:58774:أبو مطر
من ذكرياتي في التدريس !
عشت سعيدا بين الطلاب
الحلقة رقم (34)
---------------------
أبو مطر
معلم تربية إسلامية من
الرعيل الأول!
قارب الستين من عمره!
كنت في الخطوة الأولى
من تدريسي وكان هو في
الخطوة الأخيرة !
أما الأعباء فواحدة!
ومع ذلك فما رأيته - والله -
يتأفف أو يتسخّط أو يتشكى!
لأنه كان يعمل لله فقط!
ترى وجه يشع نورا
لا ينطفئ !
فلا تستغرب
لأنه نور رباني!
ترى فيه كفاح السنين التي
احتسبها لله وحده
فتعرف سر سعادته !
لا تفارقه الابتسامة أينما حل !
لا أدري لماذا ابتسامته
تروق لي ؟
تسحرني ؟
هل لأن ابتسامة كبار السن
تذكرني بابتسامة الأطفال في
براءتها ؟
ربما لأن الأطفال لم يعرفوا
الحياة!
وكبار السن عرفوا الحياة على
حقيقتها!
أبو مطر كان قدوة في كل شيء
في حبه لعمله..
في أخلاقه..
في سمو نفسه !
في تواضعه الذي لا حدله!
أمّا إذا ذُكِرالكرم فهو أبوه!
لم أرَ طوال حياتي من
هو أكرم منه!
كان يتكفل بأغراض الشاي
والقهوة كاملة!
مع أنه لا يشرب منها شيئا!
رأيت مرة الرجل المختص بإعداد
الشاي والقهوة
يدور على المعلمين
يستجديهم في دفع مبلغ شراء
قهوتهم وشايهم!
فكان بعضهم يدفع على مضض!
ويعضهم يتفلّت بأي عذر!
وما إن يصل إلى أبو مطر
إلا ويهطل بغزارة!
فيعطيه مبلغا كبيرا
يكفي قهوة المعلمين وشايهم
سنتين قادمتين أو تزيد!
رأيت هذا المشهد بعيني!
قلت له لماذا يا أبو مطر
تدفع هذا المبلغ كله
وأنت لاتشرب منه شيئا؟
رد علي بابتسامة
تقطر كرما ووجه مُتهلِّل
حينها تذكرت قول زهير :
تَرَاهُ إذا ما جِئْتَهُ مُتَهَلّلاً
كأنّكَ تُعطيهِ الذي أنتَ سائِلُهْ
أخبرني كثير من الزملاء
أن أبو مطر طالما وقف معهم في
أزماتهم وساعدهم ...
بل والأعظم من ذلك أنه كان يقول
لهم:
أنتم في حِل !
أما تعامله مع طلابه فشيء آخر!
كان من رقته ولطفه بهم
أنه لايناديهم إلا بكلمة :
ياعيالي !
أذكر مرة أني سألت الطلاب
من عندكم الحصة الثالثة ؟
فقالوا : عندنا الوالد !
دُهِشت!
فقلت من؟
قالوا : أبو مطر هو أبونا!
آه
كم أثّرت في نفسي
هذه الكلمة!
أحببت أبو مطر من هذه اللحظة!
فحاولت القرب منه أكثر!
لكن أعباء الجدول الدراسي
لم تساعدني!
آه تذكرت
أنه يحضر مع أشعة الفجر!
لازمته فترة طويلة في هذا الوقت
قبل الطابور بساعة أو دونها!
نهلت من علمه وأدبه وفضله...
تواصلت لقاءاتنا في هذه الساعة
المباركة ...
فأصبح لا يناديني إلا
بيا ولدي!
أحببته حب الولد لوالده!
كان دائما ما يهمس في أذني
يا ولدي :
العمل عبادة !
إن أردت البركة فقدِّس عملك!
كان لكلماته تلك أعظم الأثر
في نفسي!
كان يحمل بين جنبيه روحاً عذبة!
روحاً جميلة روحا رضيّة !
فرأيته محبوبا ليس له كارها!
مادخل مع أحد في صراع
أو جدل!
غرس في قلوب طلابه وزملائه
ورودأ فأزهرت حباً !
كان ذا مادة علمية قوية
وهيبة مُزِجت بِحُب !
كأنما خُلِقت معه!
كان رقيق القلب' نقي السريرة000
صاحب دمعة قريبة!
أخبرني أحد طلابه قائلا:
(إن أبو مطر ما بدأ في درس
من دروس التفسير إلا وبكى!
أما نحن فلا تسأل !
فقد كانت كلماته تُنْقش في أعماقنا!
لم يكن أبو مطر يملك الوسائل
أو التقنية الحديثة!
لقد كان يمتلك ما هو أجمل
وأبقى أثرا!
لقد كان يمتلك قلباً سليماً
قلباً أبيض كبياض
الثلج أو أنقى )
لقد كان مربيا نبيلا...
أخبرناأحد الزملاء يوماً
ونحن في غرفة المعلمين
بوفاة والد أحد الطلاب
فبكى أبو مطر حتى اخضلّت
لحيته الطاهرة بالدموع !
فذهب إلى بيت ذالك الطالب
ليعزيه وجلس عنده
مدة ثلاثة أيام
من بعد صلاة العصر إلى أذان
العشاء !
يعزيه ويعزي إخوانه
ويبكي معهم ويواسيهم ...
مع أنّه لا يعرفهم!
أمّا أنا فأكتب لكم هذه
الذكريات وأنا أبكي!
أقسم لكم بالله على هذا!
فيامن تصلهم هذه الرسالة
ويعرفون شيئا عن أخبار أبومطر
فإني أرجوكم أن تُبلِّغوه
أشواقي ودموعي
أرجوكم قبلِّوا لي جبينه!
وقولوا له: ذلك المعلم الصغير
الذي تتلمذ بين يديك....
قد شاب عارضاه !
وما نسيٓ ودّك...
مانسيٓ فضلك...
مانسيٓ حُبّك 00
أمّا إن كان قد اختاره الله!
وهذا ما يوجع قلبي
ويدميه!
فادعوا معي له بالرحمة
والفردوس الأعلى في
الجنة ...
أخوكم :
راشد بن محمد الشعلان
معلم لغة عربية بثانوية حي الشفا
سابقاً 1412