المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صرخات تحت التراب ........



omar_moosa
29-04-2007, 09:08 AM
فنحت عيني فابتلعني ظلام دامس ، استبد بي شعور قاهر ، وخيل لي أني فقدت بصري

رفعت يدي ، لكنها عادت واستقرت في مكانها بخضوع

شعرت بضيق واختناق ، تململت وتحسست ما حولي . أصفاد وقيود تأسرني فيما يشبه الموت

المكان الذي يحتويني ضيق جدا .. وأنا مكبل فيه كالأموات

لماذا لا أكون ميتا ؟ همست لنفسي ، كنت شديد الإعياء حين آويت إلى فراشي ، الناس يتحلقون

بي ، والأضواء ترتعش فوق رأسي .. وهاأنذا مدفون تحت الأرض

قطرات حارة من سائل ما تنساب على وجهي ، أنياب حادة تلسع أصابع قدمي كوخز الأشواك

أجسام صغيرة تحبو تحت قطعة القماش التي تلفني بإحكام

لم لا أكون ميتا ؟ همست لنفسي مرة أخرى

مددت يدي أمام وجهي ، فارتطمت بمادة هشة ، وعادت إلي بخضوع القطرات الغريبة

تحفر وجهي ، والجسيمات الجائعة تنهش أطراف جسمي .. حثالة وتراب ومواد لا أعرفها تتقاطر

في عيني الأصفاد والقيود تقبض أنفاسي

يا إلهي ! من جرأ أن يدفنني في هذا القبر الأحمق ؟ ألا يمكن أن تكون لعبة سخيفة ، أم أنه

الموت البغيض ؟ الهوام والديدان تزحف على صدري ، رائحة خانقة تعبق في أنفي .. خناجر

الألم تحفر أعماقي . لا .. لا يمكن أن أكون ميتا لماذا لا أحفر هذا الغطاء المتكابر فوق رأسي ؟

تحركت أصابعي خلال الفسحة التي تفصل بيني وبين الغطاء .. خدشت الطين الرطب الحار ،

فسرت في أوصالي رعشة محمومة ، وسمعت صوتا ناعما يرن في أذني : لا تعبث بالطين .

أدرت ناظري بيأس مقهور ، وقلت بنبرة مضطربة : أهذا أنت ؟

قال الصوت الناعم : أجل .. أنا التي وهبتك الحياة والحب والموت .

ــ : وهل أنا ميت حقا ؟

ــ : إنك على الخيط الفاصل بين الموت والحياة .

ــ : وما هذا الجحر اللعين ؟

ـ : إنه جحر الذين يبحثون عن الحرية

ــ : ومتى كانت الحرية أصفادا وقيودا ؟

ــ : مقاومة القيود حرية .

ــ : وهل الموت حرية ؟

ــ : منحتك الحرية فأضعتها .

ــ : بالله عليك عن أية حرية تتحدثين ؟

ــ : حرية الخضوع .. الهتاف ، وقرع الطبول .

ــ : الخضوع للأموات ، والحرية للأحياء

ــ : وأنت ميت .

ــ : سأخرج من قبري .. وأضرم النيران .

قهقهت ساخرة ثم قالت : تأبى إلا أن تكون شيطانا .

قلت : وأنت رغم سحرك الفتان .. آثمة طاغية ، ما زلت أذكر قولك : الحرية للشيطان .

قالت : والطاعة من شيم الملائكة

كظمت غيظي ، أحدقت فيها ، لكن نظراتي انحسرت ، وقد اضطرمت بي رغبة مجنونة ، وأنا

أتابع تلك القناة الضيقة التي حفرت على صدرها ، وقد خيل لي أن حريتي تتوقف حين تنحسر

تلك القناة فتنبلج على ضفتيها آثام الحياة بأبهى مفاتنها .

عاهرة ……. صرخت دون ما وعي.. أنت لا تبحثين عن ملائكة ، بل عن كلاب

كلاب تحسن الطاعة ، وتحسن الفتك والنباح .

رمقتني بنظرة عابثة وهي تقول : أنت شيطان بائس ، تحلم أن تكون نبيا ، لكنك في أرقى

الحالات لا تحسن أن تكون أكثر من نصف ملحد .

ــ : تبا لك .. إن الأنبياء أكثر الناس شقاء ، وأنا لا أطمع في شقاء أكثر مما أنا فيه .

ــ : زنديق مكابر .. أراهن أنك تعشق الشقاء.

ــ : بل الشقاء هو الذي يعشقني .

ــ : لم لا تنفضه عن كاهلك وتمضي حيث النعيم ؟

ــ : والجياع من لهم غيري ؟

ضحكت كأنها تهزأ ، ثم تداركت : الجياع ؟ ومن دفنك هنا غير الجياع ؟

ــ : كاذبة .. لم يفعل بي ذلك إلا الكلاب .

ــ : والجياع ماذا فعلو لك ؟ ــ : مغلوب على أمرهم

ــ : أنت أحمق ، لا تقرأ مطاوي النفوس ، هؤلاء الجياع لا يرون فيك إلا شيطانا يثير الفتن ،

ولو عدت إليهم لصوبوا نحوك السهام ، وصلبوك على قارعة الطريق .

مذ رحلت وهم يصبون عليك جامّ غضبهم ، ويقدمون الولاء للكلاب .

حشرجة الموت تفتك بي ، ويدي تنسدل بجواري ساكنة مهزومة ، ظلام دامس يغلف بصري .. رمال قذرة تعبث بعيوني .. أبحث عمن يواسيني على عتبات الموت .

أين أنت يا جلادي ؟

هربت مني الأشياء فلم يبق لي سوى أصفادي وذاكرتي .

أذكر يوم ‘فتحت أبواب المدينة للكلاب .. جفت المياه ، وأنشب الجوع أنيابه . لكن الفزع دفع

الناس إلى الهتاف ودق الطبول .

طافت بضحكتها الجموع الحاشدة ، ثم قالت : يسرني أن أصغي إليكم ؟

قفزت من بينهم وقلت : نريد الخبز والحرية .

ابتسمت بعذوبة وقالت : بل الخبز أو الحرية .

قلت : نريد الحرية .

رد القوم بصوت واحد : الحرية .. الحرية .

قالت وهي تدير ظهرها وتمضي : لكم ذلك .

لم تمض إلا لحظات حتى تدافعت الكلاب الهائجة ، فالتحمت بالجموع الحاشدة . كانت تفتك

بالأطفال والنسوة والشيوخ ،

تراجع القوم وقد ألجمهم الذعر والفزع . صرخت : أيها الناس ، لا بد أن تدفعوا تمن الحرية

اصبروا ، فالكلاب لن تكسب الجولة . سوف ترحل .

وحينذاك يكون الخبز لكم دون منازع .

صاح رجل بالجموع : يا قوم : تريثوا ، فالكلاب لن تؤذيكم ، سوف تمضي في حال سبيلها

و‘تفتح لكم أبواب المدينة . لكن الكلاب اشتد سعارها ، والجموع باتت تخشى سوء العاقبة .

ــ : أيها الحمقى .. سوف تخسرون الحرية والخبز . هتف أحدهم

ــ: : نريد الخبز ، ولا شيء سوى ذلك .. قال آخر



تقهقر الناس ، وانفضت الحشود . صرخت فيهم : أيها الجياع : تريثوا .. سآتيكم بالخبز ،

همت على وجهي . على أبواب المدينة بعت قميصي وحذائي ، ابتعت كثيرا من الخبز ، عدت

فألقمت الأفواه الجائعة . هتفوا لي . صحت فيهم : لا أطمع في الهتاف . أريد أن تتمسكوا

بالحرية وأن تصبروا . خمد جوعهم فدبّت الحياة في عروقهم ، هتفوا بصوت واحد : لن نتخلى عن الحرية .

تدافعوا كالطوفان ، وعلى أبواب المدينة برزت لهم الكلاب . كانت هائجة مائجة . نبحت :

أيها الأوغاد : ماذا حلّ بكم ؟ قالوا بصوت واحد : نريد الحرية ؟

‘فتحت أبواب المدينة . تدافعت الكلاب من كل صوب . تخطفت بقايا الخبز من أفواههم ،

أعملت الأنياب في جلودهم ، نزفت الدماء ، فدبّ فيهم الوهن والضعف .

قذفوني بنظرات عاتبة : أنت السبب . لعن الله …

حاولت أن أقول شيئا ، لكني لاحظت الجموع تتضاءل ، والكلاب تطغى ، بل خيل لي أن الناس

باتوا يخلعون ثيابهم ، ويرتدون جلود الكلاب .

انفض القوم من حولي ، وبرزت لي من ضباب هزيمتي .

عيناها تفترسني ، ومضات حب آثم تجذبني ، قالت : اتبعني

قلت : أحبك ، كم أنت رائعة ، لكنك لا ترحمين .

قالت : بل أنت المكابر ، لم أطلب منك سوى أن تكون كلبا ، فأهبك نفسي .

ــ : أفضّل أن أكون صرصارا على أن أكون كلبا .

ــ : أيها الأحمق ، لن تكون كلبا عاديا ، بل سيدهم .

ــ : لا أطلب السيادة ، بل الحرية ، حرية الجياع .

صرخت بالكلاب : خذوه .. قذفوا بي على عتبة بيتي وأنا أعاني لهاث الموت ، وخيط الرجاء

انقطعت خيوط الذاكرة ، فعاد إلي قبري ، أشعر بضيق واختناق حتى الموت .

حركت يدي وطفقت أحفر الغطاء الطيني .

قطرات السائل الحار تنهمر على وجهي ، الحشرات والديدان تنهش شرائح لحمي ، الركام والتراب

يتهاوى .

شعرت بلزوجة تسري في عظامي ، ورائحة نتنة تفغم أنفي . أظافري الممزقة تعبث بالغطاء .

والطين ينشق بصعوبة . صممت أن أمضي في المقارعة حتى الرمق الأخير .

من يدري ؟ فربما أزحت هذا الغطاء قبل أن تنفذ روحي .

نبضات الحياة تخبو ، والضيق يفتك بي ، لكني مضيت أحفر على غير هدى .

كميات هائلة من التراب تنهال على رأسي . الحفرة تضيق من حولي لكنها تمتد إلى الأعلى .

تململت ورفعت رأسي بحذر ، فشعرت براحة غامرة ، رغم أن نصفي الأسفل ما زال مدفونا

في الطين .

الغطاء يتمزق ، ورأسي تترنح في ظلمة تكاد أن تخلو من الهواء ، لكن الخدر ينداح عني قليلا

شعرت بتيار بارد يلفح وجهي .

مددت يدي بحرية ، وحركت رأسي خلال الفجوة الضيقة ، ثم سحبت نصفي الأسفل من

الركام والأنقاض .

تنفست الصعداء ، وحركت جفني . لكني لم أشاهد شيئا .

رفعت رأسي إلى الأعلى ، فلمحت شعاع النجوم يخفق في كبد السماء ، أدركت أني تأخرت

وأن الليل قد هبط مرة أخرى .--------------------------------------------------------------------------------

كلي عذاب
29-04-2007, 01:22 PM
قصة راائعة تحمل بين اسطرهاا حكما

اتمنى ان يستفيد منهاا الجميع

يسلمووو بانتظاار المزيد

omar_moosa
29-04-2007, 08:56 PM
أخي الكريم .......

مرورك مواسم الخير وعبق الطيب ......

شكرا على الثناء

لك الغيث ......

دفا المشاعر
01-05-2007, 09:01 PM
أخي المبدع الكريم /

عمر موسى ،،

قصة بالغة الوصف ومليئة بالعبرة والفائدة ،،

فعلاً رائع ما خطه قلمك ،،

أتمنى أن نرى جديد إبداعك في قسم الرواية والقصة القصيرة ،،

.
.
.

أصدق مـودة

omar_moosa
01-05-2007, 10:00 PM
دفا المشاعر ........


وجودك يسمو بالموضوع نحو الذرى ...


ويسكب الضوء ألحانا في ظلمات البؤس


لك أجمل التحايا

وكل الغيث والخير

omar_moosa
01-05-2007, 10:11 PM
أتابع تلك القناة الضيقة التي حفرت على صدرها ، وقد خيل لي أن حريتي تتوقف حين تنحسر


تلك القناة فتنبلج على ضفتيها آثام الحياة بأبهى مفاتنها

حــنــيــن
02-05-2007, 07:49 AM
الف شكر لك اخوي..

ننتظر جديدك بشوق..

تحيتي

omar_moosa
03-05-2007, 08:29 AM
حنين ......


مرورك ... يشد من أزري



ويغرس باقات الأمل .....


لك الغيث والخير

omar_moosa
03-05-2007, 12:24 PM
رمقتني بنظرة عابثة وهي تقول : أنت شيطان بائس ، تحلم أن تكون نبيا ، لكنك في أرقى

الحالات لا تحسن أن تكون أكثر من نصف ملحد .

ــ : تبا لك .. إن الأنبياء أكثر الناس شقاء ، وأنا لا أطمع في شقاء أكثر مما أنا فيه .

ابو ريما س
06-05-2007, 12:20 PM
مشكوووووووووووووووووووووو وووووووووووووور

omar_moosa
06-05-2007, 07:44 PM
أبو ريماس ........

مرورك أنسام الربا

وموج العبير

لك الغيث والخير

بـــشـــرى
09-05-2007, 10:40 AM
عـمـر مـوسـى

........................

قصة رائعة

الله يعطيك العافية على سردتها هنا

أختك .. بــشــرى

omar_moosa
09-05-2007, 03:42 PM
بشرى .......

تأخذ الأزهار قيمتها من شفاه

الفراش الذي يطوف بها ...

وأمواج النسيم

حين يعبث بنبضها

لك الغيث والخير

اخر الفرسان
09-05-2007, 07:45 PM
قصة في غاية الجمال
سلم قلمك
بانتظار جديدك
تحياتي
آخر الفرسان

omar_moosa
14-05-2007, 08:44 PM
آخر الفرسان .........

إن النبض يحيى من نبضكم

كان المرور غيما وخصبا

سعدت بكم

لكم الغيث والخير

أمل عبدالعزيز
31-05-2007, 07:53 AM
,
,
,
الرائع / عمر موسى

مبدع أينما حلّ قلمك ..
استمتعت هنا كثيراً بماسطرته أخي الكريم

دمت بخيـــر

omar_moosa
03-06-2007, 09:59 PM
أمل عبد العزيز .........

لك إطلالة تعبق بالعطر ... والشذى

حيث تكونين يكتمل المعنى ...

ويتجسد الجمال

كل الود .... والخير

ابو ريما س
03-06-2007, 10:08 PM
كلمات ي غايت الروعه

يتم
29-06-2007, 10:17 AM
صرخات تحت التراب


عمر موسى

لابد ان يهبط الظلام مرة أخرى

دمت

omar_moosa
02-07-2007, 08:39 PM
يتم ........

وجودك .... يعني لي الكثير .....

كأنه وسام يغري .... وشارة أفتخر بها ..

وأنسام أتنسمها ...

لك الود والخير