أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




صناعة الجدل أو آداب المناظرة
ونضعها في ثلاثة مباحث:
الأول في القواعد والأصول.
والثاني في المواضع.
والثالث في الوصايا.
المبحث الأول ـ القواعد والأصول ـ
1. مصطلحات هذه الصناعة
لهذه الصناعة ـ ككل صناعة ـ مصطلحات خاصة بها والآن نذكر بعضها في المقدمة للحاجة فعلاً ونرجئ الباقي إلى مواضعه.
1ـ كلمة (الجدل) إن الجدل لغة هو اللدد واللجاج في الخصومة بالكلام مقارناً غالباً لاستعمال الحيلة الخارجة أحياناً عن العدل والإنصاف. ولذا نهت الشريعة الإسلامية عن المجادلة لا سيما في الحج والاعتكاف.
وقد نقل مناطقة العرب هذه الكلمة واستعملوها في الصناعة التي نحن بصددها والتي تسمى باليونانية (طوبيقا).
وهذه لفظة (الجدل) أنسب الألفاظ العربية إلى معنى هذه الصناعة على ما سيأتي توضيح المقصود بها حتى من مثل لفظ المناظرة والمحاورة والمباحثة وإن كانت كلّ واحدة منها تناسب هذه الصناعة في الجملة كما استعملت كلمة (المناظرة) في هذه الصناعة أيضا فقيل (آداب المناظرة) وألفت بعض المتون بهذا الاسم.
وقد يطلقون لفظ (الجدل) أيضاً على نفس استعمال الصناعة كما أطلقوه على ملكة استعمالها فيريدون به حينئذ القول المؤلف من المشهورات أو المسلمات الملزم للغير والجاري على قواعد الصناعة. وقد يقال له أيضاً: القياس الجدلي أو الحجة الجدلية أو القول الجدلي. أما مستعمل الصناعة فيقال له: (مجادل) و(جدلي).
2ـ كلمة (الوضع) ويراد بها هنا (الرأي المعتقد به أو الملتزم به) كالمذاهب والملل والنحل والأديان والآراء السياسية والاجتماعية والعلمية وما إلى ذلك.
والإنسان كما يعتنق الرأي ويدافع عنه لأنه عقيدته قد يعتنقه لغرض آخر فيتعصب له ويلتزمه وإن لم يكن عقيدة له فالرأي على قسمين: رأي معتقد به ورأي ملتزم به وكل منهما يتعلق به غرض الجدلي لإثباته أو نقضه فأراد أهل هذه الصناعة أن يعبروا عن قسمين بكلمة واحدة جامعة فاستعملوا كلمة (الوضع) اختصاراً ويريدون به مطلق الرأي الملتزم سواء أكان معتقداً به أم لا.
كما قد يسمّون أيضا نتيجة القياس في الجدل (وضعاً) وهي التي تسمى في البرهان (مطلوباً). وعلى هذا يكون معنى الوضع قريباً من معنى الدعوى التي يراد إثباتها أو إبطالها.
2. وجه الحاجة إلى الجدل
إن الإنسان لا ينفك عن خلاف ومنازعات بينه وبين غيره من أبناء جلدته في عقائده وآرائه من دينية وسياسية واجتماعية ونحوها فتتألف بالقياس إلى كل وضع طائفتان: طائفة تناصره وتحافظ عليه وأخرى تريد نقضه وهدمه ويجر ذلك إلى المناظرة والجدال في الكلام فيلتمس كلّ فريق الدليل والحجّة لتأييد وجهة نظره وإفحام خصمه أمام الجمهور.
والبرهان سبيل قويم مضمون لتحصيل المطلوب ولكن هناك من الأسباب ما يدعو إلى عدم الأخذ به في جملة من المواقع واللجوء إلى سبيل آخر وهو سبيل الجدل الذي نحن بصدده. وهنا تنبثق الحاجة إلى الجدل فإنه الطريقة المفيدة بعد البرهان. أما الأسباب الداعية إلى عدم الأخذ بالبرهان فهي أمور:
إن البرهان واحد في كلّ مسألة لا يمكن أن يستعمله كل من الفريقين المتنازعين لأن الحق واحد على كلّ حال فإذا كان الحق مع أحد الفريقين فإنّ الفريق الآخر يلتجئ إلى سبيل الجدل لتأييد مطلوبه.
إن الجمهور أبعد ما يكون عن إدراك المقدمات البرهانية إذا لم تكن من المشهورات الذايعات بينهم وغرض المجادل على الأكثر إفحام خصمه أمام الجمهور فيلتجئ هنا إلى استعمال المقدمات المشهورة بالطريقة الجدلية وإن كان الحق في جانبه ويمكنه استعمال البرهان.
إنه ليس كل أحد يقوى على إقامة البرهان أو إدراكه فيلتجئ المنازع إلى الجدل لعجزه عن البرهان أو لعجز خصمه عن إدراكه.
إن المبتدئ في العلوم قبل الوصول إلى الدرجة التي يتمكن فيها من إقامة البرهان على المطالب العلمية يحتاج إلى ما يمرّن ذهنه وقوته العقلية على الاستدلال على المطالب بطريقة غير البرهان كما قد يحتاج إلى تحصيل القناعة والاطمئنان إلى تلك المطالب قبل أن يتمكن من البرهان عليها. وليس له سبيل إلى ذلك إلاّ سبيل الجدل.
وبمعرفة هذه الأسباب تظهر لنا قوة الحاجة إلى الجدل ونستطيع أن نحكم بأنّه يجب لكل من تهمه المعرفة وكلّ من يريد أن يحافظ على العقائد والآراء أية كانت أن يبحث عن صناعة الجدل وقوانينها وأصولها. والمتكفل بذلك هذا الفن الذي عني به متقدمو الفلاسفة من اليونانيين وأهمله المتأخرون في الدورة الإسلامية إهمالاً لا مبرر له عدا فئة قليلة من أعاظم العلماء كالرئيس ابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي إمام المحققين.
3. المقارنة بين الجدل والبرهان
قلنا إن الجدل أسلوب آخر من الاستدلال وهو يأتي بالمرتبة الثانية بعد البرهان فلابد من بحث المقارنة بينهما وبيان ما يفترقان فيه فنقول:
إن البرهان لا يعتمد إلا على المقدمات التي هي حق من جهة ما هو حق لتنتج الحق أما (الجدل) فإنما يعتمد على المقدمات المسلمة من جهة ما هي مسلمة ولا يشترط فيها أن تكون حقاً وإن كانت حقاً واقعاً إذ لا يطلب المجادل الحق بما هو حق ـ كما قلنا ـ بل إنّما يطلب إفحام الخصم وإلزامه بالمقدمات المسلّمة سواء أكانت مسلّمة عند الجمهور وهي المشهورات العامة والذائعات أم مسلّمة عند طائفة خاصة يعترف بها الخصم أم مسلّمة عند شخص الخصم خاصة.
إن الجدل لا يقوم إلا بشخصين متخاصمين أما البرهان فقد يقام لغرض تعليم الغير وإيصاله إلى الحقائق فيقوم بين شخصين كالجدل وقد يقيمه الشخص ليناجي به نفسه ويعلّمها لتصل إلى الحق.
إنه تقدم في البحث السابق أن البرهان واحد في كل مسألة لا يمكن أن يقيمه كل من الفريقين المتنازعين. أما الجدل فإنه يمكن أن يستعمله الفريقان معاً ما دام الغرض منه إلزام الخصم وإفحامه لا الحق بما هو حق وما دام أنه يعتمد على المشهورات والمسلّمات التي قد يكون بعضها في جانب الإثبات وبعضها الآخر في عين الوقت في جانب النفي. بل يمكن لأحد الفريقين أن يقيم كثيراً من الأدلة الجدلية بلا موجب للحصر على رأي واحد بينما أن البرهان لا يكون إلاّ واحداً لا يتعدد في المسألة الواحدة وإن تعدد ظاهراً بتعدد العلل الأربع على ما تقدم في بحث البرهان.
إن صورة البرهان لا تكون إلا من القياس على ما تقدم في بحث البرهان أما المجادل فيمكن أن يستعمل القياس وغيره من الحجج كالاستقراء والتمثيل فالجدل أعم من البرهان من جهة الصورة غير أن أكثر ما يعتمد الجدل على القياس والاستقراء.
4. تعريف الجدل
ويظهر بوضوح من جميع ما تقدم صحة تعريف فن الجدل بما يلي:
«إنه صناعة علمية يقتدر معها ـ حسب الإمكان ـ على إقامة الحجة من المقدمات المسلمة على أي مطلوب يراد وعلى محافظة أي وضع يتفق على وجه لا تتوجه عليه مناقضة».
وإنما قُيّد التعريف بعبارة (حسب الإمكان) فلأجل التنبيه على أن عجز المجادل عن تحصيل بعض المطالب لا يقدح في كونه صاحب صناعة كعجز الطبيب مثلاً عن مداواة بعض الأمراض فإنه لا ينفي كونه طبيباً.
ويمكن التعبير عن تعريف الجدل بعبارة أخرى كما يلي:
«الجدل صناعة تمكن الإنسان من إقامة الحجج المؤلفة من المسلّمات أو من ردها حسب الإرادة ومن الاحتراز عن لزوم المناقضة في المحافظة على الوضع».
5. فوائد الجدل
مما تقدم تظهر لنا الفائدة الأصلية من صناعة الجدل ومنفعتها المقصودة بالذات وهي أن يتمكن المجادل من تقوية الآراء النافعة وتأييدها ومن إلزام المبطلين والغلبة على المشعوذين وذوي الآراء الفاسدة على وجه يدرك الجمهور ذلك. ولهذه الصناعة فوائد أخر تقصد منها بالعرض نذكر بعضها:
رياضة الأذهان وتقويتها في تحصيل المقدمات واكتسابها إذ يتمكن ذو الصناعة من إيراد المقدمات الكثيرة والمفيدة في كل باب ومن إقامة الحجة على المطالب العلمية وغيرها.
تحصيل الحق واليقين في المسألة التي تعرض على الإنسان فإنه بالقوة الجدلية التي تحصل له بسبب هذه الصناعة يتمكن من تأليف المقدمات لكل من طرفي الإيجاب والسلب في المسألة. وحينئذ بعد الفحص عن حال كل منهما والتأمل فيهما قد يلوح الحق له فيميز أنه في أي طرف منهما ويزيف الطرف الآخر الباطل.
التسهيل على المتعلم المبتدئ لمعرفة المصادرات في العلم الطالب له بسبب المقدمات الجدلية إذ أنه بادئ بدء ينكرها ويستوحش منها لأنه لم يقو بعد على الوصول إلى البرهان عليها. والمقدمات الجدلية تفيده التصديق بها وتسهل عليه الاعتقاد بها فيطمئن إليها قبل الدخول في العلم ومعرفة براهينها.
وتنفع هذه الصناعة أيضا طالب الغلبة على خصومه إذ يقوى على المحاورة والمخاصمة والمراوغة وإن كان الحق في جانب خصمه فيستظهر على خصمه الضعيف عن مجادلته ومجاراته لا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه المنازعات في الآراء السياسية والاجتماعية.
وتنفع أيضا الرئيس للمحافظة على عقائد أتباعه عن المبتدعات.
وتنفع أيضا الذين يسمّونهم في هذا العصر المحامين الذين اتخذوا المحاماة والدفاع عن حقوق الناس مهنة لهم فإنهم أشد ما تكون حاجتهم إلى معرفة هذه الصناعة بل إنها جزء من مهنتهم في الحقيقة.
6. السؤال والجواب
تقدم أن الجدل لا يتم إلا بين طرفين متنازعين فالجدلي شخصان: (أحدهما) محافظ على وضع وملتزم له غاية سعيه ألا يلزمه الغير ولا يفحمه و(ثانيهما) ناقض له وغاية سعيه أن يلزم المحافظ ويفحمه.
و(الأول) يسمى (المجيب).واعتماده على المشهورات في تقرير وضعه أما المشهورات المطلقة أو المحدودة بحسب تسليم طائفة معينة.
و(الثاني) يسمى (السائل) واعتماده في نقض وضع المجيب على ما يسلّمه المجيب من المقدمات وإن لم تكن مشهورة.
ولتوضيح سرّ التسمية بالسائل والمجيب نقول: إن الجدل إنما يتم بأمرين سؤال وجواب وذلك لأن المقصود الأصلي من صناعة الجدل عندهم أن تتم بهذه المراحل الأربع:
أن يوجه من يريد نقض وضع ما أسئلة إلى خصمه المحافظ على ذلك الوضع بطريق الاستفهام بأن يقول: (هل هذا ذاك؟) أو (أليس إذا كان كذا فكذا؟) ويتدرج بالأسئلة من البعيد عن المقصود إلى القريب منه حسب ما يريد أن يتوصل به إلى مقصوده من تسليم الخصم من دون أن يشعره بأنه يريد مهاجمته ونقض وضعه أو يشعره بذلك ولكن لا يشعره من أية ناحية يريد مهاجمته منها حتى لا يراوغ ويحتال في الجواب.
أن يستل السائل من خصمه من حيث يدري ولا يدري الاعتراف والتسليم بالمقدمات التي تستلزم نقض وضعه المحافظ عليه.
أن يؤلف السائل قياساً جدلياً مما اعترف وسلّم به خصمه (المجيب) بعد فرض اعترافه وتسليمه ليكون هذا القياس ناقضاً لوضع المجيب.
أن يدافع المحافظ (المجيب) ويتخلص عن المهاجمة ـ إن استطاع ـ بتأليف قياس من المشهورات التي لابد أن يخضع لها السائل والجمهور.
وهذه الطريقة من السؤال والجواب هي الطريقة الفنية المقصودة لهم في هذه الصناعة وهي التي تظهر بها المهارة والحذق في توجيه الأسئلة والتخلص من الاعتراف أو الإلزام. ومن هذه الجهة كانت التسمية بالسائل والمجيب لا لمجرد وقوع سؤال وجواب بأي نحو اتفق. والمقصود من صناعة الجدل إتقان تأدية هذه الطريقة حسب ما تقتضيه القوانين والأصول الموضوعة فيها.
ونحن يمكننا أن نتوسع في دائرة هذه الصناعة فنتعدى هذه الطريقة المتقدمة إلى غيرها بأن نكتفي بتأليف القياس من المشهورات أو المسلّمات لنقض وضع أو للمحافظة على وضع لغرض إفحام الخصوم على أي نحو يتفق هذا التأليف وإن لم يكن على نحو السؤال والجواب ولم يمر على تلك المراحل الأربع بترتيبها. ولعل تعريف الجدل المتقدم لا يأبى هذه التوسعة.
بل يمكن أن نتعدى إلى أبعد من ذلك حينئذ فلا نخص الصناعة بالمشافهة بل نتعدى بها إلى التحرير والمكاتبة. وفي هذه العصور لا سيما الأخيرة منها بعد انتشار الطباعة والصحف أكثر ما تجري المناقشات والمجادلات في الكتابة وتبتني على المسلّمات والمشهورات على غير الطريقة البرهانية من دون أن تتألف صورة سؤال وجواب. ومع ذلك نسميها قياسات جدلية أو ينبغي أن نسميها كذلك وتشملها كثير من أصول صناعة الجدل وقواعدها فلا ضير في دخولها في هذه الصناعة وشمول بعض قواعدها وآدابها لها.
7. مبادئ الجدل
أشرنا فيما سبق إلى أن مبادئ الجدل الأولية التي تعتمد عليها هذه الصناعة هي المشهورات والمسلّمات وأن المشهورات مبادئ مشتركة بالنسبة إلى السائل والمجيب والمسلّمات مختصة بالسائل.
كما أشرنا إلى أن المشهورات يجوز أن تكون حقاً واقعاً وللجدلي أن يستعملها في قياسه. أما استعمال الحق غير المشهور بما هو حق في هذه الصناعة فإنه يعد مغالطة من الجدلي لأنه في استعمال أية قضية لا يدعي أنها في نفس الأمر حق. وإنما يقول: إن هذا الحكم ظاهر واضح في هذه القضية ويعترف بذلك الجميع ويكون الحكم مقبولاً لدى كل أحد.
ثم إنا أشرنا في بحث (المشهورات) أن للشهرة أسباباً توجبها وذكرنا أقسام المشهورات حسب اختلاف أسباب الشهرة فراجع. والسرّ في كون الشهرة لا تستغني عن السبب أن شهرة المشهور ليست ذاتية بل هي أمر عارض وكل عارض لابد له من سبب. وليست هي كحقية الحق التي هي أمر ذاتي للحق لا تعلل بعلة.
وسبب الشهرة لابد أن يكون تألفه الأذهان وتدركه العقول بسهولة ولولا ذلك لما كان الحكم مقبولاً عند الجمهور وشايعاً بينهم.
وعلى هذا يتوجه علينا سؤال وهو: إذا كانت الشهرة لا تستغني عن السبب فكيف جعلتم المشهورات من المبادئ الأولية أي ليست مكتسبة؟
والجواب إن سبب حصول الشهرة لوضوحه لدى الجمهور، تكون أذهان الجمهور غافلة عنه ولا تلتفت إلى سرّ انتقالها إلى الحكم المشهور فيبدو لها أن المشهورات غير مكتسبة من سبب كأنها من تلقاء نفسها انتقلت إليها وإنما يعتبر كون الحكم مكتسباً إذا صدر الانتقال إليه بملاحظة سببه. وهذا من قبيل القياس الخفي في المجربات والفطريات التي قياساتها معها على ما أوضحناه في موضعه فإنها مع كونها لها قياس وهو السبب الحقيقي لحصول العلم بها عدّوها من المبادئ غير المكتسبة نظراً إلى أن حصول العلم فيها عن سبب خفي غير ملحوظ للعالم ومغفول عنه لوضوحه لديه.
ثم لا يخفى أنه ليس كل ما يسمى مشهوراً هو من مبادئ الجدل فإن الشهرة تختلف بحسب اختلاف الأسباب في كيفية تأثيرها في الشهرة. وبهذا الاعتبار تنقسم المشهورات إلى ثلاثة أقسام:
1ـ المشهورات الحقيقية وهي التي لا تزول شهرتها بعد التعقيب والتأمل فيها.
2ـ المشهورات الظاهرية وهي المشهورات في بادئ الرأي التي تزول شهرتها بعد التعقيب والتأمل مثل قولهم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فإنه يقابله المشهور الحقيقي وهو: (لا تنصر الظالم وإن كان أخاك).
3ـ الشبيهة بالمشهورات وهي التي تحصل شهرتها بسبب عارض غير لازم تزول الشهرة بزواله فتكون شهرتها في وقت دون وقت وحال دون حال مثل استحسان الناس في العصر المتقدم لإطلاق الشوارب تقليداً لبعض الملوك والأمراء فلما زال هذا السبب زالت هذه العادة وزال الاستحسان.
ولا يصلح للجدل إلا القسم الأول دون الأخيرين أما الظاهرية فإنما تنفع فقط في صناعة الخطابة كما سيأتي وأما الشبيهة بالمشهورات فنفعها خاص بالمشاغبة كما سيأتي في صناعة المغالطة.
8. مقدمات الجدل
كل ما هو مبدأ للقياس معناه أنه يصلح أن يقع مقدمة له ولكن ليس يجب في كل ما هو مقدمة أن يكون من المبادئ بل المقدمة إما أن تكون نفسها من المبادئ أو تنتهي إلى المبادئ. وعليه فمقدمات القياس الجدلي يجوز أن تكون في نفسها مشهورة. ويجوز أن تكون غير مشهورة ترجع إلى المشهورة كما قلنا في مقدمات البرهان إنها تكون بديهية وتكون نظرية تنتهي إلى البديهية.
والرجوع إلى المشهورة على نحوين:
أ ـ أن تكتسب شهرتها من المقارنة والمقايسة إلى المشهورة. وتسمى (المشهورة بالقرائن). والمقارنة بين القضيتين إما لتشابهما في الحدود أو لتقابلهما فيها. وكل من التشابه والتقابل يوجب انتقال الذهن من تصور شهرة إحداهما إلى تصور شهرة الثانية وإن لم يكن هذا الانتقال في نفسه واجباً وإنما تكون شهرة إحداهما مقرونة بشهرة الأخرى.
مثال التشابه قولهم: إذا كان إطعام الضيف حسناً فقضاء حوائجه حسن أيضاً فإنّ حسن إطعام الضيف مشهور وللتشابه بين الإطعام وقضاء الحوائج تستوجب المقارنة بينهما انتقال الذهن إلى حسن قضاء حوائج الضيف.
ومثال التقابل قولهم: إذا كان الإحسان إلى الأصدقاء حسناً كانت الإساءة إلى الأعداء حسنة فإن التقابل بين الإحسان والإساءة وبين الأصدقاء والأعداء يستوجب انتقال الذهن من إحدى القضيتين إلى الأخرى بالمقارنة والمقايسة.
ب ـ أن تكون المقدمة مكتسبة شهرتها من قياس مؤلف من المشهورات منتج لها بأن تكون هذه المقدمة المفروضة مأخوذة من مقدمات مشهورة. نظير المقدمة النظرية في البرهان إذا كانت مكتسبة من مقدمات بديهية.
9. مسائل الجدل
كل قضية كان السائل قد أورد عينها في حال سؤاله أو أورد مقابلها فإنها تسمى (مسألة الجدل) وبعد أن يسلّم بها المجيب ويجعلها السائل جزءاً من قياسه هي نفسها تسمى (مقدمة الجدل).
إذا عرفت ذلك فكل قضية لها ارتباط في نقض الوضع الذي يراد نقضه تصلح أن تقع مورداً لسؤال السائل ولكن بعض القضايا يجدر به أن يتجنبها، نذكر بعضها:
(منها) أنه لا ينبغي للسائل أن يجعل المشهورات مورداً لسؤاله فإن السؤال عنها معناه جعلها في معرض الشك والترديد وهذا ما يشجع المجيب على إنكارها ومخالفة المشهور. فلو التجأ السائل لإيراد المشهورات فليذكرها على سبيل التمهيد للقواعد التي يريد أن يستفيد منها لنقض وضع المجيب. باعتبار أن تلك المشهورات مفروغ عنها لا مفّر من الاعتراف بها.
و(منها) أنه لا ينبغي له أن يسأل عن ماهية الأشياء ولا عن لمّيتها (علّيتها) لأن مثل هذا السؤال إنما يرتبط بالتعلم والاستفادة لا بالجدل والمغالبة بل السؤال عن الماهية لو احتاج إليه فينبغي أن يضعه على سبيل الاستفسار عن معنى اللفظ أو على سبيل السؤال عن رأيه وقوله في الماهية بأن يسأل هكذا (هل تقول إن الإنسان هو الحيوان الناطق أو لا ؟) أو يسأل هكذا: (لو لم يكن حد الإنسان هو الحيوان الناطق فما حده إذن؟).
وكذلك السؤال في اللمّية لابد أن يجعل السؤال عن قوله ورأيه فيها لا عن أصل العلية.
10. مطالب الجدل
إن الجدل ينفع في جميع المسائل الفلسفية والاجتماعية والدينية والعلمية والسياسية والأدبية وجميع الفنون والمعارف وكل قضية من ذلك تصلح أن تكون مطلوبة به. ويستثنى من ذلك قضايا لا تطلب بالجدل.
منها (المشهورات الحقيقية المطلقة) لأنها لما كانت بهذه الشهرة لا يسع لأحد إنكارها والتشكيك بها حتى يحتاج إثباتها إلى حجة. وحكمها من هذه الجهة حكم البديهيات فإنها لا تطلب بالبرهان. ويجمعها أنها غير مكتسبة فلا تكتسب بحجة.
ومن ينكر المشهورات لا تنفع معه حجة جدلية لأن معنى إقامتها إرجاعه إلى القضايا المشهورة وقد ينكرها أيضاً. ومثل هذا المنكر للمشهورات لا ردّ له إلا العقاب أو السخرية والاستهزاء أو إحساسه: فمن ينكر مثل حسن عبادة الخالق وقبح عقوق الوالدين فحقه العقاب والتعذيب. ومنكر مثل أن القمر مستمد نوره من الشمس يسخر به ويضحك عليه. ومنكر مثل أن النار حارة يكوى بها ليحس بحرارتها.
نعم قد يطلب المشهور بالقياس الجدلي في مقابل المشاغب كما تطلب القضية الأولية بالبرهان في مقابل المغالط.
أما المشهورات المحدودة أو المختلف فيها فلا مانع من طلبها بالحجة الجدلية في مقابل من لا يراها مشهورة أو لا يعترف بشهرتها لينبهه على شهرتها بما هو أعرف وأشهر.
ومنها (القضايا الرياضية ونحوها) لأنها مبتنية على الحس والتجربة فلا مدخل للجدل فيها ولا معنى لطلبها بالمشهورات كقضايا الهندسة والحساب والكيمياء والميكانيك ونحو ذلك.
11. أدوات هذه الصناعة
عرفنا فيما سبق أن الجدل يعتمد على المسلّمات والمشهورات غير أن تحصيل ملكة هذه الصناعة (بأن يتمكن المجادل من الانتفاع بالمشهورات والمسلّمات في وقت الحاجة عند الاحتجاج على خصمه أو عند الاحتراز من الانقطاع والمغلوبية) ليس بالأمر الهين كما قد يبدو لأول وهلة. بل يحتاج إلى مران طويل حتى تحصل له الملكة شأن كل ملكة في كل صناعة. ولهذا المران موارد أربعة هي أدوات للملكة إذا استطاع الإنسان أن يحوز عليها فإن لها الأثر البالغ في حصول الملكة وتمكن الجدلي من بلوغ غرضه.
ونحن واصفون هنا هذه الأدوات. وليعلم الطالب أنه ليس معنى معرفة وصف هذه الأدوات أنه يكون حاصلاً عليها فعلاً بل لابد من السعي لتحصيلها بنفسه عملا واستحضارها عنده فإن من يعرف معنى المنشار لا يكون حاصلاً لديه ولا يكون ناشراً للخشب بل الذي ينشره من تمكن من تحصيل نفس الآلة وعمل بها في نشر الخشب. نعم معرفة أوصاف الآلة طريق لتحصيلها والانتفاع بها.
والأدوات الأربع المطلوبة هي كما يلي:
(الأداة الأولى) ـ أن يستحضر لديه أصناف المشهورات من كل باب ومن كل مادة على اختلافها ويعدها في ذاكرته لوقت الحاجة وأن يفصل بين المشهورات المطلقة وبين المحدودة عند أهل كل صناعة أو مذهب وأن يميز بين المشهورات الحقيقية وغيرها وأن يعرف كيف يستنبط المشهور ويحصل على المشهورات بالقرائن وينقل حكم الشهرة من قضية إلى أخرى.
فإذا كمل له كل ذلك وجمعه عنده فإن احتاج إلى استعمال مشهور: كان حاضراً لديه متمكناً به من الاحتجاج على خصمه.
وهذه الأداة لازمة للجدلي لأنه لا ينبغي له أن ينقطع أمام الجمهور ولا يحسن منه أن يتأنى ويطلب التذكر أو المراجعة فإنه يفوت غرضه ويعد فاشلاً لأن غايته آنية وهي الغلبة على خصمه أمام الجمهور. فيفوت غرضه بفوات الأوان على العكس من طالب الحقيقة بالبرهان فإن تأنيه وطلبه للتذكر والتأمل لا ينقصه ولا ينافي غرضه من تحصيل الحقيقة ولو بعد حين.
ومما ينبغي أن يعلم أن هذه الملكة (ملكة استحضار المشهور عند الحاجة) يجوز أن تتبعّض بأن تكون مستحضرات المجادل خاصة بالموضوع المختص به: فالمجادل في الأمور الدينية مثلاً يكفي أن يستحضر المشهورات النافعة في موضوعه خاصة ومن يجادل في السياسة إنما يستحضر خصوص المشهورات المختصة بهذا الباب فيكون صاحب ملكة في جدل السياسة فقط... وهكذا في سائر المذاهب والآراء.
وعليه فلا يجب في الجدلي المختص بموضوع أن تكون ملكته عامة لجميع المشهورات في جميع العلوم والآراء.
(الأداة الثانية) ـ القدرة والقوة على التمييز بين معاني الألفاظ المشتركة والمنقولة والمشككة والمتواطئة والمتباينة والمترادفة وما إليها من أحوال الألفاظ والقدرة على تفصيلها على وجه يستطيع أن يرفع ما يطرأ من غموض واشتباه فيها حتى لا يقتصر على الدعوى المجردة في إيرادها في حججه بل يتبين وجه الاشتراك أو التشكيك أو غير ذلك من الأحوال.
وهناك أصول وقواعد قد يرجع إليها لمعرفة المشترك اللفظي وتمييزه عن المشترك المعنوي ولمعرفة باقي أحوال اللفظ: لا يسعها هذا الكتاب المختصر. ولأجل أن يتنبه الطالب لهذه الأبحاث نذكر مثالاً لذلك فنقول:
لو اشتبه لفظ في كونه مشتركاً لفظياً أو معنوياً فإنه قد يمكن رفع الاشتباه بالرجوع إلى اختلاف اللفظ بحسب الاعتبارات مثل كلمة (قوة) فإنها تستعمل بمعنى القدرة كقولنا قوة المشي والقيام مثلاً وتستعمل بمعنى القابلية والتهيؤ للوجود مثل قولنا الأخرس ناطق بالقوة والبذرة شجرة بالقوة. فلو شككنا في أنها موضوعة لمعنى أعم أو لكل من المعنيين على حدة فإنه يمكن أن نقيس اللفظ إلى ما يقابله فنرى في المثال أن اللفظ بحسب كل معنى يقابله لفظ آخر وليس له مقابل واحد فمقابل القوة بالمعنى الأول الضعف ومقابلها بالمعنى الثاني الفعلية. ولتعدد التقابل نستظهر أن لها معنيين لا معنى واحداً وإلا لكان لها مقابل واحد.
وكذلك يمكن أن تستظهر أن للفظة معنيين على نحو الاشتراك اللفظي إذا تعدد جمعها بتعدد معناها مثل لفظة (أمر) فإنها بمعنى شيء تجمع على (أمور) وبمعنى طلب الفعل تجمع على (أوامر). فلو كان لها معنى واحد مشترك لكان لها جمع واحد.
ثم إن كثيراً ما تقع المنازعات بسبب عدم تحقيق معنى اللفظ فينحو كل فريق من المتنازعين منحى من معنى اللفظ غير ما ينحوه الفريق الآخر ويتخيل كل منهما أن المقصود لهما معنى واحد هو موضع الخلاف بينهما. ومن له خبرة في أحوال اللفظ يستطيع أن يكشف مثل هذه المغالطات ويوقع التصالح بين الفريقين. ويمكن التمثيل لذلك بالنزاع في مسألة جواز رؤية الله فيمكن أن يريد من يجيز الرؤية هي الرؤية القلبية أي الإدراك بالعقل بينما أن المقصود لمن يحيلها هي الرؤية بمعنى الإدراك بالبصر. فتفصيل معنى الرؤية وبيان أن لها معنيين قد يزيل الخلاف والمغالطة. وهكذا يمكن كشف النزاع في كثير من الأبحاث. وهذا من فوائد هذه الأداة.
(الأداة الثالثة) ـ القدرة والقوة على التمييز بين المتشابهات سواء كان التمييز بالفصول أو بغيرها. وتحصل هذه القوة (الملكة) بالسعي في طلب الفروق بين الأشياء المتشابهة تشابهاً قريباً لا سيما في تحصيل وجوه اختلاف أحكام شيء واحد بل تحصل بطلب المباينة بين الأشياء المتشابهة بالجنس.
وتظهر فائدة هذه الأداة في تحصيل الفصول والخواص للأشياء فيستعين بذلك على الحدود والرسوم. وتظهر الفائدة للمجادل كما لو ادعى خصمه مثلاً أن شيئين لهما حكم واحد باعتبار تشابهها فيقيس أحدهما على الآخر أو أن الحكم ثابت للعام الشامل لهما فإنه أي المجادل إذا ميز بينهما وكشف ما بينهما من فروق تقتضي اختلاف أحكامها ينكشف اشتباه الخصم ويقال له مثلاً: إن قياسك الذي ادعيته قياس مع الفارق.
مثاله ما تقدم في بحث المشهورات في دعوى منكر الحسن والقبح العقليين إذ استدل على ذلك بأنه لو كان عقلياً لما كان فرق بينه وبين حكم العقل بأن الكل أعظم من الجزء مع أن الفرق بينهما ظاهر. فاعتقد المستدل أن حكمي العقل في المسألتين نوع واحد واستدل بوجود الفرق على إنكار حكم العقل في مسألة الحسن والقبح.
وقد أوضحنا هناك الفرق بين العقلين وبين الحكمين بما أبطل قياسه فكان قياساً مع الفارق. وهذا المثال أحد موارد الانتفاع بهذه الأداة.
(الأداة الرابعة) ـ القدرة على بيان التشابه بين الأشياء المختلفة عكس الأداة الثالثة سواء كان التشابه بالذاتيات أو بالعرضيات. وتحصل هذه القدرة (الملكة) بطلب وجوه التشابه بين الأمور المتباعدة جداً أو المتجانسة وبتحصيل ما به الاشتراك بين الأشياء وإن كان أمراً عدمياً.
ويجوز أن يكون وجه التشابه نسبة عارضة. والحدود في النسبة إما أن تكون متصلة أو منفصلة: أما المتصلة فكما لو كان شيء واحد منسوباً أو منسوباً إليه في الطرفين أو أنه في أحد الطرفين منسوباً وفي الثاني منسوباً إليه فهذه ثلاثة أقسام:
(مثال الأول) ما لو قيل: نسبة الإمكان إلى الوجود كنسبته إلى العدم.
و(مثال الثاني) ما لو قيل: نسبة البصر إلى النفس كنسبة السمع إليها.
و(مثال الثالث) ما لو قيل: نسبة النقطة إلى الخط كنسبة الخط إلى السطح.
أما المنفصلة ففيما إذا لم يشترك الطرفان في شيء واحد أصلاً كما لو قيل: نسبة الأربعة إلى الثمانية كنسبة الثلاثة إلى الستة.
وفائدة هذه الأداة اقتناص الحدود والرسوم بالاشتراك مع الأداة السابقة. فإن هذه الأداة تنفع لتحصيل الجنس وشبه الجنس والأداة السابقة تنفع في تحصيل الفصول والخواص كما تقدم.
وتنفع هذه الأداة في إلحاق بعض القضايا ببعض آخر في الشهرة أو في حكم آخر ببيان ما به الاشتراك في موضوعيهما بعد أن يعلل الحكم بالأمر المشترك كما في التمثيل.
وتنفع هذه الأداة أيضاً الجدلي فيما لو ادعى خصمه الفرق في الحكم بين شيئين فيمكنه أن يطالب بإيراد الفرق فإذا عجز عن بيانه لابد أن يسلّم بالحكم العام ويذعن. وإن كان بحسب التحقيق العلمي لا يكون العجز عن إيراد الفرق بل حتى نفس عدم الفرق مقتضياً لإلحاق شيء بشبيهه في الحكم، والسلام...