أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الحمد لله رب العالَمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الأكرمين وبعد
1ـ "حكايةُ مَن تزبّب قبل أن يتحصرم" أي حكاية مَن صار زبيبا ذاويا قبل أن يكون حِصْرِما ـ وهوالعنب في أوّل أمره ـ ،وتُضْرَب الجملة مثلا لكل من توهّم نفسه ناضجا قد استوى أمرُه في شأنٍ مَّا وهو لا يزال فيه أخضرَ العُودِ تُؤْذيه العَضَّةُ وتُميله النَّسْمةُ ....وقد أحسن بعض الكَتَبَةِ الأفاضل فجعل هذه الجملة َعنوانَ رسالةٍ له صَدَرَتْ بِأَخَرَةٍ يصِفُ فيها نفسَه ـ أكرمه الله ـ وصفا لاذعا لاأمَرَّمنه عاريا لاأَصْرَحَ منه ،بل يتهجّم فيها عليها ـ نصره الله ـ تَهَجُّمَ المُغْضَب الذي ثارت ثائرتُه لِشيءعظيم قد سُلب منه ....وبلى ـ أيها القاريء الكريم ـ إني أستعمل اللفظ هنا في حقيقته لا على مجازه ولا على استِعارته ؛ واسمع الحكاية دليلَ صِدْقٍ على ما أقول : كان شابٌّ يَظْهَرُ عليه الذكاءُ وجودةُ التفهُّم والتحَفُّظِ أَمَّلَ في العلم وأحَبَّه وأراد أن يشُق فيه طريقا يصِل به إلى العُلا الذي قرَنه الله بِأهل العلم ....فعَزَم على ذلك عزْم الأبطال ،وأخذ يُنَفِّذ وبدأت المسيرة أولا في خطها الطبيعي المنشود (حفظٌ لأمّات مسائل العلم وتفهُّمٌ لها ،واستعانةٌ بمشايخ العلم في الأمرين جميعا) ؛ ثم لم تلبث خُطَاهُ أن انحرفت فَرَمَتْ به إلى سبيلٍ آخَر كان في شأن آخر هو أَلَذّ وأقربُ إلى النفوس المطبوعة على الجهل والظلم ، وطرِب الشيطان وقال في نشوة : "يا له من صيد" ....حقا يا له من صيد .
2ـ كيف كان ذلك ، وما هي تلك الطريق المشؤومة ؟ ....أما السببُ فهو نشوءُ معمعةٍ غريبة ــ في وقتها وعلتها ووجودها ـ حملت على ظهرها البغيض فئاما كثيرة من الناس = شبابا وكهولا وشيوخا وألقت بهم جميعا في أَتُّون (النقاش والجدال في فلان وعلان وهؤلاء وأولئك ) وكانت ـ ولا تزال مع الأسف الشديد ـ فتنةً جارفة وقع منها السلفيون في غُمّة ولَبْسٍ ولم يَكَدْ يقِفُ في وجهها إلا مَن كان مُتَـتَرِّسا بأصول العلم أو مُتَحلِّيا بمعرفة قدر النفس ....وبدَت تلك المعمعة ـ كما ذكرت آنفا ـ طريقا ألذ للنفس وأقرب إليها ، كيف وقد تَلَفَّعَتْ بشِعار هو من أعذب الشعارات وآثَرِها في نفوس الأخيار ...شعارِ الجهاد ، ويبدو أن صاحبنا الحبيب لم يكن متـترسا ولا متحليا فرمى العَدُوُّاللعينُ شِباكَه ليظفر بالصّيد ؛ وسرعان ما حاقت به تلك الشباكُ إذْ وجدتْ شابّا غريرا مندفعا فاقتحم صاحبُنا البائسُ المعمعةَ ...معمعةَ الضياع المؤسف المؤلم ،وأنا فلست أشك ـ طَرْفة عين ـ أنّ أخانا الغاليَ كان يحسب نفسه ــ في ضِمْن إخوانه السالكين مسلكه ــ مجاهدا صِنديدا يهدم الباطل ويبني الحق ، فإن خاب يقيني هذا فلا أقل من أنه كان يَعُدُّ نفسه في ذَيل قافلة هؤلاء المجاهدين ...وإذاً فهو واحد منهم على أيِّ الاحتمالين ...وإذاً فَـلْيَأْخُذ الأمرَ بقوة ولْيَجْهَدْ في ميدان المعمعة ما وَسِعَهُ الطَّوْقُ ...ومرت الأيام والشهورو السنون بعضها يتلو بعضا وصاحبُنا المَخطوف في غَمْرَةٍ عظيمة لايكاد يُدْرَك لها قَعْر ...ثم ...(لاإله إلاالله ...هنا في هذا الموضع ـ عَلِمَ الله ـ خفق الفؤاد وارتجف اليراع ...هنا فاض الدمع وتَجَهَّمَ الوجه ...هنا حَضَرَنِي الهَمُّ والغم وعشت القصة كأنها تقع بين يدي ) ...ثم أفاق هذا الفاضل البائس وانجلى عنه غبارُ تلك الغمرة بعد أربعة عشر عاما ....نعم بعد أربعة عشر عاما قَضَاها في القيل والقال وكثرة الردود وتشعب الأقوال ....نعم يا ناسُ بعد أربعة عشر عاما السنةُ تنطح أختَها ، فليت شِعري ما هذا الذي اعترى صاحبَنا إن لم يكن ضَرْبا من ضروب السُّكْر في وجوده المعنويِّ لا الحِسّيِّ......لَكَ المولى أيها الأخ الغالي .
3 ـ إذا كان على قدْر المصاب يكون الألمُ والوجَع فَـلَكَ أن تقدِّر كيف كان ألمُ صاحبنا ووجعُه ....لقد أفاق صاحبنا الكريم على حالٍ من الدهشة والاضطراب سجَّلها قلمُه المنكوبُ فـكَتَبَ : "فجأةً وبعد هذا العمر المديد في النقاش والجدل على أرض الواقع وفي فضاء المنتديات في الشبكة العنكبوتية،جلست مع نفسي في حساب عسير فلم أحصِّل شيئا من العلم الذي أحببتُه وما أحَبَّني ، وكنت سأتشرّف به ولكنه رفض أن يتشرّف بي...نظرتُ إلى موقعي من العلم فإذا بي صِفرٌ صغير على الشِّمال ،ليتَ الصفرَ كان كبيرا إذاً لكان في حجمه عزاءٌ وسَلْوَةٌ ولكني عرفت صِغَرَ حَجْمِ صفري فانتفضتُ كما انتفض العصفور بلَّـلَه القطْر، وشتان بين انتفاضتي وانتفاضة العصفور،فالعصفورانتفض من بِلال القطر من غيرِ كَسْبِ يَدِه ، وأما أنا فمن بلال الجهل بجِنايتي على نفسي ...عندها صِحت بمِلء فمي : "واثُكْلَياه ...واحسرتاه...ذهب العمر فَلْتَةً ...ذهبتْ حياتي" ، ثم يمّمت وجهي إلى غير قَصْد وأنا أقتلع خطاي من وحَل الحسرة مُطَأطيء الرأس حزينا كسيرا تتقاذفني أمواج الألم وتعتصرني معاصر الخيبة " انتهى كلامه ــ حفظه الله ــ واسْتَمِعْ هنا لِهذا الفاضل بعد تلك الإفاقة وهويحاور بل يحاسب بل يوبخ نفسَه المُلْتاعة في شكلِ أسئلةٍ محَدَّدةٍ تلسَع كالعقارب : "ما فائدةُ ما أنتَ فيه ؟...هل فرضُ عين ما أنتَ فيه أم فرضُ كفاية ؟...هل اتقيتَ الله في ردّك ؟...ثم هل حويتَ مالا يسع المسلم َجهلُه ؟ ...ما هي شروط الوضوء ؟ ...زوجتُك تسألُكَ هل ما هي فيه دمُ حيض أم استحاضة ؟...ثم هل يُجيز لك الشرعُ سخريّتك بهذا المسلم إن أخطأ ؟...لعلك وصلتَ إلى كبيرةِ الغيبة في ذِكْرك لفلانٍ المخطيء ؟...أَتَعْرِفُ حدود ما يجوز لك في ذكرك لأخيك ؟...ثم...أتعرف فقه الأولويات ؟...أتعرف متى تتكلم ومتى تصمت ؟...هل أمضيتَ في رَدَهات العلم عُمُرا ؟ ...أصابني الدُّوارُ بهذا الكم الهائل من الأسئلة التي في بعضها لم أجد جوابا وفي بعضها الآخر وجدت سِياطا لاجوابا ، وفي البعض الثالث وقفتُ على خسارتي ،ثم سقطت أرضا وماأتذكر إلا عصافير الحسرة وهنَّ يُحَلِّقن فوق رأسي بزَقْزقاتٍ يَنْعَيْنَ شبابا مضى " انتهى كلامه ــ رحم الله شبابه وأخلف له خيرا منه ــ
4 ــ تلك هي قصة صاحبنا الفاضل بإيجاز... لا تكاد تأخذ من عالَم الكتابة شيئا مذكورا لكنها أخذت من عالَم الأيام قِرابَ خمسةِ آلافِ يومٍ ، وإنها لتأخذ من عالَم العِبَرِ لمن تأَمّلَ وتبصّر قدْرا عظيما لا في عَدَدِه ولكن في خُطورة مغازيه وغاياته ، ولقد تفضّل الكاتب الكريم ــ زيادةً على سَرْد قصته في شجاعةٍ يقلُّ نظيرها بين الأنام ــ ببيان العبرة منها ومكمن الفائدة فيها فلله دَرُّه من ناصح مشفق وكاتب مُفْلق ...كَتَبَ ــ أعزه الله ــ آمرا ناهيا في حزْم صادق وإرشاد مُبارَك : " فلذلك دع ما أنتَ فيه ــ أيها المتزبِّب وهو حِصْرِم ــ من الخوض في تِيكَ المسائل أيا كان توجُّهُكَ : جاميا كما ينعت الناعتون ،أوصَحَويا كما يصف الواصفون ،أوقطبيا أو سروريا، ولاتشغل وقتك بالردود ومتابعتها ، ولئن فعلتَ فإنك الخاسر الوحيد ، فأنت الخاسر ولا خاسر إلا أنت ، وما تمشي إلا خلفَ سرابٍ بقِيعَةٍ ،فأنتَ تعرف وأنا أعرف أنّ لها حلاوة وطلاوة ، وأن في الجدال متعة وأيّ متعة ، ولكني أُشَبِّهُ هذه المتعةَ بالنظر إلى ماء البحر وزَبَدِه ...جميلٌ ورائع ولكنْ إذا وضعتَه في فمك علمتَ حقيقته...وحقيقتُه المَرَارةُ، وحقيقةُ ما نحن فيه فواتُ العمر بما ليس لك ." ا.هـ وأبلغُ مِن هذا الأمر والنهي قولُه ـــ وهو زبدة المقال وفصل الخطاب ــ : "إنَّ مِنْ صَميم هذه الحلقات وخلاصتِها الدعوةَ إلى اعتزال تلك المواضيع والدعوةَ إلى طلب العلم ، فلذلك هي تعمُّ كل صغير في العلم أيًّا كان توجُّهُهُ ، لِهذا فليسَتْ هي دعوةً إلى تغيير المواقف والقناعات تُجاهَ الأشخاص والجماعات و الفِئات ....ابْقَ على ما أنتَ عليه أيها الصغير كما أنت إنْ أحببتَ ولكنني أشجِّعكَ على أمرين : الأول أن تحتفظ لنفسك بمواقفك ورأيك ، والثاني أن تُحافظ على ثمَرة عمرك في توسيع رُقعة علمك الصغيرة ، وحين يكون لديك العلمُ الكافي الشافي فعندها ربما تتغير قناعاتك كلها أوبعضها ، أوتَثْبُتُ عليها كلِّها أوبعضِها بِحَسَب ما تراه موافقا للحق حين ذاك ، وحينها ستُبدي رأيَك على رؤوس الأشهاد عن علم وبصيرة فتقول بعلم وتصمت بعلم ."أ.هـ
5ــ كذلك قال وصدق ،ولقد زاد الأمرَ بيانا بِضَرْبِ الأمثال ،وبإسناد القضية في جُمْلتها إلى مرتَكَز من مرتكزات أهل العلم في فقه هذا الدين وهو اعتبارُ الأوْلَويات في النظر الشرعي للمسائل الواقعة بالمكلف فردا أو جماعة ، وهو ــ وإن لم يأت بتعريف محدَّد لهذا المرتكز الأساس في دين الله ــ فقد ضرَب له الأمثالَ حتى صار في مُتَناوَل الفهم ، ولوساغ للعبد الضعيف أن يقول في تعريفه لقال :"هو النظر الشرعي في أيّ الأحكام هو أنسبُ بالمكلف في قضية واقعة أومُتَوَقَّعَة باعتبارِ ماهو عليه من حال "، ولاريب أنّ هذا معنًى يتَّصل بتحقيق مناط الحكم في شِقَّيه العامِّ و الخاصّ مع مراعاة قاعدة المصالح والمفاسد جلبا وتكثيرا أو دَرْءا وتقليلا بضابط الشرْع الحكيم ؛ والقضيةُ هنا مفروضةٌ في طالبِ علمٍ صغيرٍ وَجَد فَضاءً رَحْبا يَتَناوَشُ فيه أُناسٌ القولَ حول فلان أو جماعة أوحزب أونازلة من نوازل العصر فوقع التساؤل في الحكم المُناسب له : أَهُوَ الدخول في هذا المُعْترَك والفَرْضُ أنّه خَلاءٌ من أصول العلم وأَساساته ... أم الإحجامُ عنه والحالُ أنّه مؤمنٌ بكتاب ربه وسنة نبيه مستمسكٌ بأئمة العلم المتّبِعين لخِطَّة السلف الصالح ماضٍ لِطِيَّتِهِ في طلب العلم ؟...لَعَمْرُ الحق إن قضيتنا هذه لاتحتاج إلى كبيرِنَظَرٍ ولا إلى سؤال بشر ، ولولا أنّ نكَـدَ هذه الفتنة وتسايُلَ الناشئة عليها بهذا النّحْوِ المُؤسف قد جرَّا صاحبنا الفاضل إلى الكلام عنها بهذا النوع من التقرير ...لولا ذلك لكان تناولها بهذا الشكل أمرا نُكُرا عند العقلاء لا يُدْرَى أيُضْحَكُ منه أم يُنْتَحَبُ .
6 ــ قد استوفى القلمُ ما أراده من رسالة صاحبنا الفاضل ، وبقي عليه أن يُفْصِح عن سِرِّ مُراده في هذا المسطور لِكُلِّ مَنْ وَقَفَ عليه ....هما أمران اثنان :أمّا الأوّلُ فَأَنْ يقرأ هذه الرسالة مَنْ لم يقْرأها بعْدُ ، فإنّها ــ على بلاغةٍ فيها ــ تَنُمُّ عن ذكاءٍ كامن في صاحبها أَمْكَنَهُ من فهم هذه البليّة النازلة بِعَدَدٍ من السلفيين على نحوٍ مُعْجِب ومَرْضِيّ وكفى بتزكية العلاّمة الفوزان لها ... ولا عجبَ أن تُسْعِفَنا هذه السِّنونَ المسْلوخةُ من عُمْر صاحبنا بمِثْل هذا التحليل المُسدَّد عند مواتاة الإنصاف وحُضور العقل وجَراءَة القلم .وأمّا الثاني فأَمْرٌ حَـزَّ في نفسي ولا أدري أَيَصلُحُ أنْ يكون له مقام ٌفي هذا الموضع أم لا ، فإن صلَح فذاك وإلاّ فالعِثار لا يُعاب من أهله ، وهو أنّي لا زِلت أتساءل منذ قرأْتُ هذه الرسالة : لِمَ لا نجد لهذه الرسالة الصّدى الحقيقَ بمثلها في كثير من منتديات السلفيين الواقعة في هذه البليّة على اختلاف أشياخها واتجاهاتها وإنهم لَيَتطايرون بالفَرْطة تصدُرمن بعضهم في بعض فكيف بقصة امتدّت على مدى أَرْبَعَ عَشْرةَ سنة تحمل في طيّاتها نعيَ شبابهم لو كانوا يعقلون ؟ ...وكان الجواب لا يحتاج إلى نظر بقدْرِ ما يحتاج إلى تَأَسُّفٍ على حال التابع في هذه الفتنة والمتبوع ... فقد قُلتُ : لعل كثيرا منهم يرى صورةَ نفسه في هذه المأساة فيصعُبُ عليه أن يتقبّل هذه الحقيقة الصادمة فيتأوّلَ لنفسه من الفُروق ما يَنْأى به عن شَبَح تلك الصورة .... وعبثا ـ والله ـ يحاول ...قد بَيَّنَ الصبحُ لذي عينين فإما سلوكُ المحجة البيضاء أوالتردّي في الهَبْطة العمياء .
7ــ ثم بلى ... ثَمَّةَ أمرٌ ثالث هو مِنْ سِرِّ المُرادِ في هذا المَسطور ،بل لعله لولا هذا الأمر ــ مع شيء آخر في النفس ــ لَمَا استُفِزَّ هذا القلمُ واستُثير من رَقْدَتِهِ ... أَلَا إنَّهُ التنويهُ بذلك الهَضْمِ العجيب الذي تكاد تنضَح به هذه الرسالة في كل سطر من سطورها الدّامية ...هضمِ صاحبنا من نفسه ... ولقد جالسنا جَمْعًا من الناس يُعَدُّون من الفضلاء تَرَى منهم التواضعَ الجمَّ في كل شؤونهم حتّى إذا نوفِسوا في مسألة من مسائل العلم ،وأبدى لهم الصغارُ من أمثال العبد الضعيف مَواطِنَ الضعف من بعض كلامهم أرَوْكَ من وجوههم أو ألسنتهم أو أقلامهم ما يقف بك على شيءٍ مَهول من كِبْر النفوس وتعاليها ....فلا يغرُرْك من الفاضل ــ عالما كان أم طالبَ علم ــ ما تَراه عليه من تواضعٍ حتّى تسبُره بهذا المِسبار الذي لا يخيب وهو النظر إليه عند مُراجعته في مسائل العلم نفيا وإثباتا فإن وجدتَه رجّاعا إلى الحق لا يستنكف منه خاضعا له لا يتلوّى عنه فقد ظَفِرتَ بالكنز الذي لا أغلى منه ، وإلاّ فانفُضْ يدَك منه في هذه الخَصلة بالخصوص ، واحذر أن تقع في التعصب له فتتعصّبَ للباطل من حيث لا تَشعُر .
8ــ هذا،وقد بدا لي بعض الإشكال في كلامٍ لهذا الفاضل لعلّي أعود إليه بالنظر اللائق به في موضع آخَر .....عَنَيتُ ذاك الذي يتعلّق بالفروق بين العالم وطالب العلم الكبير وطالب العلم الصغير، فقد زعم صاحبنا أن هذا من الواضحات ، وكتب في هامش الصفحة التاسعة ما حَرْفُـه : "من المحيِّر جدّا توضيح الواضحات ، فإنه قد اعترض عليّ معترض يقول:عرِّف العالم ،وعرّف طالبَ العلم الكبيرَ ،وعرّف طالب العلم الصغير" ا.هـ والذي يقتضيه النظر والواقع أنّ هذا الكلام مدخول ....بيانُ ذلك أنّه لو كان الأمر كما يقول صاحبنا من وضوح هذه الفروق لَما كانت الفتنة بهذا الهيَجان الذي نراه يَعُمُّ الآفاق ...كيف ونَصيبٌ كبيرٌمن هؤلاء الوالغين في هذه المعمعة أوالمهزلة يزعمون لأنفسهم الحقَّ في الكلام عن كِبار الناس والمسائل ــ إن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال ــ ومِنْ سَبَبِ ذلك أمران ــ في ضِمْنِ أمور أخرى ــ : أـ أحدهما اعتقادُ بعضهم أنّ هذه المعمعة حِلٌّ لكل من هبّ ودبّ ،ورسالةُ صاحبنا دَفْعٌ أيُّ دفعٍ في صَدْرِهذا الاعتقاد الغريب ؛ ب ـ والثاني اعتقاد بعضهم الآخَر أنها مخصوصة بالكبار من طلبة العلم ، وهُمْ مِنْهُمْ فجاز لهم ما لم يَجُزْ لغيرهم ، فإذا اطّلعتَ على كِتاباتهم وطرائق استدلالهم علمتَ أنّ الكِبَرَ في العلم بَرَاءٌ منهم وأنهم حَتْماً من طبقة الصِّغار ،ولا أرى وجها مقبولا في إنكارِ وجودِ هذا النوع من الاعتقاد الزائف مع وجود فَيْضٍ من التصريحات والتلميحات الدالة عليه في تلك المنتديات .... والقصْدُ أنّ عدم التفريق بين هذه المراتب الثلاث أمر واقع من بعض الصالحين ، ووقوعُه منهم دليل دامغ على وجود خلَلٍ في فهمه ، ووجودُ هذا الخلل آيةٌ صادقة على شيء من الغموض يكتنف هذا التفريقَ ، وهو المطلوبُ في بيان الدّخَل في كلام صاحبنا الآنفِ الذّكر.... ويُؤيِّد هذا المعنى ويشدُّ من أَزْره أنّه لايزال العلماء من سالف العصور يختلفون في ضَبْط المجتهد المُهَيَّإ للنّظر في المسائل المُشْكِلة مِن غيره ، ثم في ضبط حقيقة أهل التقليد وهل يوجَدُ منهم نوعٌ يسمّى أهلَ الاتباع يكون بين مرتبة الاجتهاد المطلَق ومرتبة التقليد المطلق ؟ ، وإذا كان موجودا فهل هم من العلماء الصالحين للإفتاء دون قيدٍ أم لابدّ أنْ نستحدثَ لهم مُصْطلحا جديدا ولْيَكُنْ " مجتهد المذهب أومجتهد الفُتيا أو طلبة العلم الكِبار أوأيَ اسم آخر" ثمّ نقيِّدَ مِن مجال نظرهم بِحَجْرِهم عن قضايا النّوازل ؟ ...في اختلافاتٍ أخرى تراها مبثوثةً في كتاب الاجتهاد من كتُب الأصول ،وإنكارُ هذا الاختلاف أو جَحْدُ ارتباطه بما نحن بِصَدده شيْءٌ لا معنى له ويكادُ يكون من جنس المكابَرة ....ولو زِدتُ فقلت : إنّ هذه المراتب بهذه الأسامي (عالم ، وطالب علم كبير، وطالب علم صغير ) مراتبُ مُحْدَثة ــ ولو في شكلها ــ ومَعَ الجديد يكونُ الغموضُ = لَكَانَ لِقولي هذا وجهٌ عند العارفين ،ولكان مِنْ حُجَّتي ــ في النّهاية ــ أنَّ دليل غموضِ هذا التّقسيمِ أمران اثنان : أحدهما أصلُ الاختلاف الواردِ فيه بين العلماء ؛ والثّاني كَونُهُ مُحْدَثاً بهذه الأسامي الجديدة ....وإذا ثبت هذا فتحقيقُ التمييز بين هذه المراتب الثلاث وإشاعتُه بين الناس من المحيّرات المهمّات لا من المُحيِّرات الواضحات والله أعلم .
9ــ وبعدُ فالكلامُ في مضامين هذه الرسالة المباركة يحتمل من البسْط أكثرَ من هذا المَسْطور ، ولكنْ يكفي من القِلادة ما أحاط بالجِيد ،وأسْأل المَوْلى تعالى في الخِتام أن يجزيَ صاحبَ الرسالة الأخَ الفاضلَ أحمد بن نجاء الرحيلي خيرَ الجزاء كِفاءَ صراحته وشجاعته وهضمه لنفسه ...وفضيلة َالشيخ العلامة صالح الفوزان لِقاءَ احتفاله بهذه الرسالة و تقريظه لها ... ورحم الله امْرَءاً عرف قَدْرَ نفسه فعاش يَرْقُبُ اللهَ في ذاته وزوْجه وولده وسائر أهله ومعارفه وإخوانه ثمّ لم يهتمَّ أنْ كان من السُّوقَة الخاملين أو كان من الأشراف النّابهين ، وصلّى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد الأمين وعلى آله الطّاهرين وصحْبه الأكرمين .