أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم





قال الفرزدق : لما هاجيت الأشهب بن رميلة والبعيث فسقطا،

استعدت علي بنو نهشل وبنو فقيم زياد بن أبي سفيان.
فلم يعرفه زياد حتى قيل له: الغلام الأعرابي الذي أنهب ورقه وألقى ثيابه؛ فعرفه.

قال أبو عبيدة: أخبرني أعين بن لبطة بن الفرزدق، قال: أخبرني أبي، عن أبيه، قال(ابن الفرزدق): بعثني أبي غالبٌ(الفرزدق) في عير له وجلبٍ أبيعه وأمتار له وأشتري لأهله كساً،
فقدمت البصرة، فبعت الجلب، فأخذت ثمنه فجعلته في ثوبي أزاوله،
إذ عرض لي رجل أراه كأنه شيطان،
فقال: لشد ما تستوثق منها!
فقلت: وما يمنعني! قال: أما لو كان مكانك رجل أعرفه ما صبر عليها؛
فقلت: وما هو؟ قال: غالب بن صعصعة؛
قال: فدعوت أهل المربد فقلت: دونكموها - ونثرتها عليهم -
فقال لي قائل: ألق رداءك يابن غالب، فألقيته.
وقال آخر: ألق قميصك؛ فألقيته،
وقال آخر: ألق عمامتك فألقيتها
حتى بقيت في إزارٍ، فقالوا: ألق إزارك،
فقلت: لن ألقيه وأمشي مجرداً،
إني لست بمجنون.
فبلغ الخبر زياداً، فأرسل خيلاً إلى المربد ليأتوه بي،
فجاء رجل من بني الهجيم على فرس؛ قال: أتيت فالنجاء! وأردفني خلفه،
وركض حتى تغيب،
وجاءت الخيل وقد سبقت،
فأخذ زياد عمين لي: ذهيلا والزحاف ابني صعصعة -
وكانا في الديوان على ألفين ألفين، وكانا معه - فحبسهما
فأرسلت إليهما: إن شئتما أتيتكما، فبعثا إلي: لا تقربنا، إنه زياد!
وما عسى أن يصنع بنا، ولم نذنب ذنباً! فمكثا أياماً.
ثم كلم زياد فيهما، فقالوا: شيخان سامعان مطيعان،
ليس لهما ذنب مما صنع غلام أعرابي من أهل البادية؛ فخلى عنهما؛
فقالا لي: أخبرنا بجميع ما أمرك أبوك من ميرةٍ أو كسوة؛
فخبرتهما به أجمع،
فاشترياه وانطلقت حتى لحقت به،
وحملت ذلك معي أجمع، فأتيته وقد بلغه خبري،
فسألني: كيف صنعت؟ فأخبرته بما كان؛
قال: وإنك لتحسن مثل هذا! ومسح رأسي.
.........

وروي أنه لما طرد زياد الفرزدق جاء إلى عيسى بن خصيلة ليلاً
فقال: يا أبا خصيلة، إن هذا الرجل قد أخافني،
وإن صديقي وجميع من كنت أرجو قد لفظوني،
وإني قد أتيتك لتغيبني عندك؛ قال: مرحباً بك!
فكان عنده ثلاث ليالٍ، ثم قال: إنه قد بدا لي أن ألحق بالشام،
فقال: ما أحببت؛ إن أقمت معي ففي الرحب والسعة؛ وإن شخصت فهذه ناقة أرحبية أمتعك بها.
قال: فركب بعد ليل،
وبعث عيسى معه حتى جاوز البيوت، فأصبح وقد جاوز مسيرة ثلاث ليالٍ، فقال الفرزدق في ذلك:

حباني بها البهزي حملان من أبي ... من الناس والجاني تخاف جرائمه
ومن كان يا عيسى يونب ضيفه ... فضيفك محبورٌ هنيٌّ مطاعمه
وقال تعلم أنها أرحبيةٌ ... وأن لها الليل الذي أنت جاشمه
فأصبحت والملقى ورائي وحنبلٌ ... وما صدرت حتى علا النجم عاتمه
تزاور عن أهل الحفير كأنها ... ظليمٌ تبارى جنح ليلٍ نعائمه
رأت بين عينيها دوية وانجلى ... لها الصبح عن صعلٍ أسيلٍ مخاطمه
كأن شراعاً فيه مجرى زمامها ... بدجلة إلا خطمه وملاغمه
إذا أنت جاوزت الغريين فاسلمي ... وأعرض من فلجٍ ورائي مخارمه

وبلغ زياداً أنه قد شخص، فأرسل علي بن زهدم، أحد بني نولة بن فقيم في طلبه.
فطلبه في بيت نصرانية يقال لها ابنة مرار،
من بني قيس ابن ثعلبة تنزل قصيمة كاظمة؛
قال: فسلته من كسر بيتها، فلم يقدر عليه؛
فقال في ذلك الفرزدق:
أتيت ابنة المرار أهبلت تبتغي ... وما يبتغى تحت السوية أمثالي
ولكن بغائي لو أردت لقاءنا ... فضاء الصحارى لا ابتغاءٌ بأدغال

فأتى الروحاء، فنزل في بكر بن وائل، فأمن،
فقال يمدحهم:
وقد مثلت أين المسير فلم تجد ... لفورتها كالحي بكر بن وائل
أعف وأوفى ذمةً يعقدونها ... إذا وازنت شم الذرا بالكواهل
وهي قصيدة طويلة. ومدحهم بقصائد أخر غيرها.

فكان الفرزدق إذا نزل زياد البصرة نزل الكوفة،
وإذا نزل زيادٌ الكوفة نزل الفرزدق البصرة
، وكان زياد ينزل البصرة ستة أشهر والكوفة ستة أشهر،
فبلغ زياداً ما صنع الفرزدق،
فكتب إلى عامله على الكوفة عبد الرحمن ابن عبيد:
إنما الفرزدق فحل الوحوش يرعى القفار،
فإذا ورد عليه الناس ذعر ففارقهم إلى أرض أخرى فرتع؛
فاطلبه حتى تظفر به.
قال الفرزدق: فطُلبت أشد طلب، حتى جعل من كان يؤويني يخرجني من عنده،
فضاقت علي الأرض،
فبينا أنا ملفف رأسي في كسائي على ظهر الطريق،
إذ مر بي الذي جاء في طلبي،
فلما كان الليل أتيت بعض أخوالي من بني ضبة
وعندهم عرس - ولم أكن طعمت قبل ذلك طعاماً،
فقلت: آتيهم فأصيب من الطعام -
قال: فبينا أنا قاعد إذ نظرت إلى هادي فرسٍ وصدر رمح قد جاوز باب الدار داخلاً إلينا،
فقاموا إلى حائط قصب فرفعوه،
فخرجت منه، وألقوا الحائط فعاد مكانه،
ثم قالوا: ما رأيناه، وبحثوا ساعةً ثم خرجوا،
فلما أصبحنا جاءوني
فقالوا: اخرج إلى الحجاز عن جوار زياد لا يظفر بك،
فلو ظفر بك البارحة أهلكتنا؛
وجمعوا ثمن راحلتين،
وكلموا لي مقاعساً أحد بني تيم الله ابن ثعلبة -
وكان دليلاً يسافر للتجار -
قال: فخرجنا إلى بانقيا حتى انتهينا إلى بعض القصور التي تنزل،
فلم يفتح لنا الباب، فألقينا رحالنا إلى جنب الحائط والليلة مقمرة،
فقلت: يا مقاعس، أرأيت إن بعث زياد بعد ما نصبح إلى العتيق رجالاً، أيقدرون علينا؟ قال: نعم، يرصدوننا -
ولم يكونوا جاوزوا العتيق وهو خندق كان للعجم -
قال: فقلت: ما تقول العرب؟ قال: يقولون: أمهله يوماً وليلة ثم خذه. فارتحل؛
فقال إني أخاف السباع، فقلت: السباع أهون من زياد،
فارتحلنا لا نرى شيئاً إلا خلفناه،
ولزمنا شخصٌ لا يفارقنا، فقلت: يا مقاعس، أترى هذا الشخص!
لم نمرر بشيء إلا جاوزناه غيره،
فإنه يسايرنا منذ الليلة. قال: هذا السبع،
قال: فكأنه فهم كلامنا، فنقدم حتى ربض على متن الطريق،
فلما رأينا ذلك نزلنا فشددنا أيدي ناقتينا بثنايين وأخذت قوسي.
وقال مقاعس: يا ثعلب، أتدري ممن فررنا إليك؟
من زياد، فأحصب بذنبه حتى غشينا غباره وغشي ناقتينا،
قال: فقلت: أرميه، فقال: لا تهجه،
فإنه إذا أصبح ذهب؛ قال: فجعل يرعد ويبرق ويزئر،
ومقاعس يتوعده حتى انشق الصبح، فلما رآه ولى، وأنشا الفرزدق يقول:

ما كنت أحسبني جباناً بعد ما ... لاقيت ليلة جانب الأنهار
ليثاً كأن على يديه رحالةً ... شئن البراثن مؤجد الأظفار
لما سمعت له زمازم أجهشت ... نفسي إلي وقلت أين فراري!
وربطت جروتها وقلت لها اصبري ... وشددت في ضيق المقام إزاري
فلأنت أهون من زيادٍ جانباً ... اذهب إليك مخرم الأسفار

فبلغت زياداً هذه الأبيات فكأنه رق له، وقال: لو أتاني لآمنته وأعطيته، فبلغ ذلك الفرزدق؛ فقال:

تذكر هذا القلب من شوقه ذكرا ... تذكر شوقاً ليس ناسيه عصرا
تذكر ظمياء التي ليس ناسيا ... وإن كان أدنى عهدها حججاً عشرا
وما مغزلٌ بالغور غور تهامةٍ ... ترعى أراكاً في منابته نضرا
من الأدم حواء المدامع ترعوي ... إلى رشإٍ طفلٍ تخال به فترا
أصابت بوادي الولولان حبالةً ... فما استمسكت حتى حسبن بها نفرا
بأحسن من ظمياء يوم تعرضت ... ولا مزنةٌ راحت غمامتها قصرا
وكم دونها من عاطفٍ في صريمة ... وأعداء قومٍ ينذرون دمي نذرا!
إذا أوعدوني عند ظمياء ساءها ... وعيدي وقالت لا تقولوا له هجرا
دعاني زيادٌ للعطاء ولم أكن ... لآتيه ما ساق ذو حسبٍ وفرا
وعند زيادٍ لو يريد عطاءهم ... رجالٌ كثيرٌ قد يرى بهم فقرا
قعودٌ لدى الأبواب طلاب حاجةٍ ... غوانٍ من الحاجات أو حاجةً بكرا


قال: فمضينا وقدمنا المدينة وسعيد بن العاص بن أمية عليها،
فكان في جنازة، فتبعته فوجدته قاعداً والميت يدفن حتى قمت بين يديه،
فقلت: هذا مقام العائذ من رجل لم يصب دماً ولا مالاً!
فقال: قد أجرت إن لم تكن أصبت دماً ولا مالاً؛
وقال: من أنت؟
قلت: أنا همام بن غالب بن صعصعة،
وقد أثنيت على الأمير، فإن رأي أن يأذن في فأسمعه فليفعل؛
قال: هات، فأنشدته:
وكومٍ تنعم الأضياف عيناً ... وتصبح في مباركها ثقالا
حتى أتيت إلى آخرها؛ قال: فقال مروان:
قعوداً ينظرون إلى سعيد
قلت: والله إنك لقائم يا أبا عبد الملك.
قال: وقال كعب بن جعيل: هذه والله الرؤيا التي رأيت البارحة؛
قال سعيد: وما رأيت؟
قال: رأيت كأني أمشي في سكة من سكك المدينة،
فإذا أنا بابن قترة في جحر، فكأنه أراد أن يتناولني،
فاتقيته،
قال: فقام الحطيئة فشق ما بين رجلين حتى تجاوز إلي،
فقال: قل ما شئت فقد أدركت من مضى،
ولا يدركك من بقي. وقال لسعيد: هذا والله الشعر، لا يعلل به منذ اليوم.
قال: فلم نزل بالمدينة مرة وبمكة مرة. وقال الفرزدق في ذلك:
لا من مبلغٌ عني زياداً ... مغلغلةً يخب بها البريد
بأني قد فررت إلى سعيدٍ ... ولا يسطاع ما يحمي سعيد
فررت إليه من ليثٍ هزبرٍ ... تفادي عن فريسته الأسود
فإن شئت انتسبت إلى النصارى ... وإن شئت انتسبت إلى اليهود
وإن شئت انتسبت إلى فقيمٍ ... وناسبني وناسبت القرود

ويروى:
وناسبني وناسبت اليهود
وأبغضهم إلي بنو فقيمٍ ... ولكن سوف آتي ما تريد
وقال أيضاً:
أتاني وعيدٌ من زيادٍ فلم أنم ... وسيل اللوى دوني فهضب التهائم
فبت كأني مشعرٌ خيبريةً ... سرت في عظامي أو سمام الأراقم
زياد بن حربٍ لن أظنك تاركي ... وذا الضغن قد خشمته غير ظالم


تاريخ الطبري جزء 5 صفحة (241-250)