أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


التراث الصوفي الفلسفي معين لا ينضب للعديد من التيارات الفكرية المنحرفة المعاصرة

حسام الحفناوي

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد؛
لا يَخْفى على مُتَأمِّل في تاريخ الفِرَق والأديان فُشُوُّ ظاهرة التأثير والتَّأَثُّر بين الكثير من المِلَل الباطلة والنِّحَل الضَّالَّة؛ فتأخذ فِرْقةٌ من أختها بعضَ الأفكار، ويَتَشَرَّب أهلُ دِيْن من غيرهم شيئًا من العَقائد، بل تَشَبَّعَت بعضُ الطوائف المنحرفة بكِفْلٍ من أَساطِيْر أَحْبار السوء، ونَصِيْب من خُزَعْبَلات رُهْبان الضَّلالة، وما اسْتَنْكَف رؤوسُ فَريق منهم عن الاقْتباس من التُّراث الوَثَنِي لأهل الأديان الوَضْعِيَّة المَحْضة، ولَرَبَّما وَقَع العَكْسُ لدى المتأخرين عن تلك الطَّوائف من أهل الكتاب والوَثَنِيِّين.

أما التُّراثُ الفِكْرِي الإغْرِيْقِي؛ فقد شَكَّلَ مَوْرِدًا كبيرًا لدى عامَّة أهل الضَّلال، وجُمْلَة أصحاب الباطل، وتَنافَسَ كلُ فَرِيْق في تَوْظِيف هذا السِّحْر الهِيْلِيْنِي[1] لدَعْم ضَلاله المُزَيَّن، وتَعْضِيْد باطِلِه المُزَخُرَف، وحَرِصَ صِنْفٌ منهم على تَنْمِيْق تُرَّهاتِهم بما حَصَّلُوه من عُلُوم البَلاغة، كِتابَةً، وخَطابَة، ولرُبَّما ضَمَّ بعضُهم إلى سِحْرِ القول سِحْرَ الفعل، سواء كان حَقِيْقِيًّا، أو تَخْييلِيًّا؛ جَذْبًا للأَتْباع السُّذَّج، وفِتْنَةً للدَّهْماء والرِّعاع.

ولا يَخْلُو الأَمْرُ من إحْداث تطوير للفِكْر المُنْحَرِف المَأْخُوذ، أو إجْراء تَعْدِيْل على العَقِيْدة الزَّائِغة المُتَشَرَّبَة، فيُمْزَجُ الوارِدُ الجديد مع القديم المُتَوارَث، ويُضْفَى على النَّاشِئ من تَداخُلِهما صِبْغَةٌ جديدة، ثم تُؤطَّرُ له الأُطُر في الأَجْيال التَّالِيَة للنُّشُوء، وتُسْتَخْرَجُ له عندئذ الأَدِلَّة، وتُوْضَعُ حِيْنئذٍ النَّظَرِيَّاتُ لفَهْمِه، وتَفْسِيْر مُرادِ مُحْدِثِه، مما ضاعَفَ على مَدار القُرُون من اسْتِحْداث الفِرَق الضَّالَّة، وكَثَّرَ مع تَعاقُب الأَزْمان من تَوْلِيْد المَذاهِب الباطِلة.

وقد كان الفِكْر الصُّوفِي الفَلْسَفِي[2] واحدًا من المَنْظُومات الفِكْرِيَّة التي تَأَثَّرت بالعديد من المَناهِل السابقة عليها، وأَثَّرَت بدَوْرِها في الكثير من المَشارِب اللَّاحِقة لها؛ فقد رَضَعَ من ثَدْيِ الباطِنِيَّة الإسْماعِيْلِيَّة، وارْتَوَى من بِئْر الرَّهْبانِيَّة النَّصْرانِيَّة، والبُوْذِيَّة، والهِنْدُوسِيَّة، والمَجُوْسِيَّة، وتَضَلَّعَ من نَهْر العُلُوم العَقْلِيَّة اليُونانِيَّة، فجَمَع من الشَّرِّ أَلْوانًا، وحَوَى من الخُبْث أَصْنافًا[3].

فلما شَبَّ التَّصَوُّف الفَلْسَفِيُّ عن الطَّوْق، وذاعَت أَدَبِيَّاتُه، وشاعَت تَصانِيْفُه، وتَكاثَرَت مَدارِسُه، تَلَقَّفَت بعضُ المَذاهِب الرُّوحانِيَّة النَّصْرانِيَّة المتأخرة آثارَه[4]، واسْتَلْهَمت طائِفةٌ من أَساطِين الرَّوافِض من آرائه ما يَرُومُون منه تَقْوِيَة شيء من حُجَجهم المَدْحُوضة[5].

بَيْدَ أن الصِّنْفَ الأَضَرَّ في زماننا من أولئك المُتَلَقِّفِيْن والمُسْتَلْهِمِيْن: هم قومٌ من المُعْتَنِيْن بما وَصَلَنا من نِتاج فلاسفة الصوفية، لا من باب قَناعَتِهم بما يَحْوِيه ذلك النِّتاج خُصُوصًا، ولا من مُنْطَلَق شَغَفِهم بالتَّصَوُّف عُمُومًا، بل لتَوْظِيْف ما يَرُوْقُ لهم من مُحْتَوَياته في نُصْرَة آرائهم الإلْحادِيَّة، وتَسْخِيْر ما يَنْتَقُون منه لتَرْسِيْخ مَناهجهم التَّحَلُّلِيَّة - المُسَمَّاة بالتَّحَرُّرِيَّة - فيَجْعَلون لتلك الآراء مَرْجِعِيَّة دِيْنِيَّة لدى مَنْ يَجْهَل حقيقة مُتَفَلْسِفَة المُتَصَوِّفة، ويُلْبِسُون الدِّيْن على مَنْ ليس بمَقْدُوره تَمْييز ما بها من انْحِرافات عَقَدِيَّة خطيرة، ويُفَتِّشُون في غَياهِب التاريخ عن جُذُور لتَبْرِيْر تَنَصُّلِهم من العَقائد الرَّبَّانِيَّة، وتَسْوِيْغ انْسِلاخِهم من التَّكالِيْف الشَّرْعِيَّة.

سنَلْتَزِمُ السَّذاجَة طَواعِيَةً؛ لنُسَلِّمَ جَدَلًا أن العِناية المُفْرِطة لثُلَّة من أَكابِر المُسْتَشْرِقِيْن بتُراث أئمَّة التَّصَوُّف الفَلْسَفِي[6] لم يُقْصَد منها السِّعْيُ في إحْيائه؛ بُغْيَةَ إتْلاف عُقُول الأَجْيال النَّاشِئة فيما تَلَا الاجْتِياح الاسْتِعْمارِي الغَرْبِي للعالم الإسلامي من عُقُود؛ حتى تَتَهَيَّأ أَدْمِغَةُ النَّاشِئين لاسْتِقْبال دَعَوات حِوار الأَدْيان، ونِداءات تَواصُل الحَضارات، وصَيْحات تَقارُب الثَّقافات، ونحوها مما يَنْبَثِقُ من مِشْكاة الماسُوْنِيَّة، ويَجِدُ دُعاتُها في التُّراث المَذْكُور مَوْرِدًا خَصْبًا لتَدْعِيْم أُطْرُوحاتِهم الفِكْرِيَّة[7]، ويَمُدُّهم التَّفْسِيْرُ الإشارِيُّ الباطِنِيُّ لفَلاسِفة الصُّوْفِيَّة بما يَلْزَمُهم من المؤن الوافِرة، والعَتاد الثَّقِيْل، والذَّخائِر البَرَّاقة؛ ليُأوِّلوا ما يَبْغُون من القَواطِع القُرآنِيَّة، دُوْن قَيْدٍ من شَرْع، أو ضابِطٍ من لُغَة.

سنَتَدَثَّرُ بالغَفْلَة عن رِضًا؛ فنَفْتَرِض أن تَلَهُّفَ المُرِيْدِيْن المُخْلِصِيْن لأولئك المُسْتَشْرِقِيْن على خِدْمة تَصانِيْف فَلاسِفة الصُّوْفِيَّة، وإخْراج المَخْطُوط منها إلى حَيِّز الطَّبْع[8]، وعَقْد النَّدَوات والمؤتمرات لمُناقَشة أَفْكارها، ما أُرِيْد من ورائه إعْداد قُلُوب القُرُون المُرَبَّاة في ظِلال التَّغْرِيْب الفِكْرِي لاسْتِساغة الإباحِيَّة الخُلُقِيَّة، والتَّهْوِيْن من شأن الفَواحِش التي يُراد لها أن تُغْرِق المجتمعات المسلمة؛ إذ يَزْخَر التُّراثُ الصُّوْفِي - الفَلْسَفِي منه والسُّلُوكي - بعِبارات الغَزَل الماجِن، والسُّكْر الفاحِش، ويَعُجُّ الأخيرُ بحِكايات التَّخْرِيْب، وأَخْبار المُخَرِّبِيْن[9]، وتَحْوِي مَوْروثاتِه من مُبَرِّرات ذلك ما يَتَعَجَّب منه العُقَلاء، ويَسْتَشْنِعُه أَهْلُ الفِطَر السَّلِيْمة[10].

إن التُّراث المَذْكُور - أَمات اللهُ تعالى ذِكْرَ مَنْ رامَ بَعْثَه - بمَثابة كَنْزٍ ثَمِيْن لأَعْداء الأُمَّة الإسلامية على شَتَّى صُنُوْفِهم؛ حيث يُمَثِّلُ بَحْرًا عُبابًا من مُنَشِّطات الفِكْر الإرْجائي الغالِي، تَضْرِبُ أَمْواجُه المُتَلاطِمة أَسْوارَ العَقائد، والأَخْلاق على حَدٍّ سَواء، فتَرَى المَفْتُوْنِيْن بدُعاتِه يَتَقَلَّبُون في الخَطايا القَوْلِيَّة، والمَعاصِي الفِعْلِيَّة، والمُنْكَرات العَقَدِيَّة، بقُلُوب مُطْمَئِنَّة، ونُفُوس ساكِنة؛ إذْ يُخَدِّرُهم ما يَلْهَجُون به من الحديث عن مَراتِب الفَناء، وسُكْر المَحَبَّة، وإشْراق النَّفْس[11]، ونَحْوها من المَعانِي التي لا يَظْهَرُ مَرْدُودُها - مع بُطْلانِها - على شيء من حياتهم اليَوْمِيَّة، وتُشْعِرُهم في ذات الوقت بحالَة من الرِّضا النَّفْسِي المُزَيَّف، وتُحَلِّقُ بهم في أَجْواء من السَّكِيْنة القَلْبِيَّة المُصْطَنَعَة.[12]

فلا يَسْتَغْرِبَنَّ مُدْرِكٌ لما ذَكَرْناه ما تَشْهَدُه السَّاحة الفِكْرِيَّة من إفْراطِ مُشَعْوِذِي النَّقْد الأَدَبِي، ودَجاجِلَة الدِّراسات الفَلْسَفِيَّة في الشَّغَف بتُراث الصُّوْفِيَّة عُمومًا، والمُتَفَلْسِفِيْن منهم خُصُوصًا[13]؛ فمُرابَطَتُهم على ثَغْرِه من أَعْظَم جِهادِهم في سَبِيْل شَياطِيْنِهم، ومُصابَرَتُهم على دَفْع الصَّائِل عنه من أَفْضَل قُرُباتِهم إلى أَكابِر مُجْرِمِيْهم.

وليَكُنْ من غير المُسْتَغْرَب - وأَرْجو أَلَّا أُبالِغَ إن قلتُ: من البَدَهِيَّات - أن تَرَى مَنْ يَصِف اليومَ من الصِّنْفَيْن المَذْكُورَيْن وأَضْرابَهما الحَلَّاجَ بشَهِيْد الحُبِّ الإلهي، ويَسِمُ السَّهْرَوَرْدِيَّ الفَيْلَسُوفَ بشَهِيْد الإشْراق، ويَهِيْمُ عِشْقًا بفُصُوص ابن عَرَبِي، وفُتُوحاتِه[14]، ويُتَيَّمُ برَسائِل ابن سَبْعِيْن، يَطْعَنُ غَدًا في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ويَغْمِزُ بعد غَدٍ في حُجِّيَّة السُّنَّة النَّبَوِيَّة، ورُبَّما جاهَرَ فيما يأتي من أيام بنَقْد صَرِيْح القرآن؛ لأن مَبْعَثَ كَلَفِه برُمُوز المَدْرَسة المُشار إليها هو: الجُرْأةُ على تَحْرِيْف النُّصُوص، والطَّيْشُ في رَدِّ الثَّوابِت، والوَقاحةُ في مُعارَضَة القَواطِع.

مَعْذِرَةً مَعاشِر التَّنْوِيْرِيِّين المَزْعومِيْن على تَقْرِيْر هذه الحقيقة؛ فقد فَرَغَ ما لدينا - نحن الظَّلامِيُّون من مَنْظُوركم - من مَخْزُون الغَفْلَة، والسَّذاجة، وصَنائِعُكم لم تَتْرُك لنا سَبِيْلًا؛ لتَعْوِيْض ما فَرَغ!

نسأل اللهَ تعالى أن يَجْعَل كَيْدَ المُخَرِّبِيْن الجُدُد في نُحُوْرِهم، وأن يَقِيَ المسلمين شُرورَهم، وأن يُهَيِّئ للأُمَّة أَمْرَ رُشْدٍ، يُعَزُّ فيه أهلُ الطاعة، والإيمان، ويُذَلُّ فيه أهلُ المعصية، والكُفْران، والحمد لله رب العالمين.

[1] الثقافة الهيلينية: هي الثقافة اليونانية التي سادت فيما بين وفاة الإسكندر الأكبر مؤسس الإمبراطورية الإغريقية الكبرى، وبين ظهور الإمبراطورية الرومانية التي ضمت الأراضي اليونانية إلى حوزتها، وكانت مدينتا: الإسكندرية المصرية، وأنطاكية السورية من أكبر مراكز الفكر الهيليني؛ حيث كانت الأولى عاصمة لدولة البطالمة، والثانية عاصمة لدولة السلوقيين، وكلتاهما امتداد للدولة الإغريقية للإسكندر، وقد ظلت السيادة للفكر الهيليني في العصر الروماني، حتى تبنت الإمبراطورية الرومانية الديانة النصرانية على صورتها المحرفة التي لم تخل من التأثيرات الوثنية الإغريقية؛ لتشرب الإمبراطور النصراني الأول قسطنطين بها. وقد كان للتراث الهيليني فيما بعد دور في ظهور ما يسمى بعصر النهضة الأوروبية. انظر: تاريخ مختصر الدول لابن العبري (ص99-134)، وموجز تاريخ العالم لويلز (ص99-120 ،133-153 ،166-181)، تاريخ أوروبا الحديث لجفري براون (ص18،17)، وتاريخ أوروبا والعالم في العصر الحديث للدكتور عبد العظيم رمضان (ص62،61).
[2] يراد بالتصوف الفلسفي: التصوف الذي خلط أصحابه التربية السلوكية الروحية لدى الصوفية بالفكر اليوناني الفلسفي، وتكثر في تصانيفهم المصطلحات الفلسفية، ويعد يحيي بن حبش السهروردي المقتول في الزندقة بأمر من السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى من أشهر مُنَظِّرِي هذا النوع، وهو رجل آخر غير أبي حفص السهروردي صاحب عوارف المعارف، وإن كان كلاهما يكنى بشهاب الدين. انظر ترجمة الأول في سير أعلام النبلاء (21/207-211)، وترجمة الثاني في نفس المصدر (22/373-377). كما تعد مؤلفات محيي الدين ابن العربي الحاتمي الأندلسي من أزخر مصادر هذا النوع، وهي كثيرة جدًا، أوصلها بعضهم إلى ما يزيد على خمسمائة مصنف. انظر: مقدمة تحقيق الدكتور أحمد بكير لكتاب [كشف الغطاء عن حقائق التوحيد وعقائد الموحدين] لابن الأهدل (ص5).
[3] ذكر العلامة إحسان إلهي ظهير رحمه الله تعالى في كتابه [التصوف المنشأ والمصدر] نقولًا كثيرة عن المعتنين بدراسة التصوف الفلسفي من المستشرقين، والفلاسفة المعاصرين، تتحدث عن تأثره بالثقافات الوثنية، والأديان المحرفة. وانظر: مقدمة تحقيق الدكتور أحمد بكير للكتاب المذكور آنفًا (ص13).

ومن الجدير بالذكر أن الفكر الحلولي كان راسخًا في العقيدة اليهودية المحرفة، وطاغيًا عليها، وقد أفاض الدكتور عبد الوهاب المسيري الحديث عن عقيدة الحلول في موسوعته عن [اليهود واليهودية والصهيونية]، وأفرد الجزء الثالث منها للحديث عن الحُلولية، والكُمونية، ووحدة الوجود لديهم، والكمونية مصطلح مشتق من الكمون، وهو قريب المعنى من الحلول. وتعد موسوعة الدكتور المسيري أكبر المراجع في الفكر الصهيوني، على ما فيها من انحرافات عقدية خطيرة، ينبغي التنبه لها، والحذر منها، كالطعن في داود، وسليمان عليهما السلام، وتبني المنهج الماركسي في التحليل كما صرح في مقدمتها، وغير ذلك مما يضيق المقام عن ذكره.
[4] انظر عن هذا التلقف: القسم الثاني من كتاب [ابن عربي مذهبه وحياته] للمستشرق الإسباني أسين بلاثيوس، والذي ترجمه عن الإسبانية، وقدم له، وعلق عليه الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي.

وقد خصص أسين القسم الأول من كتابه للحديث عن حياة ابن عربي، فترجم له من خلال ما ذكره ابن عربي عن نفسه من حكايات متناثرة في ثنايا تصانيفه، ثم جعل القسم الثاني من الكتاب خاصًا بالمذهب الروحي لابن عربي (ص103-277). وقد انتقد عبد الرحمن بدوي طريقة أسين بلاثيوس في الحديث عن التأثيرات والمؤثرات، ونعت أسلوبه فيها بالمبالغة والغلو، بيد أن بعض ما أورده - إن لم يكن كثير منه - هو بمثابة الحقائق الواضحة كالشمس، بل بعضه من قبيل - إن جاز التعبير - النسخ واللصق.

ومن مظاهر عناية النصارى بتراث فلاسفة الصوفية: تحقيق أغناطيوس خليفة اليسوعي لرسالة إيضاح المقصود من معنى وحدة الوجود للشيخ عبد الغني النابلسي، والذي طبع في المطبعة الكاثوليكية ببيروت.
[5] من متأخري الرافضة الذين صرحوا بوحدة الوجود: الخميني؛ فقد صرح بذلك في كتابه شرح دعاء السحر، وانظر انتصار الرافضي محمد الحسين**** الحسيني**** الطهراني**** لابن عربي في: مواضع عدة من كتابه [الروح المجرد]، وهو في تأبين شيخه هاشم الحداد. ولم يفت الإسماعيلية، والنصيرية أن يحوزوا من تراث فلاسفة الصوفية، بل نُسب النفري صاحب المواقف، والعفيف التلمساني شارح مواقف النفري إلى النصيرية. انظر: ترجمة العفيف التلمساني في فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي (2/72)، وأعلام الزركلي (3/130).
[6] كان من المستشرقين الذين اعتنوا بدراسة التصوف الفلسفي، ونشر تراثه: رينولد نيكولسون الإنجليزي، ومن أشهر مصنفاته: كتاب [دراسات في التصوف الإسلامي وتاريخه]، والذي ترجمه تلميذه الوفي، دكتور الفلسفة، أبو العلا عفيفي، كما قام نيكولسون بترجمة وتحليل كتاب [المثنوي والمعنوي] لجلال الدين الرومي، وكان قد هم أيضًا بترجمة كتاب فصوص الحكم لابن عربي للإنجليزية.

ومنهم: المستشرق لويس ماسينيون الفرنسي، وكانت له عناية خاصة بدراسة الحَلَّاج، وقام بتحقيق كتابه المسمى بالطواسين، ونشره في سنة 1913م باللغتين العربية والفرنسية، كما كانت أطروحته لنيل درجة الدكتوراة عن الحَلَّاج، وعَدَّ أقوام من السفهاء صنيعه في تمجيد الحَلَّاج، ووصفه بالبطولة بمثابة رد اعتبار له، مع علمهم - أو جهلهم - أنه كان مستشارًا لوزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، كما عمل بمنصب الراعي الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر، وغير ذلك من المناصب التي تبين موقف ذلك الرجل من الأمة الإسلامية، ولا ينخدع بدعوته للبحث عن نقاط الالتقاء المشتركة - على حد وصفه - بين الإسلام والنصرانية، والتعاون، والتآخي إلا سفيه أحمق؛ فما دعا الصليبيون المتأخرون إلى هذه القيم إلا بعد أن احتلوا ديار الإسلام، ونهبوا ثرواتها، ثم سعوا لإلحاق المسلمين بهم سياسيًا، واقتصاديًا، وثقافيًا؛ حفاظًا على ما حققوه من انتصارات عسكرية مدمرة، ولا سبيل للتعايش المشترك المزعوم إلا بعد التبعية لهم، والخضوع لسيطرتهم، والسير في ركابهم.

ومنهم: المستشرق الإسباني القسيس أسين بلاثيوس، وكانت له عناية خاصة بدراسة ابن عربي، وكتب عنه كتابات عديدة، وتقدم النقل عن كتابه [ابن عربي مذهبه وحياته]. وقد ترجم الدكتور بدوي له في مقدمة الكتاب المذكور. ومن العجيب أن بلاثيوس كان عضوًا في المجمع العلمي بدمشق.

ومنهم: المستشرق الإنجليزي آرثر يوحنا آربري، والذي قام بدراسة وتحقيق كتابي المواقف، والمخاطبات للنِّفَّري، وهو أحد من يرجع إليهم ابن عربي في فتوحاته. وقد شرح العفيف التلمساني مواقف النفري، وحققه الدكتور جمال المرزوقي أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس، وتقدم أن العفيف كان يرمى بإبطان مذهب النصيرية. ويقوم مذهب النصيرية على ما يسمى بتنزلات الخطاب، وكان أئمة النصيرية يجاهرون بخطاباتهم التي تلقوها عن الله تعالى بزعمهم. وقد نسب البعض النفري إلى النصيرية الأوائل، وأوضح يوسف سامي اليوسف في مقدمته للنفري مقدار التشابه بين كلام النفري، ومبادئ الديانتين الوثنيتين: المانوية، والزرداشتية، المتأثرتين بالرهبانية الهندية المزدرية للمادة.

ومن الجدير بالذكر أن عددًا من أدباء الحداثة قد أبدوا اهتمامًا لافتًا بكتاب مواقف النفري، كأدونيس، وعبد الوهاب البياتي.
[7] انظر على سبيل المثال: ما كتبه عبد الرحمن بدوي في مقدمة تحقيقه لرسائل ابن سبعين (ص16،15)، وقد كان التنوع الثقافي والفكري لموارد التصوف من جهة، وبعض العبارات الشديدة الفجاجة في المزج بين الأديان لمتفلسفي الصوفية من جهة أخرى محل إعجاب كبير لدعاة التمازج بين الثقافات، والتقارب بين الديانات. وإن شئت، فاقرأ أبيات محيي الدين ابن عربي في كتابه [ترجمان الأشواق] التي يقول فيها:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

وقد صار قلبي قابلًا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني

[8] قال دكتور الفلسفة أبو العلا عفيفي في مقدمة تحقيقه لفصوص الحكم (ص20): يرجع عهدي بدرس كتاب الفصوص إلى سنة 1927م، عندما اختار لي المرحوم - كذا قال - الأستاذ نيكولسون، المستشرق الإنجليزي المعروف، محيي الدين ابن عربي موضوعًا لدراسة الدكتوراة بجامعة كمبردج،انتهى. وكان الدكتور أبو العلا غزير الإنتاج في ميدان التصوف بصفة عامة، وفي ابن عربي على وجه الخصوص، وترجم كتاب أستاذه نيكولسون [دراسات في التصوف الإسلامي وتاريخه]، وحقق كتاب أبي عبد الرحمن السلمي عن الملامتية، وتركزت خبرته وعلمه في هذا الجانب في كتاب [التصوف:الثورة الروحية في الإسلام] والذي نشره سنة 1963م. وانظر: رسائل وفتاوى في ذم ابن عربي الصوفي، جمع وتحقيق الدكتور موسى بن سليمان الدويش (ص6،5).
[9] التخريب: هو إقدام الصوفي على فعل المنكرات والفواحش علانية، وتصانيف الصوفية طافحة بتلك القصص، وكان بعض المخربين يقدم على الجهر بالكبائر بصورة تقشعر منها أبدان الفجرة، كأن يفعل الفاحشة ببهيمة والناس ينظرون، ومن مظان تلك القصص: روض الرياحين في حكايات الصالحين لليافعي، ولواقح الأنوار القدسية للشعراني، وكلاهما مطبوع، وفجاجة الحكايات في الثاني أشد. ومن أشهر المخربين في تاريخ التصوف: نجم الدين الحريري، شيخ الطريقة الحريرية، وكان مجاهرًا بالفجور والزندقة. انظر ترجمته في: تاريخ الإسلام للذهبي (47/278-287)، والدارس في تاريخ المدارس للنعيمي (2/155،154)، ومنادمة الأطلال لابن بدران (ص299-301)، وأعلام الزركلي (4/279).
[10] كان المتأولون للمخربين يزعمون أن مراد ذلك الفعل الشنيع هو صيانة القلب من الرياء والعجب، ويحكون في ذلك قصة عن إبراهيم الخواص، أحد متقدمي الصوفية، مفادها أنه سرق ثياب الناس من الحمام؛ لكي ينظروا له على أنه سارق، فيستخفي بزهده، ويبقى اجتهاده في العبادة سرًا بين وبين الله تعالى، ولعل القصة مكذوبة عليه. وقد كان الأولون من المخربين يُسَمَّون بالمَلامتية، ولكنهم كانوا يقتصرون على لبس الثياب الفاخرة، ليخفوا زهدهم، وتقشفهم، فتطور الحال بهم إلى ارتكاب المعاصي الصريحة جهرًا، ثم الاستعلان بالكبائر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انظر: كتاب الملامتية لأبي عبد الرحمن السلمي بتقديم وتحقيق الدكتور أبي العلا عفيفي، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (35/164،163)، وروض الرياحين لليافعي (ص343،342،297،296)، وكفاية المعتقد ونكاية المنتقد له أيضًا (ص302-305)، وفيه تعريف لمذهب التخريب، وتقسيم لأنواعه، وتفصيل غريب للاعتذار عن أهله، والفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي (ص227،226).
[11] الإشراق: مفهوم صوفي مأخوذ من الفلسفة اليونانية، والفلسفة الإشراقية تدعي أن وسيلة المعرفة هي الكشف، والإيحاء. وقد كان للفارابي الفيلسوف دورًا في صياغتها، ولكن ابن سينا هو الذي أرسى دعائمها، وطورها، وكان لكتاب [مشكاة الأنوار] للغزالي مشاركة في تطوير هذا النوع أيضًا، ثم أتم السهروردي المقتول في الزندقة معالمها، وعده المعتنون بهذه الدراسات شيخ الصوفية الإشراقية، وكان قد كتب كتابًا بعنوان [حكمة الإشراق]. انظر: أصول الفلسفة الإشراقية للدكتور محمد علي أبي ريان، ومقدمة جميل صليبا لقصة [حي بن يقظان] التي كتبها ابن طفيل، وكتاب [السهروردي المقتول مؤسس مذهب الإشراق] لهنري كوربان، ترجمة عبد الرحمن بدوي، من سلسلته المسماة [شخصيات قلقة في الإسلام]، ومقدمة بدوي لتحقيق رسالة [حفيف أجنحة جبريل] للسهروردي. ومن العجيب أن الدكتور بدوي قد أعلن عن ضجره في المقدمة من الإغراق في التأويل الباطني، ومدح التمسك السلفي بالنصوص. وقد أضفى رهبان وأحبار اليهود والنصارى على الإشراقية اليونانية من أديانهم، ونشأت لدى كل منهم إشراقية خاصة به.
[12] لعل القارئ الكريم يتبين من هذا سِرَّ ميل كثير من الفسقة، والظلمة للفكر الصوفي؛ إذ يجدون فيه ما يشبع رغبتهم في إيهام أنفسهم بالقرب من الله تعالى، مع ما هم فيه من الفجور والطغيان، مما يميت اللوم النفسي، ويفتح الطريق أمام الولوغ في المحرمات والمظالم بقلب ثابت، نسأل الله العافية.
[13] من الأمثلة الصارخة على عناية دارسي النقد الأدبي بتراث فلاسفة الصوفية: كتابات الدكتور الهالك نصر حامد أبو زيد، وقد كانت أطروحته المقدمة لنيل درجة الدكتوراة بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة بعنوان [فلسفة التأويل] وهي دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين ابن عربي، وله كتاب آخر بعنوان [هكذا تكلم ابن عربي]، وكان المذكور يعتبر القرآن الكريم نصًا لغويًا خاضعًا للنقد، وسفاهاته في هذا الباب كثيرة جدًا، والحمد لله الذي أراح المسلمين من شره.

ومن المعتنين الأحياء من دارسي الفلسفة بالتراث الصوفي الفلسفي: الدكتور يوسف زيدان، وموقعه على شبكة الإنترنت مشحون بمخطوطات ابن عربي، وغيره من أئمة هذا الباب. وكانت أطروحته لنيل درجة الماجستير فيما يسمى بالفلسفة الإسلامية من جامعة الإسكندرية عام 1985م بعنوان [الفكر الصوفى عند عبد الكريم الجيلى، دراسة وتحقيق لقصيدة النادرات العينية للجيلى مع شرح النابلسى]، ونال درجة الدكتوراة فى ذات القسم بنفس الجامعة عن رسالة عنوانها [الطريقة القادرية فكرًا ومنهجًا وسلوكًا، دراسة وتحقيق لديوان عبد القادر الجيلانى]. وله بحوث ودراسات عديدة في التصوف ألقاها في العديد من المؤتمرات، أو نشرها في الدوريات المحكمة.

وقد ظل الرجل يحطم الرموز الإسلامية، وينال من الثوابت في العديد من مقالاته المنشورة في الصحف المصرية، إلى أن جاهر بما جاهر به في كتابه الأخير الذي أسماه [اللاهوت العربي]، وفيما تلا الكتاب من مناقشات فكرية لمحتواه. وقد خُدع بعض الطيبين بنقده للنصرانية المحرفة في رواية [عزازيل]، فخرج عليهم بكتاب اللاهوت الذي صرح بعد نشره، بأنه لم يهاجم النصرانية دفاعًا عن الإسلام، وأنه عندما يستمع للقرآن صباحًا؛ فإن مشاعره ترتجف، ولا يستطيع أن يبدأ يومه، وزعم أن التدين الإسلامي أنتج عنفًا.

ومن أجل تحليل وتعليل موقفه المذكور، كتبت هذا المقال، وحرصت فيه على تسلسل الأفكار، وترتيبها قدر المستطاع، تمهيدًا للقارئ بين يدي الموضوع، وأرجو أن أكون قد وفقت في ذلك، وألا أحرم الأجر.
[14] أعني كتاب فصوص الحكم، وكتاب الفتوحات المكية، وكلاهما مطبوع عدة طبعات، وقد صرح العلامة إبراهيم الحلبي الحنفي في كتابه [تسفيه الغبي في تنزيه ابن عربي] (ص92) أن ما جمعه ابن عربي في الفصوص، نثره في الفتوحات.