المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سوف اقتص منك...سوف اضربك كما تضربني ...قصة تحزن لا تفوتكم



][ الفيصل ][
19-08-2003, 08:41 AM
كنت مدرساً في حلقة تحفيظ القرآن الكريم بالمسجد ...وكنت أراه كل يوم بعد صلاة المغرب ...في الخامسة عشرة من عمره ...ممسكاً بمصحف صغير يقرأ فيه ...
لا!! لم يكن يقرأ في الحقيقة !!... بل كان يوهمنا أنه يقرأ !!...
لقد كان يختلس النظرات إلينا ...الحين بعد الحين !!...لقد كان يريد أن يعرف ماذا نفعل ؟!!... لقد كان يسترق السمع الفينة بعد الأخرى !!...
كان يريد أن يعرف ماذا نقول ونحن جلوس في حلقة تحفيظ القرآن الكريم في المسجد ؟؟
وكان كلما نظرت إليه ... غض طرفه وعاد إلى قراءته !!!
كان يجلس يومياً هذه الجلسة الخجولة ..وينظر تلك النظرات الغريبة !!
في ذات ليلة ...وبعد انتهاء صلاة العشاء ...عزمت على التعرف عليه ...فاقتربت منه ...ثم بادرته قائلاً:
أنا أسمي " سلمان " اعمل مدرساً في حلقة تحفيظ القرآن الكريم في المسجد ...
فبادرني قائلاً :
وأنا أسمي " خالد " !!
قالها بسرعة ...كأنه يحضر الإجابة من شهور ... وكأنه كان يتوقع هذا السؤال منذ أمد بعيد ...
واصلت حديثي معه قائلاً :
أين تدرس يا خالد؟؟
أجابني على الفور: في السنة الثالثة المتوسطة ... وأحب القرآن الكريم جداً ...
ازداد عجبي من كلامه !! ... ما ضرورة تلك الجملة الأخيرة ؟!!
تشجعت قليلاً ..وقلت له :
خالد هل لديك فسحة في الوقت بعد المغرب ، نأنس بوجودك معنا ، في حلقة القرآن ... وتسعد بمجالسة اخوانك من طلاب الحلقة !!
أجابني متلعثماً :
هاه القرآن ....الحلقة .... نعم ..!! نعم !!...بكل سرور ...سوف آتي انشاء لله إليكم كل يوم بعد المغرب
غمرتني الفرحة فأسرعت أقول له : إذن موعدنا إذا انشاءالله
أمضيت ليلتي...وأنا أفكر في حال هذا الفتى العجيب...استعصى علي النوم... وفر من مقلتي... حاولت أن أجد إجابة لما رأيت وسمعت !! فما استطعت إلى ذلك سبيلا... فقلت في نفسي:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وضعت جنبي على شقي الأيمن...ولفني الليل بين إردائه...وأخذني النوم في أحضانه... وتمتمت قائلا: اللهم أسلمت وجهي إليك..وفوضت أمري إليك....الخ
ومضت الأيام...وخالدا مستمرا معنا في حلقة القرآن...كان نشيطا في الحفظ والمراجعة...أحب الجميع....وأحبه الجميع...كان لا يفارق المصحف....ولا يترك الصف الأول
لم نكن ننكر عليه أي شئ... إلا شئ واحدا...شروده الطويل...وتفكيره الساهم !!
كنا نحس أن جسده معنا في المسجد... لكن روحه تمضي سابحة في ملكوت أخر..
كنت أفاجئه أحيانا....فأساله عن شئ ما...وهو شارد الذهن ساهم البال...
فكان لا يملك إلا أن يلملم هروبه الذهني...وشروده الفكري ويعتذر بأي عذر...
وهو يعلم إننا لا نصدقه فيه...أحسست أن لديه سرا كبيرا... وانه يخفي بين ضلوعه أمرا خطيرا...فعزمت على معرفة هذا السر الدفين...حتى أتمكن من التعامل معه كما ينبغي...
أخذته يوما إلى شاطئ البحر...فلعل سره الكبير يلتقي مع هذا البحر الكبير...فيفرغ ما في نفسه من هم... ويخرج ما في روحه من الم ومعاناة
وصلنا إلى البحر...ومشينا على شاطئه..كان الوقت مساءا....وكان القمر بدرا منيرا...والليل ساجيا..
منظر عجيب...التقى فيه سواد السماء مع سواد البحر...
ووقف نور القمر الفضي.... حائرا بينهما كوقوفي حائرا أمام خالد !!
المنظر كله صمت... في صمت
وفجأة.....اخترق هذا السكون الصامت... صوت بكاء حار... ونحيبا مر...و نشيج ملتاع...
انه صوت خالد وهو يبكي... لم أشأ أن اقطع عليه لذة البكاء... وطعم الدموع... فلعل ذلك يريح نفسه... ويزيل همه..
وبعد لحظات قال خالد: اني أحبكم.. أحب القران... وأهل القران... أحب الصالحين الطيبين المتطهرين الملتزمين... ولكن أبي... أبي ؟؟
فقلت له: أبوك ؟!! ما بال أبوك ؟!
فأجابني والعبرة تخنقه:أبي يحذرني دائما من أن أخالطكم وأصاحبكم !! انه يخاف منكم...
انه يكرهكم !!!... لقد كان دائما يبغضني فيكم... ويستشهد على ذلك بالقصص وحكايات وأساطير وروايات !!.. لكنني عندما أراكم في الحلقة تقرؤون القران... كنت أرى النور في وجوهكم... والنور في ثيابكم... والنور في كلامكم... بل كنت أرى النور في صمتكم... كنت اشك في كلام والدي..ز
فلذلك كنت دائما اجلس بعد صلاة المغرب... انظر إليكم... وأتخيل نفسي معكم... اقتبس من نوركم... وارشف من معينكم..
سكت خالد برهة... ثم تابع حديثه قائلا:
أتذكر ياأستاذ سلمان حين أتيتني بعد صلاة العشاء... لتدعوني للانضمام إليكم في حلقة القران الكريم... لقد كنت انتظرك منذ زمن بعيد.. لتمسك بروحي... وتجعلها تحلق مع أرواحكم... في عالم الهداية والاستقامة... عالم السعادة والفلاح...
لقد كانت كلماتك تلك ياأستاذ سلمان بمثابة المصباح الذي أنار لي درب الهداية... فتشجعت ودخلت الحلقة... واجتهدت في الحفظ.. لم أكن أنام بالليل... كنت اقضي الليل مع القران والدموع... والبكاء والخشوع..
لقد شعرت فعلا حين صاحبتكم بطعم السعادة ولذة العيش... لقد كنت اشعر وأنا معكم بسعادة غامرة لم اشعر بها قط في حياتي... لقد كنت القران أنيسي في خلوتي دائما.. لم اشعر معه بالوحشة أبدا...
سكت خالد قليلا... ثم واصل حديثه بنبرة متهدجة:
لاحظ أبي التغير الذي طرا على حياتي... وعرف بطريقة أو أخرى... أنني دخلت حلقة تحفيظ القران... وعرف أني مشيت مع المطاوعة...
ومضت الأيام حتى جاءت تلك الليلة التي لن أنساها ما حييت قط !!
كنت في البيت مع أمي و أخوتي...ننتظر حضوره من المقهى كعادته اليومية... لنتناول طعام العشاء سويا... فدخل أبي البيت... بوجهه المظلم وتقاطيعه الغاضبة...
وجلسنا على مائدة الطعام... الكل صامت كالعادة !!... كلنا نهاب الكلام في حضوره..
فجأة !! ... قطع أبي الصمت بصوته الجهوري... وبصراحته المعتادة قائلا:
لقد سمعت أنك تمشي مع المطاوعة !!
فاجأني كلامه...عقد لساني... ذهب بياني.. اختلطت الكلمات في فمي !!
لم ينتظر أبي حتى يسمع مني جوابا...بل تناول إبريق الشاي الموضوع على المائدة... ورماه بقوة في وجهي !!
دارت الدنيا في راسي.. واختلطت الألوان في عيني... سقطت على الأرض.... حملتني أمي الحبيبة... صحوت من إغماءتي الخفيفة... على يديها الدافئة... وإذ بابي يصيح فيها قائلا:
اتركيه... وألا أصابك مااصابه !!
استللت جسمي من بين يدي أمي... وتحاملت على نفسي لأذهب إلى غرفتي..سرت نحو غرفتي... وصوت سبابه المتواصل وشتائمه المقذعة لي...يطرق مسامعي بقوة وعنف...
بعد تلك الحادثة... لم يكن يمر يوم إلا وهو يضربني !!... يشتمني !!... يركلني !!... يرميني بأي شئ يجده أمامه !!
وبدون ذنب ارتكبه !!.... حتى أصبح جسمي لوحة مرعبة.... اختلطت فيها الألوان الداكنة... والجراح الغائرة !!
انفجر خالد حينها بالبكاء... حاولت تهدئته وتسكينه... بعد قليل هدا بكاؤه..
ثم واصل حديثه قائلا:
صدقني يااستاذ سلمان.... لقد كرهت أبي... أبغضته.. امتلأ قلبي بالحقد عليه !!
في ذات يوم من الأيام... ونحن على مائدة الطعام... قال لي ذلك الأب الظالم:
قم ولا تأكل معنا !!.... وقبل أن أقوم عن المائدة.... قام هو وركلني في ظهري برجله الغليظة... ركلة أسقطتني على صحن الطعام...
أظلمت الدنيا في عيني...وغلى الدم في عروقي... ولم اعد أفكر سوى في الانتقام من هذا الأب الظالم القاسي... تخيلت نفسي وأنا اصرخ في وجهه وأقول له:
سوف اقتص منك... سوف أضربك كما تضربني... واشتمك كما تشتمني !!...
سوف اكبر... وأصبح قويا... وسوف تكبر وتصبح ضعيفا... عندها سأفعل بك كما تفعل بي الآن... وحينها أجزيك شر ما جزيتني !!!
ثم هربت.....خرجت من المنزل... أصبحت اجري واجري على غير هدى ... وبدون هدف ... حتى ساقتني رجلاي إلى هذا البحر !!!
فأمسكت بالمصحف... أقرا فيه وابكي بحرقة ولوعة... حتى لم استطع أن أواصل قراءة القران.... من كثرة البكاء وشدة النحيب..
ولما وصل خالد إلى هذا القدر من الكلام... فتركته يبكي ويبكي... لان البكاء في كثير من الأحيان يكون هو راحة وهو السعادة...
لم انطق بكلمة.. فقد ربط العجب لساني !!
واستعجم بياني !!
هل أعجب من هذا الأب الوحشي الذي خلا قلبه من معاني الرحمة والأبوة...
وعشعشت في قلبه شتى أنواع القسوة والغلظة ؟؟
أم أعجب من هذا الابن الصابر على البلاء... الذي أراد الله له الهداية و الاستقامة... فألهمه الثبات رغم الضغوط الرهيبة التي يواجهها ؟؟
أم أعجب من كليهما.... حين استحالت رابطة الأبوة والبنوة بينهما إلى أشلاء وقطع ممزقة ؟؟
أفقت من خواطري تلك... على صوت خالد وهو يناديني أستاذ سلمان !!
أمسكت بيده...ومسحت بيدي على رأسه... انه كاليتيم بل اشد من اليتيم...
كفكفت دموعه بيدي.... ضممته إلى صدري... لعله أن يجد شيئا من الحنان الذي لم يشعر به طوال حياته... دعوت له... ونصحته ببر والده... والصبر على أذاه.... ولو حصل منه ما حصل !! ... ولو فعل ما فعل !!
ووعدته بان أقابل والده بنفسي...
واكلمه واستعطفه ليسمح لخالد بالعودة إلى حلقة التحفيظ.... وافترقنا على ذلك...
ومرت الأيام وأنا أفكر في الطريقة التي أفاتح بها والد خالد في موضوع ابنه...
وكيف أتكلم معه ؟؟؟ ... وكيف أقنعه !؟
وأخيرا... استجمعت قواي... ولملمت أفكاري... وقررت أن تكون المقابلة اليوم الساعة الخامسة عصرا...
وفي الموعد المحدد.. سرت إلى منزل والد خالد... وسارت معي أفكاري الكثيرة.. وتساؤلاتي العديدة...
طرقت باب المنزل... فتح الباب... وإذا بذلك الوجه العابس... وتلك التقاطيع الغاضبة تقابلني...
وقبل أن أتكلم... امسك أبو خالد بتلابيب ثوبي.. وقال:إليه.. وقال :
أنت المطوع الذي يدرس خالد في المسجد ؟؟!!!
نعـــــــــــم !!
فقال والشرر يتطاير من عينيه: والله لو رايتك تمشي معه مرة أخرى كسرت رجلك !!
.... خالد لن يأتيكم بعد الآن !!
ثم جمع لعاب فمه.. وقذف به دفعة واحدة في وجهي.. ثم أغلق الباب بقوة..
فمسحت مااكرمني الله به في سبيله.. ورجعت ادراجي وأنا اسلم نفسي وأقول لها:
رسول الله عليه الصلاة والسلام... فعل به أكثر من هذا.. لقد كذبه قومه وشتموه ورموه بالحجارة وادموا رجله وكسروا رباعيته... ووضعوا القاذورات فوقه... وأخرجوه من بلده... وطردوه من أرضه..
ومرت الأيام تلو الأيام... والشهور تلو الشهور... ونحن لا نرى خالدا... فأبوه يمنعه من الخروج حتى للصلاة في المسجد.. ونحن يمنعنا من رؤيته وزيارته...
دعونا لخالد كثيرا... وسألنا الله أن يلهمه الصبر والثبات أمام هذا البلاء...
بعد فترة من الزمن... انتقلت عائلة خالدا إلى الحي المجاور... وانقطعت أخبار خالد عنا بالكلية... ومرت السنون... ونسينا خالد في غمرة الحياة ومشاغلها...
وفي ذات ليلة... وبعد أن صليت العشاء في المسجد... إذ بيد غليظة تمسك بكتفي من الخلف !!....آه !!... أنها ذات اليد التي أمسكت بعنقي قبل سنين !!
التفت إليه..... يالهي !!...... انه نفس الوجه !!.... نفس التقاطيع !!... ونفس الفم الذي أكرمني بما لا استحق !!... انه أبو خالد !!
يتبع...

][ الفيصل ][
19-08-2003, 08:43 AM
ولكن هناك تغيرا كبيرا... فالوجه العابس أضحى منكسرا... والتقاطيع الغاضبة أمست ذليلة هادئة... والجسم قد هدته الآلام والهموم... والجسد قد أضعفته الأحزان والمغموم...
بادرته قائلا: أهلا يا عم !!...... ثم قبلت رأسه ورحبت به !!...... وأخذنا زاوية في ناحية المسجد...
وما كدنا نجلس حتى انفجر أبو خالد باكيا منتحبا...!!
أذهلني ذلك المشهد المؤثر... سبحان الله !!.... ما كنت أظن أن ذلك الوجه العابس...
وذلك القلب القاسي سيأتي عليه يوم يذرف فيه الدموع بحرقة ولوعة !!..
انتظرته قليلا حتى هدا بكاؤه... وخف نشيجه !!.... ثم قلت له:
تكلم يا عم... واخرج ما في نفسك... كيف حال خالد ؟؟! وما هي أخباره ؟!!
وكأني بكلمتي هذه غرست في أحشائه خنجرا... فتنهد تنهيدة عميقة... ثم قال:
خالدا !!.... لقد أصبح خالد يا بني شخصا أخر غير خالد الذي تعرفونه !!..
منذ أن خرج من عندكم... وترك حلقة تحفيظ القران... وابتعد عن مخالطتكم ومصاحبتكم..... تعرف على شلة من شلل الفساد... فهو اجتماعي بطبعه... وهو في سن يحب فيها أن يخرج ويلهو ويلعب... بدا التدخين... فشتمته وضربته... ولكن دون فائدة... فقد تعود جسمه على الضرب... واستساغت أذنه الشتائم والسباب!!
وكبر خالد بسرعة.. وكان يسهر مع رفاق السوء طويلا.... وكان لا يأتي المنزل إلا مع خيوط الفجر !!
طرد من المدرسة ... أصبح يأتينا في بعض الليالي... وكلامه ليس ككلامه المعتاد !!.......ووجهه ليس كوجهه الطبيعي !!
لسان يهذي بكلام غير مفهوم !!... ويد ترتعش !!
لقد تغير ذلك الجسم الغض الممتلئ الطري... الهادئ الوديع... وأصبح جسما مهترئا ضعيفا.... وتغير ذلك الوجه الأبيض النقي المشرق... فأصبح وجها اسودا عليه غبار الخطيئة والضياع !!
لقد وقع خالد في مصيدة الخمور والمخدرات !!
لقد ذهب منه ذلك الأدب والاتزان والخجل والاستحياء.. وحلت مكانه الرعونة وسوء الأدب !!
لقد ذهب ذلك القلب الطيب النقي البار... واستحال قلبا قاسيا كالصخر أو اشد قسوة وغلظة..!!!
سكت أبو خالد قليلا يكفكف عبراته ودموعه المتلاحقة !!... ثم واصل حديثه قائلا:
صدقني يا أستاذ سلمان....أصبح لا يكاد يمر يوم إلا وخالدا يشتمني !!
أو يركلني..!! أو يضربني...!!
تصور يا بني... أنا أبوه... الذي علمته و كبرته... يضربني ويركلني ويشتمني.؟!
ثم عاود أبو خالد بكاءه الحار... ونحيبه المر !!
بقيت لفترة ذاهلا.. غير مصدق لما اسمعه... وقطع على ذهولي أبو خالد وهو يمسح دموعه ويقول لي:
أرجوك يا بني... ياأستاذ سلمان... زوروا خالدا !!.... خذوه معكم !!
سوف اسمح لكم !! .... بيتي مفتوح لكم في كل وقت وحين !!... مروا عليه دائما !!.... لا تتركوه لرفقاء السوء !!
انه يحبكم... سجلوه في حلقة تحفيظ القران !!.... خذوه معكم في رحلاتكم !!... لا مانع عندي أبدا !!... بل أنا راض أن يعيش معكم في منازلكم !!... وينام معكم !!..... وإذا احتجتم إلى أي مبلغ من المال فانا مستعد لتوفيره لكم !!....
المهم أن يرجع خالد كما كان !!.... أرجوك يا بني !!.... اقبل يديك !!... والثم رجليك !!... أرجوك !!..... أرجوك !!
لا تتركوا خالدا.... ولا تتخلوا عنه !!
واسترسل الأب في بكائه ونحيبه... وغصصه وحسراته... فلما أنهى ذلك كله... وتوقف عن الكلام.. قلت له.. والعبرة تكاد تخنقني:
يا عم... ذاك زرعك !!... وهذا حصادك !!...
وانك لن تجني من الشوك العنب... وانك لن تحصد من كراهيتك للصالحين وبغضك للمتدينين إلا كل شر وبلاء... فان الذي يدافع عنهم هو رب العالمين سبحانه..
ولكن رغم كل ذلك.. دعني أحاول !!.... فقد انجح مع خالد وهذا فضل من الله وتوفيق... وقد افشل معه... وحينها لا تلومن إلا نفسك... فأنت الذي ضيعت ابنك بنفسك !!
فأنت القتيل وأنت القاتل... وأنت المظلوم وأنت الظالم !!
وبدأت محاولاتي مع خالد لرده إلى طريق الهداية والاستقامة... الذي انحرف عنه بتأثير الضغوط الرهيبة التي مارسها عليه والده الظالم القاسي... وبتأثير رفقاء السوء...
حاولت أن أقابل خالدا بأي وسيلة ولكنه كان يتهرب من مواجهتي بكل وسيلة ممكنة...
بعثت له الرسائل والخطابات... تابعت على منزله المكالمات والاتصالات...
انتظرته عند باب منزله الساعات تلو الساعات... بحثت عنه في المقاهي وأماكن التجمعات.... ولكن دون أن اظفر بمقابلته أو محادثته أو مواجهته...
وفي ذات مرة.... وبينما كنت سائرا على قدمي في احد شوارع الحارة... إذ بي أواجه خالدا أمامي....
عرفته مباشرة رغم تغير ملامحه كثيرا.... وعرفني هو على الفور... فحاول الهرب مني...والتملص من مواجهتي..
أمسكت يده بقوة.. ضممته إلى صدري !!... احتضنته إلى قلبي!!...
كان موفقا مؤثرا مؤلما... لم يستطع خالد الصمود أمامه.... فانفجر بالبكاء... ولم أتمالك نفسي أنا أيضا... فأجهشت بالبكاء !!...
بقينا على هذه الحال لدقائق.. ثم أخذته معي إلى منزلي.... جلسنا سويا لفترة طويلة وحكى لي خالد كل ما جرى له بعد تركه لحلقة القران.... وان حاله قد تغيرت منذ فارقنا...
أخبرت خالد بان والده هو الذي طلب مني أن آتيه.... وادعوه للعودة إلى حلقة القران الكريم في المسجد !!...
وأخبرته أن والده قد أصبح يحب الصالحين والمتدنين !!... دعوته إلى التوبة النصوح... فتحت له أبواب الأمل والرجاء في رحمة الله تعالى... حثثته على العودة إلى المسجد والمصحف ومخالطة الصالحين...
طلبت منه وبإلحاح شديد... أن يعود إلى درب الهداية والالتزام...
ولما أكثرت عليه الإلحاح... انفجر باكيا وهو يقول:
صدقني يااستاذ سلمان أنني أتمنى أن أعود إليكم... والى المسجد والى درب الهداية والاستقامة..... ولكنني لا أستطيع !!
لقد دمر أبي بظلمه وقسوته وكراهيته للصالحين والملتزمين... كل شئ جميل وسام في حياتي !!..
لقد أصبحت أعيش في هذه الحياة بلا هدف كريم... وغاية نبيلة اسعى لتحقيقها والحصول عليها... لقد أصبحت لا أطيق الصبر عن المخدرات والأفلام والنساء والسهرات والسفرات !!...
لقد فات الأوان يااستاذ سلمان !!..... لقد انتهى كل شئ..... فدعوني أسير في هذا النفق المظلم..... حتى اصل إلى نهايته.... والله اعلم ماذا ستكون النهاية ؟؟!!
وقبل أن يفارقني خالد نظر إلي نظرة حانية لطيفة وقال:
أستاذ سلمان..... أدعو الله أن يغفر لي ذنوبي وجرائمي.... وأدعو الله على أبي الظالم الذي قادني إلى الهاوية !!..
ثم انصرف خالد عني... والدموع تتحدر من مقلتيه... ولسان حاله يقول:
هذا ما جناه أبي علي... لاما جنيته على نفسي !!
انقطعت أخبار خالد عنا بالكلية بعد تلك الحادثة... وعلمت من أبيه انه قد ازداد بعدها قسوة وغلظة وشراسة معه... وازداد ضلالا وعنادا وانهماكا في المعاصي...
وظللت أدعو الله له بالهداية والصلاح دائما....
و في ذات ليلة مظلمة حالكة السواد.... وقبيل الفجر بقليل... خرجت من البيت لشراء دواء لأحد أطفالي... ومن أحدى الصيدليات المجاورة... وكان طريقي يمر على منزل خالد... فلفت نظري وجود سيارات الشرطة عند باب منزله !!
ترجلت عن سيارتي مسرعا... واتجهت إلى منزل خالد لاستطلع الخبر.... فلقيت احد أخوة خالد واقفا على الباب.... والدموع تتحدر من عينيه.... سألته عن الخبر... فاخبرني بالكارثة الفظيعة !!... والمصيبة المؤلمة !!...
لقد عاد خالد إلى البيت قرب الفجر.... وكان مخمورا سكران يهذي !!.... طرق باب البيت بعنف.... حاولت الأم أن تفتح له... ولكن أبا خالد منعها من ذلك !!
استمر خالد يطرق الباب بعنف وبقوة... فخرج له أبوه ليطرده عن الباب !!... ودخل الاثنان في شجار وسباب مقذع !!.. وشتم خالد أباه..... وحاول أن يمد يده عليه !!... بدون وعي أو شعور منه !!!.... وحاول الأب أن يدافع عن نفسه !!! ... فضرب خالد بعصا غليظة كانت معه على رأسه !!
جن جنون خالد عندها فاخرج سكينا من جيبه !!.... وهوى بها على جسد والده العجوز !!؟.... وطعنه بها عدة طعنات متتابعة !!... سقط الأب على الأرض مضرجا بدمائه !!... وأما خالد فقد ولى هاربا.... جاءت سيارة الإسعاف فحملت الأب إلى المستشفى بين الحياة والموت !!
قال الأستاذ سلمان: وفي الصباح... علمت أن الأب قد لفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى !!
متأثرا بالطعنات التي أصابت جسده...
وأما خالد فتم القبض عليه وإيداعه السجن... تمهيدا لتحويله إلى المحكمة الشرعية.... ليواجه مصيرة المحتوم:
الموت !!
وخرجنا في جنازة أبا خالد... لقد كانت جنازة مأساوية مبكية !!
وبعد أن دفنا أبا خالد في قبره وانصرف المشيعون... وقفت على القبر ... ودعوت له بالتثبيت ... ثم قلت له :
ياابا خالد: هل تسمعني ؟!!
ياابا خالد: ذاك زرعك !! ... وهذا حصادك !!.... فذق مرارة ما جنته يداك !!.... فما ابشعه من حصاد !!.... ومااقساها من نهاية مريرة دامية !!

الأميرة الناعمة
19-08-2003, 08:53 AM
قصة رائعة و مؤثرة

اللهم لا تبلانا و لا تبلى جميع المسلمين

تسلم على الموضوع الرائع

حســــــــاسة

][ الفيصل ][
19-08-2003, 11:07 AM
أشكر مرورك الكريم أختي حساسه


تحياتي لك

قوت القلوب
20-08-2003, 03:14 PM
من كثر التأأأأأأأأأأأأأثر ماقدر اقول شي
لاتعليق

السيف
22-08-2003, 08:05 PM
اخي الحبيب يا وجه الخير و الصدق انت

فعلا تأثرت لما قرأت

خالد مثال للكثير من ا لألبناء الذي عانو من مثل هذا الأب

لكن ما هي النتيجه إلا دمار خالد و الكثير من خالد في مجتمعنا

بل دمار جيل في اكمله

فالبعض و العياذ بالله اتتهم صوره سيئه عن رجال الدين

و قد يكون الجانبين هو السبب

فبعض الناس اتخذت الدين عاده و تقليد اسري

او بعضهم تجاره و البعض لوصول الهدف

و شوه صورة رجال الدين و العياذ بالله

لكن مهما كان هذه الفئه قليله و لله الحمد

و نحن تربينا على الأسلام و عرفنا ماذا يعني رجل الدين

و ماهو و ما هي رسالته

ما هو طبع هذا الرجل الزاهد ابعابد التقي الناشر للخير

لا يطلب الأجر إلا رضاء الله علية و الجنه الخالده

فعلا اتمنى ان يكون لي ولد صالح او اكون انا رجل دين

و اتمنى ان استحق و ان يشرفني الله ان اكون كالأستاذ سلمان

و اربي الكثير من الأولاد الصالحين و انشر الأسلام

ولو نظر الأنسان لرجال الدين الصادقين لعرف انه مخطئ بحقهم

فعلا انا عاجز عن الرد لمثل هذه القصه المؤثره للنفس

اقبل التحيه يا اخي الكريم و اقبل تقديري الكبير

اخوك / السيف