أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


براءة الحنابلة الكرام وسائر الأئمة الأعلام
من المسعى المفترى في البلد الحرام
للشيخ مراد شكري سويدان

.................................................. ...........................................
براءة الحنابلة الكرام وسائر الأئمة الأعلام من المسعى المفترى في البلد الحرام

الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم الرسل محمد بن عبد الله وصحبه أجمعين وبعد ،فهذا مختصر من القول في بدعة حدثت في حد المسعى في زمننا هذا ، عجبت كيف حدثت ، وذلك لظهور المسعى وتواتره في الكتب ، واتفاق أمة محمد عليه ، من جميع الطوائف حتى الخوارج والروافض ، إذ المسعى هو معنى قوله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ) ( البقرة : 158) فالصفا والمروة المذكوران في الكتاب العزيز علمان لموضعين معروفين محدودين بينين لم يقع خلاف في موضعهما ولا وصفهما ولا مقدارهما من عهد النبي صلى الله عليه وسلم بل قبل عهده إذ هما متوارثان عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وإسماعيل صلى الله عليه وسلم حتى مشركو العرب من خزاعة وقريش يعرفون حد الصفا والمروة كما هو على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره إلى يومنا هذا ، لأنه أمر حسي كالكعبة نفسها وكسائر المشاعر التي يرتبط الاسم فيها بالمعنى فلا يخرج إلى غيره ولا يدخل فيه غيره وهذه بدهيات ولا حول ولا قوة إلا بالله فإننا إذا قلنا السماء لم يفهم أحد من كلمتنا الأرض وإذا قلنا الحجاز لم يفهم أحد العراق وهكذا فالصفا حجر معروف الحد من عهد إبراهيم النبي إلى زمننا هذا والمروة كذلك ، إذا الصفا حجر ناتئ في أسفل جبل أبي قبيس والمروة حجر ناتئ في أسفل قعيقعان ، ذكر ذلك الأزرقي والفاكهي والتقي الفاسي وأمة كثيرون من فقهاء ومؤرخين ، في كتب المناسك وفي وصف البلد الحرام وقد بين الأئمة مجمعين عرض المسعى الذي هو فرع عن عرض الصفا والمروة بيانا منقولا متواترا أسوقه باختصار ، وذلك أن عرض الصفا والمروة من جهة المسجد ، هو جدار المسجد نفسه الذي بناه الخليفة العباسي المهدي ، في عمارته التي ابتدأت سنة مئة وواحد وستين للهجرة ، كما أفاد الأزرقي وغيره ، وقبل المهدي كان بين المسجد والمسعى ، بيوت ومنازل يسكنها الناس وكانت هذه البيوت على طول حد المسعى أبوابها تفتح عليه من الجهتين لا تزيد ولا تنقص بالحس والنظر وإقرار النبي محمد وسائر البشر ، فيطوف الطائف ثم يخرج من الأزقة التي بين الدور والمنازل ليصل إلى الصفا ، فاشترى المهدي هذه الدور والمنازل واحضر المهندسين وأدخلها جميعها في المسجد ، فصار جدار المسجد من جهة الكعبة هو حد المسعى وهذا واضح تعاقب على ذكر المؤرخون والمصنفون في هذا الباب ، كالأزرقي وغيره وهو إلى هذا اليوم لم يتغير ( أعني من جهة المسجد ) وأما الحد المقابل له فهو من جهة دار العباس رضي الله عنه والدور والدكاكين بحذائها على طول المسعى ولكنها الأشهر أي دار العباس ، وقد بقية هذه الدار التي ورثها العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم عن أجداده إلى أيام الملك عبد العزيز بن سعود ( 1376 هـ) حيث أزيلت وبقي باب العباس إلى اليوم وعرض ما بينها خمسة وثلاثون ذراعا ونصف الذراع ، وهو المسعى المعروف الذي يسعى الناس فيه ، قبل البدعة الشنيعة التي وقعت سنة ( 1430 هـ ) في توسعت المسعى من جهة دار العباس رضي الله عنه بناء على كلام ابتدأ من ثلة ليس فيهم من هو معروف بعلم ، ولا مشهور بتقوى وفهم .
والأئمة الأربعة وأتباعهم في كتب المذاهب المشهور أحيانا ينصون كالشافعية مثلا على عرض المسعى وأنه خمسة وثلاثون ذراعا ونصف كما في شرح الجلال المحلي على منهاج حاشية قليوبي وعميرة عليه وأحيانا يقولون من جار المسجد إلى دار العباس لظهور الأمر ووضوحه كما فعل صاحب الإقناع الحجاوي وغيرهم ، قال الحجاوي في الإقناع : ثم ينزل من الصفا ويمشي حتى يحاذي العلم وهو الميل الأخضر المعلق بركن المسجد على يساره بنحو ستة أذرع فيسعى ماشيا سعيا شديدا ندبا ، بشرط ألا يؤذي ولا يؤذي حتى يتوسط بين الميلين الأخضرين وهما العلم الآخر ، إحداهما بركن المسجد والآخر بالموضع المعروف بدار العباس أ.هـ
وفي شرحه كشاف القناع تصريح بأنه يبدأ السعي قبل ستة أذرع من العلم المذكور ومثل ذلك في منتهى الإرادات أيضا ويأتي شرح ذلك.
وما ظن أحدا ولا خطر بباله ، أن يأتي من يشكك في المحسوس فإن تبديل المسعى كتبديل الكعبة نفسها إذ الطريق الذي ثبت فيه البيت هو الطريق نفسه الذي ثبت فيه المسعى ولا فرق بين من يسعى خارج المسعى بذراع أو بجدة أو النجف ولا فرق بين من يطوف في الشبيكة أو في كربلاء ، وقد ذكر الأزرقي في تاريخ مكة أنه ذرع عرض المسعى من جدار المسدد إلى باب دار العباس ـ رضي الله عنه ـ فكان خمسة وثلاثين ذراعا ونصفا حوالي (17 متر) بقياس اليوم ، ومثل الأزرقي الفاكهي والتقي الفاسي ، صاحب شفاء الغرام وعدة مصنفات مطولة ومختصرة في وصف البلد الحرام فليراجع ويطالع ، بل إن الأزرقي وغيره قد ذرعوا ما بين الحجر الأسود إلى حد الصفا فقال إن ذرع ما بينهما مئتان واثنان وستون ذراعا وثمانية عشر إصبعا ، وذرعه التقي الفاسي في شفاء الغرام أيضا وهو بالمتر المعروف اليوم يقارب مئة وواحد وثلاثين مترا ، فلا يمكن ضياع حدود المسعى أبدا ولو زال كل ما حول البيت ، لأننا إذا قسنا من البيت إلى طرف الصفا المسافة المتقدمة ثم اتجهنا عرضا ، خمسا وثلاثين ذراعا ونصف تحدد المسعى بين الصفا والمروة بما لا يقبل تغيرا ولا تبدلا ولا شكا وقد وقعت حادثة ذكرها ابن فهد في إتحاف الورى سنة ( 875)هـ ، وغيره كالسخاوي في الضوء اللامع ، وهي من تعاجيب قدر الله سبحانه ، وخلاصة هذه القصة أن رجلا اسمه ابن الزمن استأجر مبيضأه وعدة دكاكين على حرف المسعى ملاصق لدارالعباس ـ رضي الله عنه ـ وشرع في بناءها وعمارتها ولكنه تجاوز إلى داخل إلى المسعى بغرض التوسعة لما بنى ، فأنكر عليه قاضي الشافعية المشهور برهان الدين بن ظهيره واقتضى الأمر اجتماع الأئمة المذاهب الأربعة ومنهم القاضي علاء الدين المرداوي مصحح المذهب الحنبلي صاحب كتاب الإنصاف ومع الشيخ قاسم ابن قطلوبغا الحنفي وشرف الدين موسى بن عيد المالكي ، وأجمعوا على الإنكار عليه والمقصود من الحادثة أنهم قالوا أثناءها إن عرض المسعى خمسة وثلاثون ذراعا كما قرر الأزرقي وغيره فقاموا وذرعوا المسعى من جدار المسجد إلى بناء ابن الزمن فوجد سبعة وعشرين ذراعا بمعنى أن ابن الزمن قد تجاوز إلى المسعى ثمانية اذرع والقصة مشهورة هناك والمقصود فيها اتفاق الناس على عرض المسعى وظهور ذلك بلا نزاع ولا خلاف إذ القضاة الأربعة الذين حضروا القصة هم أعيان في مذاهبهم مشهورة تراجمهم ، والمقصود اتفاق الناس على عرض المسعى بلا نزاع ولا خلاف حتى ابن الزمن لم يخالف في عرض المسعى ، وإنما حمله الهوى على البناء داخل المسعى نفسه ، بقصد منفعة الحجاج وغيرهم وأما عرض المسعى فلا اعتراض عليه من قبل ولا من بعد .
والخلاصة أن أئمة العلم بالبلد الحرام خصوصا كالأزرقي والفاكهي والتقي الفاسي وأئمة الفقة في كتب المناسك أجمعين مجمعون على ما ذكرته فيما تقدم.

فصل :
ولما ذكر الأزرقي ـ رحمه الله ـ توسعة المسجد الحرام في زمن المهدي صدرت منه عبارة تتعلق بتغيير المسعى والمقصود منها موضع ابتداء الهرولة والإسراع إذ قد نص الشافعي في الأم وتابعه كثيرون على أن ابتداء الهرولة والإسراع الذي هو السعي قبل العلم الذي هو في ركن المسجد بعد بناء المهدي وتوسعته بستة أذرع ، وهذا التغيير المذكور لا علاقة له في حد المسعى نفسه وعرض المعروف الواضح الذي تقدم ، قال في جواهر الإكليل شرح مختصر خليل المالكي والإسراع بين العمودين الأخضرين أولاهما في ركن المسجد تحت منارة باب علي والثاني بعده في جدار المسجد قبالة رباط العباس وذكر الخطاب عن سند أن ابتداء الإسراع يكون قبل العمود الأول بنحو ستة أذرع لتأخير عن محله الأصلي في ذلك المقدار انتهى .
أقول :
وقد تقدم قول صاحب الإقناع الحجاوي وصاحب منتهى الإرادات في ستة الأذرع فاعلم.
وقد ذكر التقي الفاسي في شفاء الغرام هذا التغيير وهل حصل أم لم يحصل وذكر كلام الأزرقي في ذلك فانظره هناك وكله يتعلق بابتداء الإسراع والهرولة ولا علاقة له أبدا بعرض المسعى نفسه الذي هو أوضح من الشمس ولو حصل له أي تغيير لظهر ولنقل ، وقد عد الأصوليون في كتبهم الخبر المعلوم قطعا كذبه فقالوا : إنه الخبر الذي لو وقع لنقل بتوفر الدواعي لنقله ، كالقول إن هناك بين مكة والمدينة بلدا أعظم منهما ، وهذا أعني نقل المسعى الذي فهمه من تولى كبر هذه البدعة الشنيعة العظيمة ، من جنس المعلوم كذبه إذ لو كان حقا حاصلا لنقل نقلا صريحا واضحا قاطعا.
ولكن العبارات التي استندوا إليها من كلام الأزرقي تتعلق بالمسعى الذي هو مبتدأ السعي الذي هو الإسراع والهرولة وقد نقل الخلاف في ذلك ولا ضير فيها لأنه يتعلق بسنة من سنن السعي لا بالمسعى نفسه فليعلم.
قال التقي الفاسي في شفاء الغرام ، وذكر الأزرقي ما يقتضي أن موضع السعي في ما بين الميل الذي بالمنارة والميل المقابل له لم يكن مسعى إلا في خلافة المهدي العباسي بتغيير موضع السعي قبله في هذه الجهة وإدخاله في المسجد الحرام في توسعة المهدي له ثانيا . انتهى .
وشرح هذه العبارة التقي الفاسي وكلامه كله حول تغيير المسعى وابتدائه أي ، موضع الإسراع والهرولة لا سواه لأن لفظ المسعى يطلق ويراد به ما بين الصفا والمروة ، وأحيانا يراد به موضع الإسراع وهو ما بين الميلين المذكورين وهما موضع ابتداء الإسراع والهرولة وأما حمله على تغيير المسعى نفسه ، فمن باب المحال فلا يمكن وقوع الاشتباه في ذلك أبدا ، لظهور الصفا والمروة ظهور بينا لكل ناظر.

فصل :
وأما ما نقله المسعويون الجدد من حجج سوى ما تقدم فلا شيء فيها يستحق الذكر ومنها ما يدخل في باب الجنون كقولهم إن المسعى نقل من مكان إلى مكان ، وليس هذا من كلام العقلاء ، وأعجب ما فيها إحضارهم شهودا من أهل مكة من كبار السن ولا أدري ما الفرق بين الصغير والكبير في أمر ثابت منذ آلاف الأعوام من عهد إبراهيم ـ رضي الله عنه ـ إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هذا العام ، ومن المضحكات المبكيات أن بعض الشهود يقول إنه يعرف الصفا أما المروة فلا يعرفها وبعضهم إن لم يكن كلهم يظنون أبا قبيس هو الصفا ، وقعيقعان هو المروة ، ثم من المعلوم في الشريعة أن الشهادة بعد ثبوت البينة القاطعة دليل قاطع على فسق الشاهد أو اختلال عقله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وبعض مرتزقة المراكز من بلد مجاور يتخيل أن الناس لما سعوا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجته قد خرجوا عن حد المسعى بالضرورة لكثرتهم ولا يدري هذا المتخيل أن المسعى لم يزل محاطا بالبيوت والبناء من جانبيه على حده منذ الجاهلية وبعد ذلك
وأما ما ذكر من إرسال كتب إلى قضاة الدول الإسلامية وأنهم أرسلوا الموافقة بذلك أو بعضهم فيقال إن حد المسعى وعرضه متفق عليه بين المذاهب الأربعة في كتبهم وغيرهم ، وأئمة العلم منهم يصرحون بموضع السعي ، طولا وعرضا بلا خلاف ينقل ويكفي قصة ابن الزمن التي تقدمت وينقلون بطلان سعي من خرج عنه بلا نزاع وبعد ذلك يقال ما حكم هؤلاء القضاء وإلى أي كتاب وسنة وقول عالم استندوا ؟!
ألم يسجن شيخ الإسلام زورا وكذبا بفتوى قاضي القضاة الإخنائي في عصره ، ألم يكفر الشيخ محمد عبد الوهاب وتلامذته ويضللوا بقول علماء السلطان في ذلك الزمان ، ألم تغز الدرعية ونجد من إبراهيم باشا الألباني ومعه القضاة المفتون وحصل من الفظائع ما حصل ، وكل ذلك برضا من قضاة السلاطين ، وحضورهم وعبدة الوظائف ، وقد بلغني أن العزل من الوظيفة هو جزاء من يخالف هذا المسعى المفترى ولذلك تكاثر مناصروه والله المستعان.
وقد كتبت هذه السطور متبرئا وعالما أن هذا المسعى مصيره الزوال كشأن أي باطل ، ثم أختم القول إنصافا وتحريا للعدل قدر المستطاع ، أن ملوك جزية العرب وهم حنابلة المذهب وأنصار المعتقد السلفي ، لهم في خدمة الحرمين خصوصا جهود عظيمة أعانهم عليها ما قد تيسر في هذا الزمان من الإمكان ولو لم يكن لهم إلا نصرة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الحنبلي ـ رحمه الله ـ التي حقيقتها إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له والتي لم يطرق العالم في القرون المتأخرة دعوة أصلح ولا أهدى منها لكفاهم ، ولكن الحق أحق أن يتبع فأسأل الله العظيم أن يصرف عن صفحاتهم هذه النكتة السوداء والبدعة النكراء.


كتبه
مراد شكري سويدان
جمادى الأولى 1430هـ