لوحات جمالية من تاريخ اللغة العربية
( المعارضات الشعرية )





للأستاذة / تركية الحميدي العتيبي
ثانوية الأبناء بقاعدة الملك فهد الجوية في الحوية



الإهـــــــداء


لغتي من أجلك خرج هذا العمل إلى النور وكان هذا الجهد ترجمة لحبي لك ، و اعتزازي بك


ابنتك


المقدمة


لغتي .. نبض شرياني
لغتي .. دفء فؤادي
لغتي .. حروف .. قرآني ..وتراتيل صلاتي
بها خططت حروف اسمي
وبها تأتئت أولى قراءاتي
لغتي ... لغة البقاء
(( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ))
نعم لغتي - الوحيدة – بين اللغات التي كانت ولا زالت متجددة تنتج لنا كل يوم جديد
وما وقفتي اليوم إلا لأبرز جانباً من لوحاتها الجمالية وأسلط الضوء على بعض نظرياتها
ومن أبرز اضاءاتها وصور جمالياتها ( نظرية المحاكاة ) التي التفت إليها هوراس
عندما قال للرومان : ( حاكوا اليونان ليلاً ، حاكوا اليونان نهاراً )
فكانت سبباً في نشأة كثير من الفنون والموضوعات لاسيما اذا جاءت هذه المحاكاة
مدفوعة إما بدافع المباراة والمجاراة أو بدافع إظهار القدرات
والمحاكاة في الشعر غدت ظاهرة منتشرة عند عدد كبير من الشعراء حتى وصلت إلى أن تصبح الشغل الشاغل للكثير منهم لينتجوا لنا فناً وليداً ، ونتاجاً جديداً، عرف باسم ( المعارضات الشعرية )
والتي كانت مادة هذا البحث .. فالمعارضات الشعرية فن تعامل به عدد من الشعراء إما على سبيل الجدية والإبداع ، أو على سبيل التندر وإظهار القدرات
حتى غدا هذا الفن محط اهتمام الأدباء ، فذهبوا إلى تأليف الكتب التي تعرف بهذا الفن ، وبأهم من خاضوا غماره ، ودخلوا ساحاته وميدانه
ومن خلال هذا البحث عرضت للقارئ وعلى مدار أربعة فصول نزراً يسيراً
مما استطعت جمعه وتدوينه في هذا الموضوع
فالفصل الأول خصصته للحديث عن معنى المعارضات لغة واصطلاحاً والفرق بينها وبين النقائض
والفصل الثاني كان رحلة في أعماق تاريخ هذه المعارضات على مر العصور الأدبية وحتى العصر الحديث ، لأقف في الفصل الثالث أمام احدى وأهم القصائد التي انبرى الشعراء

لمعارضتها وهي نونية ابن زيدون :
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
فذكرت أهم تلك المعارضات لهذه النونية لأختار احداها وأقف معها في الفصل الرابع محللة ومتأملة لجمالياتها .. آلا وهي قصيدة الشاعر ( أحمد شوقي )
والتي يقول فيها :
يانائح الطلح أشباه عوادينا نشجى لواديك أم نأسى لوادينا
لنقف في الخاتمة أمام روعة اللغة العربية وعظمة بنائها ، ويكون هذا العمل رداً على من ينتقص شأن لغتنا ، أو يحاول محاربتها .
سائلة المولى أن يكون هذا العمل وافياً بالغرض الذي من أجله كتب .






الأستاذة / تركية الحميدي العتيبي
الأحد 22/ ذو الحجة من عام 1434هـ
27/ أكتوبر من عام 2013م


الفصل الأول

(( تعريف المعارضات ... والفرق بينها وبين النقائض ))




المــــــعارضــات
عارض فلانا في المسير ... سار حياله , والكتاب بالكتاب .. قابله به , وفلانا باراه و أتى بمثل ما أتى به يقال عارضه في الشعر وعارضه في السير و عارضه بمثل صنيعه .
وفلانا : ناقضه في كلامه وقاومه ...
" عارض .. معارضة و عراضا .. فعل مثل فعله و أتى إليه بمثل ما أتى .. الرجل ناقض كلامه .. باراه .. سار حياله ..
يقال " عارضه فعرضه .. أي غالبه في المعارضة فغلبه ..
تعارضا : الرجلان عارض أحدهما الآخر ...)
و المعارضة في الشعر أن ينظم الشاعر قصيدة أو مقطوعة يحتذي فيها نصا ً لشاعر آخر سابق عليه في الزمن .. وتكون قصيدته مشابهه لقصيدة الشاعر الـمُحتذى به وزناً و قافيةً و روياً ...
المـــــناقضات
النقائض : جمع نقيضة.. مأخوذة في الأصل من نقض نقضاً البناء .. هدمه , و الحبل .. حلـه , والعهد أفسده بعد إحكامه .. يقال " نقض فلان وتره .. " آي أخذ ثأره
وناقض مناقضة و نقاضاً خالفه ... والنقض .. نوع من الصراع
والمناقضة في القول : أن يتكلم بما يناقض معناه
والمناقضة في الشعر :
أن ينقض الشاعر الآخر ما قاله الأول .. حتى يجئ بغير ما قال , والاسم النقيضة ويجمع على نقائض ولذلك قالوا نقائض جرير والفرزدق
" وهي بحسب الاصطلاح الأدبي : أن يتجه شاعر إلى آخر بقصيدة هاجياً أو مفتخراً , فيعمد الآخر إلى الرد عليه هاجياً أو مفتخراً أو نحو ذلك ملتزماً البحر والقافية والروي الذي اختاره الأول
الفرق بين المعارضات والنقائض :
تختلف المعارضات عن النقائض اختلافاً واضحاً فقد تكون المعارضات نتيجة إعجاب شاعر متأخر بقصيدة لشاعر متقدم عليه في الزمان .. أو وقت نظمها ونشرها .
وهذا الإعجاب قد يكون بالقصيدة كلها أو ببعض جوانبها الفنية كالنغمة الموسيقية أو غرضها , أو طريقة نظمها أو حسن صياغتها فيترجم هذا الإعجاب بقصيدة مشابهة لها مقتفياً آثارها ...
و أحياناً قد يستوحي المتأخر فكرة المتقدم فيوسع هذه الفكرة بأداء جديدغفل عنها المتقدم وفطن لها المتأخر
إذن : المعارض يقف من صاحبه موقف المقلد المعجب أو المعترف ببراعته على كل حال ...
أما النقائض فإن لها علاقة بالمعارضات , ولها اختلاف معها .. فالتوافق إنما يكون في اتحاد الغرض والوزن العرضي وحرف الروي وحركته , وهذه الأشياء للهجاء المقذع وابطال الفكرة أو الرأي أو القول بما يخالفه ويكذبه إذن شاعر النقيضة.. في موقف المنافس .. والرد على خصمه لا مقام للإعجاب بينها ..
وهناك فرق جوهري آخر .. وهو أن المناقضة تكون في زمن واحد و بين اثنين أو ثلاثة .. ولكن المعارضة لا تلتزم بزمن معين .. فقائل القصيدة في الجاهلية .. يعارضه شاعرٌ آخر في العصر الحديث ... وهكذا ..
ومع ذلك كله , فإن وحدة الموضوع وتتبع حيثيات الغرض يجمع بين المعارضات والنقائض وهناك تشابه أعمق .. وهو في إمكانية كونها نثراً وشعراً ويقربان حوادث الماضي إلى حيز الحاضر مما يعين على التذكير بما فات وهذا هو الجانب التاريخي فيها .. والجغرافي و الاجتماعي .. حيث يعدان تجديداً لتراث الماضيين
... كانت هذه وقفة تأملية قصيرة لمعنى كل من المعارضات والنقائض و أهم الفروق بينهما ... لنقف الآن أمام العمق التاريخي لنشأة تلك المعارضات ...

الفصل الثاني



( المعارضات الشعرية وقفة تاريخية )







نشأة المعارضات :
يرى بعض الباحثين أن فن المعارضات قد واكب الشعر العربي منذ أقدم عصوره .. حتى يرجعه البعض إلى تلك الواقعة التي وقعت في العصر الجاهلي بين امرئ القيس وعلقمة الفحل .
قال ابن قتيبة في ترجمة علقمة "وسمي بالفحل لأنه احتكم مع امرئ القيس إلى امرأته أم جندب لتحكم بينهما ، فقالت: قولا شعرا تصفان فيه الخيل على روي واحد وقافية واحدة فقال
امرؤ القيس :
خليلي مرا بي على أم جندب لنقضي حاجات الفؤاد المعذب
فقال علقمة :
ذهبت من الهجران في كل مذهب ولم يك حقا كل هذا التجنب
ثم انشداها جميعا ، فقالت لأمري القيس : علقمة أشعر منك قال : وكيف ذلك ؟ قالت : لأنك قلت :
فللسوط ألهوبٌ وللساق درة وللزجر منه وقع أهوج منعب
فجهدت فرسك بسوطك ومريته بساقك . وقال علقمة :
فأدركهن ثانيا من عنانه يمر كمر الرائح المتحلب
فأدرك طريدته وهو ثان من عنان فرسه ، لم يضربه بسوط ، ولا مراه بساق ولازجره .. ، قال ماهو بأشعر مني ولكنك له وامقة فطلقها ، فخلف عليها علقمة فسمي بذلك الفحل ، انتهى كلام ابن قتيبة
وبالنظر في هذه الواقعة فإني أرى- أن مثل هذه الحادثة لاتعد من باب المعارضات لأن المعارضة كما أسلفنا تقوم على الإعجاب والمحاذاة أضف إلى ذاك أن اشتراط أم جندب للحكم أن يكون الموضوع واحدا والروي واحدا والقافية واحدة ثم اصدار حكمها بعد الموازنة معللا قد يلقي عند بعض الباحثين ظلا من الشك على صحة هذه القصة لقربها من صنيع المتأخرين في النقد والموازنة ، وبعدها عن النقد الجاهلي المبني على الذوق الفطري الخالي من التعليل ثم نجد أمثلة المعارضة في أطوار التاريخ الأدبي تستمر فمعارضة القرآن الكريم عند من نصبوا أنفسهم لها . لم تكن إلا محاولة إنشاء فصول بلاغية في مستوى هذا الكتاب الكريم ، قوامها التجويد الفني وتحري مضاهاته في أساليبه وإن سقطوا جميعا دون الغاية بأمد بعيد



– وإن جاز لي – أن أحكم ببدء المعارضات تامة صحيحة فسأقف أمام معارضة عمر بن أبي ربيعة لجميل بن معمر في العصر الإسلامي عندما قال جميل بثينة :
عرفت مصيف الحي والمتربعا كما خطت الكف الكتاب المرجعا
فقال عمر بن أبي ربيعة معارضا :
ألم تسأل الآطلال والمتربعا ببطن حليات دوارس بلقعا
وإن خالفني الرأي – الدكتور محمد بن سعد بن حسين عندما قال : نستطيع أن نقول أن المعارضات بدأت حقيقة في العصر الأموي فمن ذلك فائية الفرزدق التي نظمها حين تحداه أحد شعراء فتيان المدينة المنورة أن يقول مثل قول حسان بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه في ميميته التي مطلعها :
ألم تسأل الربع الجديد التكلما بمدفع أشداخ مبرقة أظلما
فعارضها الفرزدق بفائيته يفتخر أيضا كما فعل حسان
عزفت بأعشاش وما كنت تعزف وأنكرت من حدراء ماكنت تعزف
وللفرزدق ايضا معارضة لكبار الشعراء كمعارضته لطرفة بن العبد القائل :
أنا إذا مالغيم أمسى كأنه سماحيق ثرب وهي حمراء حرجف
فعارضة الفرزدق قائلا :
إذا اغبر أفاق السماء وكشفت كسور بيوت الحي حمراء حرجف
والأخطل كالفرزدق فها هو يستجيد قصيدة كعب بن زهير
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
فقال معارضا :
بانت سعاد ففي العين ملمول من حبها وصحيح الجسم مخبول
ومن تلك المعارضات ايضا في ذلك العصر - الأموي – معارضة أبي خرابة الوليد بن حنيفة لقصيدة يزيد بن المفرغ
الحميري القائل
جاءت به حبشية سكاء تحسبها نعامة
من نسوة سود الوجوه م ترى عليهن الدمامة


فقال أبو حزابة معارضا :-
ياعون قف واستمع الملامة لاسلم الله على سلامة
زنجية تحسبها نعامة شكاء شأن جسمها دمامة
ولعله قد ثبت من عرض هذه النماذج أن المعارضات بمفهومها الفني قد وجدت في هذا العصر – العصر الأموي – برغم أن الشعر في ذلك العصر كان في جملته امتدادا للشعر القديم من حيث الفصاحة وأصالة الذوق وأن الشعراء ماكانوا في حاجة أن يقلدوا أو يحاكوا . وبذا نستطيع أن نقول أن نشأة المعارضات وبدايتها كان منطلقا فنيا لم يدفع إليها ضعف أو طلب للجودة عن طريق المحاكاة والتقليد وهذا مما يرفع ويعلي من مكانتها الفنية )
وإذا انتقلنا من هذه الوقفات السريعة على نشأة المعارضات في العصر الجاهلي وبدايتها في الإسلامي الأموي فإننا نجدها ناضجة كاملة في العصر العباسي حتى عرف كثير من شعراء هذا العصر بكثرة معارضاتهم

المعارضات في العصر العباسي :-

كانت السليقة العربية في هذا العصر قد تسرب إليها الضعف ومن هنا اتجهوا إلى تثقيف ألسنتهم وتهذيب لغتهم برواية أشعار العرب ومحاكاتها والنسج على منوالها إذن لابدع في أن يقبل الشعراء في هذا العصر على معارضة شعر الشعراء السابقين ومحاذاتهم ، وسنقف الآن على أشهر تلك المعارضات – للإشارة فقط وليس للتحليل -
1. فمن تلك المعارضات معارضة مروان بن حفصة للنابغة الذبياني في واحدة من اعتذارياته فقال مروان يستشفع عند الخليفة المهدي
خلت بعدنا من آل ليلى المصانع وهاجت لنا الشوق الديار البلاقع
معارضا قول النابغة :-
عفا ذو حسا من فرتنا فالفوارع فجنبا أريك فالتلاع الدوافع
2. ومن روائع معارضات هذا العصر وبديعها معارضة أبي تمام حبيب بن أوس الطائي لبائية بشار بن برد التي يقول مطلعها :-
جفا وده فاذود أو مل صاحبه وأزرى به أن لايزال يعاتبه
فقال أبو تمام معارضا :-
هن عوادي يوسف وصواحبه فعزما فقدما أدرك السؤل طالبه
إذا المرء لم يستخلص الحزم نفسه فذروته للحادثات وغاربه
3. ومن تلك المعارضات أيضا معارضة أبو العتاهية للأعشى القائل :-

ألا قل لتياك مابالها اللييني تحدج أحمالها
فعارضه أبو العتاهية قائلا :-
أما لسيدتي مالها أدلا فأحمل إدلالها
وإلا ففيم تجنت وما جنيت سقى الله أطلالها
وحينما نريد أن نختم حديثنا عن معارضات هذا العصر فيحسن بنا أن نختم بمعارضات أحد المتأخرين وبخاصة أبو المظفر الأبيوردي التي كثرت معارضاته حتى اشتهر بها وبخاصة قصائده المعروفة بالنجديات التي احتذى فيها منهجا وموضوعا حجازيات الشريف الرضي والطغرائي ، فمن معارضاته للشريف الرضي الذي يقول :-

ياظبية البان ترعى في خمائله ليهنك اليوم أن القلب مرعاك
فقال الأبيوردي معارضا :-
كيف السلو وقلبي ليس ينساك ولا يلذ لساني غير ذكراك

ومعارضته لأبي العلاء المعري في قصيدته التي آولها :
لمن جيرة سيموا النوال فلم ينطو يظللهم ماظل ينبته الخط
فقال الأبيوردي معارضا :-
بدا والثريا في مغاربها قرط بريق شجاني والدجى لمم شمط







المعارضات الأندلُسية :
لقد كان لأهل الغرب الإسلامي من العالم الإسلامي الشاسع ، نشاط بارز في مجال المعارضات الشعرية والنثرية لدرجة وصل الحد بأكثرهم إلى تتبع القصائد المشهورة ، أو نتاج الشعراء البارزين من الشرق الإسلامي ، أو الشعر ذي الموضوعات الهامة أو تلك التي تدورعلى ألسنة العامة والخاصة لمعارضتها وإبراز قدراتهم الشعرية في هذا المجال الواسعة حتى بدت المنافسة فيما بينهم واضحة وعلى أشدها ، حتى بين الأندلسيين أنفسهم وبذلك غدت المعارضات نظاماً شعرياً وطابعاً يكاد يكون عاماً .
ومن أشهر تلك المعارضات ما يلي :
1- معارضة أبو الحزم بن جهور أحد ملوك الطوائف لابن الرومي ، وقد كان ابن الرومي قد نظم أبياتاً في تفضيل النرجس على الورد فقال :
للنرجس الفـضل المـبين لأنه زهـر ونـور وهو نبـت واحـد
ينهى النديم عن القبيح بلحظه وعلى المدامة والسماع مساعد
فقال ابن جهور معارضاً ابن الرومي في تفضيله النرجس على الورد :
الورد أحسن ما رأت عيني وأزكى "م" ما سقى ماء السحاب الجائد
خضـعت نواوير الريـاض لـحسنه فتـذلـلـت تـنـقاد وهـي شـوارد
2- ويروى أن المنصور بن أبي عامر أمر ابن دراج القسطلي أن يعارض قصيدة أبي نواس الحكمي والتي مطلعها :
أجارة بيتنا أبوك غيور وميسور ما يرجى لديك عسير
فعارضه بقصيدة منها :
ألم تعلمي أن الثواء هو الثوى وأن بيوت العاجزين قبور
تـخوفـني طـول السـفار وأنـه لتقبيل كف العامري سفـير
3- وعارض ابن عبدون الفهري المتنبي أبياته المشهورة في مدح كافور والتي مطلعها :
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا


فعارضه ابن عبدون قائلاً :
مضوا يظلمون الليل لا يلبسونه وأن كان مسكيّ الجلابيب ضافياً
يؤمون بيضاً في الأكنة لم تزل قــلوبـهــم حـبّاً عـليــها أداجيــا

4- ومن أروع ما عارض الأندلسيون قصيدة المتنبي الرائية في مدح أبي الفضل محمد بن العميد والتي بلغت شأواً بعيداً من الشهرة وبعد الصيت ومنها قوله :
بـادٍ هـواك صـبرت أم لـم تصـبرا وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
كم غرَّ صبرك وابتسامك صاحبا لمـا راه وفي الحـشى مـالا يـرى
فعارضه أحمد بن عبد ربه "صاحب العقد الفريد"بقصيدة يمدح بها الأمير محمد بن الحكم ومنها قوله :
ألمَّا على قصر الخليفة فانظرا إلى مُنية زهراء شيدت لأزهرا
كما عارضه ابن دراج القسطلي بقصيدة جاء فيها :
لـبيك ، اسـمـعنا نـداك ودونـنا نوء الكواكب مخويا أو ممطرا
ويُحسن بنا قبل أن ننتقل عن المعارضات الأندلسية أن نختمها برائية أبي تمام الرائعة التي مدح بها الخليفة المعتصم والتي قال فيها :
الحق أبلج والسيوف عوار فحذار من أسد العرين حذار
ملك غدا جار الخلافة منكم والله قـد أوصى بحفظ الجـار
والتي عارضها شاعر الطبيعة في الأندلس ابن خفاجه عندما مدح الأمير يحيى ابن إبراهيم والي غرناطة فقال :
سمح الخيال على النـوى بمزار والصبح يمسح عن جبين نهار
فرفعتُ من ناري لضيف طارق يـعشـو إليـهـا مـن خـيال طـار





المعارضات في العصر المملوكي :
عندما يذكر هذا العصر يتبادر إلى الذهن ما قاله العلماء فيه : من أنه عصر الانحطاط والضعف والتأخر في الشعر كما يصفونه بأنه عصر التكلف والتصنع ... إلى آخر ما قالوا – وليس غرضي في هذا البحث – الحديث عن هذا العصر من الوجهة الأدبية العامة ، وإنما ما يعنيني فيه ما ذاع وانتشر من المعارضات والمحاكاة والسير على المنوال السابقين "وإذا كان هذا العصر هو عصر المدائح النبوية في البديعيات فإنه كذلك عصر المعارضات"
وإذا كان صفي الدين الحلي من السابقين في البديعيات فهو من السابقين في المعارضات ، ومعارضاته أشهر من أن تذكر ، ومن ذلك معارضته لابن المعتز ، وللمتنبي حيث عارض قصيدته التي يقول أبو الطيب فيها :
بأبي الشموس الجانحات غواربا اللابسات من الحرير جلاببا
الـمنـهـبـات عـقـولـنـا وقـلـوبـنا وجـناتـهن النـاهبات النـاهبا
فنظم صفي الدين الحلي في معارضتها قصيدة مطلعها :
أسـبلن مـن فوق النـهود ذوائـبا فجعلن حبات القلوب ذوائبا
وجلون من صبح الوجوه أشعة غادرن فود الليل منها شائبا
وقد كثرت معارضات شعراء هذا العصر للمدائح النبوية ومن ذلك معارضة ابن نباته للامية كعب ابن زهير "بانت سعاد" فقال ابن نباته :
ما الطرف بعدكم بالنوم مكحول وهذا وكم بيننا من ربعكم ميل
كما كثرت معارضات شعراء هذا العصر لمزامنيهم ، ومن ذلك معارضة برهان الدين القيراطي وابن حجة الحموي لتائية ابن نباته فقد قال ابن نباته قصيدة مطلعها :
قضى وما قضيت منكم لبانات متيم عبثت فيه الصبابات
فقال برهان الدين القيراطي :
ما لابتداء صباباتي نهايات يا غاية مالعشقي فيه غايات
وقال ابن حجة الحموي قصيدته التي مطلعها :
لعجبه ولذيل الهجر شمرات وللقلوب من الأجفان كسرات


المعارضات في العصر الحديث :-
راجت المعارضات رواجاً كثيراً في هذا العصر وعلق بها فحول الشعراء أمثال البارودي,وأحمد شوقي و إسماعيل صبري وابن عثيمين ,وابن بليهد وكثيرون غيرهم ...
حتى قال الدكتور محمد بن سعد بن حسين (( وصارت المعارضة فنا شعرياً يتبارى فيه النابهون ، ويتسابق في ميدانه المجلون , لأنهم يرونه معرضاً لقدراتهم ، وشاهداً على غزارة ينابيع ملكاتهم ، وأسطع برهان على تفوقهم وسبقهم ،وهل أدل على ذلك من أن يتنافس الفحول في ميدانها وغرس أرواح أفكارهم على شطآنها ؟ ينافسون بباسقها عرائس السابقين ويلقحون بها ملكات اللاحقين ،تخصب بها رياض الأدب ، وتفيض بمائها حياض الطلب ، فأبياتها فرائد ، وقصائدها قلائد .. جاءت بمثل روائع شوقي و البارودي وابن عثيمين وأمثال هؤلاء كثير ...
وسأقف أمام أربعة من أعلام هذا العصر وهم: البارودي ، أحمد شوقي، إسماعيل صبري
وابن عثيمين ، ــ مشيرة – مجرد الإشارة إلى أشهر معارضاتهم .... فمن أروع معارضات البارودي قصيدته التي عارض فيها رائية أبي فراس الحمداني والتي تعد واحدة من روائع رومياته ومطلعها :-
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر آما للهوى نهي عليك ولا أمر
فقال البارودي :-
طربت وعادني المخيلة والسكر ... وأصبحت لا يلوي بشيمتي الزجر
ويبدو أن البارودي لا يكاد يعجب بقصيدة ما ، إلاِّ وعارضها أو حكاها فمن ذلك أيضاً معارضته لبائية الشريف الرضي المشهورة التي يقول فيها :-
لغير العلى مني القامى والتجنب ............ ولولا العلا ما كنت في الحب أرغب
إذا الله لم يعذرك فيما ترومــــــه ............. فما الناس إلاِّ عاذل أو مؤنـــــــب
فإن تك سنّي ما تطاول باعهــــا ............. فلي من وراء المجد قلب مدرب
فقال البارودي قصيدته التي منها :-
سواي بتحنان الأغاريد يطــــرب ............. وغيري باللذات يلهو ويلعـــــب
وما أنا ممن تأسر الخمر لبــــــه ............. ويملك سمعيه اليراع المثقــــــب
وقال البارودي معارضاً لأبي نواس القائل :-
أجارة بيتنا أبوك غيــــــــــــــور .............. وميسور ما يرجى لديك عسيــر

فعارضه البارودي قائلاً :-
أبـــــــــــــــــي الشــــــــــــــــوق إلاَّ أن يحـــــــــــــــــنَّ ضمير
وكـــــــــل مشـــــــوقٍ بالحنـــين جديـــــر
وهــــــل يستطيـــــــــــــع المـــرء كــــتــمـان لوعــــــــــــة
ينمُّ عليـــــــــــــــها مدمـــــــــع و زفيــــــر ..
امَّـــــا عندما نتوقف عند الشاعر أحمد شوقي .. فإن وقفتــــــنا ستكون طويلة نوعاً ما .. ولكن فيما بعد .. فمن أروع معارضات أحمد شوقي معارضته لنونية ابن زيدون المشهورة التي يقول مطلعها :-
أضحـــــى التنائي بديلاً من تدانيـــــــنا ............... وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتــــــم وبنــــــا فما ابتلت جوانحنـــا ............... شوقاً إليكم ولا جفت ما قينـا
نكـــــــــاد حيــــن تناجيكم ضمائرنـا ................ يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
فعـــــارضهــــــــــــا شوقــــــي بقــــــــوله :-
يــــــــــــــــــا نائــــــــــــــح الطلــــح أشباه عوادينــــــــا
نشجـــــــو لواديــــــــــك أم نأسى لوادينــــــــا
ويقول أبو تمام في قصيدته المشهورة يوم فتح عمورية :-
الســــــيف أصـــدق أنبــاء من الكتب .......... في حدّه الحد بين الجد واللعب
فيقوم شوقي ينظم قصيدته التي شاكل فيها أبو تمام مشاكله تامة حيث قال :-
الله أكبــــر كم فـــي الفتح من عجب .......... يا خالد الترك جدد خالد العرب
ويعـــــــارض ـــ أيضاً شوقي بعض الموشحات الأندلسية ـــ كموشحة لسان الدين بن الخطيب القائل فيها :-
جـــــادك الغيــــث إذا الغيث همى ............ يــــــا زمـــــان الوصــــل بالأندلــس
لــــــــــم يكن وصلك إلاَّ حلمــــــا............ في الكرى أو خلسة المختلــــــــس


فقال شوقي :-
مـــن لنضــــــــو يـــتــنــزى ألما ........... بــــــــــرح الشـــــــوق بـــه الفلس
حـــــنَّ للبان وناجــــــي العلمــا ........... أين شرق الأرض من أندلــــــــس
ــــ ويُخيل لي ـــ أن شوقي مغرم بالأندلــــس و شعرائها فها هو يعارض نونية أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلــــــــــس حيث يقول(أبو البقاء ..)
لكـــــــل شــــــــئ إذاما تم نقصـــــــان ........ فـــلا يـغـر بطيــب العـــيش إنســــان
هـــي الأمـور كمـا شاهدتها دولٌ .............. من سرَّه زمن ســـــاء ته أزمــــان
وهــــذه الدار لا تبقى على أحــد .............. ولا يدوم على حال لها شــــــــــان
فينظم شوقي قصيدة يتألم فيها مما أصاب دمشق الفيحاء من ظلم وعنت الفرنسيين بعد الحرب العالمية الأولى فيقول :-
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا ............ مشت على الرسم أحداث و أزمان
بنو أمية للأنباء ما فتـــــــحوا ............ وللأحاديث ما ســــادوا ومــــــا دانوا
كانوا ملوكاً سرير الشرق تحتهم .............. فهل سألت سرير الغرب ما كانوا
... وعند هذا الحد نطوي صفحة المعارضات عند الشاعر أحمد شوقي وننتقل إلى الشاعر
اسماعيل صبري الذي عارض المتنبي في قصيدته الدائية في مدح ابن العميد حيث
يقول أبو الطيب :-
باد هواك صبرت أم لم تصبرا 0000000000 وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
فقال إسماعيل صبري :-
البدر عن وجه البشاشة أسفر ......................... والجو دق نسيمه وتعطرا
شغلت محاسن فضله وخصاله ....................... ( أسبى مهاة للقلوب وجؤذرا )
ولإسماعيل صبري - أيضا - نونية مشهورة يقول فيها :-
لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني .......إذا ونى يوم تحصي العلا واني
ولست إن لم تؤيدني فراعنة ................ منكم بفرعون عالي العرش والشأن

فيعارضه خليل مطران بنونية يقول فيها
أكبر برمسيس ميتا لا يلم به ..................موت وأكبر به حيا إلى الأن
لولا تماثيله الأخرى محطمة ..................ما جال في ظن فان أنه فان
وننتقل الآن إلى وقفه أخيرة مع الشعر السعودي
ابن عثيمين الذي عارض بائية أبي تمام التي يقول في مطلعها
السيف أصدق أنباء من الكتب ...................في حده الحد بين الجد واللعب
فقال ابن عثيمين معارضا :-
العز و المجد في الهندية القضب ............لا في الرسائل والتنميق والخطب
تقضي المواضي فيمضي حكمها أمما....... إن خالج الشك رأي الحاذق الأرب
وليس يبني العلا إلا ندى ووغى .............. هما المعارج للأسنى من الرتب
وأخيرا ...... لو ذهبنا نتتبع المعارضات في شعر هذا العصر لطال بنا الحديث ، ذلك أنهم جميعا طرقوا هذا الميدان وإن اختلفوا فيه كثرة وقلة ....
والآن ننتقل إلى الجزء الرئيس من بحثي وهو الوقوف أمام نونية ابن زيدون الشهيرة ، ومعارضة الشعراء لها على مر العصور 0














الفصل الثالث

( معارضة الشعراء لقصيدة أبن زيدون )




قطوف من (( أضحى التنائي))

أضْحَى التّنائي بَديلاً مِنْ تَدانِينَا،" "وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا
ألاّ وَقَد حانَ صُبحُ البَينِ، صَبّحَنا" "حَيْنٌ، فَقَامَ بِنَا للحَيْنِ نَاعيِنَا
مَنْ مبلغُ الملبسِينا، بانتزاحِهمُ،" "حُزْناً، معَ الدهرِ لا يبلى ويُبْلينَا
أن الزمان الذي مازال َ يُضْحِكنا ،" " أُنساً بقربهمُ ، قد عاد يبكينا َ
غِيظَ العِدا مِنْ تَساقِينا الهوَى فدعَوْا" "بِأنْ نَغَصَّ، فَقالَ الدّهرً آمينَا

"أضحى التنائي" قصيدة مليئة بالشجن والحنين والبكاء والأنين والعتب والوجد والشكوى ... والألم والذكريات .. نعم هذا ابن زيدون .. وهذه "درته" لوحات من الخيال والجمال .. رسمت أروع أنواع الوفاء رغم تصرم حبال المودة .. وتعالي أصوات اليأس القانط من العودة .. .. فمن هو ابن زيدون هذا .ابن زيدون هوأبو الوليد أحمد بن عبدالله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي ..تلقى العلم على أبيه ، وكان أبوه فقيهاً مشهوراً .. ولما توفي أبوه كفله جده لأمه القاضي أبو بكر حمد القيسي فراح ينهل قيم الحياة ...وصنوف المعرفة .. لقد كان شاعراً نابهاً بين كوكبة شعراء الأندلس جمع الرقة إلى الجزالة ، وعذوبة الجرس إلى الفخامة وشد الأسر ... تشهد قصائده في الحب والحنين إلى ملاعب الشباب – والشكوى من وطأة الدهر – على إيقاعات شعره الوجدانية فهو بالفعل كالبحتري في ديباجته المشرقة وكلماته المتناغمة وكالمتنبي في متانة سبكه وزخم لفظه وقوة وقعه .....ولعل أروع مافي ديوان أبن زيدون قصة هذا الهوى الصارخ ...بينه وبين ولادة ابنه الخليفة المكتفي .. تلك القصة التي تألقت زمناً ثم باتت أثراً بعد عين ، ولم يبق منها في حياة الشاعر إلا الذكريات تبعث في جوانحه الحرقة .. فيسترجعها بألم وغصة .. حتى توفي في إشبيلية سنة 463هـ تاركاً لنا تلك النونية .... شهادة حب ...وذكرى ووفاء .. لانظير له ..ودرة من درر الشعر العربي التي انبرى الشعراء لتقليدها ومحاذاتها ...لتزخر كتب الآدب بالعديد من المعارضات لهذه النونية الرائعة .
ويأتي على رأس من عارض هذه القصيدة .. أمير الشعراء أحمد شوقي .. عندما قال :
يا نائح ( الطلح ) أشباه عوادينا نشجى لواديك أم نأسى لوادينا ؟
ماذا تقص علينا غير أن يــدا قصت جناحك جالت فى حواشينا
رمى بنا البين أيكا غير سامرنا أخـا الغريب : وظلا غير نادينا
كل رمته النوى ريش الفراق لنا سهماً ، وسل عليك البين سكينا
إذا دعا الشوق لم نبرح بمنصدع مـن الجناحين عي لا يلبينــا
فإن يك الجنس يابن الطلح فرقنا إن المصائب يجمعن المصابينـا

وسنعرض لهذه القصيدة كاملة في فصل لاحق إن شاء الله .. لذلك اكتفينا بهذا القدر منها ..
وممن عارض هذه القصيدة أيضاً الشاعر الكبير .. حافظ ابراهيم
عندما عارضها بمقطوعة له .. بلغت القمة في الروعة .. عندما تحدث عن هذه الأمة..كيف كانت .. وكيف صارت ؟!!! يقول :

لَم يَبْقَ شَىء ٌ مِن الدُّنْيا بأَيْدِينا إلاّ بَقِيّة ُ دَمْعٍ في مآقِينَا
كنّا قِلادَة َ جِيدِ الدَّهْرِ فانفَرَطَتْ وفي يَمينِ العُلا كنّا رَياحِينا
كانت مَنازِلُنا في العِزِّ شامِخة ً لا تُشْرِقُ الشَّمسُ إلاّ في مَغانينا
وكان أَقْصَى مُنَى نَهْرِ المَجَرَّة لو مِن مائِه مُزِجَتْ أَقْداحُ ساقِينا
والشُهْب لو أنّها كانت مُسَخرَّة ً لِرَجْمِ من كانَ يَبْدُو مِن أَعادِينا
فلَم نَزَلْ وصُرُوفُ الدَّهرِ تَرْمُقُنا شَزْراً وتَخدَعُنا الدّنيا وتُلْهينا
حتى غَدَوْنا ولا جاهٌ ولا نَشَبٌ ولا صديقٌ ولا خِلٌّ يُواسِينا

ويبدو أن كل من عانى من الهجر والسلوان .. لاذ بنونية ابن زيدون..ينظم على منوالها .. لعل نفثة بين الجوانح تخرج ..أوكمداً في الفؤاد يذوب ... فها هو جمال الدين ابن نباته
يشكو ويقول :
أعدى بغيركُم دمع المحبينا حتى تلّون يوم البين تلوينا
يا هاجرين بلا ذنبٍ سوى شجنٍ بين الجوانح لا ينفك يشجينا
لا تسألوا ما جرى من فيض أدمعنا فيكم وما قد جرى من غدركم فينا
أما الرجاء فما راعيتموه لقد غرّت بدوركمُ آمال سارينا
كيف السبيل الى إنصاف قصتنا إذ خصمنا في سبيل الحكم قاضينا
يجني علينا ويجني للأسى ثمراً شتان ما بين جانيكم وجانينا
كونوا كما شئتموا نأياً ومقترباً إن لم تكونوا من الدنيا كما شينا
ليقف كذلك الشاعر محمد مصطفى الماحي ... يشكو مما شكا .. منه ابن نباته فيقول :

ريحانة القلب هل وعد نسرِبه فقد تعذب بالهجران صادينا
نأيت عنا فلا والله ماهدأت نفس ولا رقأت عين لباكينا

ليأتي الشاعر السعودي حسن عبدالله القرشي متطلعاً الى امسٍ جميل منصرم ... شاكياً من حاضر مرير متصل قائلا

أمس ألتفت لماضينا فأرقني ماضم من زهرات الأمس ماضينا
أفلاذ قلبي فيه بل عصارة ما أهدته روحي التي ذابت تلاحينا
كم كنت حانية بالأمس آسيةً مني الجراح فعاد اليوم يشقينا
ياليتني ماعرفت الأمس ما رمقت عيناي عيناك ماكانت ليالينا
فالأمس قد عاد من بعد الأسى غصصاً والأمس عاد ولم ترجع أمانينا!


وإن أشتكى القرشي من أمـس ٍ ضاع وانتهى ..فإن شاعرنا الآخر ... يشكو ضياع ليالي الهنا .. واستحالتها أثراً بعد عين ....يقول الشاعر السعودي حسين سراج :

أمست ليالي الهنا حلماً تناجينا وأصبحت ذكريات الحب تشقينا
كنا خليلين في دنيا الغرام وقد أضفت علينا من النعمى أمانينا
نسقي حميا الهوى في الكأس مترعة ممزوجة بحنان كان يحمينا
وللصبا في قشيب البرد روعته وللعيون نداء كان يغرينا






أما الشاعر الكبير عبدالله الفيصل فله فلسفته في الحب والتي يقول فيها :

أنا وإياكم نجمان في فلك يديره الحب في آفاق ماضينا

مهما اختصمنا فإن الشوق يجمعنا أو افترقنا فإن الحب يضنينا

وإن كان الشعراء قد عارضوا رائعة ابن زيدون هذه بقصائد على منوالها في الوزن والقافية فإن هناك من دخل على أعجاز هذه النونية حيث عارضها في موشحة رائعة اللحن والرصف والوصف ....متكاملة بمعاني الهيام والغرام ... إنه صدر الدين بن الوكيل " سنة 716هـ "

غدا منادينا محكماً فينا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
بحر الهوى يغرق من فيه جهده عامْ
وناره تحرق ْ من هم َّ أو قد هام ْ
وربما يقلق ْ فتى عليه نام ْ
قد غير الآجسام وصبر الأيام سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا
يا صاحب النجوى قف واستمع مني
إياك أن تهوى إن الهوى يضني
لا تقرب البلوى اسمع وقل عني
بحاره مره خضنا على غره حينا فقام بها للحين ناعينا
من هام بالغيد لاقى بهم هما
بذلت مجهودي لأحور ألمى
يهم بالجود ورد ما هما
وعندما قد جاد بالوصل أو قد كاد أضحى التنائي بديلا من تدانينا
ياجيرة بانت عن مغرم صب ِ
لعهده خانت من غير ماذنب ِ
ماهكذا كانت عوائد العرب ِ
لاتحسبوا البعد يغير العهدا إذ طالما غيّر النأي المحبينا
يانازلاً بالبان بالشفع والوترِ
والنمل والفرقان والليل إذا يسرِ
وسورة الرحمن والنحل والحجر ِ
هل حل في الأديان أن يقتل الظمآن من كان صرف الهوى والود يسقينا
وهكذا ....وقبل أن نطوى الصحاف بقي لنا وقفة أخيرة مع بعض المتأخرين ..ممن شغفوا بهذه القصيدة وتغنوا بها وساروا على منوالها يقول أحدهم :
ياروضة الأنس في أفياء خلتنا ومشرق السعد في دنيا أمانينا
وياأريج الخزامى في مرابعنا أهدى إلى الروح ريحانا ونسرينا

ليقف الآخر قائلاً :

نطوي الصحاف وليل البعد يطوينا ونسكت الدمع والساعات تغرينا
ونرقب الأيام لكنا على وجل أن الليالي بكأس البين تسقينا
أصبر النفس حيناً ثم أزجرها ويفصح الدمع حيناً في مآقينا
هي الحياة دروب لا بقاء لها هي الحياة نعمرها وتفنينا

نعم .. لقد حان لنا أن نقف مع هذه القصيدة وقفة المحلل الناقد .. بعد أن وقفنا منها وقفة المستمع القارئ ...





























الفصل الرابع




(ابن زيدون وشوقي .......... ووقفة تحليلية)














أضحى التنائي بديلاً ....

القصيدة الغزلية التي بوّأت ابن زيدون زعامة فن الغزل في عهده والتي نظمها باكياً عهد الهوى الذي هوى بعد أن صرمت ولادة ابنة المستكفي حبل وصاله . وفي هذه المطولة يذكر الشاعر محبوبته بأيام الحب الخوالي ويسألها الوفاء .

أضْحَى التّنائي بَديلاً مِنْ تَدانِينَا،" "وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا
ألاّ وَقَد حانَ صُبحُ البَينِ، صَبّحَنا" "حَيْنٌ، فَقَامَ بِنَا للحَيْنِ نَاعيِنَا
مَنْ مبلغُ الملبسِينا، بانتزاحِهمُ،" "حُزْناً، معَ الدهرِ لا يبلى ويُبْلينَا
أن الزمان الذي مازال َ يُضْحِكنا ،" " أُنساً بقربهمُ ، قد عاد يبكينا َ
غِيظَ العِدا مِنْ تَساقِينا الهوَى فدعَوْا" "بِأنْ نَغَصَّ، فَقالَ الدّهرًُ آمينَا
فَانحَلّ ما كانَ مَعقُوداً بأَنْفُسِنَا؛" "وَانْبَتّ ما كانَ مَوْصُولاً بأيْدِينَا
وَقَدْ نَكُونُ، وَمَا يُخشَى تَفَرّقُنا،" "فاليومَ نحنُ، ومَا يُرْجى تَلاقينَا
يا ليتَ شعرِي، ولم نُعتِبْ أعاديَكم،" "هَلْ نَالَ حَظّاً منَ العُتبَى أعادينَا
لم نعتقدْ بعدكمْ إلاّ الوفاء لكُمْ" "رَأياً، ولَمْ نَتَقلّدْ غَيرَهُ دِينَا
ما حقّنا أن تُقِرّوا عينَ ذي حَسَدٍ" "بِنا، ولا أن تَسُرّوا كاشِحاً فِينَا
كُنّا نرَى اليَأسَ تُسْلِينا عَوَارِضُه،" "وَقَدْ يَئِسْنَا فَمَا لليأسِ يُغْرِينَا
بِنْتُم وَبِنّا، فَما ابتَلّتْ جَوَانِحُنَا" "شَوْقاً إلَيكُمْ، وَلا جَفّتْ مآقِينَا
نَكادُ، حِينَ تُنَاجِيكُمْ ضَمائرُنا،" "يَقضي علَينا الأسَى لَوْلا تأسّينَا
حَالَتْ لِفقدِكُمُ أيّامُنا، فغَدَتْ" "سُوداً، وكانتْ بكُمْ بِيضاً لَيَالِينَا
إذْ جانِبُ العَيشِ طَلْقٌ من تألُّفِنا؛" "وَمَرْبَعُ اللّهْوِ صَافٍ مِنْ تَصَافِينَا
وَإذْ هَصَرْنَا فُنُونَ الوَصْلِ دانية" " ًقِطَافُها، فَجَنَيْنَا مِنْهُ ما شِينَا
ليُسقَ عَهدُكُمُ عَهدُ السّرُورِ فَما" "كُنْتُمْ لأروَاحِنَ****ا إلاّ رَياحينَ****ا
لا تَحْسَبُوا نَأيَكُمْ عَنّا يغيّرُنا؛" "أنْ طالَما غَيّرَ النّأيُ المُحِبّينَا!
وَاللهِ مَا طَلَبَتْ أهْواؤنَا بَدَلاً" "مِنْكُمْ، وَلا انصرَفتْ عنكمْ أمانينَا
يا سارِيَ البَرْقِ غادِ القصرَ وَاسقِ به" "مَن كانَ صِرْف الهَوى وَالوُدَّ يَسقينَا
وَاسألْ هُنالِكَ: هَلْ عَنّى تَذكُّرُنا" "إلفاً، تذكُّرُهُ أمسَى يعنّينَا؟
وَيَا نسيمَ الصَّبَا بلّغْ تحيّتَنَا" "مَنْ لَوْ على البُعْدِ حَيّا كان يحيِينا
فهلْ أرى الدّهرَ يقضينا مساعفَة ً" "مِنْهُ، وإنْ لم يكُنْ غبّاً تقاضِينَا
رَبيبُ مُلكٍ، كَأنّ اللَّهَ أنْشَأهُ" "مِسكاً، وَقَدّرَ إنشاءَ الوَرَى طِينَا
أوْ صَاغَهُ وَرِقاً مَحْضاً، وَتَوجهُ" "مِنْ نَاصِعِ التّبرِ إبْداعاً وتَحسِينَا
إذَا تَأوّدَ آدَتْهُ، رَفاهِيّة ً،" "تُومُ العُقُودِ، وَأدمتَهُ البُرَى لِينَا
كانتْ لَهُ الشّمسُ ظئراً في أكِلّته،" "بَلْ ما تَجَلّى لها إلاّ أحايِينَا
كأنّما أثبتَتْ، في صَحنِ وجنتِهِ،" "زُهْرُ الكَوَاكِبِ تَعوِيذاً وَتَزَيِينَا
ما ضَرّ أنْ لمْ نَكُنْ أكفاءه شرَفاً،" "وَفي المَوَدّة ِ كافٍ مِنْ تَكَافِينَا؟
يا رَوْضَة ً طالَما أجْنَتْ لَوَاحِظَنَا" "وَرْداً، جَلاهُ الصِّبا غضّاً، وَنَسْرِينَا
ويَا حياة ً تملّيْنَا، بزهرَتِهَا،" "مُنى ً ضروبَاً، ولذّاتٍ أفانينَا
ويَا نعِيماً خطرْنَا، مِنْ غَضارَتِهِ،" "في وَشْيِ نُعْمَى ، سحَبنا ذَيلَه حينَا
لَسنا نُسَمّيكِ إجْلالاً وَتَكْرِمَة ؛" "وَقَدْرُكِ المُعْتَلي عَنْ ذاك يُغْنِينَا
إذا انفرَدَتِ وما شُورِكتِ في صِفَة ،" "فحسبُنا الوَصْفُ إيضَاحاً وتبْيينَا
يا جنّة َ الخلدِ أُبدِنْنا، بسدرَتِها" "والكوثرِ العذبِ، زقّوماً وغسلينَا
كأنّنَا لم نبِتْ، والوصلُ ثالثُنَا،" "وَالسّعدُ قَدْ غَضَّ من أجفانِ وَاشينَا
إنْ كان قد عزّ في الدّنيا اللّقاءُ بكمْ" "في مَوْقِفِ الحَشرِ نَلقاكُمْ وَتَلْقُونَا
سِرّانِ في خاطِرِ الظّلماءِ يَكتُمُنا،" "حتى يكادَ لسانُ الصّبحِ يفشينَا
لا غَرْوَ في أنْ ذكرْنا الحزْنَ حينَ نهتْ" "عنهُ النُّهَى ، وَتركْنا الصّبْرَ ناسِينَا
إنّا قرَأنا الأسَى ، يوْمَ النّوى ، سُورَاً" "مَكتوبَة ً، وَأخَذْنَا الصّبرَ تَلْقِينَا
أمّا هواكِ، فلمْ نعدِلْ بمَنْهَلِهِ" "شُرْباً وَإنْ كانَ يُرْوِينَا فيُظمِينَا
لمْ نَجْفُ أفقَ جمالٍ أنتِ كوكبُهُ" "سالِينَ عنهُ، وَلم نهجُرْهُ قالِينَا
وَلا اخْتِياراً تَجَنّبْناهُ عَنْ كَثَبٍ،" "لكنْ عَدَتْنَا، على كُرْهٍ، عَوَادِينَا
نأسَى عَليكِ إذا حُثّتْ، مُشَعْشَعَة ً،" "فِينا الشَّمُولُ، وغنَّانَا مُغنّينَا
لا أكْؤسُ الرّاحِ تُبدي من شمائِلِنَا" "سِيّما ارْتياحٍ، وَلا الأوْتارُ تُلْهِينَا
دومي على العهدِ، ما دُمنا، مُحافِظة ً،" "فالحرُّ مَنْ دانَ إنْصافاً كما دينَا
فَما استعضْنا خَليلاً منكِ يحبسُنا" "وَلا استفدْنا حبِيباً عنكِ يثنينَا
وَلَوْ صبَا نحوَنَا، من عُلوِ مطلعه،" "بدرُ الدُّجى لم يكنْ حاشاكِ يصبِينَا
أبْكي وَفاءً، وَإنْ لم تَبْذُلي صِلَة ً،" "فَالطّيفُ يُقْنِعُنَا، وَالذّكرُ يَكفِينَا
وَفي الجَوَابِ مَتَاعٌ، إنْ شَفَعتِ بهِ" "بيضَ الأيادي، التي ما زِلتِ تُولينَا
لكِ منّا سَلامُ اللَّهِ ما بَقِيَتْ" "صَبَابَة ٌ بِكِ نُخْفِيهَا، فَتَخْفِينَا















إن كان الشاعر القديم .. يقف على أطلال من يحب .. ويذكر أيام اللهو والصبا ويبكي ديار من يعشق ومرابعهم .. كمثل امرئ القيس ..
قفا نبكي كم ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
بل اسمع لقول المتنبي :
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
فإن شاعرنا – ابن زيدون – هنا .. يبكي مما يبكون منه .. ويشكو مما منه يشكون .. إلا أنه لا يبكي طللاً ماديا محسوساً بل يبكي أطلال حب مضى .. وذكريات زمن ٍ ولى وانقضى ...

أضْحَى التّنائي بَديلاً مِنْ تَدانِينَا،" "وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا

أن الزمان الذي مازال َ يُضْحِكنا ،" " أُنساً بقربهمُ ، قد عاد يبكينا َ
الشاعر هنا يبكي زمناً ضاع وانتهى .... لذلك قال:
انحل ماكان معقوداً بأنفسنا وأنبت ماكان موصولاً بأيدينا ..
ولقد وفق الشاعر في اختياره لهذه الكلمات للتعبير عما يحسه فقال :
انحل ّ .... لما فيه عقده .. واختار انبت َّ .. أي وأنقطع لما فيه اتصال وتلاحم ... ليدل على مدى الفقد والمعاناة التي يلاقيها ... فهو لا يزال دائم الذكر لتلك الأيام .. ولذلك العهد ..
وقد نكون وما يخشى تفرقنا واليوم نحن وما يرجى تلاقينا
إذن الشاعر هنا يعود بنا إلى التقليد الشعري القديم ... والذي علق بذاكرته لاسيما وأنه ليس ببعيد العهد عن هذا التقليد الذي يتخذ من الوقوف على الأطلال منهجاً وأساساً لابد منه ..هذا أول ملمح نلمحه على قصيدة ابن زيدون وإن كان ملمحاً قد ألفناه ُ ... ولكن عند ابن زيدون .. كان طللاً روحياً وهذا هو الفرق ...............
نلمح أيضاً أن الشاعر دائم المقارنة بين الماضي والحاضر ..
وقد نكون وما يخشى تفرقنا فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا..
حالت لفقدكم أيامنا فعدت سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا ..
بل انه ليرسم لنا الماضي ويصوره أجمل تصوير فيقول :
إن جانب العيش طلق من تألفنا ومربع اللهو صاف من تصافينا
وإذا هصرنا فنون الوصل دانية قطافها فجنينا منه ماشيا

وهذا يدل على استغراق الشاعر في الماضي لينسى واقعه المرير ..الذي يعيشه والذي يضطره إلى القسم بأنه باق على العهد والوفاء ..
والله ماطلبت أهواؤنا بدلاً منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
ومما نلمحه في هذا النص أيضاً بعض الألفاظ التي لا نعدها من ألفاظ الشاعر الخاصة ..... وليست ملكاً لمعجمه الشعري بل هي ألفاظ سمعناها ..... ورددتها ألسن الشعراء كثيراً ... وهي
ما نسميها ( بالألفاظ المصكوكة ..) مثل قوله:
ياليت شعري ولم نعتب أعاديكم هل نال حظاً من العتبى أعادينا
ولأنه لفظ قد طرقه الكثيرون من أمثال جميل بن معمر الذي يقول في قصيدة له :
آلا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادي القرى إني إذن لسعيد
ومن أمثال مالك بن الريب الذي يقول :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادي الغضا أزجي القلاص النواجيا ..
لذلك فهو لفظ مصكوك ليس قصراً على الشاعر .. ومن تلك الألفاظ أيضاً ..قوله :
يا ساري البرق ... ويا نسيم الصبا ..فساري البرق ونسيم الصبا من الألفاظ التي شاعت وانتشرت في قصائد الشعراء وطرقها الكثيرون منهم عندما يشكون الهوى والصب ّ ... كقول عروة بن حزام العذري :
( فو الله ما أنساك ما هبت الصبا )
وطرقها آخرون عندما يذكرون الماضي ويدعون لمكان الأحبة بالسقيا والرخاء
كمثل قول البحتري :
كأن الصبا توفي نذوراً إذا انبرت تراوحه أذيالها وتباكره ...
وقول علي بن الجهم :
وسارية ترتاد أرضاً تجودها شغلت بها عيناً قليل هجودها ...
بل إن هناك معاني طرقها كثير من الشعراء كمثل الشكوى من الدهر وعواديه ... ومصائبه كقول المتنبي :
أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف وصلت أنت من الزحام


طرقها ورددها شاعرنا أيضاً فهو لا يقل شكوى من هذا الدهر ... فها هو يقول :
من مبلغ الملبينا بانتزاحهم حزناً مع الدهر لا يبلى ويبلينا
إن الزمان الذي مازال يضحكنا أنساً بقربهم قد عاد يبكينا
غيض العدا من تساقينا الهوى فدعو بأن نغص فقال الدهر أمينا ..
ومما نلاحظ أيضاً على هذا النص هيمنة التشبيه... وولع الشاعر بوصف محبوبته وتشبيهها بكل جميل ... بالورد تارة .. وبالروض تارة ... وبالمسك تارة ... بل بالحياة كلها ... فهو من البيت الرابع والعشرين وحتى البيت الثالث والثلاثين ... وهو يصف محبوبته .. ويستخدم اسلوب التشبيه في ذلك اسمع مثلاً وهو يقول :
ربيب ملك كأن الله أنشأه مسكاً كانت له الشمس ظئراً في أكلته
ياروضة طالما أجنت لواحظنا ورداً جلاه الصبا غضّا ونسرينا
ومثل قوله:
( ويا حياة تملينا بزهرتها , ويا نعيماً ، يا جنة الخلد )
يتضح لنا هيمنة عنصر التشبيه على القصيدة وضوحا تاما وهذا ليس بمغترب ٍ على شاعر كابن زيدون عاش في الأندلس ... أرض الخضرة والرخاء .. وشرب من صفاء طبيعتها ... فأكسبته هذا الوصف الرائع الشفاف ..
ومما يتميز به هذا النص أيضاً استلهام النص القرآني وهذا واضح في قوله :
يا جنة الخلد أبدلنا بسدرتها والكوثر العذب زقوماً وغسلينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء بكم في موقف الحشر نلقاكم وتلقونا
ومما نلحظه أيضاً ذكر الشاعر للخمر في قوله :
لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا سما ارتياح , وقوله : (نأسى عليك إذا حثت عليك مشعشعة
فينا الشمول ..) , وقوله : عليك منا سلام السر مابقيت .. صبابة ..)





وذكر الخمر في الشعر ليس جديداً ... بل منذ العصر الجاهلي كان الشاعر يتغنى بالخمر حتى تحول في العصر العباسي إلى فن عرف بـ ( الخمريات ..)
وهناك ملمح أسلوبي واضح في قصيدة ابن زيدون هذه ... وهو استخدام " نون العظمة " في الحديث عن نفسه وعن ولادة.. بل في القصيدة كلها ... اسمع له وهو يقول :
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم .. ، ماحقنا أن تقرّوا عين ذي حسد ٍ بنا ..
والله ماطلبت أهواؤنا ... ، تناجيكم ضمائرنا .. ،بنتم وبنا .. ألخ ..
ولهذا الاستخدام عدة تفسيرات منها ماذكره بعض النقاد:
1. أنه أراد أن يكني بذلك عن محبوبته حتى أنه بالغ في تكنيتها فاستخدم ضمير الجمع .. أو نون العظمة ..
2. وقال : ربما أراد أن يحول علاقته الخاصة بولادة من علاقة إنسان بامرأة واحدة إلى علاقة عامة يعانيها كل عاشق إذن هو أراد أن يكسب علاقته الشمول والعمومية وأن الخطاب يوجد لكل عاشق ... ولكل محب ... إذن أراد أن يخرجه من حالته الفردية إلى حالة عامة تصيب كل العشاق ....
وأرى – أنا – إن سمح لي قرائي .. أن استخدامه لنون العظمة إنما كان لمكانة من يحدثها ... فنحن لاننسى أن ولادة هي بنت الخليفة المستكفي .. وأيضا ً ابن زيدون كان وزيراً .. حتى أنه لقب بذي الوزارتين ... فاستخدام نون العظمة هنا جاء ليرضي غرورا ً داخل قلب ولادة ويكسر حدة هجرها ... وجاء أيضاً ليرضي غروراً داخل ابن زيدون صاحب الوزارتين !!! ...
أما فيما يتعلق بالمعجم الشعري الخاص بالشعر .. فإنه معجم الشاعر القديم ... معجم الشاعر الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي .. وذلك المعجم الذي يعتمد على جزالة اللفظ وفخامة الجرس ...
"أكؤس الراح مربع اللهو ، ساري البرق مشعشعة ، صبح البين إذا تأودَّ ،أودته ُ،ظئراً في أكلته
وأيضاً استخدامه لبعض الألفاظ التي ماهي إلا عناصر الطبيعة مثل .. الشمس ، الروض ، بدر الدجى دهر الكواكب .. الياسمين ، الورد ، الرياحين ..
وهذا طبيعي من شاعر عاش الطبيعة الجميلة والخلابة في الأندلس ..
وأخر ملمح نستطيع أن نضع أيدينا عليه في هذا النص هو مايتصل بالروي والقافية .. فالشاعر هنا استخدم النون المطلقة أغانينا ، رياحينا ، تلاقينا ، تجافينا ، يعنينا .. ليالينا
والنون حرف يوحي بالحزن ... لاسيما لوكان مطلقا – فإنه يدل على حزن مطلق .. وشكوى دائمة ... وقصة حب لا تنتهي مع الأيام وهذا فعلاً مااستشعرناه في هذا النص من أن حب ابن زيدون لولادة حب لاينتهي وشكواه من هجرها شكوى لاتنقطع ...يرددها .. ولازال كل من عانى الآم الحب أو أوجاع الفرقة والغربة ..
لما نفي الشاعر أحمد شوقي إلى الأندلس قال
يا نائــح الطلـحِ أشـــباهٌ عــواديــنا نشْجى لـواديــــك أم نأســى لــواديـنا
مـاذا تـقـصُّ عـلـيــنـا غيرَ أنّ يــداً قصـَّـتَ جــنــاحك جالت في حــواشينا
رمى بـنـا البـيـن أيـكاً غير سامِرنا أخا الغــــريـــب وظـــــلاًّ غيرَ نادينا
كلٌّ رمـتــهُ الـنَّـوى ريشَ الفِراقُ لنا سهماً وســــلّ عـليــك البـيـنُ سكــينا
إذا دعا الشوق لم نبرح بمنــصـــدع من الجــنــاحــيـــن عـيٍّ لا يُـلبـّـيـــنا
فإنَ يَكُ الجنسُ يا ابن الطَّلْحِ فــرّفنا إن المصائب يـجــمــعــنَ الـمُصـابـيـنا
لم تــألُ مــــاءك تــحـناناً ولا ظمأً ولا ادِّكاراً ولا شـــجــــواً أفـــانـيـــنا
تـجـُـــرُّ مـن فـــنـــن سـاقاً إلى فَنَنٍ وتسحبُ الذيلَ ترتادُ الـمـــؤاسـيـــنا
أساةُ جسمِكَ شتَّى حــيـــن تطلـبـهم فمَنْ لــروحـــك بالنّـُـطْـس الـمُداوينا
آهاً لنا نــازحـــيْ أيـــكٍ بـأنــدلسٍ وإن حَلَلْنَا رفـيـقــاً مـــن رَوابــيــنـا
رســمٌ وقـفـنا على رســمِ الـوفـاء له نَجـيـش بالـدَّمـع والإجـــلال يثنينا
لفــتــيـَـةٍ لا تنال الأرضُ أدمُـعـَـهم ولا مَــفــــارقــــهـم إلاَّ مُـصـَـلـّـيـِنا
لو لم يسودوا بـديــــن فــيه منبهةٌ للناس كانت لهم أخـــلاقُــهم ديــنا
لم نَسْرِ من حـــــرمٍ إلاّ إلى حــَـــرَم كالخـمــر من بابلٍ ســــارت لدارينا
لـمّا نـبـا الخلـدُ نـابت عنه نُسْختُه تماثلَ الــــورْدِ خـيـريّـاً ونـسـريـنا
نـسْـقــي ثـراهـمْ ثـناءً كـلَّـما نثرتْ دُمــوعُـنا نُـظِـمــتْ مـنــها مراثيـنا
كادت عـــــــيون قــوافينا تحـرّكـهُ وكِدْنَ يوقظنَ في التُّـــربِ السلاطـيـنا
لكنَّ مصــرَ وإن أغضــــتْ على مقــةٍ عينٌ مـن الخــــلدِ بالكافــور تسقيـنا
على جــوانبها رَفَّتْ تـمــائــمــــنا وحــولَ حـــافــاتها قامــتْ رواقينا
ملاعــــبٌ مَــرحَــــتْ فيها مآربُـنا وأربـــع أَنِسَـتْ فــــيـها أمـــانينــا
ومطلعٌ لسـعـــــــودٍ مـــن أواخِـرنـا ومغـــــربٌ لجُـــدُودٍ مـن أوالــيـــنا
بنَّا فلـم نَخــلُ مـــن روح يراوحـنا من بَرّ مصـــرَ وريــحــانٍ يُغــاديـنا
كأمِّ مـــوســـى علـى اسمِ الله تكْفُلُـنا وباســمهِ ذهــبـتْ في الـيَـــمِّ تُلقِيــنا
ومصرُ كالكـرمِ ذي الإحـسان فاكهةٌ لحـــاضِـــرينَ وأكـــــــوابٌ لـبـَادينا
يا ساري البرقِ يرمــي عن جوانحنا بعدَ الهدوءِ ويهـمــي عـــــن مآقينا
لمّا ترقرق في دمــــع السمــــاءِ دمــاً هاج البكا فـخـضـبْناَ الأرضَ باكــينا
الليلُ يشهد لم نـهــتـِـك دياجِــيـَهُ على نيــامٍ ولم نـهــتــف بسالـيــنا
والنَّجـمُ لم يــــرَنا إلاّ على قـــــدمٍ قيامَ لـيـل الهــــوى للعـهج راعـيـنا
كـــزفــــرةٍ في ســماءِ الليل حائــرةٍ ممَّا نُرَدِّدُ فــيـه حــيـــن يُـــضـوينا
بالله إن جبت ظلماءَ العــــــبابِ على نجائب النُّور مَحــــــــدوّاً بـجرينا
تـــردُّ عــنــك يـــــــداه كلَّ عـاديةِ إنساً يعـثــنَ فـســـاداً أو شـــياطينا
حتى حَــــوتكَ ســمــاءُ النيلِ عالية على الغــيــــوث وإن كانت ميامينا
وأحــــرزتكَ شُـفـوفُ اللازوَرْدِ على وشيِ الزَّبـــــرْجَدِ مـن أَفوافِ وادينا
وحازكَ الريفُ أرجــــــــاءً مؤرَّجَةً رَبَتْ خــمائِلَ واهتزَّت بــســـاتينا
فقِف إلى النيل واهتــــف في خمائله وانزل كــمـا نزل الطلُّ الرَّياحـــينا
وآسِ ما بَاتَ يــــــذوِي من منازلنـا بالحـــــادثات ويضوي من مغانيـنا
ويا معطِّرةَ الوادي سرَتْ سَحَــــــراً فطابَ كلُّ طــــروحٍ من مـــــــرامينا
ذكـيَّـة اللَّيل لـــــو خِلـنا غــلالتها قميصَ يوسفَ لم نحســــبْ مُغالينا
جشمتِ شوْكَ السُّرى حتى أتيتِ لنا بالـــورد كتباً وبالـــــرَيَّا عـنـاوينا
فلو جـــــــزيناك بـــالأرواح غاليةٌ عن طيب مسراك لم تنهض جوازينا
هل من ذيــــولكِ مسْــكِـــيٌّ نحَمِّلُه غــرائب الشــــوق وَشياً من أمالينا
إلى الذين وجـــــدنا وُدَّ غـــيــــرهمُ دُنيا وودّهم الصــــافـــي هو الدنيا
يا من نغارُ عليهم من ضمــــائـــرنا ومن مَصـــون هــواهــم في نتاجينا
خاب الحنينُ إليكم في خواطــــــرِنا عن الــدّلال عـلـيــــكم فـي أمانينا
جئنا إلى الصبر نـدعــوه كعــــادتنا في النائبات فلم يــأخــــذ بـأيدينا
وما غلبنا على دمــــــع ولا جــلـــدٍ حتى أتتنا نواكم من صــيـــاصـينا
ونابغيّ كأن الحــشــــــــر آخــــره تُمــيـتــنا فيه ذكــراكم وتُحـيينا
نَطوي دجـــاه بجــرحٍ من فراقـكــم يكاد في غلَس الأسـحـار يـطــويـنا
إذا رَسا النجمُ لم تـرقأ مَــحاجِــرنا حتى يـــزول ولم تـهــدأْ تراقينا
يبدو النهارُ فيخفيه تـــجـــلـُّــدُنا للشــامـتــــيـن ويأْسُـــــوه تأيِّينا
سقياً لعهدٍ كأكناف الرُّبــــى رفـــةً أَنَّى ذهــبــنا وأعطاف الصَّبا لـينا
إذِ الزمــــانُ بنا غيـــناءُ زاهــيـــةٌ ترفُّ أوقـــاتُنا فيـها رَيَـــاحيـنا
الوصـــلُ صــافيـــةٌ والعـيشُ ناغيةٌ والسعدُ حاشيةٌ والدهــــرُ ماشينا
والشمس تختال في العقيان تحسبـها بلقيس ترفُلُ في وشيِ اليـــمَانينا
والنيلُ يٌقـبِـل كالدنــيا إذا احتـفلت لو كان فيها وفــــاءٌ للمُصافـيــنا
والسعدِ لوْ دام والنعمَــى لو اطَّـردتْ والسيلِ لَو عَـفَّ والمــقدار لو دينا
ألقى على الأرض حتــى رَدَّها ذهـبا ماءً لمسنا به الإكــســيــر أو طينا
أعداه من يُمنِه التابـوتُ وارتسَمَــتْ على جـــــوانبه الأنوارُ من سينا
له مبالغُ ما فــــي الخُــلْقِ من كــرَمٍ عـهـــــدُ الكرامِ وميثاقُ الوفيِّينا
لم يجــــرِ للدهـرِ إعــذارٌ ولا عُرُسٌ إلاَّ بــأيـامــنا أو فــي ليــــالينا
ولا حـــــوى السعـدُ أطغى في أعنَّته كنَّا جياداً ولا أرحــى ميـــادينا
نحن اليواقيتُ خاض النارَ جَوهَرُنا ولم يهُنْ بيدِ التـشـتـيـتِ غالينا
ولا يحــــول لنا صـــبغٍ ولا خُـلُــقٌ إذا تلّون كالحــــــــرباء شانينا
لم تنزل الشمسُ ميزاناً ولا صعدَتْ في مُلكها الضخمِ عرشاَ مثلَ وادينا
ألم تُـــــؤلَّه على حــافــاتـه ورأتْ عليه أبنــاءها الغـرَّ المـيـامـيــنا
إن غازلت شاطئيه في الضحـى لبسا خمائل السُّـنــدُس الموشيَّةِ الغينا
وبات كلُّ مجـــاج الوادِ من شـجـرٍ لوافــظِ القـــزِّ بالخيــطان ترمينا
وهذه الأرضُ من سهلٍ ومـــن جبلِ قبل القياصر دِنَّـاهـا فــــراعيـنا
ولم يضع حــجـــراً بانٍ على حجرٍ في الأرض إلاَّ على آثــــار بانينا
كأنّ أهــــــرام مصرِ حائطٌ نهضت به يدُ الـدهــرِ لا بـنيانُ فانيـنا
إيوانُه الفـخــمُ من عُـلـيا مقاصـره يُفني الملوك ولا يُـبـقـي الأواوينا
كأنها ورمــالا حــــولها التطمتْ سفـــيـــنــةٌ غـرقتْ إلاَّ أساطينا
كأنها تـحـت لألاء الضُّـحى ذهباً كــنـــوزُ فِــرعون غطَّين الموازينا
أرضُ الأبـــــوةِ والمـيـــلاد طيَّبها مـــرُّ الصِّبا في ذيـول من تصابينا
كانت مُـحـجـَّـلـةً فـيـها مـواقِفُنا غُـرَّاً مُسَلْسَلَةَ الـمــجـرى قوافينا
فــــآب مِــــنْ كُــرةِ الأيامِ لاعِبنا وثــاب مِنْ سِــنـةِ الأحلامِ لاهينا
ولم نــــدع لليالي صــافياً فدعتْ (بأن نغــــصَّ فـقـال الدهـرُ آمينا)
لو استطعنا لخُضْنَا الجـوِّ صاعقةً والبرَّ نـــارَ وَغىً والبحــرَ غسلينا
سعياً إلى مصرَ نقضي حقَّ ذاكرنا فيها إذا نَسيَ الوافـــــــي وباكينا
كـنـــزٌ بحُــلـوان عندَ اللهِ نطلُبُه خيـــــرَ الودائع من خـير المؤدِّينا
لو غـاب كـلُّ عزيز عـنه غَيبتَنَا لم يأتِه الشــــوقُ إلاَّ من نـواحينا
إذا حمَلْنا لمصـر أو لــهُ شَجَـــناً لم ندرِ أيُّ هـــوى الأمين شـاجينا




إن كان ابن زيدون قد قصر قصيدته في الشوق والحنين ..والذكريات .. والأنين .. ولوم الزمان والناس .. والعتب على ولادة ..والتوجد على أيامه السوالف معها .. ووصف تلك الأيام وما جرى فيها من حب وألفة .. ووئام وسكب العبرات والدموع غزيرة في كلماته وأبياته شأن المتيم الولهان فإن شوقي .. قد اتسعت مشاعره وأحاسيسه لما هو أكبر من هذا فهو بجانب مجاراته لابن زيدون في كثير من ذلك .. تحدث عن بلاده وأهله وما تعانيه مصر من ظلم واضطهاد وتشريد لأبنائها ..حاكى شوقي هذه القصيدة أيام كان في المنفى وافتتحها بمناجاة طائر مهيض الجناح قص ريشه فقيد في مكانه لا يبرحه
ولا يزول عنه :.
يا نائح الطلح أشباه عوادينا نشجى لواديك أم نأسى لوادينا
ليجعلنا نقف أمام هذا الطائر متسائلين ما الذي قصده شوقي وعناه بهذا الطائر ؟!! لتأتي الإجابات كالتالي ..
منهم من قال : أنه يناجي الطائر على حقيقته - ما كان الشاعر القديم يناجي سيفه - وفرسه ..ومنهم من قال :. أراد بهذا الطائر ابن عباد وذلك الملك الذي ضاع ملكه .. وسجن في زنزانته لا يبرحها وقيد بقيد شله عن الحركة .. وكأن شوقي أراد أن يقول :. أن ما حل بابن العباد هوما حل بي ..!! إن المصائب يجمعن المصابين .. ومنهم من قال أنها .. ذاته .. فهو يناجي نفسه التي تركها هناك مصر .. وهذا الرأي بعيد عن جو هذه القصيدة .. وأقرب الظن أنه أراد الطير على حقيقته اسمع له وهو يقول :
فإن يك الجنس يا ابن الطلح فرقنا إن المصائب يجمعن المصابينا
وان كان شوقي قد ناجى الطائر وشكى له آلمه .. وحنينه وشوقه ..
رمى بنا البين أيكا غير سامرنا أخا الغريب وظلا غير نادينا
كل رمته النوى ريش الفراق لنا سهما وسل عليك البين سكينا
إذا دعا الشوق لم نبرح بمنصدع من الجناحين عي لا يلبينا
فإنه لم يخرج من محاكاة الشاعر القديم في وقوفه وشكواه لأطلال المحبوبة ومسائلته لرسم ديارها .. وإن اختلف الشكو عليه .. فالشاعر القديم يقف ويشكو إلى الربع .. أو الرسم ما ألم به من لواعج الفرقة والتشتت فيقول : سائلا الربع .. أو يقول .. ألا أيها الظل.. .. الخ ..
فإن شوقي يقف ويناجي هذا الطائر .. ويشكو إليه ما ألم به وما دمت به النوى .. وما رماه به البين .., ثم أن مناجاة الطيور والحيوانات ليست جديدة في الشعر , بل لقد ناجى عنترة فرسه الادهم وشكى له بل وشكى له فرسه "
فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلى بعبرة وتحمحم ..

بل لا أظن صوت شوقي عندما ناجى نائح الطلح إلا صوت عنترة وهو يناجي طائر البان :.
يا طائر البان قد هيجت أشجاني وزدتني طربا يا طائر البان
إن كنت تندب إلفا قد فجعت به فقد شجاك الذي بالبين أشجاني ..
إذن أول ملمح نلمحه على هذا النص تقديسه للقديم .. فلقد سكنت قصيدته في صومعة الشاعر القديم لم تتجاوزها .. ولم تبرحها .. بل كانت ترديدا لصوته ... بل هي بمثابة رجع الصدى لذلك الصوت ..؟ ومما نلمحه على هذا النص أيضا ظاهرة التناص وتحول التناص هنا إلى ظاهرة لتكرره في القصيدة كلها , يتجلى هذا التناص في صوت ابن زيدون الذي يتردد في أنحاء هذا النص ولعل قائلا يقول لابد من ظهور صوت ابن زيدون فشوقي ليس إلا معارضا له فأقول لم نختلف ولكن المعارضة معارضته في الوزن أو القافية وربما في المعنى ولكن أن يأخذ ألفاظا وجملا بعينها فهذا مما يخرج عن المعارضة الجيدة فاسمع مثلا له وهو يقول:
لما نبا الخلد نابت عنه نسخته تماثيل الورد خيريا ونسرينا
وابن زيدون يقول :.
يا روضة طالما أجنت لوا حظنا وردا جلاه الصبا غضا ونسرينا
وشوقي يقول :.
يا ساري البرق يرمي عن جوانحها بعد الهدوء ويسهي عن مآقينا
وابن زيدون يقول :.
يا ساري البرق غاد القصر وأسق به من كان صرف الهوى والود يسقينا
ويقول شوقي :.
يبدو النهار فيخيفه تجلدنا للشامتين ويأسوه تأسينا
إذا الزمان بنا غيثاء زاهية ترف أوقاتنا فيها رياحينا
وابن زيدون يقول :.
يكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لو تأسينا
ليسق عهدكم عهد السرور فما كنتم لأرواحنا إلا رياحينا

بل اسمع شوقي وهو يقول :.
ولم ندع لليالي صافيا فدعت بان نغص فقال الدهر : أمينا
وابن زيدون قد قال :.
غيض العدا من تساقينا الهوى فدعوا بان نغص فقال الدهرآمينا
ولو ذهبت أحصي الألفاظ والجمل التي شاعت وانتشرت وترددت في قصيدة شوقي والتي لم تكن إلا صوت ابن زيدون لطال بي المقام ولكن هي إشارة تبين تميز هذا النص بهذه الظاهرة ظاهرة التناص .. ومن التناص أيضا في هذا النص ظهور صوت الشاعر القديم عمرو بن كلثوم واضحا في قول شوقي :
. لو استطعنا لخضنا الجو صاعقة والبر نار ووغى والبحر غسلينا..
وذلك عندما قال عمرو :
ملأنا البر حتى ضاق عنا وماءالبحر نملؤه سفينا ..
بل ويظهر صوت عمرو بن كلثوم وكل شاعر قديم يفتخر بقومه في أنحاء هذا النص .. فلنسمع لشوقي وهو يقول مفتخرا :
ولا حوى السعد أطغى في أعنته منا جيادا ولا أرخى ميادينا
نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا ولم يهن بيد التشتيت غالينا
لم تنزل الشمس ميزانا ولا صعدت في ملكها الفخم عرشا مثل وادينا
لقد وقف شوقي موقف الشاعر القديم عندما كان يفتخر بقومه ..وبقوة قبيلته .. وعدتها وعتادها .. ويقف مخلدا أمجادها .. ومآثرها .. مثله مثل الشاعر عمرو بن كلثوم القائل :.
ونحن إذا عماد الحي خرت عن الأخفاض نمنع من يلينا
وقد علم القبائل من معد إذا قبب بأبطحها بنينا
بأنا المطعمونا إذا قدرنا وأنا المهلكون إذا ابتلينا


ومن التناص الواضح في هذا النص .. استلهام الأسلوب القرآني وهذا يتضح في مثل قوله .. (كأم موسى على اسم الله تكفلنا ) وقوله :
(والبحر غلبنا )وقوله : (بالكافور تسقينا ) وقوله : ( قميص يوسف ) وقوله : (حتى أتتنا نواكم من صياصينا وذهبت في اليم تلقينا ... الخ )ومن الأساليب البارزة في هذا النص هيمنة أسلوب التشبيه لاسيما بأداة .. كان .. والكاف .. يقول شوقي ...؟
كأن أهرام مصر حائط نهضت به يد الدهر لا بنيان فأنينا
كأنها ورمال حولها التطمت سفينة غرقت إلا أساطينا
كأنها تحت لألاء الضحى ذهبا كنوز فرعون غطين الموازينا
كزفرة في سماء الليل , كأم موسى , والشمس ترفل في العقبات والنيل يقبل كالدنيا .., ... الخ تلك التشبيهات التي نلاحظ أنها تركزت أكثر ما تركزت عند افتخار الشاعر بقومه وذكر أمجادهم.. وهذا ملمح قديم وجدناه عند القدماء عندما كانوا يكثرون التشبيه في فخرهم بقبيلتهم كما مر بنا مع عمرو بن كلثوم وكقول الحطيئة مثلا ..
يسوسون أحلاما بعيد أناتها وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد .
ومما نلحظه أيضا .. انه عند حديثه عن أيامه بمصر وعند حياة الاستقرار التي كان يعيشها فأننا نلحظ تقسيما موسيقيا وكأنه ينقل لنا حالة من الاستقرار والاتزان النفسي والروحي والعاطفي يتجلى في قوله :.
الوصل صافية , والعيش ناغية والسعد حاشية والدهر ماشينا
والسعد لو دام والنعمى لو اطردت والسيل لو عف , والمقدارلو دينا
وعندما يكثر الشاعر من الأسلوب الإنشائي ومخاطبة الشخص اللامحدود إن صح التعبير- في مثل قوله :.
بالله إن جبت ,..فقف إلى النيل ,, يا معطرة الوادي ,..واس ما بات ,.. يا من نغارعليهم .. الخ
فهذا يدل على إحساس الشاعر بالضياع ,, والغربة.. وتأكيد لمعنى الوحدة والعزلة .. لا سيما ونحن نعلم إن شوقي قد قال قصيدته هذه وهو في منفاه ..؟

ومما نلحظه على هذا النص أيضا الانتقال من المجمل إلى المفصل .. فهو يقول : سقيا لعهد كأكناف الربى .. .. فهويذكر ذلك العهد ويحن إليه والى ذكرياته .. ثم يبدأ في تفصيل ما كان في ذلك العهد فيقول ..
أذا الزمان بنا غيثاء .. .. , الوصل صافية , والشمس تختال .., والنيل يقبل والسعد لو دام .., إلى غير ذلك مما يوضح ما كان عليه ذلك العهد ..؟
وإذا ما وقفنا أمام المعجم الشعري الخاص بهذا الشاعر لاسيما في هذا النص .. فإننا نلمس ذلك المعجم الشعري القديم وتلك الألفاظ الجزلة .. الرنانة .. التي رددها شعراء القديم مثل قوله:
رسم وقفنا ..., رمى بنا البين , كل رمته النوى , تجرمن فنن ساقا إلى فنن ظلماء العباب ., نجائب النور ..ملاعب مرحت , مرابع أنست ..ومطلع لسعود , وشي الزبرجد ......الخ إذن .. لازال شوقي .. يدور في فلك القديم بكل ما فيه من صورأو معاني .. أو حتى الألفاظ ..؟
وكما كان آخر ملمح وضعنا أيدينا عليه في قصيدة ابن زيدون هو ما يتعلق بالروي والقافية .. فإننا الآن سنقف أمام هذا الملمح عند شوقي والذي سيتخذ مسارا آخر ... وهو إن النون المطلقة عند شوقي لم تعط الانطباع والإحساس الذي أعطته .. نون ابن زيدون .. بل ظهرت هنا أشبه بنون عمرو بن كلثوم الذي كان قائما يفتخر ويسمع عمرو بن هند .. وقومه صوته
فالشاعر أحمد شوقي بدأ في هذه القصيدة وكأنه وقف مناديا ..يسمع أحبته في مصر .. ويبثهم شوقه وحنينه ..
يا من نغار عليهم من ضمائرنا ومن مصون هواهم في تناجينا
ناب الحنين إليكم في خواطرنا عن الدلال عليكم في أمانينا
..بل وقف مفتخرا ليسمع الدنيا بأسرها صوته
نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا ولم يهن بيد التشتيت غالينا
ولم يضع حجرا بان على حجر في الأرض إلا على اثأر بانينا





وقفة . . .

نلاحظ ومن خلال رحلتنا مع شوقي في قصيدته هذه .. أنه وقع فيما وقع فيه شعراء مدرسة الإحياء من تقديس للشكل القديم والسكن في حناياها .. واجتراره ونسخه نسخا كاملا ..والدوران في فلك المعاني القديمة والعاطفة القديمة .. بل وحتى الألفاظ القديمة ..وهذا ما لمسناه .. من خلال هذا النص ... في مناجاة شوقي لنائح الطلح وفي ظاهرة التناص التي اشرنا لها سابقا ..أما افتقاد هذا النص للوحدة الشعرية فواضح وجلي .. فالمقطع الأول كان مناجاة لطائر مهيض الجناح .. ثم انتقل للحديث عن أهل الأندلس وآثارهم ثم الحديث عن مصر والوفاء لها ..ثم ينتقل بالحديث الى من يغار عليهم من ضميره .. ومن أضناه الشوق والحنين إليهم .. ليقف في نهاية القصيدة مفتخرا .. ومخلدا لأمجاد قومه .. ومآثرهم .. وبذلك افتقدت القصيدة إلى الوحدة العضوية ....أضف إلى ذلك .. أن ذاتية شوقي كانت خافته أمام صوت قوميته .. وعروبته .. مما وسم هذا النص بالقومية أكثر مما اتسم بالذاتية...إذ .. وبرغم ماسقطت فيه هذه القصيدة من عيوب مدرسة الإحياء ..إلا أنها استطاعت أن تثير العواطف وتحرك المشاعر بروعتها وجمالها .




الخاتمة








وقبل أن نطوي صفحات هذا البحث المتواضع ... ينبغي أن نقف وقفة إجلال و اعتزاز للغتنا الأم التي أنجبت مثل هؤلاء الشعراء ورسمت لنا أروع الصور واللوحات وما – المعارضات الشعرية – إلا وجهٌ لإبداع اللغة ودليلٌ على عطائها وحب أبنائها لها

كان هذا العمل البسيط المتواضع لفتةٌ عابرة لأنظار أبنائنا من هذا الجيل و الأجيال القادمة على عظمة لغتنا العربية وروعتها , ومشعل نور يضيء طرق المستقبل , نوراً نابعاً من جديد لغتنا وتطورها



















المصادر والمراجع
1. ديوان أحمد شوقي .. الجزء الثاني دار الفكر العربي ـ بيروت ـ 1996م
2. ديوان ابن زيدون .. شرح د : عمر الطباع .. دار القلم ـ بيروت
3. ديوان حافظ إبراهيم .. دار العودة للصحافة والطباعة والنشر ـ بيروت
4. ديوان حسن عبدالله قرشي ... المجموعة الكاملة لأعماله ..
5. ديوان عنترة .. دار بيروت للطباعة والنشر
6. ديوان المتنبي .. المكتبة الثقافية بيروت .. لبنان ..
7. المعجم الوسيط .. الطبعة الثانية .. دار الدعوة اسطنبول ـ تركيا
8. المنجد في اللغة والإعلام .. الطبعة 28 منشورات دار المشرق .. بيروت ..
9. المعلقات .. الزوزني .. مكتبة المعارف . بيروت
10. العصر الإسلامي .. شوقي ضيف .. دار المعارف بمصر ..
11. تاريخ الأدب العربي د. عمر فروخ .. ج ـ 4 ـ دار العلم للملايين .. الطبعة السادسة 1992م ..
12. المعارضات في الشعر العربي .. دكتور محمد بن سعد بن حسين .. النادي الأدبي بالرياض .. 1400هـ ـ 1980م .. رقم 811 كتاب الشهر 16
13. تاريخ المعارضات في الشعر العربي د .. محمد محمود قاسم نوفل .. دار الفرقان 1403هـ .
14. تاريخ النقد الأدبي عند العرب عبد العزيز عتيق .. دار النهضة العربية ..بيروت
15. الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية .. بكري شيخ أمين دار العلم للملايين .. الطبعة الآولى 1972م