أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


حَمْدًا للَّهِ، ناصرِ المُسْتضعفين، مُنْجي المؤمنين؛ قاهرِ الظَّالمين، مُهْلك الطغاة والمجرمين. أمّا بعدُ:

فما زالَ الشاميّون في صراعٍ ونزالٍ بئيسٍ عصيبٍ -مُنْذُ سنتين آسنتين- لأعداء الله الطاغين الباغين؛ حتى بُلُوا بالجوعِ والخوفِ ونقصٍ منَ الأموالِ والأنفُسِ والثَّمَراتِ!

وما زال معَهُمْ- بإذنِ اللهِ- من اللهِ وجُنودِهِ الذين لا يعلمُهُمْ إلا هو سُبْحانه = ظهيرٌ ظاهرٌ,والحمدُ للهِ القاهرِ فوقَ عِبَادِهِ!

ولقدْ كانَ منْ آخِرِ أنْبَاءِ هذهِ الثَّوْرَةِ مقتلُ الشيخِ: (محمد بن سعيد البوطي) عَضيدِ النظام النُّصيريِّ ووليِّهِ وناصرِهِ؛ الذي قُتِل مساءَ الخميسِ الموافق 9 / 5 / 1434 هـ.

وكان لهذا القتلِ ما وراءَهُ منْ آراء, ورؤى، وأقاويل، وأحاديث، فمِنْ بَيْنِ مكفِّرٍ للبوطيِّ جملةً واحدة, داعٍ عليه بالويل والثُّبُورِ, فَرِحٍ بموته؛ وبَيْنَ مُصَوِّبٍ لهُ, مثنٍ عليه, متأسِّفٍ على موته جملةً واحدةً: برزَ قومٌ انتهجوا منهاجَ الاستقامةِ والاعتدالِ، فبيَّنُوا حالَهُ منْ قَبْلِ الثَّوْرَةِ، وحالَهُ منْ بَعْدِهَا، وما يتَرتَّبُ على الحالين؛ وموقفَ أهلِ السُّنَّةِ سلفًا وخلفًا منْ وفاةِ أمثالِهِ منَ المُبْتَدِعَةِ، وأعْوَانِ الظَّلَمَةِ؛ وَكَانَ مِنْ أجَلِّ مَنْ قَرَّرَ هَذا المَنْهَجَ مَكْتُوبًا: فضيلةُ شيخِنَا اللَّوْذَعِيِّ: أبي مهندٍ: محمد السُّفياني، المحاضرِ بكليةِ الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.

وإنّ ما كتبهُ-في نظري- لهُوَ أكثرُ جَمْعًا، وأضبطُ وَضْعًا، وأقومُ قيلًا، وأهدى سبيلًا، مِنْ كَثِيرٍ مما وقفتُ عليه مكتوبا من غيره من ذوي الفضل الأجلّة، وأولي العلم التجلّة- جزاهم الله خيرا جميعًا.

وكلامُه وكلامُهمْ يخرج من مشكاة واحدةٍ: مشكاةِ الكتابِ والسُّنَّةِ ومَنْهجِ سلفِ الأمَّةِ؛ وإنْ تَبَايَنَتِ القَرَائِحُ في الاسْتنباطِ، وتخالفتِ الآراءُ في تحقيقِ المَنَاطِ.

هذا؛ وبين أيديكمْ-بعدُ- وقفاتٌ مسددةٌ متأنية، عند حادثة مقتل البوطي، حبّرَتْها وجوّدَتْها يراعةُ شيخِنا السُّفْياني-حفظه الله- حيثُ قالَ:

"الحمْدُ للهِ, والصّلاةُ والسّلامُ على رسولِ اللهِ, وعلى آله وصحبهِ ومَنْ والاهُ. أمّا بعدُ:

فحينَ تناقلَ الناسُ خبرَ مقتلِ البُوطيِّ على يدِ النُّصيريةِ الذينَ نافقهم وداهنَهُم وانحازَ إليهِمْ ضدَّ إخوانِهِ المُستضعفين من المسلمين، وسائرِ السوريين المظلومينَ، كان في ذلك مدكّرٌ واعتبارٌ، وتحقّقَ مكرُ اللّهِ بالخونةِ الأشرارِ؛ حيثُ إنّ البوطيَّ خَذَلَ المُسْتَضْعفينَ؛ لِيَنْجوَ بحياتِهِ؛ فسلّطَ اللهُ عليهِ مَنْ أوى إليهم؛ فكانت نهايته على أيديهِم؛ ولا غَرْوَ؛ فإنَّ "مَنْ أعانَ ظالمًا بُلِيَ بِهِ" كما قالَ شيخُ الإسْلامِ ابنُ تيميَّة-رحمهُ اللهُ- في: "مجموع الفتاوى" (4/ 48).

وهُنـا وَقَـفَـاتٌ:

(1)

عُرِفَ البُوْطِيُّ بتدريسِهِ للعِلْمِ، والتّأْليفِ فيه، معَ تزهُّدٍ، وتخشُّعٍ ظاهرٍ، وقيل: إنّه لا يأخذُ أُعْطياتِ السُّلطانِ.

(2)

ومَعَ نَشْرِهِ للعِلْمِ؛ إلا أنّهُ مَعْروفٌ بِنَشْرِ البِدَعِ والخُرَافاتِ؛ حيثُ نَشَرَ التَّصَوُّفَ البِدْعيَّ، والفِكْرَ الكلاميَّ, والخرافاتِ القُبُوريَّةَ, معَ الوَقِيعَةِ في أهلِ السُّنّةِ، ولَمْزِ علمائهم، ومُعَاوَنتِه للنُّصَيْريّةِ الباطنيةِ، وخذلانِهِ للمُسْتضعفِين في الشَّامِ، ومُشاركتِه في ظُلْمِهِمْ.

ولمَّا اتَّهمَ العلامةَ الألْبانيَّ بالنفاقِ؛ دعا الألبانيُّ عليْهِ بأنْ يُطِيلَ اللهُ عُمُرَهُ، ويفضحَ سَريرتَهُ!
وهذا ثابتٌ بروايةِ طُلابِ الألبانيِّ الثقاتِ؛ فتحقّقَ هذا حتَّى شاهدَهُ الجميعُ يُدافعُ عن الطواغيتِ أعداء الرحمن، وهوَ مَخذولٌ مهانٌ!

وممّا يعضُدُ هذا من كلامِ علماءِ العصر؛ ما حكاه الشيخ العلامةُ حمادُ بنُ محمد الأنصاري- رحمه الله- (ت 1418هــ) عن البوطيّ قائلا:
"إنّ البوطيَّ أكبرُ عدوٍّ للسَّلفِ، وقد اجتمعتُ به بدمشق، وقلتُ له: أنتَ إلى الآن ما تبتَ؟
قال: مِنْ أيِّ شيء؟
قلتُ: أنسيتَ ما كتبتَهُ في ذمِّ السَّلَفِ؟
فقال: هؤلاءِ ليسوا سلفًا؛ إنّما هم خَلَفٌ!" انتهى بنصِّه منْ: «المجموع في ترجمة العلامة حماد الأنصاري» (2/ 610).

(3)

وحِينَ شاعَ خبرُ مقتلِهِ، تَورّعَ بعضُ المُسلمينَ عنْ سبِّهِ، والفرحِ بموتِهِ، وأظهرَ آخرونَ الفرح والسرورَ بهلاكِه.

فأمّا المتورّعون عن سبه؛ فهؤلاءِ قسمانِ :

* الأولُ: قسمٌ اطّردَ موقفُهُ في كلِّ مسلم أعلنَ الشهادتين، معَ عدِمِ لَوْمِهِ لإخوانِهِ الذين يُظهرونَ الفرَحَ عِنْدَ هلاكِ المُفسدينَ؛ فهذا القسمُ لا غُبارَ على طريقتِهِ.

* الثَّاني: قسمٌ عُرِفَ عنهُ التطفيفُ في الحُكْمِ، فَهُو كثيرُ الوقيعةِ في أهلِ السُّنة, يُنقِّبُ عنْ أخطائهم، ولا يعتذرُ لزلّاتِهِمْ، معَ اعتذارِهِ لأهلِ البِدَعِ والظلمة: يَتمحَّلُ لهمُ الأعذارَ, ويُوسِعُ لهمُ التأويلَ، ويُظهرُ لهمُ الشَّفقةَ؛ فبينما هو يتَّهمُ الشيخَ المجدّدَ محمدَ بنَ عبدِ الوهّاب-رحمه اللهُ- بأنَّه خاضعٌ لآلِ سُعودٍ، إذا به يعتذرُ للبُوطيّ مع خضوعِه لحُكومة النصيريّة؛ فاللهُ حسيبُهُم!

(4)


وأمّا منْ أظْهرَ السُّرورَ بهَلاكِ البُوطِيّ؛ فيتعينُ أنْ يَنْظرَ هؤلاءِ بنظرين:

* الأولُ: النظرُ الشَّرْعيُّ حيثُ يتَحرّى المؤمنُ منْ نفسِهِ أنْ يكونَ سُرورُهُ لسُرورِ المُسْتضعفينَ؛ فكَمْ منْ أمهاتٍ ثَكَالى، وزوجاتٍ أَيامَى، وأطفالٍ يَتامى، خذلَهُمُ البوطيُّ وشارك في ظلمهمْ!!
وكم-بسببه- منْ بدعةٍ انتشرتْ، و سنةٍ ماتتْ، و شرْكٍ ظهرَ، و شريعةٍ تعطّلتْ!!

فإنَّ هلاكَ مَنْ كان سببًا في ذلك: هو ممَّا يُسَرُّ بهِ المُؤمنُ:

* فقدْ سجدَ الحسنُ البصريُّ، وعُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ؛ شكرًا لله-تعالى- عندَ موتِ الحجَّاج الثقفيّ، وبكى إبراهيمُ النَّخَعيُّ؛ فرحًا لموته.

* ولمّا سُئلَ الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ: "الرجلُ يفرحُ بما ينزِلُ بأصحابِ ابنِ أبي دُؤاد: عليه في ذلك إثمٌ؟ قال: ومن لا يفرح بهذا؟".

* وذكرَ إسحاقُ بنُ إبراهيمَ: أنَّه خرجَ معَ أحمدَ بنِ حنبلٍ لصلاةِ العيد، فإذا بقاصٍّ يقول: "على ابنِ أبي دُؤاد اللعنةُ، وحشَى اللهُ قبرَهُ نارًا " فقالَ أبو عبدِ اللهِ: "ما أنفعَهُمْ للعَامَّةِ!".

* والسُّرورُ بهلاكِ المُفسِدينَ مأثورٌ عن الخلفاء الراشدينَ؛ فقدْ سجدَ أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالبٍ- رضي اللهُ عنه- حينَ وَجدَ ذا الثدية مع الخوارج، وسجدَ خليفةُ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وسلم- أبو بكرٍ الصِّديقُ-رضي اللهُ عنه؛ شُكرًا لله حينَ بلغَهُ موتُ مُسَيْلِمَةَ الكذّابِ.

* والنظرُ الثَّاني: هُو ألّا يَفرحَ على وجهِ الغُرورِ والتَّعَالي؛ بحيثُ يَرى في نفسِهِ أنّه بمَنْأى عنِ الفتنةِ، ومَعْزِلٍ عنِ الضَّلالِ، وأنَّه خيرٌ منْ فلانٍ الذي أضلَّهُ اللهُ-على علمٍ؛ فيتشفَّى آمنًا مكرَ اللَّهِ؛ بلْ ينبغي أنْ يكونَ ملتفتًا إلى تقصيرِ نفسِهِ، وَجِلًا منْ سيئاتِهِ؛ فإنَّ الذي أضلَّ فلانًا قادرٌ على إضلالِهِ؛ كما قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا القومُ الخَاسرونَ} [الأعراف: 99].

(5)

ورُبَّما حزِنَ المُؤمنُ للخاتمةِ السَّيِّئةِ التي ماتَ عليها منْ كانَ مُشتغلًا بالعلمِ والدَّعْوةِ، وتمنَّى ألَّا يكونَ خادمًا لأهلِ الكُفر والنفاقِ في آخرِ أيَّامِهِ منَ الدُّنْيا!

والحُزْنُ -هُنا- لاعتبارٍ شْرعيٍّ غيرِ الاعتبارِ الذي تَمَّ بهِ السُّرورُ والفرحُ، وكلاهما مَلْحظٌ شَرْعيٌّ صحيحٌ.

نسألُ اللَّهَ أنْ ينصُرَ السُّنَّةَ والتَّوْحِيدَ، ويقَمَعَ البدعةَ والشِّرْكَ، ويُعْليَ كلمتَهُ ويَنْصُرَ أهلَ الشَّامِ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. آمين آمين.

والحمدُ للهِ الوليِّ الناصرِ أوّلاً وآخرًا".

وكَتَبَ الوقفاتِ:
فضيلةُ الشيخِ: محمد السفيانيّ.

ونقلها عنه تلميذُهُ:
أبو طارق المكيُّ.
السبت الموافق 12/ 5/ 1434هـ.