أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


المحاضرة السابعة عشر
بدعة القول بخلق القرآن ومحنة الإمام
· كيف ظهرت بدعة القول بخلق القرآن؟
لما تأصلت فكرة الجهم عند المعتزلة في استقلال العقل بإثبات الصفات أو نفيها وتشبعوا بالرغبة في تعطيل النصوص وردها محتجين بأن إثباتها يدل على التشبيه وأنواع المحال، وأن ظاهر النصوص باطل واعتقاده ضلال، رتبوا على هذا الأصل نفي أوصاف الكمال، فنفوا رؤية رب العزة والجلال وردوا الأخبار وأنكروا الآثار التي ثبتت في رؤية الله يوم القيامة، وقالوا أيضا بنفي صفة الكلام عن الله، وجعلوه عاجزا عن التكلم بالقرآن بحجة أنه لو كان متكلما في زعمهم لكان له فم ولسان، وأن إثبات صفة الكلام تشبيه لله بالإنسان.
وقد استفحل أمرهم وكثر عددهم وانتشر في البلاد خبرهم، ومن المؤسف أن بعض خلفاء الدولة العباسية قربهم وجعلهم في أعلى المناصب القيادية متعللين بأنهم كانوا يجادلون المخالفين مجادلة عقلية، وكانوا يقطعون الزنادقة والشيعة والجبرية في كثير من المناظرات الكلامية وأن شيوخ الحديث تعجز عن ذلك.
وفي بداية القرن الثالث الهجري تصادق المأمون بن هارون وهو من أبرز خلفاء الدولة العباسية تصادق مع بعض دعاة المعتزلة، وذلك قبل أن يكون خليفة المسلمين، فقرب إليه رجلا يقال له بشر بن غياث المرييسي ذا أصل يهودي، وكان هذا الرجل قد نظر في صفات الله بالفكر الجهمي، فغلب عليه وقال به وانسلخ من دواعي التقوى والإيمان وأعلن القول بخلق القرآن ودعا إليه حتى كان عينَ الجهمية في عصره، وكان عالمَهم المقتدى بأمره، فمقته أهل العلم وناظروه، وحكم عليه بعضهم بالفسق وكفروه.
قال الإمام الشافعي رحمه الله عن هذا الجهمي: ناظرت بشر بن غياث المريسي فكان مما قال: القرعة قمار وهي حرام، فذكرت له حديث عمران بن حصين في القرعة فبهت تاريخ دمشق 51/380، وحديث عمران رواه مسلم وفيه: (أَنَّ رَجُلا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لمْ يَكُنْ لهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللهِ S فَجَزَّأَهُمْ أَثْلاثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَقَال لهُ قَوْلا شَدِيدًا)، وفي رواية أخرى: (أن رجلاً من الأنصار أوصى عند موته فأعتق ستة مملوكين)، ومعلوم أن الوصية فيما دون الثلث، ولذلك أجرى النبي Sالقرعة بينهم، ومعنى قال له قولا شديدا أي أنكر فعله وكرهه، والشاهد أن أبسط أمور السنة لا يعرفها بشر المريسي.
واختلط الخليفة المأمون أيضا برجل يقال له أحمد بن أبي دؤاد الإيادي، وكان من أشد المتعصبين للمذهب الاعتزالي، قربه المأمون واتخذه صاحبا، ومن شدة تعلق المأمون به عظمه الشعراء نفاقا للخليفة حتى قال بعض الشعراء من بني العباس الذين تولوا المعتزلة:
رسول الله والخلفاء منا : ومنا أحمد بن أبي دؤاد.
فرد عليه بعض شعراء أهل السنة الذين أدركوا خطورة هذا الرجل وأمثاله فقال:
رسول الله والخلفاء منا : ونبرأ من دعي بني إياد
وما منا إياد إذا أقرت : بدعوة أحمد بن أبي دؤاد .
ومن شدة الترابط بين المعتزلي أحمد بن أبي دؤاد والخليفة المأمون أشار على الخليفة أن يكتب على سترة الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم، بدلا من قوله تعالى: } ليْسَ كَمِثْلهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { (الشورى:11)، فأراد أن يحرف كلام الله لينفي وصفه بالسمع البصر، تماما كما قال الجهم بن صفوان عن قوله تعالى: } الرحمن على العرش استوى { (طه:5)، قال: لو وجدت السبيل إلى أن أحكها من المصحف لفعلت.
وكذلك قرب المأمون إليه رجالا من المعتزلة حتى راوده على مذهبهم فأقنعوه وأصبح ألعوبة في أيديهم، ثم نصحوه أن يأخذ على أيدي الناس ويلزمهم أن يقولوا بقولهم توحيدا وإرضاء لربهم وإصلاحا لدينهم على زعمهم، وقد وقع المأمون بن هارون في شباكهم، وفرض على الناس بدعة جديدة لم تكن في أسلافهم، وهي البدعة الكبرى بدعة القول بخلق القرآن.
وقد وصل الأمر ببعضهم إلى محاولته تحريف القرآن حتى لا يؤمن بتلك الصفة فقال لأبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة: أريدك أن تقرأ هذه الآية: } وَكَلمَ اللهُ مُوسَى تَكْليمَا { (النساء:164) بنصب لفظ الجلالة، وذلك ليكون موسى u هو المتكلم، أما الرب عنده فلا يتكلم ؛ لأن الكلام لا يكون إلا بفم ولسان حسب زعمه فقال أبو عمرو: هب أني وافقتك في ذلك، فماذا تفعل بقوله تعالى: } وَلمَّا جَاءَ مُوسَى لمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّه { (الأعراف:143) فبهت المعتزلي؟
ولما أصر أبناء الجهمية من المعتزلة على نفي صفة الكلام عن الله تبادر إلى الذهن سؤال هام وهو: إذا كان الله لا يتكلم فهذا القرآن كلام من؟ ومن الذي تكلم به؟ فقالوا تكلم به محمد، ولما كان محمد مخلوقا فكلامه إذا مخلوق، وقد خلق الله محمدا وخلق كلامه كما خلق سائر الأشياء، أما هو سبحانه فلا يتكلم ولا يكلم أحدا من خلقه، وقد تخبط بعضهم فمرة ينسبونه إلى جبريل ! ومرة ينسبونه إلى محمد S ! ومرة يزعمون أن الله كان ولم يكن عرب ولا كلام عربي فالله خلق القرآن كما خلق العرب ! وغير ذلك من ألوان التخبط في الأدلة والتضارب في القول، وقد عبر ابن القيم عن ذلك في نونيته، فقال عن تضاربهم وتهافت قولهم مستهزئا بعقيدتهم:
إن الذي جاء الرسول به لمخلوق ولم يسمع من الديان.
والخلف بينهم فقيل محمد أنشاه تعبيرا عن القرآن.
والآخرون أبوا وقالوا إنما جبريل أنشاه عن المنان.
وتكايست أخرى وقالت إنه نقل من اللوح الرفيع الشان.
فاللوح مبدؤه ورب اللوح قد أنشاه خلقا فيه ذا حدثان.

هذي مقالات لهم فانظر ترى في كتبهم يا من له عينان

لكن أهل الحق قالوا إنما جبريل بلغة عن الرحمن.
ألقاه مسموعا له من ربه للصادق المصدوق بالبرهان.
ولما وقع الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد في شباك المعتزلة وتبنى قولهم في خلق القرآن فرض على الناس تلك البدعة وأحدث انقساما شديدا في الأمة فصار الناس وقتها على فريقين:
الفريق الأول: فريق يتابع الخليفة المأمون على رأي المعتزلة وينفون صفة الكلام عن الله ويعتقدون أن القرآن مخلوق، ومن قال بغير ذلك فهو عندهم كافر مشبه وضال مضل يستوجب السيف والقتل، وهؤلاء هم أهل القوة والمكانة أتباع الخليفة فالمأمون استخدم قوة الدولة في تأييد هذا الرأي وإلزام الناس بتلك البدعة، وأصبحت آراء المعتزلة قضية على رأس القضايا في اهتمامات الدولة، بل من أولى الاهتمامات في الخلافة الإسلامية، والمسألة لم تعد كلاما فاسدا يطوف على ألسنة الناس بين متأفف منكر ومستحسن مؤيد، بل أصبح الأمر خطرا داهما يهدد كافة المسلمين في كل مكان ويواجه فيه أضعف الناس قوة الدولة والسلطان.
الفريق الثاني: فريق مستضعف يمثلهم علماء أهل السنة وعامة الناس من الضعفاء وغيرهم، وهؤلاء يقولون بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ويؤمنون بما ورد من صفات الله في الكتاب والسنة، من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تحريف وهم بدافع إيمانه لا يجرؤون على تحريف الكلم عن مواضعه بالتأويلات الممقوتة التي دعاهم إليها أهل البدعة.
غير أن المواجهة قد اشتدت بين الفريقين إلى أن امتُحن فيها الناس أشد امتحان فلم يبق أحد من فقيه ولا محدث، ولا مؤذن ولا معلم، إلا أخذ بالمحنة وهرب كثير من الناس فرارا بدينهم، وملئت السجون بمن أنكر على أهل البدعة من المعتزلة أتباع الخليفة، وقد وصل التحدي إلى أن أمر الخليفة المأمون، أن يكتب على أبواب المساجد: لا اله إلا الله رب القرآن وخالقه، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد من الجلوس للفتيا في المساجد أو تبليغ العلم، لأنهم صرحوا بمخالفته فاعتبر المأمون ذلك منهم معارضة لسياسة الدولة.
· رسالة المأمون في إلزام الأمة بخلق القرآن وبيان ما فيها من زور وبهتان
أوجب الخليفة على كل مسلم أن يقر بخلق القرآن وينكر الأخبار والآثار تحقيقا لسلامته إن شاء البقاء على قيد الحياة وإلا سيواجه قوة الدولة بمفرده، وقد نصر الله سنته وأعز دينه بالإمام أحمد بن حنبل، هذا الحبر الجليل الذي وقف لله وقفة يضرب بها المثل في الثبات على الحق والتمسك بالسنة حتى قيل: أبو بكر ليوم الردة، وعمر ليوم السقيفة وأحمد ليوم البدعة.
قال الميمون: قال لي على بن المديني بعدما امتحن أحمد بن حنبل يا ميمون: ما قام أحد في الإسلام أحد مثل ما قام أحمد بن حنبل، قال ميمون: فعجبت من هذا عجبا شديدا وذهبت إلى أبي عبيد القاسم بن سلام، فحكيت له مقالة على بن المديني فقال: صدق، إن أبا بكر وجد له يوم الردة أنصارا وأعوانا، وإن أحمد لم يكن له أنصار ولا أعوان.
بدأت المحنة الحقيقية سنة 218هـ عندما أرسل المأمون كتابه الشهير الذي طلب فيه من الولاة أن يختبروا أهل العلم في القول بخلق القرآن، أرسل كتابه الشهير إلى إسحاق بن إبراهيم وإلي الخليفة على بغداد يلزم الناس فيه بأن يقروا بخلق القرآن تأييدا لرأي المعتزلة فجاء فيه: (أما بعد فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم ومواريث النبوة التي أورثهم وأثر العلم الذي استودعهم والعمل بالحق في رعيتهم، والتشمير لطاعة الله فيهم ).
من المعلوم أن الاجتهاد المحمود هو الاجتهاد المبذول لخدمة دين الله بعد تقديم النصوص فلا اجتهاد مع نص، قال تعالى: } وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً {[الأحزاب:36].
لكن الاجتهاد الذي بذله المأمون ودعا إليه اجتهاد سلطان سعى لهدم دين الله وهو يظن أنه يحسن صنعا، فإذا وصل الأمر بالخليفة إلى أن يعتقد أن آراء المعتزلة هي عين التوحيد، وأن القول بخلق القرآن هو الحق، وينفي صفة الكلام عن الله ويشبهه بالعاجز، ويرد ما جاء في الكتاب والسنة، ثم يدعو إلى ذلك ويسميه عملا بالحق في الرعية فهذا شر البلية، فلو مات المأمون على عقيدة العجائز من العامة لكان خيرا له.
قال المأمون في رسالته الشهيرة: (واللهَ يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته والإقساط فيما ولاه الله من رعيته برحمته ومنته، وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة ـ ممن لا نظر له ولا روية، ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، والاستضاءة بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق ـ أهل جهالة بالله وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به، ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله، وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم ونقص عقولهم، وجفائهم عن التفكير والتذكر).
إن أهل الجهالة هم الذين تركوا كتاب الله وسنة رسوله Sوارتضوا غيره من أحكام العقول الفاسدة بديلا، قال تعالى: } قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ {[الرعد:16].
نتابع كلام المأمون في رسالته لامتحان الناس والسبب في وصفه لهم بالجهالة والضلالة، قال: (وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن فأطبقوا مجتمعين واتفقوا غير متعاجمين على أنه قديم أول، لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه وقد قال الله U في محكم كتابه الذي جعله لما في الصدور شفاء، وللمؤمنين رحمة وهدى: } إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً {[الزخرف:3]، فكل ما جعله الله فقد خلقه.
وقال: } الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ {[الأنعام:1] وقال U: } كَذَلكَ نَقُصُّ عَليْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ {[طه:99] فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها وتلا به متقدمها، وقال: } الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلتْ مِنْ لدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ{[هود:1]، وكل محكم مفصل فله محكم مفصل، والله محكم كتابه ومفصله فهو خالقه ومبتدعه).
حجة المأمون في القول بخلق القرآن .
ذكرنا أن مذهب المأمون والمعتزلة أنهم ينفون أوصاف الله U تحت مسمى التوحيد ونفي التشبيه، ولما أصرت المعتزلة على نفي صفة الكلام وقعوا في أعقد إشكال، إذا كان الله لا يتكلم فمن الذي تكلم بهذا القرآن؟ فأداهم فكر الشيطان الذي عبث بعقولهم إلى القول بأن الذي تكلم به محمد S، ومحمد مخلوق فكلامه مخلوق، فهذا القرآن مخلوق خلقه الله كما خلق سائر الأشياء.
وهم لم يستندوا في اعتقاد هذا الكلام إلى قرآن أو سنة، وليس منهجهم هو الاعتماد عليهما في الأساس، ولكنهم لما أصلوا أصولهم وسلموا لما قررته عقولهم وساقتهم إلى الضلال أهواؤهم، ووجدوا أن عامة الناس لن يسلموا لهم، أو يعتقدوا في كلامهم إلا بدليل من قرآن أو سنة، نظروا في كتاب الله ليجدوا دليلا يقوي آراءهم وليخدعوا العامة بأنهم يعتمدون على الكتاب والسنة، وهم في حقيقة أمرهم يضربون بكلام ربهم وسنة نبيهم عرض الحائط، فاستدلوا بالآيات التي كتبها المأمون في رسالته وهي قوله تعالى: } إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً {[الزخرف:3]، فقالوا كل ما جعله الله فقد خلقه، وهذا كلام باطل يدل على جهلهم بكتاب الله U ولغة العرب ؛ لأن جعل في قوله تعالى: } إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً {[الزخرف:3]، ليست بمعنى خلق، فلفظ جعل قد يضاف إلى الله U وقد يضاف إلى المخلوق، فإذا أضيفت إلى الله U فهي على معنيين:
المعنى الأول: هو المعنى الكوني ويعني الخلق والتقدير والتكوين والتدبير الذي يقع لا محالة، كقول الله تعالى: } أَلمْ نَجْعَل الأَرْضَ مِهَادًا وَالجِبَال أَوْتَادًا وَخَلقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلنَا الليْل لبَاسًا وَجَعَلنَا النَّهَارَ مَعَاشًا وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا {[النبأ:6:13]، وكقوله U: } وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ {[الأنعام: 1]، وقوله تعالى أيضا: } وَجَعَلنَا مِن َالمَاءِ كُل شيء حَي أَفَلا يُؤْمِنُونَ {[الأنبياء:30]، وقوله: } وَجَعلنَا في الأَرْضِ رَوَاسِي أَن تَمِيدَ بِهَمْ وَجَعَلنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لعَلهُمْ يَهْتَدُونَ {[الأنبياء:31]، وقوله:} وَجَعَلنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا {[الأنبياء:32].
المعنى الثاني: هو المعنى الشرعي الديني الذي يحتوي منهج المكلفين وشريعة المسلمين، ويبين طريق عبادتهم وصلاح دنيتهم، وهذا قد يقع وقد لا يقع، ومعنى جعل هنا التشريع ووضع التكليف الديني الذي يحتوي أحكام المكلفين وشريعة المسلمين، كقوله تعالى: } فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً {[النساء:90]، أي لم يجعل لكم حكما شرعيا في قتالهم، وكقوله تعالى أيضا: } وَأَنزَلنَا إِليْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَليْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَل اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الحَقِّ لكُلٍّ جَعَلنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلوْ شَاءَ اللهُ لجَعَلكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِنْ ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلفُونَ {[المائدة:48]، وكقوله U: } مَا جَعَل اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلةٍ وَلا حَامٍ وَلكِنَّ الذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللهِ الكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون {[المائدة:103]، وكقوله: } أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلنَا لهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ليْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلكَ زينَ للكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون {[الأنعام:122].
ومن هذا المعنى الشرعي ما ورد في قوله تعالى: } إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لعَلكُمْ تَعْقِلُونَ {[الزخرف:3]، أي أنزل كلامه وشريعته بلغة العرب، وقد بين الله السبب في ذلك فقال: } وَلوْ جَعَلنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لقَالُوا لوْلا فُصِّلتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُل هُوَ للذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَليْهِمْ عَمًى أُوْلئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ {[فصلت:44]، وقال: } وَكَذَلكَ أَوْحَيْنَا إِليْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمان وَلكِنْ جَعَلنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {[الشورى:52].
لكن الخليفة المأمون بن هارون لم يدرك تلك القضية وأبعادها فأداه ذلك أن يلبس الأمور ويخلط معاني الجعل فجعل الكوني بالمعني الشرعي والشرعي بالمعني الكوني فقال في رسالته: (وقد قال الله U في محكم كتابه الذي جعله لما في الصدور شفاء وللمؤمنين رحمة وهدى: } إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً {[الزخرف:3]، فكل ما جعله الله فقد خلقه، وقال: } الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ {[الأنعام:1])، فجعل في الآية الأولى التي أوردها بمعنى شرع وفي الآية الثانية بمعنى خلق، وأراد المأمون أن يسوي بينهما.
وقد تضاف جعل إلى الله U وتشمل المعنيين معا، الكوني الشرعي، كقول الله تعالى: } وَإِذْ جَعَلنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْنًا {[البقرة:125]، وكقوله U: } جَعَل اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا للنَّاسِ {[المائدة:97]. أما جعل إذا أضيفت لمخلوق فلا تكون بمعنى خلق وليست بالمعنى الكوني أو الشرعي، كقوله تعالى: } أَجَعَلتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ.. {[التوبة:19] فجعل هنا لا يمكن أبدا أن تكون بمعنى خلق، فالإنسان لا يخلق سقاية الحاج ولا يشرع حكمها ولكن يتولها ويتولى أمرها، ومن ثم ليس كل ما جعله فقد خلقه كما زعم المأمون، وكقوله تعالى: } وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ {[البقرة:224]، وقال: } يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِين {[البقرة:19]، وقوله: } قَال اجْعَلنِي على خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَليمٌ {[يوسف:55]، وقال:} وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلةً وَكَذَلكَ يَفْعَلُونَ {[النمل:34].
وكذلك جعل إذا تعدت إلى مفعول واحد كانت بمعنى خلق كما في قوله: } وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ {[الأنعام:1]، وإذا تعدت إلى مفعولين لم تكن بمعنى خلق كقول الله تعالى: } وَلاَ تَنقُضُوا الإيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلتُمُ اللهَ عَليْكُمْ كَفيِلاً {[النحل:91] وقال: } وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ {[البقرة:224]، وكذلك قوله: } إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرآنَاً عَرَبِيًّا {[الزخرف:3]، فإنها تعدت إلى مفعولين.
أما احتجاج المأمون في رسالته بقوله تعالى: } الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ {[الأنعام:1] فيحتمل أنه يستشهد بأن جعل بمعنى خلق في قوله تعالى: } إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرآنَاً عَرَبِيًّا {[الزخرف:3]، فإن كان يقصد ذلك فهذا باطل لأنه خلط وتلبيس لمعاني الجعل حيث جعل الكوني بالمعنى الشرعي والشرعي بديلا عن المعنى الكوني وأراد أن يسوى بينهما.
ويحتمل أنه يقصد أن القرآن موجود في الأرض وهي مخلوقة فالقرآن مخلوق، وهذا باطل أيضا، لأن المعلوم أن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ كما قال تعالى: } إِنَّهُ لقُرآنٌ كَرِيمٌ في كِتَابٍ مَّكْنُونٍ {[الواقعة:78]، فالقلم واللوح مخلوقان لله، لما روى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عُبَادَة بن الصَّامِتِ أنه قال لابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ إنَّكَ لنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإيمان حتى تَعْلمَ أنَّ مَا أصَابَكَ لمْ يَكُنْ ليُخْطِئَك َ، وَما أخْطَأَكَ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُول الله S يَقُولُ: إنَّ أوَّل مَا خَلقَ الله تعالى القَلمَ فقال له: اْكْتُبْ، فقَال: رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء حتى تَقُومَ السَّاعَةُ، يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله S يَقُولُ: مَنْ مَاتَ على غَيْرِ هٰذَا فَليْسَ مِنِّي)، فالقلم واللوح مخلوقان لله، أما كلامه المكتوب في اللوح المحفوظ فهو مما تكلم الله به، وكلامه صفة من صفاته اتصف بها في الأزل، فكما أن الله أول بذاته قبل كل شيء، فهو أيضا أول بصفاته قبل كل شيء.
وكذلك يقال في القرآن الذي بين أيدينا، الأوراق والحبر والقلم مخلوقات خلقها الله أما كلام الله المكتوب في القرآن فهو مما تكلم الله به، وكلامه صفة من صفاته اتصف بها في الأزل، فكما أن الله أول قبل كل شيء بذاته، فهو أيضا أول قبل كل شيء بصفاته فلا حجة لهم في استدلالهم بقوله تعالى: } الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ {[الأنعام:1].
ولذلك أدرك بعض اليهود بهتان حجة المأمون، فقد اختصم يهودي ومسلم إلى بعض القضاة من القائلين بخلق القرآن، فحكم القاضي على المسلم باليمين وضرورة أن يحلف على صدقه وبراءته، فقال اليهودي: لا بأس حلفه، فقال المسلم أحلف بكتاب الله الذي لا إله إلا هو، فقال اليهودي: حلفه بالخالق لا بالمخلوق، فإن يزعم أن القرآن مخلوق، فحلفه بالخالق وظهر بهتانه.
أما استدلال الخليفة لمذهب المعتزلة بقوله تعالى: } كَذَلكَ نَقُصُّ عَليْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ {[طه:99]، وزعمه أن القرآن قصص لأمور أحدثه بعدها وتلا به متقدمها، فقد ذكرنا أن القرآن مكتوب في اللوح قبل وجود الخلائق، وقبل كتابته في اللوح كان في علم الله، وعلم الله صفة أزلية أولية، قائمة بذات الله اتصف بها في الأزل.
ولذلك لما ناظروا الإمام أحمد في حضرة المعتصم، قال له عبد الرحمن بن إسحاق: ما تقول في القرآن؟ فقال الإمام أحمد: ما تقول في علم الله؟ فسكت عبد الرحمن ولم يتمكن من الجواب، فقال أحمد: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله، فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن، فقال الإمام أحمد: كان الله ولا علم، فسكت عبد الرحمن.
ولذلك أيضا فإن المعتزلة يصرون على أن القرآن كلام الرسول Sوأن الله لم يتكلم به محتجين بقوله تعالى: } إِنَّهُ لقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ {[الحاقة:40]، ولفظ الرسول ذكر في الآية معرفا بأنه رسول، والرسول مبلغ عن مرسله، فلم يقل إنه قول ملك أو نبي، فعلمنا أنه بلغه عمن أرسله به، لا أنه أنشأه من جهة نفسه، وأيضا الرسول في إحدى الآيتين في سورة الحاقة أو التكوير هو جبريل، وفي الأخرى محمد S فإضافة القول إلى كل منهما تبين أن الإضافة للتبليغ، إذ لو أخترعه أحدهما أو أحدثه أو ألفه امتنع ذلك على الآخر، وأيضا فقوله: } إِنَّهُ لقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ {[التكوير:21]، فيه وصف الرسول بأنه أمين وهذا دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه ولا ينقص منه بل هو أمين على ما أرسل به يبلغه عن مرسله .
وأيضا فإن الله U قد كفر من جعل القرآن قول البشر وتوعده بسقر، ومحمد Sبشر فمن جعله قول محمد فقد كفر، قال تعالى عمن زعم أنه سحر أنشأه محمد Sمن عنده: } كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِل كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِل كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَر فَقَال إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ البَشَرِ سَأُصْليهِ سَقَر وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَر {[المدثر:16/28]، فمن زعم أنه قول البشر فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول إنه قول بشر أو جني أو ملك.
كما أن الكلام كلام من قاله مبتدئا لا من قاله مبلغا، فمن سمع قائلا يقول: أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي، قال: هذا شعر حافظ إبراهيم، ومن سمع قائلا يقول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى قال: هذا حديث للرسول S، ومن سمع قائلا يقول: } الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {[الفاتحة:2/3]، قال: هذا كلام الله، لو كانت لديه معرفة سابقة وإلا قال: لا أدري كلام من هذا؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لرمي بالكذب، ولهذا من سمع من غيره نظما أو نثرا قال له: هذا كلام بديع، كلام من هذا؟ هذا كلامك أو كلام غيرك؟ .
قال الإمام أبو حنيفة: (القرآن في المصاحف مكتوب وفي القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء وعلى النبي منزل ولفظنا بالقرآن مخلوق - يقصد حركة اللسان التي تتم لإخراج الحروف - والقرآن غير مخلوق، وما ذكر الله في القرآن عن موسى عليه السلام وغيره وعن فرعون وإبليس فان ذلك كلام الله إخبارا عنهم، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم، وسمع موسى u كلام الله تعالى، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا ويري لا كرؤيتنا ويتكلم لا ككلامنا).
أما استدلال الخليفة المأمون لمذهب المعتزلة بقوله تعالى: } الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلتْ مِنْ لدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ {[هود:1]، وحجته أن كل محكم مفصل له محكم مفصل، والله محكم كتابه ومفصله فهو خالقه ومبتدعه.
وهذا استدلال باطل لأنه ما من متكلم إلا وكلامه فيه إجمال وتفصيل وعموم وخصوص، وغير ذلك من أنواع الكلام، فهل كل متكلم من البشر أو غيرهم خالق لكلامه؟ ثم ما علاقة ذلك بكونه يتكلم أو لا يتكلم؟! فهم لو قالوا إن الله يتكلم ولا ندري كيف يتكلم لاهتدوا إلى الصواب كما اهتدى السلف الصالح ولكنهم رفضوا الإيمان بصفة الكلام أصلا وكذبوا بالآيات التي تدل على ثبوت الصفة لله، فقالوا لا يتكلم ولا يكلم وشبهوه بالأبكم تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
قال الخليفة المأمون عن علماء السلف الصالح: (ثم هم الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته مبطل قولهم ومكذب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم)، وهذا زور وبهتان فلم يرد في القرآن والسنة ما يدل على صدق البدعة التي دعت إليها المعتزلة في نفي الصفات والقول بخلق القرآن.
قال المأمون: (ثم أظهروا مع ذلك، أنهم أهل الحق والدين والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة، فاستطالوا بذلك على الناس، وأغروا به الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب والتخشع لغير الله والتقشف لغير الدين إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سيء آرائهم تمثلا بذلك عندهم وتصنعا للرياسة والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى باطلهم).
ادعاء المأمون أن أهل السنة يكفرون المعتزلة.
زعم الخليفة المأمون في رسالته أن أهل السنة والجماعة يكفرون المعتزلة، وهذا زعم باطل، فهم لا يكفرون إلا من كذب منهم بآيات الكتاب صراحة، أو قامت عليه البينة في أن قوله تكذيب لكلام الله وأصر على ما هو فيه، ولذلك لما حمل الإمام أحمد من دار الخلافة بعد أن جلدوه، وحضرت صلاة الظهر صلى معهم ولم يكفرهم فيما اعتقدوه، لأنه يعلم أنهم أهل جهالة بالله وعمى عنه.
وانظر إلى تحامل الخليفة على أهل السنة ووصفه لهم في رسالته بأبشع الأوصاف لأنهم عارضوه وتمسكوا بكتاب الله وسنة رسوله S، فحاول أن يفَصِّل لهم تهمة تبرر اعتقالهم وعقابهم، وهي زعمه أنهم يستترون بالدين من خلال إصرارهم على هذا الاعتقاد لطلب السلطة والرياسة، ثم يقول عن علماء السلف: (حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب والتخشع لغير الله والتقشف لغير الدين إلى موافقتهم عليه ومواطأتهم على سيء آرائهم، تزينا بذلك عندهم وتصنعا للرياسة والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى باطلهم واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالتهم).
يشير المأمون بن هارون إلى قوله تعالى: } أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلمَّا يَعْلمْ اللهُ الذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولهِ وَلا المُؤْمِنِينَ وَليجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {[التوبة:16]، ومعنى الآية أن الله ابتلى المؤمنين بالجهاد ليمحص أهل الحق، ويميز الذين ناصروا الله ورسوله ظاهرا وباطنا ممن نافقوا وناصروا الله في الظاهر فقط، أما الباطن فقد اتخذوا من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة يعني بطانة من الكافرين والمشركين يوالونهم على الكفر ويفشون إليهم أسرارهم بعداوة المسلمين، فالمأمون يشبه المعتزلة ودعوتهم إلى ما يسمى بالتوحيد ونفي الصفات وما أحدثوه في الأمة من فتن ومنازعات يشبههم بالمجاهدين الأولين من الصحابة في المعارك والغزوات لإعلاء راية التوحيد والقضاء على الشركيات، ويشبه علماء السلف بالمنافقين الذين يتخذون وليجة من دون المؤمنين فينافقون الخليفة في الظاهر ويدعون الناس في الباطن إلى خلاف ما يعتقدون، فأي عمى أصابه حين انقلبت لدية الموازين وأصبح الباطل حقا والحق باطلا .
ثم قال المأمون عن علماء السلف: (فقُبلت بتزكيتهم لهم شهادَتُهم، ونُفِّذَت أحكامُ الكتاب بهم على فساد نياتهم ويقينهم، وكان ذلك غايتَهم التي إليها أُجِّروا وإياها طُلبُوا في متابعتهم والكذبِ على مولاهم، وقد أُخِذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه أولئك الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم: } أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا {[محمد:24]).
لقد وصف السلف بأنهم لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون وأن المعتزلة هم أهل البصيرة الذين يفهمون ويعقلون فمن الأولى بذلك الوصف؟ الأولى بذلك هم أهل البدعة من المعتزلة ومن شايعهم، فهم اعتمدوا عقولهم وأهوائهم حجة وحيدة في وصف ربهم، وأوجبوا عليه أن يتصف بكذا وكذا مما استحسنوه ولا يتصف بكذا وكذا مما قبحوه، وقد نزه الله تعالى نفسه عن وصف العباد له واستثنى الوصف الذي بلغه عن الله المرسلون، فقال سبحانه وتعالى في مثل قول المأمون بن هارون: } سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ على المُرْسَلينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ {[الصافات:182].
فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به الظالمون، ثم سلم على المرسلين لسلامة ما وصفوا به رب العالمين، وأنهم لم يكونوا مشبهين ولا معطلين، وإنما كانوا موحدين مثبتين كل ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله S، ثم حمد نفسه على تفرده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد فقال: } وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ {[الصافات:182]، فلولا أن الله U عرفنا بنفسه في كتابه وفي سنة رسوله ما عرفناه S، ولو تركنا لعقولنا كما أراد الخليفة والمعتزلة لضل الناس في معرفة ربهم.
وقد ومضى خير القرون من الصحابة والتابعين على ما كان عليه رسول الله S كلهم بنبيهم محمد S مقتدون وعلى منهاجه سالكون، ولم يبتدعوا كما ابتدع المأمون بن هارون، بل هم أصحاب البصيرة وهم خير القرون يقرؤون القرآن ويتدبرون معناه ويؤمنون به ويعملون بمقتضاه، قال تعالى: } قُل هَذِهِ سَبِيلي أَدْعُو إلى اللهِ على بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ {[يوسف:108]، ونبينا S أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه فبعث بعلوم الأولين والآخرين ولم يدع إلى هذه البدع التي يسميها المأمون توحيدا وجهادا .
قال المأمون عن علماء السلف: (فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورؤوس الضلالة، المنقوصين من التوحيد حظا، والمبخوسون من الإيمان نصيبا، وأوعية الجهالة وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه، والهائل على أعدائه من أهل دين الله).
انظر مدى تمسك المأمون بمذهب المعتزلة وكيف غرسوا فيه هذا الاعتقاد إلى درجة أنه يعتبر المخالفين له من السلف هم شر الأمة ورؤوس الضلالة، وأنهم لا إيمان لهم ولا توحيد، وإنما هم أولياء الشيطان الذين يتكلمون بلسان إبليس.
لقد أسهمت بطانة السوء من المعتزلة في إضلال الخليفة وصاروا كالأفعى التي بثت سمها في قلبه، حتى ظن أن قولهم في نفي الصفات هو الحق الذي لا تشوبه شائبة وأنه منتهى التوحيد الذي يضبط به نوعيات العاملين لديه في مؤسسات الدولة، ومن ثم أوجب على أولي الأمر اختيار البطانة الصالحة من أهل العلم حتى يتم بزعمه صلاح الراعي والرعية.
قال المأمون عن علماء السلف الصالح: (وهم أحق من يتهم في صدقه وتطرح شهادته، ولا يوثق بقوله ولا عمله، فإنه لا عمل إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام وإخلاص التوحيد - يقصد توحيد المعتزلة - ومن عمي عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبتوحيده كان عما سوى ذلك من عمله والقصد في شهادته أعمى وأضل سبيلا، فاجمع من بحضرتك من القضاة واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق الله القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ولا واثق فيما قلده الله واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه وكانوا على سبيل الهدى والنجاة فمرهم بأن يسألوا من يحضرهم عن علمهم في القرآن، وأن يتركوا إثبات شهادة من لم يقر بأنه مخلوق محدث والامتناع من توقيعها عندهم).
أي دليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله S على أن الشاهد عند أداء الشهادة يمتحن في خلق القرآن، فإن أقر بأن الله يتكلم ردت شهادته وإن اعتقد اعتقاد الخليفة بأن الله لا يتصف بالكلام قبلت شهادته؟ أليست تلك بدعة نظير لها ولا يختلف عليها اثنان؟ فمن هم أهل البدعة والجهالة والعمى؟ لقد صدق قول القائل السلفي في الخليفة المأمون:
يا أيها الناس لا قول ولا عمل : لمن يقـول كلام الله مخلوق
ما قال ذاك أبو بكـر ولا عمر : ولا النبي ولم يذكره صديق
ولم يقـل ذاك إلا كل مبتدع : على الرسول وعند الله زنديق
يا قوم أصبـح العقل من خليفتكم مقيـدا وهو في الأغلال موثوق.
ولما ولى الخليفة المأمون بشر بن الوليد الكندي أمور القضاء بعد أن أقر بمذهب المعتزلة في خلق القرآن، كان إذا جاءه الشاهد في قضية ما سأله عن كلام الله وخلق القرآن، هل الله يتكلم أم لا؟ فإن قال بأنه يكلم رد شهادته، وإن قال لا يتكلم وشبهه بالأبكم قبل شهادته، فجاء رجل مرة ليشهد، فسأله بشر بن الوليد، فقال الشاهد: إن الله يتكلم كما يليق بجلاله، والقرآن غير مخلوق، واحتج على عقيدته بقوله U: } وَكَلمَ اللهُ موسى تَكْليماً {[النساء:164]، فرد بشر شهادته واتهمه في دينه، فخرج الرجل يصيح ويقول مخاطبا المأمون:
ألا أيها الملك المـوحد ربـه : قاضيك بشر بن الوليد حمار
ينفي شهادة من يدين بما به : نطق الكتاب وجاءت الأخبار
مناظرة العلماء في خلق القرآن.
قال المأمون لنائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم: (واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مساءلتهم، والأمر لهم بمثل ذلك، ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين والإخلاص للتوحيد، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله، وكتب في شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة ومائتين).
هذا كتاب المأمون بن هارون الذي حمل من ألوان الفتنة وأنواع الضلال وهو يدل بحق على مقدار البلاء الذي حل بالأمة الإسلامية بسبب الآراء الاعتزالية، فقد أمر الوالي إسحاق بن إبراهيم أن يجمع من بحضرته من القضاة، وأن يقرأ هذا الكتاب عليهم ويبدأ في امتحانهم والكشف عن اعتقادهم، وأن يقرأ هذا الخطاب عليهم مرارا حتى يدركوا مراد الخلفية منهم.
وقد كان رد الفعل في بغداد أن الوالي إسحاق بن إبراهيم أحضر الفقهاء والمحدثين والقضاة، وكان من أبرزهم أحمد بن حنبل، وأبو حيان الزيادي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلى بن أبي مقاتل، وسعدويه الواسطي، وعلى بن الجعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن الهرش، وابن علية الأكبر، ويحي ابن عبد الحميد العمري، وشيخ آخر من سلالة عمر كان قاضيا على الرقة، وأبو نصر التمار، وأبو معمر القطيعي ومحمد بن حاتم بن ميمون، ومحمد بن نوح، وابن الفرخان، والنضر بن شميلة، وأبو على بن عاصم، وأبو العوام البارد، وأبو شجاع، وعبد الرحمن بن إسحاق، وجماعة من أهل العلم، قرأ عليهم خطاب المأمون مرتين حتى فهموه.
ثم سأل بشر بن الوليد عن القرآن؟ فقال بشر: قد عرفت مقالتي لأمير المؤمنين غير مرة القرآن كلام الله. قال إسحاق بن إبراهيم: أمخلوق هو؟ قال بشر: } اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ {[الرعد:16]. قال إسحاق: أليس القرآن شيء؟. قال بشر: هو شيء. قال إسحاق: فمخلوق هو؟ قال بشر: ليس بخالق. قال إسحاق: ليس أسألك عن هذا. قال بشر: لا أحسن غير ما قلت وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه وليس عندي غير ما قلت.
أراد بشر بن الوليد الكندي في جوابه التورية والمواربة، فهو يبطن اعتقاد السلف ولكنه أراد الحيدة ليتخلص من امتحان الوالي وبطش الخليفة محتجا بقوله: } اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ {[الرعد:16] فيسكتوا عنه، لأن العموم في الآية مخصوص بالمخلوقات فقط، أما ذات الله وصفاته ومنها صفة الكلام وما تكلم الله به في القرآن فلا يندرج تحت عموم الآية.
والدليل على أنه سبحانه لا يعني كلامه مع الأشياء المخلوقة قوله تعالى عن الريح التي أرسلها على عاد: } تُدَمِّرُ كُل شيء بِأَمْرِ رَبِّهَا {[الأحقاف:25]، وقد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها كمنازلهم ومساكنهم والجبال التي كانت بحضرتهم، فأتت عليها تلك الريح ولم تدمرها، وبالرغم من ذلك قال: تدمر كل شيء، ومثل ذلك أيضا قول الهدهد عن بلقيس ملكة اليمن: } إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ {[النمل:23]، وعرش سليمان u كان موجودا وقتها ولم تستحوذ عليه بلقيس، فكذلك إذا قال تعالى: } اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ {[الرعد:16]، لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة.
وقال الله لموسى u: } وَاصْطَنَعْتُكَ لنَفْسِي {[طه:41]، وقال: } وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَه{[آل عمران:28] وقال تعالى: } كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِه {[الأنعام:54]، وقال U: } تَعْلمُ مَا في نَفْسِي وَلا أَعْلمُ مَا في نَفْسِكَ {[المائدة:116]، ثم قال سبحانه وتعالى: } كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ {[آل عمران:185]، فالعقلاء يعلمون أن الله لا يعني نفسه مع الأنفس التي تذوق الموت، فكذلك إذا قال: } اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ {[الرعد:16]، لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة.
فالقول الذي عليه السلف الصالح أن الله خالق كل شيء من الممكنات أو الحوادث المخلوقات، أما القرآن الذي تكلم به الله وبدا من كلامه فليس بمخلوق بل هو وصف أزلي قائم بالذات، وهو سبحانه شيء لا كسائر الأشياء ولا يطبق عليه ما يطبق على عليها قال تعالى: } ليْسَ كَمِثْلهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{[الشورى:11]، وقال سبحانه: } فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأمْثَال إِنَّ اللهَ يَعْلمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلمُون {[النحل:74].
فلما قال بشر لا أحسن غير ما قلت وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه وليس عندي غيرُ ما قلت، أخذ إسحاق بن إبراهيم رقعة كانت بين يديه مكتوب فيها إقرار سيوقع عليه كل من لا يقر بخلق القرآن وكان فيها: أشهد أن الله واحد أحد فرد صمد، لم يكن قبله شيء، ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه، في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه، فقرأها إسحاق بن إبراهيم على بشر بن الوليد الكندي وقال له: أتشهد على ما في هذه الرقعة؟ قال بشر: نعم، فقال إسحاق لكاتبه: أكتب ما قال.
لكن العبارة التي أشهده عليها عبارة مرنة ظاهرها حق وفي داخلها إقرار ضمني بمذهب المعتزلة، لأن معنى أن الله لا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا في وجه من الوجوه يلزم منها عندهم نفي الصفات عن الله مطلقا كالسمع والبصر والكلام وغير ذلك، لأن المخلوق له صفات أيضا كالسمع والبصر والكلام، فالاجتماع في الألفاظ العامة المشتركة يوجب عند المعتزلة التشبيه والتمثيل، وهذا من فساد الفطرة وخراب العقل، لأن التشبيه لا يكون إلا إذا قال سمع الله مثل سمعي وبصره كبصري وكلامه ككلامي فهذا تشبيه.
ومن ثم فقد أخطأ بشر بن الوليد الكندي حين أقر بهذه العبارة على إطلاقها وسوف نرى موقف الإمام أحمد منها.
ثم توجه الوالي إسحاق بن إبراهيم إلى على بن مقاتل فسأله عن قوله وعقيدته في القرآن، فقال على: هو كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا، ثم قال: قد يكون قوله كاختلاف أصحاب الرسول S في الفرائض والمواريث ولم يحملوا الناس عليها، فأشهده على الرقعة التي فيها: أشهد أن الله واحد أحد فرد صمد، لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه، وقال له: أتشهد على ما في هذه الرقعة قال: نعم، فقال إسحاق لكاتبه أكتب ما قال.
ثم توجه إلى أبي حسان الزيادي وسأله عن القرآن فقال: القرآن كلام الله، والله خالق كل شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين قلده الله أمرنا يقيم حجنا وصلاتنا، ونؤدي إليه زكاة أموالنا، وإن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، قال إسحاق بن إبراهيم: القرآن مخلوق؟ فأعاد أبو إسحاق ما قاله، قال إسحاق: إن هذه مقالة أمير المؤمنين، قال أبو حسان: قد تكون مقالة أمير المؤمنين ولا يأمر بها الناس ولا يدعوهم إليها، إن أخبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول بخلق القرآن قلت به، قال إسحاق: ما أمرني أن أبلغك شيئا إنما أمرني أن أمتحنك، فأشهده على الرقعة فشهد وكتب جوابه.
موقف الإمام أحمد في المناظرة حول خلق القرآن.
ثم جاء دور الإمام أحمد في محنته، وهو قوي بسيف الحق في حجته، صريح في دليله ومقولته، لا يلمح ولا يلوح، ظاهره ينبئ عن باطنه، لا يستخدم الحيدة أو التأويل، فهو بحول الله على الحق قائم، ولا يخشى في الله لومة لائم، فقال له بن إبراهيم: ما تقول في القرآن؟ قال أحمد: هو كلام الله، قال إسحاق: أمخلوق هو؟ قال أحمد: هو كلام الله ولا أزيد على ذلك، قال إسحاق بن إبراهيم أتوافق على الرقعة التي فيها: أشهد أن الله واحد أحد فرد صمد، لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه؟ قال الإمام أحمد أقول: } ليْسَ كَمِثْلهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {[الشورى:11]، ورفض ما في الرقعة لاشتمالها على حق وباطل.
وقد التزم الإمام أحمد بمنهج أهل السنة فأثبت القدر الفارق ولم يمثل، وأثبت القدر المشترك ولم يعطل، وأمسك عن عبارة: ولا يشبهه أحد من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه.
قال أحد الحاضرين من المعتزلة ينبئ عن جهله بصفات الله U يقال له ابن البكاء الصغير، قال لإسحاق بن إبراهيم: يا أمير إنه يقول سميع بأذن بصير بعين، قال إسحاق لأحمد: ماذا أردت بقولك وهو السميع البصير؟ قال أحمد مفحما لهما: أردت منها ما أراده الله ورسوله.
ثم اختبرهم رجلا رجلا وكتب ما كان منهم، وبعث جوابهم إلى الخليفة المأمون بن هارون، فمكث القوم تسعة أيام ثم دعا بهم إسحاق بن إبراهيم وإلي الخليفة على بغداد وقد ورد كتاب المأمون الثاني جاء فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد بلغ أميرَ المؤمنين كتابُك جوابَ كتابه إليك، فيما ذهب إليه متصنعة أهل القبلة وملتمسو الرئاسة فيما ليسوا له بأهل من أهل الملة، وما كان من قولهم في القرآن لما أمرك أمير المؤمنين بامتحانهم وتكشيف أحوالهم، فأما ما قاله المغرور بشر بن الوليد في نفي التشبيه وما أمسك عنه من أن القرآن مخلوق، وادعاء تركه الكلام في ذلك واستعهاده أمير المؤمنين فقد كذب بشر في ذلك وكفر وقال الزور والمنكر.
ولم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه في ذلك ولا في غيره عهد ولا نظر أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص والقول بأن القرآن مخلوق، فادعه إليك وأعلمه ما أعلمك به أمير المؤمنين من ذلك، وأنصصه عن قوله في القرآن واستتبه منه، فإن أمير المؤمنين يرى أن تستتيب من قال بمقالته، إذ كانت تلك المقالة الكفر الصريح والشرك المحض عند أمير المؤمنين، فإن تاب منها فأشهر أمره وأمسك عنه، وإن أصر على شركه ورفض أن يكون القرآن مخلوقا بكفره وإلحاده فاضرب عنقه وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه إن شاء الله، وكذلك إبراهيم بن المهدي فامتحنه بمثل ما تمتحن به بشرا فإنه كان يقول بقوله، فإن قال إن القرآن مخلوق فأشهر أمره وأكشفه وإلا فاضرب عنقه، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه إن شاء الله وأما أحمد بن حنبل وما تكتب عنه فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى تلك المقالة وسبيله فيها واستدل على جهله وآفته).
وقد سمى الخليفة المأمون في خطابه رجلا رجلا ثم قال: (ومن لم يرجع عن شركه ممن سميت لأمير المؤمنين في كتابك وذكره أمير المؤمنين لك، أو أمسك عن ذكره في كتابه هذا ولم يقل إن القرآن مخلوق بعد بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين مع من يقوم بحفظهم وحراستهم في طريقهم حتى يؤديهم إلى عسكر أمير المؤمنين ويسلمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه لينصحهم أمير المؤمنين فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعا على السيف إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وقد أنفذ أمير المؤمنين كتابه هذا في خريطة بندارية، ولم ينتظر اجتماع الكتب الخرائطية ـ يعني الرسائل العادية ـ معجلا به تقربا إلى الله U بما أصدر من الحكم ورجاء ما اعتمد، وإدراك ما أمل من جميل ثواب الله عليه، فأنفذ لما أتاك من أمر المؤمنين، وعجل إجابة أمير المؤمنين بما يكون منك خريطة بندارية مفردة عن سائر الخرائط لتعريف أمير المؤمنين ما يعلم شاء الله).
عند ذلك أدرك المحدثون أن الخليفة قد أجمع أمره، وأنه فوض نائبه في بغداد إسحاق بن إبراهيم بقطع الرقاب، وأن الأمر شديد فأجابوا مكرهين متأولين قول الله تعالى: } إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإِيمانِ {[النحل:106].
أجاب القوم كلهم إلى أن القرآن مخلوق حين دعاهم إسحاق بن إبراهيم وأعاد امتحانهم، ولم يمتنع إلا أربعة نفر منهم الإمام أحمد بن حنبل والحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ الحَضْرَمِيُّ المكني بسجادة، وعبيد الله بن عمر القواريري، ومحمد بن نوح.
فأمر إسحاق بن إبراهيم باعتقالهم وشدهم في الحديد ووضعهم في السجن، ثم في اليوم الثاني دعاهم جميعا، فأتي بهم يساقون في الحديد، فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة الحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ إلى أن القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده وخلى سبيله، وأصر الآخرون على قولهم، فلما كان من بعد الغد عاودهم أيضا فأعاد عليهم القول فأجاب عبيد الله بن عمر القواريري إلى أن القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده وخلة سبيله.
وأصر الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهما في خلق القرآن وأن القرآن كلام الله غير مخلوق ولم يستجيبا لوالي الخليفة، فزاد إسحاق بن إبراهيم من قيودهما في الحديد ووضعهما في سجن بغداد استعدادا لترحيلهما إلى الخليفة المأمون، وكان إسحاق بن إبراهيم قد كتب للمأمون كلاما خاصا عن الإمام أحمد يلفت نظر الخليفة إلى أن له منزلةً في قلوب الأمة من حيث العلم والصدق والزهد في الدنيا، وأنه يرى الطاعة لأمير المؤمنين.

انتهت المحاضرة
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني