أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم
دور الاحتياج المعنوي في تقديم الممنوع من التقديم
أولا:
تقديم خبر ليس عليها
قال تعالى:ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم".هذه الأية تشتمل على مسألة من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين،وهي حول جواز تقدم خبر ليس عليها ،وفي رأيي أن مطلوب الخبر"يوم يأتيهم" تقدم على "ليس" بحسب الأهمية المعنوية والاحتياج المعنوي ،ليتصل بقوله تعالى"ولئن أخرنا عنهم العذاب........ليقولن ما يحبسه"فقد كان الكفار يستعجلون العذاب ،ولهذا تقدم معمول الخبر ليرتبط مع الكلام السابق بسبب الأهمية المعنوية ،وقوة العلاقة المعنوية بينهما ،وفي رأيي كذلك أن البصريين كانوا على صواب،لأن الكلام يترتب بحسب الأهمية المعنوية في الأصل وفي العدول عن الأصل ،وتقديم مطلوب الخبر أصعب من تقديم الخبر،ولهذا يجوز تقديم خبر ليس عليها ،كما جاز تقديم مطلوب الخبر ،وإن قال أبو حيان :تقديم خبر ليس عليها غير موجود في كلام العرب ،فالقرآن الكريم أفصح وأبلغ من كلام العرب ،والكلام يكون بحسب الحاجة المعنوية عند المتكلم.
ثانيا:
تقديم المعطوف على المعطوف عليه
قام ثم عمرو زيدٌ
عليك ورحمة الله السلام
تتقدم الألفاظ بحسب الضابط المعنوي كثيرا وبالضابط اللفظي أحيانا نادرة، تقول العرب:قام زيد ثم عمرو ،وهذا هو مستوى الكلام المستقيم الحسن ،حيث جاء بالفعل وبنى عليه الفاعل ثم جاء بحرف العطف والمعطوف ،والاحتياج المعنوي على أشدِّه بين أجزاء التركيب،ولكن العربي قد يقدم المعطوف وحرف العطف على المعطوف عليه ،مع أن النحاة يعتبرونه ممنوعا أو ضرورة ، فيصبح كلامه من المستقيم غير الحسن أو القبيح ،إلا أن المعنى مفهوم ،وهذا ما جعله مستقيما ،أما الاحتياج المعنوي بين أجزاء التركيب فمتخلخل وهذا ما جعله غير حسن أو قبيح ،وهذا الكلام يقوله من يهمه قيام عمرو قبل قيام زيد ،ويقوله من دعته الحاجة المعنوية إلى تقديم حرف العطف والمعطوف ،ولو ابتعد حرف العطف والمعطوف عن المعطوف عليه كثيرا لقلت درجة جودة التركيب كثيرا كأن يقول العربي:ثم عمرو قام زيد ،فبقاء المعطوف بين حرف العطف والمعطوف عليه وفي حيِّز المعطوف عليه جعله مفهوما إلا أن درجة جودته قلت نتيجة خلخلت العلاقات المعنوية بين أجزاء التركيب ،أما قول الشاعر العربي:"عليك ورحمة الله السلام"فمحكوم بالضابط اللفظي من أجل القافية.فالإنسان يتحدث تحت رعاية الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس.
ثالثا:
تقديم التمييز
يرى النحاة أن التمييز لا يتقدم على العامل(الطالب)أو( المحتاج)"فإن كان العامل في التمييزفعلا فالناس على ترك إجازة تقديمه سوى المازني"(1)وحجتهم في ذلك هي أنه فاعل من جهة المعنى،والمثال المشهور هو:تفقأت شحما،فالشحم هو المتفقئ،وهو فاعل في المعنى،ومادام الفاعل لا يتقدم على الفعل أصلا، فلا يجوز لهذا التمييز أن يتقدم لأنه فاعل من جهة المعنى،إن قبلنا هذه الحجة فماذا نقول عن التمييز المحول عن المفعول،فالمفعول يتقدم على الفعل مثل قوله تعالى: (وفجرنا الأرض عيونا)(النجم12 )وفي رأيي كذلك أنَّ رأي المازني هو الصواب لأن التمييز هنا تمييز نسبة وهو مبني على الفعل ،بغض النظر عن كونه فاعلا أو مفعولا في المعنى، فعلاقة التمييز مع الفعل ولذلك يجوز تقديمه، كما نقول:ضرب زيد عمرا ،و ضرب عمرا زيد ،وعمرا ضرب زيد، فهو ليس كتمييز الذات،بمعنى أن تمييز الذات يرفع الابهام عن الاسم السابق عليه وهو مبني على المميز الذي قبله وعلاقته معه قوية جدا ولهذا فلا يجوز أن يتقدم عليه والرتبة بينهما محفوظة ،فإذا قلنا:اشتريت رطلا عسلا،فلا يجوز تقديم عسلا على (رطلا )ولا على (اشتريت) وإذا أردنا تقديمه تقدم معه ما يرتبط به وكأنهما قطعة واحدة أو مقولة كبرى،هكذا:رطلا عسلا اشتريت،وهذا يعني أن الكلام يترتب بحسب الحاجة والأهمية المعنوية عند المتكلم ،في الأصل وفي العدول عن الأصل،ولهذا يجوز ان نقول:عيونا فجرنا الأرض ،وكأسا عصيرا شربت ،والاحتياج المعنوي واضح بين اجزاء التركيب والجمل مفهومة.
رابعا:
تقديم المستثنى مع أداة الاستثناء
يقول العرب:جاء القوم إلا زيدا.
ويقول العرب:جاء إلا زيدا القوم.
ويقول العرب:إلا زيدا جاء القوم.
القول الأول من مستوى الكلام المستقيم الحسن ،حيث جاء بالفعل وبنى عليه الفاعل ثم استثنى بعد تمام الكلام ،والاحتياج المعنوي واضح بين أجزاء التركيب،والقول الثاني أقل جمالا من سابقه ،حيث جاء بالفعل ثم تقدمت أداة الاستثناء والمستثنى بحسب الأهمية المعنوية عند المتكلم ،لأن الأهم عنده هو أداة الاستثناء والمستثنى ،إلا أنه وضع الغرباء بين الأقارب ،ولا يوجد احتياج معنوي بين أجزاء التركيب،مما أدى إلى قبحه أو قلة جماله ،ومن الملاحظ أن تقديم أداة الاستثناء أدى إلى تقديم المستثنى لأنه يرتبط معها برابط الاحتياج المعنوي،والقول الثالث أقل جمالا من سابقه،والنحاة يمنعونه ، فقد تقدمت أداة الاستثناء والمستثنى بالأهمية المعنوية عند المتكلم ،لأنهما الأهم عنده من الفعل والفاعل ، واستثنى قبل مجيء الكلام، مما أدى إلى قبح التركيب ،نتيجة تخلخل العلاقات المعنوية داخله ،ومن الملاحظ كذلك أن تقديم أداة الاستثناء أدى إلى تقديم المستثنى لأنه يرتبط معها برابط الاحتياج المعنوي.
وهذا يعنى أن المتكلم يتثقف لغويا ويتحدث بحسب الأهمية المعنوية عنده ،وبمستويات متعددة ،فهو يقول وهو يفكر ويفكر وهو يقول تحت رعاية الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس ليكون بعيدا عن اللبس والتناقض،وهو غاية كل لغة من لغات العالم.
خامسا:
تقديم الصلة على "أن"
الساعة َ أن تقيم الصلاة َ خيرٌ لك
أو
الصلاة َ أن تقيم الساعة َ خير لك
أو
الصلاة َ الساعة َ أن تقيم خير ٌ لك
يذكر ابن السراج في الأصول أنه لا يجوز تقديم الصلة أو شيء منها على "أنْ" كقولك:الساعة َ أن تقيم الصلاة َ خير لك " أو الصلاة َ أن تقيم الساعة َ خير ٌ لك(1) أو الصلاة َ الساعة َ أن تقيم خير ٌ لك.والذي يبدو لي أن المتكلم يتكلم تحت رعاية الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس ،فيربط بين المعاني بواسط الاحتياج المعنوي ويدل على هذا الارتباط بواسطة علامات الإعراب عن المعنى والعلاقات النحوية وهي علامات أمن اللبس.
وجملة:الساعة َ أن تقيم الصلاة َ خيرٌ لك "جملة تتضح فيها العلاقات النحوية ، والاحتياج المعنوي واضح بين أجزاء التركيب ،فالساعة"ظرف" للقيام ،ولا لبس فيها ،كما أن الصلاة مفعول به للفعل "تقيم " وقد تعلق الاهتمام بهما ، والظرف والمفعول هما شيئان يدل عليهما الفعل ،فكل فعل يدل على فاعل ومفعول ومصاحب وظروف ومفعول لأجله...إلخ ، والكلام مفهوم مع تباعد أجزاء العلاقة ،قال تعالى"اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيحَ ابن مريم" فقد ربط بين "المسيح" والرهبان "البعيد" وجعل بينهما علاقة احتياج معنوي ،ودل على هذه العلاقة بواسطة علامة أمن اللبس،وقال تعالى:" إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وارجلَكم إلى الكعبين"فقد ربط بين :الأرجل "وبين "الأيدي" بواسطة الاحتياج المعنوي ،ودل على هذه العلاقة بواسطة علامة أمن اللبس ،أو علامة الإعراب عن المعنى ،وقال تعالى:"قل بلى وربي لتأتينكم عالمِ الغيب"فقد فصل بين الصفة وموصوفها بجواب القسم بسبب أهمية الجواب للقسم ،وربط بين الموصوف وصفته بواسطة علامة أمن اللبس ،والاحتياج المعنوي واضح بين أجزاء التركيب ،"ذلك أن العلاقات (المعنوية)إذا اتضحت ولم يحط بها شيء من اللبس فإنه يمكن للمتكلم أن يمارس في شأنها قدرا من الحرية يباعد به بين طرفي العلاقة "(1)ووضوح العلاقات المعنوية يكون بوضوح الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس .
فالإنسان يتثقف لغويا ويتحدث بمستويات متعددة تحت رعاية الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس ليكون بعيدا عن اللبس والتناقض ،وهو غاية كل لغة من لغات العالم.
===================================
(1) ابن السراج-الأصول- ج 2 -ص224
(2)د.تمام حسان-البيان في روائع القرآن-ص132
===================================
سادسا:
عودة الضميرعلى المتقدم والمتأخر
بحسب الحاجة المعنوية يكون الكلام ، والمتقدم في المكانة والمنزلة متقدم في الموقع ،والمتأخر في المنزلة والمكانة متأخر في الموقع أيضا ،وإليك أمثلة من عودة الضمير.
أ-عودةالضميرعلى المتقدم في الموقع والمنزلة كما في الأمثلة التالية:
نقول:أكرم زيدٌ غلامَه،وقال تعالى:وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه،وفي هذين المثالين يعود الضمير على المتقدم في الموقع و المنزلة والمكانة،فمرة يكون الفاعل هو الأهم بالنسبة للفعل ومرة يكون المفعول هو الأهم ،وكلاهما يرتبط مع الفعل برابط الاحتياج المعنوي،والأهمية المعنوية.
ب-عودة الضمير على المتأخر في المنزلة والموقع،كما في الأمثلة التالية:-
يمنع النحاة تقديم الضمير على مرجعه المتأخر في اللفظ والمرتبة ويقصرونه على السماع ،مع أن الشواهد على ذلك كثيرة ،ومنها:قال تعالى"قل هو الله أحد"وضمير الشأن "هو" متقدم في الموقع والمكانة والمنزلة ويعود على لفظ الجلالة المتأخر في المنزلة والموقع ،ومثله ضمير القصة في قوله تعالى:"فإنها لا تعمى الأبصار،ومثل ذلك قول العرب:"رُبَّه رجلا زيد ،وقولهم " نعم امرأ أبوك" وقولهم "عرفوني وعرفت القادمين "وقولهم "رأيته أخاك " ومثل ذلك قول العرب:في بيته يؤتى الحكم ،وقولهم"في أكفانه لُفَّ الميت".ومثل ذلك قول الشاعر"جزى ربُّه عني عديَّ بن حاتم ،فالضمير المتصل بالفاعل يعود على المفعول المتأخر في المنزلة والمكانة والموقع بالنسبة للفعل،وقال تعالى"فأوجس في نفسه خيفة موسى"وفي هذه الآية يتقدم شبه الجملة نحو الفعل لإفادة التخصيص ،حيث يتسلط الفعل على شبه الجملة بفعل الاحتياج المعنوي بينهما ،والمعنى هو أن الخوف الذي أستشعره سيدنا موسى كان خوفا خفيفا خفيا لا يظهر أثره في ظاهر البشرة وعلى ملامحه ، و إلى ذلك يومىء تنكير الخيفة كأنه قيل: أحس في نفسه نوعا من الخوف لا يعبأ به ،وهذا المعنى لا يظهر فقط مع تأخير شبه الجملة.
والذي يبدو لي أن تقديم الضمير على مرجعه جائز لأن الجمل مفهومة والاحتياج المعنوي واضح بين أجزاء التركيب.
سابعا:
تقديم مطلوب اسم الفعل
يمنع النحاة تقديم مطلوب اسم الفعل عليه بحجة فلسفية وهي أن اسم الفعل عامل ضعيف ،مع أن الله تعالى يقول:":"كتاب الله عليكم" (النساء24)وقال تعالى:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَّ إذا اهتديتم"(المائدة 105)فقدم مطلوب اسم الفعل مرة وأخره أخرى،وفي الآية التي تقدم فيها مطلوب اسم الفعل نجده مرتبطا بقوة العلاقة المعنوية مع التشريع السابق عليه ،كما قال الشاعر العربي:يا أيها المائح دلوي دونكا.
فالإنسان يتحدث تحت رعاية الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس.
ثامنا:
تقديم المفعول معه
جاء زيد وطلوع الشمس
يمنع النحاة تقديم المفعول معه على الفعل في هذه الجملة بحجة فلسفية وهي مراعاة أصل الواو وهو العطف ،كما أن الواو توصل العامل إلى المعمول(1) أو الطالب إلى المطلوب،والذي يبدو لي أن قولنا:وطلوعَ الشمس جاء زيد أو جاء وطلوعَ الشمس زيد ،هو كلام لا لبس فيه ،والعلاقات المعنوية واضحة بين أجزاء التركيب ،كما لا يوجد اختلاف في المعنى بين الجمل ،اللهم إلا من حيث التركيز على المفعول معه ،كما أن الواو بمعنى مع وقد تنوسي أصلها ، ولهذا يجوز لنا أن نقول:
جاء زيد وطلوعَ الشمس .(من الخاص إلى العام)(ومن الأهم إلى الأقل أهمية)
و:جاء وطلوعَ الشمس زيدٌ .(من العام إلى الخاص)(ومن الأهم إلى الأقل أهمية)
و:وطلوعَ الشمس جاء زيدٌ .(من العام إلى الخاص)(ومن الأهم إلى الأقل أهمية)
والجمل مفهومة ،والعلاقات المعنوية والاحتياج المعنوي واضح في جميع التراكيب.
فالإنسان يتحدث تحت رعاية الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس.
===================================
(1)الرضي- شرح الكافية -ج 1ص ص517،525
وانظرأوضح المسالك -ج 1 ص 323-324