أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


أتدرون لماذا غسل رسائل تلاميذه ؟!
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ,نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
قد يُبتلى الإنسان في هذه الدنيا بشخص ظلوم , أو بجموع له خصوم , فتنفطر القلوب وتضيق الصدور , وتفتقد الصاحب والمعين , ويصبح القريب بعيدا والبعيد عدوا , فتقبل على الله بالدعاء , وتسأله الخير والعطاء , وهذا هو المبتغى , والسر في كل بلى , فقصد الله هو الأسمى , وهو الغاية الأسنى , فله الحمد على كل ما قضى , فتتحول المحنة الى منحة , فتتكشف لك أمور , ويتبدل الحزن إلى سرور , بفضل الله الرحيم الغفور , ولا يزال في الابتلاء تنقيح وتصفية , وأهل الظلم لا يزالون يعيشون ويكيدون المكائد إما باللسان و اليد , وإما باستخدام مكانتهم وسلطتهم فيتكبرون ويعتدون ويتجبرون , لا يردهم وعظ ولا تذكير , ولا تنفع معهم نصيحة ولا تحذير , يحاولون أن يكموا أفواه أهل الحق ويصموا أسماع الناس عنهم ويطال الظلم عليهم وذلك خوفا من الحق واليقين الذي يتكلمون فيه , وذلك إما بسبب معتقدات لديهم مناقضة لهذا الحق , وإما خوفا على مناصبهم الزائلة , وإما حسدا وطمعا من عند أنفسهم , وما يعلمون ! أن ما يقومون به من محاولة طمس الحق والعداوة لأهله سيرجع نكالا ووبالا عليهم في الدنيا والآخرة , وإن الله سيجعل العاقبة للمتقين بإذن رب العالمين .
قال تعالى : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ) [ابراهيم :42-43]
يقول ابن كثير رحمه الله :"يقول - تعالى شأنه - ( ولا تحسبن الله ) يا محمد - صلى الله عليه وسلم - ( غافلا عما يعمل الظالمون ) أي : لا تحسبه إذ أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم ، لا يعاقبهم على صنعهم بل هو يحصي ذلك عليهم ويعده عدا أي : ( إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ) أي : من شدة الأهوال يوم القيامة" تفسير ابن كثير (3/690)
وقال البغوي رحمه الله : "قوله عز وجل : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور ، والآية لتسلية المظلوم وتهديد للظالم , ( إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ) أي : لا تغمض من هول ما ترى في ذلك اليوم ، وقيل : ترتفع وتزول عن أماكنها ".تفسير البغوي (2/567)
فالظلم مرتعه وخيم، وخطره جسيم، وعواقبه مظلمه , ونتائجه مهلكه .
قال صلى الله عليه وسلم :" واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " رواه البخاري (469) ومسلم (19)
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة). أخرجه الحاكم في المستدرك، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (118)
وقد يتكالب على أهل الحق الكثير , حتى يصبح كالغريب وسط أهله , وكالوحيد وسط الجموع إلا إنه في الحقيقة هو الجماعة ولو كانه وحده .
قال ابن القيم رحمه الله : "واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق ، وإن كان وحده ، وإن خالفه أهل الأرض .
قال عمرو بن ميمون الأودي : صحبت معاذا –رضي الله عنه- باليمن ، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام ، ثم صحبت من بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- فسمعته يقول : عليكم بالجماعة ، فإن يد الله مع الجماعة ، ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول : سيولى عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها ، فصلوا الصلاة لميقاتها ; فهي الفريضة ، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة ، قال : قلت يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثون ، قال : وما ذاك ؟ قلت : تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول لي : صل الصلاة وحدك وهي الفريضة ، وصل مع الجماعة وهي نافلة قال : يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية ، أتدري ما الجماعة ؟ قلت : لا ، قال : إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة ، الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك ، وفي لفظ آخر : فضرب على فخذي وقال : ويحك ، إن جمهور الناس فارقوا الجماعة ، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى.
وقال نعيم بن حماد :" إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد ، وإن كنت وحدك ، فإنك أنت الجماعة حينئذ ، ذكرها البيهقي وغيره" ... ثم قال :" وقد شذ الناس كلهم زمن أحمد بن حنبل -رحمه الله- إلا نفرا يسيرا ؛فكانوا هم الجماعة ، وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذون ، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة ، ولما لم يتحمل هذا عقول الناس قالوا للخليفة : يا أمير المؤمنين أتكون أنت وقضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون كلهم على الباطل وأحمد وحده هو على الحق ؟ فلم يتسع علمه لذلك ; فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل ; فلا إله إلا الله ، ما أشبه الليلة بالبارحة ، وهي السبيل المهيع لأهل السنة والجماعة حتى يلقوا ربهم ، مضى عليها سلفهم ، وينتظرها خلفهم :
( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب :23] ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ".إعلام الموقعين (5/388-390)
ولنا في ابتلاءات السلف ومن مضى من أهل الإيمان والتضحية قدوة ,فما فُعل بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وما وقع عليه من ظلم وبغض وعداوة له , كل ذلك من أجل ان يداهن أهل الباطل والبدع والأهواء ,ولكنه كان الجماعة فلم يبدل قوله ولم يتنازل عن الحق الذي يراه , فأصحاب الحق وأهل السنة ممتحنين بأصحاب الهوى والجهال .
قال أبو البقاء السبكي رحمه الله : (والله يا فلان ما يبغض ابن تيمية - رحمه الله -إلا جاهل أو صاحب هوى، فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به). الرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي( ص99)
وهكذا أراد خصومه أن يحبسوا كلمته الحرة الصادقة، حتى لا تصل للناس ,وحتى لا يتحرروا من سلطان الخرافة، وقيود الأوهام، وأغلال الهوى، وضلال البدع , حتى وصل بهم الأمر إلى انتزاع الأوراق والأقلام منه، كل ذلك خوفاً ورعباً من كلماته الناطقة بالحق واليقين , فما كان منه رحمه الله إلا أن غسل أوراق تلاميذه حين نزعوا منه الأوراق وكتب عليها بالفحم حين أخذوا منه الأقلام .
قال ابن عبد الهادي رحمه الله في كتابه في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية – وهو يتحدث عن سجنه الأخير في قلعة دمشق - : " لما كان قبل وفاته بأشهر ورد مرسوم السلطان بإخراج ما عنده كله ولم يبق عنده كتاب ولا ورقة ولا دواة ولا قلم وكان بعد ذلك إذا كتب ورقة إلى بعض أصحابه يكتبها بفحم وقد رأيت أوراقا عدة بعثها إلى أصحابه وبعضها مكتوب بفحم ..."
يقول شيخ الإسلام رحمه الله في رسالته الأخيرة: (ونحن ولله الحمد والشكر في نعم عظيمة تتزايد كل يوم، ويجدد الله تعالى من نعمه نعماً أخرى، وخروج الكتب كان من أعظم النعم، فإني كنت حريصاً على خروج شيء منها لتقفوا عليه، وهم كرهوا خروج الأخنائية -أي كتابه الذي رد فيه على الإخنائي الصوفي- فاستعملهم الله تعالى في إخراج الجميع، وإلزام المنازعين بالوقوف عليه، وبهذا يظهر ما أرسل الله به رسوله من الهدى ودين الحق, فإن هذه المسائل كانت خفية على أكثر الناس، فإذا ظهرت: فمن كان قصده الحق هداه الله، ومن كان قصده الباطل قامت عليه حجة الله).
ثم قال رحمه الله : (والأوراق التي فيها جواباتكم غُسلت، وأنا طيب وعيناي طيبتان أطيب ما كانتا، ونحن في نعم عظيمة لا تحصى ولا تعد والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كل ما يقضيه الله تعالى فيه الخير والرحمة والحكمة (إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم) [يوسف: 100] ولا يدخل على أحد ضرر إلا من ذنوبه (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) [النساء :79] فالعبد عليه أن يشكر الله ويحمده دائماً على كل حال، ويستغفر من ذنوبه فالشكر يوجب المزيد من النعم، والاستغفار يدفع النقم، ولا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
قال ابن عبدالهادي رحمه الله معلقاً على هذه الرسالة: (وهذه الورقة كتبها الشيخ وأرسلها بعد خروج الكتب من عنده بأكثر من ثلاثة أشهر في شهر شوال قبل وفاته بنحو شهر ونصف، ولما أخرج ما عنده من الكتب والأوراق .. أقبل الشيخ بعد إخراجها على العبادة والتلاوة والتذكر والتهجد حتى أتاه اليقين، وختم القرآن مدة إقامته بالقلعة ثمانين أو إحدى وثمانين ختمة انتهى في آخر ختمة إلى آخر اقتربت الساعة: (إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر)[القمر:54-55]).العقود الدرية (1/384)
وقال ابن فضل الله العمري رحمه الله في ترجمته لابن تيمية رحمه الله :
"وكان قبل موته قد منع الدواة والقلم وطبع على قلبه منه طابع الألم فكان ذلك مبدأ مرضه ومنشأ عرضه حتى نزل قفار المقابر وترك فقار المنابر وحل ساحة ربه وما يحاذر وأخذ راحة قلبه من اللائم والعاذر فمات وما مات لا بل حيي وعرف قدره لأن مثله ما رئي ما برح على المآثر إلى أن صرعه أجله وأتاه بشير الجنة يستعجله فانتقل إلى الله والظن به أنه لا يخجله وكان يوم دفنه يوما مشهودا ووقتا معدودا ضاقت به البلد وظواهرها وتذكرت به أوائل الرزايا وأواخرها ولم يكن أعظم منها منذ مئين سنين جنازة رفعت على الرقاب ووطئت في زحامها الأعقاب وسار مرفوعا على الرؤوس متبوعا بالنفوس تحدوه العبرات وتتبعه الزفرات كان أمة وحده وفردا حتى نزل لحده
ورثاه بقصيدة قال فيها :
قدمت لله ما قدمت من عمل ** وما عليك بهم ذموك أو شكروا
هل كان مثلك من يخفى عليه هدى ** ومن سمائك تبدو الأنجم الزهر
وكيف تحذر من شيء تزل به ** أنت التقي فماذا الخوف والحذر .مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (5/691)
وهكذا في سائر الأزمان وفي جميع البلاد والأوطان , لابد من وجود أعداء للحق يحاولون جاهدين بكل ما اتوا من سلطة أو نفوذ أو قدرة أن يسلبوا أصحاب الحق ويشلوا حركتهم حتى لا تصل كلمة الحق الى الناس فيمنعونهم من الصدع بها , ولكن العاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين ,فليوطن كل طالب حق نفسه أن الأعداء كثيرون والطريق طويل والكل متربص فليمض في طريق الحق وإن قل السالكين فيه لأنه هو الجماعة بإذن رب العالمين , ولا يلتفت للأعداء فمصيرهم إلى زوال بإذن الله الكبير المتعال .
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين