فحيح الأفعى يندفع من ركن البيت ، وأنا طريحة الفراش بين الحلم واليقظة .
فتحت عيني بصعوبة ، فلمحت أشعة خافتة تتماوج في أحشاء الظلمة ، ولاح لي الستار الذي كان يفصل بين عرفة الجلوس والمطبخ
حدقت فيه ببلاهة ، حيث كان الشعاع قد وشاه حمرة مفزعة .
أدركت أن الفحيح يندفع من خلف الستار ، حاولت أن أنسل من فراشي ، لكن الإعياء يشدني ، والخوف يلجمني عن الحركة .
تحسست السرير ، وتفرست ما حولي ، فأدركت أني وحيدة إلا من أشلاء نفسي المبعثرة ،
هل خرج وأسلمني لوحدتي أقارعها . ليس من عادته أن يخرج في وقت متأخر ، إلا أن يكون خطبا دعاه إلى ذلك . لم لم ينبئني ؟ فهو لا يكتمني أمرا ، ذلك أنه يحبني ، أو هذا ما كنت أشعر به خلال عام ونيف مر على زواجنا . أم تراني كنت مغفلة ساذجة ؟ لست أدري .
لكنه خرج وتركني محمومة في هذا التابوت .
أتراه كان يخونني من حيث لا أشعر ؟ كلا ، خفقات قلبي تنكر ذلك .
قد أحبني وهام بي ، وبادلته حبا بحب .
رباه ، كيف يستحيل الحب الناصع الشفاف إلى لغز غامض لا أجد له منفذا .
وكيف تستحيل الأحلام الهانئة جحيما من الذعر الفازع .
كان يرقد بجواري ، وفتحت عيني فلم أجد سوى نفسي . لا يمكن أن أظل هكذا ، فأنياب الخوف تنغرز في أحشائي . لم لا آت فعلا ؟ كأن أهرب من كابوسي . لكن أنى يتأتى لي ذلك .
فالباب موصد بإحكام .
أرأيتم امرأة تلتزم سجنها دون مقاومة ؟ تلك هي أنا .
كنت لا أبرح البيت إلا برفقة زوجي ، يعزيني في ذلك حبا جارفا ، وغيرة متوجسة .
كنت أتفهم مشاعره ، فأحترمها وأغفر له . لكن أتراه كان يحبني ؟ أم أنه يخدعني ؟
يا إلهي ! لماذا يتصرف الرجال كذلك ؟ كيف يستحيل الحب أغلالا تلتف حول أعناقنا ؟
كيف يصبح سما زعافا ينساب في عروقنا ؟ بل كيف يغدو شبحا يترصدنا ؟
لا أكاد أفهم ذلك إلا إذا كان الحب مؤامرة دنيئة حيكت لنا .
الخوف يخرجني عن طوري ، والشك يدك عقلي .
ليس من الصواب أن أداري هواجسي . وأنا المرأة التي لا يطمع في أمرها . في حين أنه يملك الصبا والثروة والجمال . ليس ما يرغمه على أن يغرر بي .
لا بد أني ضللت صوابي .
خير لي الآن أن أتدارك أمري ، قبل أن يفتك بي خوفي .
لم لا أتحرر من تابوتي ، وأجوس النظر إلى عدو يترصدني خلف الستار .
ينبغي ألا آت أية حركة . ها هو الستار يتماوج كنجيع دم مغدور .
ليس هذا وقت تردد . لا مخرج لي إلا أن أكون أكثر جرأة وبأسا .
ها قد أصبحت جوار الستار . سأذوده قليلا ، وأنظر بحرص وحذر . تلك الأفعى تتلوى في ركن قصي ، يبدو أنها مرهقة ، أحاول أن أتمعنها جيدا ، تبدو رمادية اللون ، ضخمة في الوسط ، تلتف
حول نفسها ، وقد انسكب من عينيها بريق جهنمي .
سرت في أوصالي رعشة محمومة ، وأنا أتلافى ذاك البريق . إنه يذكرني بأمر ما .. .
ربما ذاك البريق الذي كنت أقرأه في عيني زوجي .
لكن كيف يستحيل وميض الحب الوادع إلى بريق عدواني بغيض ؟
لا أخال أني لمحت بريقا كهذا في عيني زوجي .
كم أنا غبيةحتى بت لا أميز بين الأشياء .
لكن لو أنه وقع في غرام امرأة أخرى ، وقرر أن يضع حدا لحياتي ، أفلا يمكن أن يستحيل بريق عينيه إلى نظرات أفعى ؟
أفلا يمكن أن يصبح حبه سما زعافا ينفثه في دمي ؟
هذه الأفعى تثير هواجسي . يخيل لي أن فيها بعضا منه . وفي عينيها بريق من عينيه .
أم تراني جانبت الصواب ؟ لكن الشواهد تدين زوجي .
كان ينام بجواري ، وأفقت فإذا به ينبس في جلد أفعى ، وقرر غيلتي 0لكن لماذا لا استجيب لحكمه ، كما استجبت لحبه من قبل .
لا لن أخضع ، سأطيح بك أيتها الأفعى ، وأظل الأفعى التي تنكأ جراحك جاثمة على صدرك .
لن تخدعني مرة أخرى ، فقد تبدت لي مراوغتك .
لن أنحني لابتسامتك الندية ، وكلماتك الدافئة . فقد علمتني أن تحت الجلود الناعمة سما زعافا .
تحلي بالجلد والإقدام أيتها المرأة ، فليس بين الجبن والإقدام سوى شعرة .
اقطعيها وإلا فإن الردى سيطويك للأبد .
حاولي أن تسددي نحو الرأس . لكن بأي سلاح أنازلها ؟
ليس بحوزتي سوى الكؤوس والأواني . هيا أيتها المرأة ، تأهبي قبل أن تنقض عليك .
ها هي تتلوى 0 كم هي مفزعة ، لكنها مرهقة ، لا أظنها ستظفر بي ، فق ابتلعت أكثر من طاقتها .
أما أنا فقد دب فيّ نشاط لم أعهده من قبل .انسللت إلى مائدة الطعام ، تناولت كأسا كبيرة ،
غير أن الأفعى انسحبت إلى غرفة النوم . داهمني فزع مباغت ، فقذفت الكأس على غير هدى .
بيد أنها ارتطمت بذيلها . ولاحت لي قطرات دم تنزف خلفها . بينما راحت تترنح كأنها فقدت
بعض توازنها .
شعرت بسعادة غامرة . يخيل لي أن آلاف الأفاعي تصحو في أعماقي . لن تظفري بي أيتها الأفعى
فأنا وحش عنيد .
ليس من العسير أن يستحيل الإنسان وحشا كاسرا .
بل من الضروري أن يفيق فينا هذا الوحش أحيانا .
سأحاول أن أصوب ضربتي إلى الرأس ، ها هي تتلوى بشراسة ، وتنسحب من ركن إلى آخر .
عليّ أن أتفاداها ، وأن أسدد لها ضربات خاطفة ، حتى أشل حركاتها المراوغة .
قليلا من الصبر والثبات أيتها المرأة تذكري أن زوجك سيعود ، وقد اطمأن إلى أنك جثة هامدة .
لهفي عليك ، سيخيب ظنك حين ترى زوجتك نمرة شرسة .
تقذفك بنظرة ظافرة ، وتصفعك بابتسامة ساخرة ؟
ستدرك أني لست ساذجة . وأني سوف أظل في جوارك ، أفعى تنفث السم في د مك وأوصالك .
يمكنني الآن أن أسدد لها الضربة التالية .
ها هي تلتف حول نفسها في ركن الغرفة ، سوف أصوب ضربتي إلى الرأس .
هيا أيتها اليد الفولاذية ، إياك أن ترتجفي أو أن ترتدي .
ليس هذا وقت الخوف أو التردد .
ولتكن ضربتك على الرأس كما اتفقنا . 00 آه ، فقد أخطأت أيتها اليد .
انعطفت الأفعى ، وعاد ذلك البريق يروعني .
تتقبض عضلاتها ، وتستجمع قواها ، وتقذف رأسها نحوي . فتحت فمها على امتداده ، وخيل لي أنها ستبتلع رأسي . قذفت رشاشا من السم نحوي ، لكني انحرفت لا شعوريا .
يخيل لي أنها تصوب فمها نحو رأسي . كم هو مروع هذا الفم الأسطوري ، أتراه يكون ملاذي الوحيد ؟
أحاول أن أفعل شيئا ، كأن أهرب ، أو أصرخ وأستغيث ، لكن الخوف ألجمني .
تخيلت أن فمها يتمدد ، ورأسي تصغر . وما هي إلا لحظات حتى تختم الرواية .
انعطفت قليلا ، وبحركة يائسة ، ألفيت نفسي وقد أحكمت قبضتي على عنقها .
كانت لزجة مرعبة ، شعرت وكأنها تنزلق من يدي .
إن قبضتي واهنة ، أو أن عضلاتها تضعف من قوتي .
الويل لك إن تحررت من قبضتك ، ستطبق على رأسك ، وينتهي كل شئ .
كلا … كلا … اصمدي أيتها اليد ، لا تخذليني . أتوسل إليك .
أحكمت قبضتي على عنقها ، لكني شعرت بها تلتف على جسدي . يا ويل نفسي .. سوف تفتك بي ، فيضيع رأسي في أحشائها .
شعرت بجسمي يهتز مثل قشة في مهب العاصفة . أكاد أن أتهاوى ، أن أتوسل لها .
لكنها تتلوى على جسمي بقوة ، ورأسها يترنح ، كأنه يبحث عن رأسي .
شعرت قوة غامضة تدب في يدي ، أحكمت قبضتي عليها من جديد .
أحسست بها تتهاوى عن جسدي ، وعضلات عنقها تفقد بأسها .
قذفت برأسها إلى الأرض ، واندفعت إلى المطبخ .
عدت والكؤوس في يدي .
طفقت أقذفها بالكؤوس واحدا تلو الآخر . الدماء تنزف منها . أي أفعى أنت ، يا لك من صلبة عنيدة . أما أنا فقد كلت عزيمتي . وانتابني إعياء شديد .
قدمي تؤلمني ، والدماء تنزف منها غزيرة . كم أنا بائسة تعسة . لكني لن أكون فريستك ، بل مفترسك الظافر .
تلوي كما تشائين ، لكن لا بد أن تنهد قواك ، وأن تخمدي .
ولا بد أن أسدد لك الضربة القاتلة .
ما زالت بعض الكؤوس في يدي . سأحطمها على رأسك الواحد تلو الآخر .
عبثا تحاولين الفرار ، فأنا وأنت في قفص الصراع .
لا تندفعي باتجاه النافذة ، فالأسلاك لن تسمح لك بالنفاذ .
كم أنت عنيدة أيتها الأفعى . ألم أقل لك إن جسمك الضخم لن ينفذ من ثقوب النافذة ؟
لا بد أن ترتدي بعد أن تعييك المحاولة .
لكن لماذا أنتظر ؟ فرأسها بات خارج الأسلاك . أما جسمها الضخم فيأبى إلا أن يظل يتلوى أمام ناظري .
سأضربها على بطنها ، هيا أيتها اليد ، لتكن ضرباتك موفقة صائبة .
قد أحسنت صنعا أيتها اليد ، فقد تلاشت مقاومة الأفعى .
ترنحت قليلا ثم ما لبثت أن ارتطمت بالأرض .
رفعت كأسا آخر وصوبته نحو رأسها .
يا إلهي ، قد أصبت الهدف . ها هي تزحف ببطء نحو مائدة الطعام .
لعلها اختارت أن تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت المائدة ، حيث الوحدة والظلمة .
تنفست الصعداء ، وشعرت بارتياح عميق .
توجهت إلى المائدة أطمئن على حالها . وما أن رفعت الستار حتى لمحت ما أفزعني .
دارت بي الأرض . وتقبضت أنفاسي … وشعرت بأني على شفا الإغماء .
ضغطت على جبهتي … انعطفت مرة أخرى ، واختلست نظرة مذعورة .
كانت الأفعى تلتف على عنق رجل مهزوم تحت المائدة .
تفرست وجهه ، فأدركت أنه زوجي .
زوجي الذي راودني فيه أي هاجس …
إلا أن يكون تحت المائدة .