلمة من غريب القرآن أثناء الحفظ، والثاني أنكم أردتم بذِكْر آية الكهف الاستشهاد لقصد سُحيم، كأنَّ وجود لفظ الورق في القرآن دليل على أنه هو المقصود لسحيم، وهذا لا يستقيم، ولو ذُكرتْ لفظة الورق في القرآن أكثر مما ذكرت كلمة الصبر، لم تكن دليلاً على ذلك، وإنما يكون الذِّكر في القرآن دليلاً على أن اللفظة عربية، أما استعمالات البُلَغاء، فهي راجعة إلى مقاصدهم، وليس نزاعنا في وجود لفظ الورق في لغة العرب، ولا في معناه عندهم، وهو الفضة، وإنما نزاعنا في شيء آخر، وهو حمل كلام سحيم على هذا المحمَل، وهل هذا المحمَل يُشبهِ مقاصد البلغاء في مقامات الفخر ومقامات ذوي الهمم من غيرهم.



لهذا أردتُ أن أراجع أخي الفاضل بهذه الرسالة متطارحًا على فضله، ناشرًا للمعنى الذي أراه أرجَحَ، ولدليلي على الأرجحية، وقد أملى هذه الكلمات خاطرٌ كليل، يجول في جسم عليل، ورشح بها فِكْر حائر، بين باكستان والجزائر، والفضل لسيدي الأخ في إثارتها في نفسي، فقد بَعُد عهدي بتذكر الأسماء والأبيات، فضلاً عن المباحث والموضوعات، فإنْ حرَّكتْ هذه الكلمة في نفس الأستاذ كامنًا، أو أثارت كمينًا، فكتب من معلوماته الواسعة ما يوجبه الوجيه عنده، كنت سعيدًا مرَّتين: مرَّة بما كتبتُ، ومرَّة بما كتب، ولعلَّ ذلك يُحفِّزه ويحفزني إلى مراجعات أخرى في موضوعات أوسع.

••••


يا سيدي الفاضل، إن التصميم على رواية في الشعر يَحتمل المعنى غيرها، لا يُقْبَلُ إلا من رجل يستطيع أن يأتي بإسناد متصل بالثقات إلى الشاعر؛ فيقول: أنشدني فلان، قال: أنشدني فلان، وهكذا صاعدًا إلى أن يقول الأخير: أنشدني عبدُ بني الحسحاس لنفسه قوله:
أشْعارُ عَبْدِ بني الحَسْحَاسِ قُمْنَ لَهُ
يومَ الفَخار مقام الأصْل والوَرِقِ



هكذا بكسر الراء، ويَنقلها لأهل عصره بشهادة السماع المتَّصل المنصوص فيه على كسر الراء، فيُصبحون كلُّهم وكأنَّهم سمعوها مِن فم سحيم، كما نرى في أسانيد الحديث واللغة والشِّعر والخبر عند القدماء، فكانوا يُحافظون في الرواية حتى على الخطأ ثم يُصحِّحونه، كما رووا عن ابن دريد إنشاده لبيت:
أنكَحَها فَقْدُها الأراقمَ مِن جنْ
بِ، وكان الحِباء مِن أدمِ



بالخاء المعجمة، ثم صحَّحوا له هذا الخطأ، وإنه الحباء بالحاء المهملة، وأعتقد أن أخي الأستاذ يُوافقني على أن هذه السلسلة انقطعت من قرون، ولا طَمَع لنا في معرفة ما نطق به سحيم في بيته: هل هو فتح الراء أو كسرها؟ فلم يبقَ لنا - بعد فقدان الرواية - في ترجيح أحد المعنيين المحتملين إلا تحكيم قوانين البلاغة وأساليبها، ومقاصد البلغاء ومنازلهم في الفصاحة والبلاغة، فهلمَّ نتبيَّن منزلة سحيم فيهما من غير التِفات إلى الموضع الذي وضَعه علماء الطبقات فيه، ثم هلم نُوازِن بين الكلمتين المُتماثلتين، وأيتهما أقرب إلى قصد الشاعر، وأيتهما تؤدِّي غرضه كاملاً، وأيتهما يَتساوق معناها مع الفخر، وأيتهما أشبه بمنزله في الفصاحة والبلاغة، فإذا اتفقنا على أن سحيمًا لا يزلُّ عن درجة البلاغة، ولا يدفع عن منزلة البُلغاء في عصره، فالورَق ألْيقُ بقصده، وأشبه بمعرِض كلامه، وأنسَب لمنزلته، وأكمل أداء لغرضه؛ لأن الورِق بالكسر مال خاص، وليس بالثمين ولا مما يتسلَّح به المتفاخرون في مقامات الفَخر، والورَق بالفتح هو المال الشامل للفضَّة وغيرها، وهو يُريد أن أشعاره تقوم له مقام الأصل الذي فاته، ومقام المال الذي حُرمه، فإذا فاخَرَه الناس بالأصول الجليلة والأموال المتنوِّعة، فاخَرَهم بشِعره ففخَرَهم، لا مقام مال مخصوص مُحتقَر، لا يُفاخِر به الناس، ولو نزلتْ به همته دون بلاغته لذَكَر الذهب؛ لأنه أغلى وأثمن عند جميع الناس، ولم يُعجزه أن يأتي في روي البيت الثاني بالباء، والشُّعراء بطبيعة الشعر فيهم يؤثِرون المبالغة والتسامي في مقامات الفخر، لا التنزُّل والإسفاف، فكيف نرضى لسحيم وهو مَن هو في البلاغة وعلوِّ الهمة أن يَحبس قصده وغرضَه عند هذا المعنى القاصر المنحطِّ، وأين الفضة من الذهب؟ وأين هما من حُمْر النعم؟ وأين هما من النجائب والجنائب؟ إنكم يا سيدي الفاضل بتصميمكم على كسر الراء وضعتم صاحِبَكم سحيمًا - الذي خدمتموه بطبع ديوانه - في منزلة من سقوط الهمة لا يُحسَد عليها، ورجعتم به إلى طينته التي يريد أن يَنسلِخ منها، وصوَّرتُموه للناس رجلاً لا يعرف من المال غير أحطِّ أنواعه، وهو الفضة، ولا تَسمو همَّته حتى في التخيلات الشعرية إلى أكثر من الفضَّة، التي كان يباع بها ويشترى، فهو عبد في الخيال كما هو عبد في الحقيقة، وأية قيمة لشِعرٍ قوَّمه صاحبه بالفضة، وقنع بهذه القيمة حتى في أوسع مجالات الفخر؟ إذًا فهو شعرٌ عبدٌ لأنه شعرُ عبدٍ، فإذا أتيتُم له هذا القصد، فإن النقَّاد يَحملونه على المبالغة أيضًا كما هو طبع الشِّعر والشعراء، وانظر- يا رعاك الله - ماذا يَبقى من الوزن لهذه القيمة إذا جُرِّدت مِن المبالغة الشعريَّة؟ لا شكَّ أنه لم يبقَ إلا أن يقوم بِنُسال الشعر وفتات البعر، وإذًا يصدق فيه قول زميل له حرٌّ: وشرُّ الشِّعر ما قال العبيد، وقد انتقدوا شاعرًا أندلسيًّا ضاق عطنه حتى في باب الأماني التي هي أوسع مجال تسرَح فيه أخيلة البائسين والكسالى فقال: "أو مثل ما حدَّثوا عن ألف مثقال"، فقصر أمنيته على ألف مثقال من أمير عُرف عنه أنه يهَب آلاف المثاقيل.



وليتكم يا سيدي صيَّرتم كسر الراء معنى يحتمله اللفظ، أو أسبغتم عليه وصف الأرجحية، كل ذلك كان يُقبل منكم، ويُناسب فضلَكم وتحريكم المعروف، وفي وجوه الاحتمال منادح ومخارج، ولكنَّكم صمَّمتم على الكسر وعلى الفضَّة، كأنه المعنى الذي لا يَحتمِل اللفظُ غيرَه، حتى بعد أن أنشدتكم الشاهد على الورَق بمعنى المال، وهو: اغفر خطاياي وثمر ورَقي.



فإذا كان لأخي الفاضل مستنَدٌ في تصميمه، فلا جائز أن يكون رواية مُسلسلة إلى سُحَيم تُثبت أنه كان يَنطق هذا اللفظ بالخصوص بالكسر، وإنما يجوز أن يكون مُستنده ضبطًا لقلم بعض الثقات أو بقول بعضهم: (بكسر الراء) كما هو مُعتاد، وهذا كله لا حجَّة فيه، ما دامَت البلاغة تُنافيه، وسمو المقصد يُجافيه، ولو أني سمعتُ بأذني سحيمًا يُنشد بيته ويَكسر الراء، لما حكمت عليه بالخطأ، ولكنني أحكم عليه بالإسفاف وسقوط الهمة أوَّلاً، وبانحطاط ذوقه البياني ثانيًا، ولو أن بليغًا من بلغاء العرب سمع سحيمًا ينشد هذه اللفظة بالكسر وهو لا يعرفه، لَحكم عليه بأنه عبدُ النفس إن لم يكن عبد البدن.



هذا، وقد تناولتُ - عند وصولي في الكتابة إلى هذا المحل - نسخة ديوان سحيم التي تفضَّلتم بإهدائها إليَّ، وكشفت عن محل البيتين فوجدت الشارح يقول: "الورِق الدراهم والورِق المال"، ووجدتُ الناسخ ضبط الكلمتين بكسر الراء ضبْط قلم، فلاح لي أمران: الأول: أن ضبط الكلمة الثانية بالكسر غير صحيح، وأن الشارح أراد أن الورِق بالكسر الدراهم والورَق بالفتح المال؛ لأن هذا هو مشهور اللغة، ولو كان يريد أنهما من المشترك اللفظي الذي يدلُّ بصورة واحدة على معنيين لقال: والورِق المال أيضًا، فزاد كلمة (أيضًا) كما هو المعتاد في الأساليب القاموسية عند ذكرهم لمعاني المشترك اللفظي، والأمر الثاني: أن هذه العبارة ذكَّرتني بأن استعمال الورِق بالكسر اسمًا للمال منقول وإنْ لم يكن مشهورًا، وذكرتُ ذِكرًا غامضًا أن هذا مرَّ بي، ولكنني نسيتُه لطول العهد وليس معي ما أراجعه؛ لأنني على جناح سفر، فإذا ثبت هذا، اغتُفر تصميمكم على الكسر، ولم يُغتفَر تصميمكم على تفسيره بالفضَّة، وعلى هذا الاحتمال - إن صحَّ - فلنقرأ الورِق في بيت سحيم بالكسر ولنُفسِّره بالمال عامة؛ لأن حرصنا ليس على اللفظ وإنما هو على المعنى الذي يشرِّف سحيمًا ويُبيِّض وجهه، وليسمح لي أخي الأستاذ أن أسلك مسلكًا آخر في الاحتجاج لسُحيم وأنه لم يقصد إلا الورَق بالفتح؛ لأنه يشمل جميع المُتمولات، ولأنه سالم من الاشتراك اللفظي الذي هو عُرْضة للاحتمالات، وذلك أنني لا أشكُّ أن سحيمًا سمع القرآن إنْ لم يكن حفِظه أو حفظ شيئًا منه، والقرآن هو المثل الأعلى للبلاغة، كما أنه الحجَّة في تقرير المقاصد الإنسانية العالية، وإذا تأمَّلنا القرآن واستعرضنا نَظْمَه الكريم، وجدناه يذكر الذهب والفضَّة في معارض خاصة، ويَذكر المال أو الأموال في معارض أخرى تُخالِفها... يذكر الذهب والفضَّة غالبًا في مقامين من مقام الافتتان بالزائف وجزائه في الآخرة، وفي مقام الترغيب فى الجنَّة بذكر أنواع النعيم الباقي الذي ألِف الناس نوعه في الحياة الدنيا، فيذكر الذهب والفضَّة فيما زين حبه من متاع الدنيا، ﴿ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ﴾ [آل عمران: 14]، ﴿ لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ ﴾ [الزخرف: 33]، ويَذكرهما في التذكير بسوء عقبى الافتتان بهما وكَنْزِهما وعدم تصريفهما في النفع والخير، ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ﴾ [التوبة: 34]، كما يَذكرهما في أصناف النعيم الأخروي الباقي؛ ترغيبًا للناس في العمل الذي يُفضي بهم إلى الجنَّة كما هي سنَّة القرآن في أسلوب الترغيب بالميول النفسية، ووصف نعيم الجنَّة الباقي بما يُماثِله من نعيم الدنيا الفانية ﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ﴾ [الزخرف: 71]، ﴿ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ ﴾ [الإنسان: 15، 16]، ﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ﴾ [الكهف: 31]، ﴿ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ﴾ [الإنسان: 21].



أما المال والأموال، فإنما يَذكرهما في المعارض الفِطرية الثابتة، والسنن النفسية الراسخة؛ مثل ﴿ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [الأنفال: 28]، ﴿ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾ [الصف: 11]، ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46]، من آيات كثيرة كلها تدخل في باب تقرير السنن الكونية وآيات الله في الأنفُس والآفاق.



وانظر - أعزَّك الله - لو قال قائل في غير القرآن: الورق والبنون زينة الحياة الدنيا، أكان كلامه يعدُّ إلا من أسخف السخف؟ أو قال: إنما ورقكم وأولادكم فتنة، أكان هذا الكلام يحسب إلا من حكمة الزط، في غرائز البط؟ أو قال: جاهِدوا في سبيل الله بورقكم وأنفسكم، أكان يُنظم إلا في عداد القَعَدة المثبِّطين عن الجهاد؟ ومِن بلاغة القرآن المعجزة أن يستعمل المال في مقام، والأموال في مقام أعلى منه كالجهاد؛ لأنَّ الجمع فيه قصد الشمول من المال الذي هو اسم جنس، واسم الجنس شامل كاسم الجمع، ولكن الجَمع أشمل منهما، ولما كان الجهاد يحتاج إلى النِّبال والقسيّ، والحبال والعصيّ، والرحال والرواحل، والأقتاب والأحلاس، والوص، والزاد والعلوفة، وكلها متمولات، حَسُنَ في قانون البلاغة وأسلوب الترغيب أن يُعبر في آيات الجهاد بالأموال، وصاحبنا سُحيم، الشاعر الرقيق، الذي أدرك النبوَّة وأظلَّته دولة الخلفاء الراشدين، لا يُحمل كلامه إلا على الاعتبارات الفطرية التي قرَّرها كتاب الفطرة، وما سُحيم إلا من ناشئة الصحراء العربية، وما مقاصده إلا من نوع مقاصد العرب، وما أخيلته وأمانيه إلا من نوع أخيلة شعراء العرب وأمانيهم، يرمون فيها المرامي القصيَّة، ويركبون فيها من المبالغة والإغراق ما يُخرِجهم عن أُفق الحقائق، وحسْبك شهادة الله لهم بأنهم في كل وادٍ يهيمون!



وقولهم: "المرء ابن بلدته، لا ابن جلدته" كلمة أصيلة في الحكمة الاجتماعية، فإن المرء إذا نشأ في قوم لا يَجمعهم به عرق نسب، ينشأ كواحد منهم، ولو باعدت بينهم وبينه الخصائص الجنسية والدموية، ومن أبين ما يجتمع معهم فيه اللغة: ألفاظها ومعانيها وأساليبها وأسرارها، وسُحيم لم يَخرج عن هذه القاعدة، فهو مع سواد الجلدة وجامعة النسب، عربي اللغة والأدب، أما الشعر، فهو قابلية خاصة بحيث لو تفتَّق لسانه على لغة قومه، لكان شاعرًا في لغتهم، على نسبة تلك اللغة في الضيق والاتساع.



ويؤيِّد ما حملنا عليه كلام صاحبنا سحيم - وهو الأَولى، بل المتعيَّن - أن العرب ما كانت تعد الفضَّة - بل ولا الذهب - مالاً يزين صاحبه، ولا متاعًا مما يفتخر به جامعه، وإنما يعدونهما قيمًا للأشياء، وكما هو الاعتبار الصحيح الذي جاء به الإسلام بعد ذلك، فهما وسيلة لا مقصد، وهما معبر لا مستقر؛ وإنما المال عندهم الثاغية والراغية، وضربهم المثل بحُمر النعم معروف، وإضافتهم ربيعة إلى الفرس مشهور، ووصْفُهم مضر بالحمراء معلوم، وهي ألقاب تمدُّح وإعظام، ومن كلام رجل منهم - لم أذكُر اسمه الآن - وقد سُئل عن أفضل المال، فقال: مهرة مأمورة، وسكة مأبورة، قيل: ثم ماذا؟ قال: عين فوارة، في أرض خوارة، قيل: فأين أنت من الذهب والفضَّة؟ قال: حجران تصطكان، إنْ أنفقتهما فقدا، وإنْ تركتهما لم تَزيدا.



هذه - أبقى الله سيدي الأخ - بعض اعتبارات العرب للمال يجب أن يحمل كلام صاحبنا سحيم عليها؛ لأنه شاعر عربي، ولشعراء العرب في التصور والتصوير موازين كموازين شعرهم تختلُّ بحركة اختلاس، ويُدركها الزحافُ بحرف يزيد أو ينقص، وقد قرأ أخوكم هذا من صغره ما تفرَّق من شعر هذا العبد في الكتب، ووقف على شِعره الفاحش في مجموعة من نوعه يَملكها أحد الأصدقاء بالمغرب الأقصى، فوجدته حُرَّ الأخيلة عميقها، صادق التصورات، عربي النزعات، بدوي الخصائص الشعرية، جاريًا ملء عنانه في الميادين التي جرى فيها الشعراء، ومنها ميدان الفخر؛ فلذلك تراني لا أجيز لنفسي أن تحمل ألفاظه المحتملة إلا على الأسمى من معانيها، والأرفع من أغراضها، ومنها لفظ الورق.



ويا سيدي، إن في معاني الألفاظ العربية عمومًا وخصوصًا، وإن للخصوص مواضعه في التراكيب تَبَعًا للمقاصد، وللعموم مواضعه فيها كذلك، والمقاصد والأغراض هي المتحكمة في تنزيل الألفاظ منازلها، فهل ترضى لصاحبك الذي أحييته أن تُميته فتجعل أشعاره البليغة قائمة مقام الفضَّة لا الذهب ولا غيره من الأموال، لا سيما مع وجود معنى للورق يفي بالغرض الأشرف، وتسمية العرب للمال بمعناه العام وَرَقًا تسمية عريقة النسب في البلاغة، قريعة لتسميتهم إياه بالريش، وقد استعاروا الاسم الأول من ورق الشجر؛ لأنه يُظلِّل ويَحمي ويُثمر، كما استعاروا الاسم الثاني من ريش الطائر؛ لأنه يكسو ويَحمل ويعلو بصاحبه، ولكن الاسمين اشتهرا حتى استغنيا عن القرائن، وللعرب تخيلات صادقة دقيقة في معاني الألفاظ المشتقة والمنقولة، تدلُّ على سداد تصرُّفاتهم الذهنية.

••••


ثم إن لكل زمن موازينه للأشياء واعتباراته إياها، وموازين الأزمنة هي قوانين التطور، ولا تفلت منها الطبقات العليا في المجتمعات البشرية كالشعراء والعلماء والملوك، ولا معنى للتطور إلا اختلاف الاعتبارات، حتى يُصبح القبيح حسنًا، والحسن قبيحًا؛ ولهذا نرى أن معروف البداوة مُنكَر في الحضارة، وحسَنَ الحضارة قبيحٌ في البداوة، وإذا خرجْنا من باب القبح والحسن والعرفان والنكر، إلى باب السمات والألوان، نجد القياس مُطردًا، وكذلك يقال في أساليب الكلام من شعر وخطب وأحاديث عادية، فنجد النقاد يُفرِّقون بين شعر البادية وشعر الحاضرة بسمات ثابتة يُدركها كل دارس باحث، ولكل تطور أسباب طبيعية آتية من تحرُّك الاجتماع البشري وعدم استقراره على حال، وقد رأوا في شعر عديِّ بن زيد العبادي رقة ليست من سمات الشعر الجاهلي، فحكموا بأن مأتى ذلك إنما هو لنشأته في ريف العراق، وغشيانه للحيرة وتردُّده على ملوكها، وصوغه الشعر فيهم، والحيرة هي حاضرة العرب في الجاهلية، ومن هنا كانت الفروق واضحةً بين الشعر الجاهلي وبين شعر الخضرمة والإسلام، وبين هذه الأنواع كلها وما جاء بعدها في مراحل الحضارة الإسلامية.



فلْنَنظر - على هداية قانون التطور وآثاره - إلى العصر الذي كان فيه سُحيم، وإلى مفهوم المال عندهم، وإلى منزلة الفضَّة من بين أنواع المال بينهم، نتبيَّن أن الفضَّة ليسَت بشيء في اعتبار ذلك العصر وعند أهله، وأن الفضَّة لم تَخطر على بال سُحيم حينما قذف بيتيه في وجوه المُفاخرين، وإذا كان أثر الشعر في نفس سامعه متَّصلاً بأثره في نفس قائله، فكيف يتصوَّر أن يقوم شِعره بشيء لا قيمة له في نفوس سامعيه ومُفاخريه، أو له قيمة نازلة؟ والمعروف أن الشعراء ليس لهم باب يَدخل عليهم منه المالُ إلا جوائز وصِلات الأمراء والرؤساء ثمنًا لما يَمدحونهم به، والجوائزُ والصلات في ذلك العصر وبعده بقليل لم تكن بالفضَّة ولا بالذهب، وإنما كانت في الأعم الأغلب بكرائم النعم والخلع والطرائف؛ لذلك لا نسمع في شعرهم إلا ذِكر الذَّوْد والعَكَرَة والهُنَيْدَة والجامِل العَكْنَان، وقد دامت هذه الحال إلى عهد الخلفاء الأُول من بني مروان، وحكاية جرير مع عبدالملك معروفة حينما مدحه بقصيدته الحائية وذكر فيها ابنته أم حزرة وقوله:
ثقي بالله ليس له شَريك
ومن عند الخليفة بالنَّجاحِ



فقال عبدالملك: وما يُرضي أمَّ حزرة؟ فقال: كذا من الإبل، فأمر له بها.



وكما كانت الجوائز بهذا الصنف من المال، كانت شرائع المكارم وشعائر المروءة تؤدى بها أيضًا؛ لأنها مال ذلك العصر، وإذًا فسُحيم كان في دولة الإنعام بالأنعام - وإنْ لم يكن مدَّاحًا بحكم عبوديته - لا في دولة الصفراء والبيضاء، وكان من جيل لا يفهم من الصفراء والبيضاء إلا أنهما أداتان للمال وليستا المال نفسه، ناهيك بجيل يفرض أهل الرأي فيه لخليفتِهم عمر نصف شاة في اليوم لا دنانير ودراهم، فكيف يخطر ببال شاعرٍ عبدٍ أن يُفاخر الأحرار بشِعره ويُقوِّمه بما عندهم من الفضَّة، وهو يعرف أنها ليست من أموالهم ولا مما يُفاخرون به؛ وإنما يفاخر المرء بما تجري به المفاخرة عند أهل زمنه، وقد تطورت الحالة بعد سُحيم بزمن، وأصبح الممدوحون يُجيزون مادحيهم بالذهب والفضَّة؛ لكثرتهما وبناء الحضارة المادية عليهما، فأصبحَت نفوس الشعراء تتطلع إلى هذَين الحجرين.



وأين زمن سحيم وجيل سحيم من الزمن الذي يقول أحد شعرائه لرئيس:
إني حلفت لئنْ لقيتُك سالمًا
بِقُرى العراق وأنتَ ذُو وَفْرِ
لَتُصَلِّيَنَّ على النبيِّ محمَّدٍ
وَلَتَمْلأَنَّ دراهِمًا حجْرِي



والذي يقول فيه أبو دلامة:
إذا جئتَ الأميرَ فَقُلْ سلامٌ
عليكَ ورحمةُ الله الرحيمِ
وأما بعد ذاك فلِي غريمٌ
من الأعراب قُبِّحَ من غريمِ
له مائةٌ عليَّ ونصفُ أخرى
ونصف النصف في صَكٍّ قديمِ
دراهمُ ما انتفعتُ بها ولكنْ
وصلتُ بها شيوخَ بني تَميمِ



لله ذلك الطراز العالي من البلاغة العربية، وتلك الصفوة الممتازة من شعراء العربية، وتلك الطائفة المختارة من المدونين والرواة الذين جمعوا لنا ففرَّقنا، وحفظوا لنا فأضعنا، ورووا لنا شعر العبيد والنساء والنساك والفتاك والعدائين وعوران قيس وأغربة العرب، رحمهم الله وروَّح أرواحهم، وهدانا إلى حفظ ما بقي من تلك الذخائر.



ولله هذه اللغة الشريفة التي بلغ من ديموقراطيتها أن تسعى هرولةً إلى كل مَن يسعى إليها حبوًا، والتي أضفتْ ظلها وأفاضت نَهَلَها وعَلَّها حتى على الإماء والعبيد، وأَكَلَة الكَبَاث والهَبِيد، ثم تبنَّت القرائح والألسنة من جميع الأجناس، واذكر في الكتاب هذه الأسماء اللامعة في شعراء العربية من غير العرب؛ اذكر سابقًا البربري، وأبا عطاء السندي، وعلي بن العبَّاس الرومي، ومهيارًا الديلمي، واذكرْ إبراهيم بن سهل الإشبيلي؛ لأنه يهودي تعرَّب، ولا تذكرْ السموءل بن عاديا؛ لأنه عربي تهوَّد.



وأختم القول بما بدأتُه به، وهو أنني أحمل لأخي العلامة الميمني كل إجلال وتقدير، وأغالي بقيمته في علمائنا العاملين، وله منِّي تحيات تلمع مع البروق، وتتجدد في كل غروب وشروق.



المصدر: كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (4/381 - 392).[*] وجدنا هذه الكلمة في أوراق الإمام، ولا ندري هل أرسلت إلى الأستاذ الميمني - رحمهما الله - أو لا؟

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Literature_***...#ixzz2wh1aTKr6