أصبحنا نعيش عصر المجاملات التي باتت تتخذ ألوانًا غريبة ما عهدناها من قبل، وبدون سابق إنذار وجدنا أنفسنا ننجرف في سيلها، حتى إذا ما عدنا إلى رشدنا لبرهة أصبحنا كالجناة أمام محكمة المجتمع التي بحكم قوانين العادات حكمت علينا بالبخل تارة وتارة أخرى بالنكران، ولكي يتجنب الفرد هذه التهم وجب عليه أن يضع المجاملات في أولوياته، حتى أن البعض جعلها تأتي في المقام الأول قبل أسرته وأبنائه فأصبح اليوم موعد عند فلان، وغدا عند علان وبعده مخصص لحضور العرس الفلاني وتتوالى المواعيد حتى ينتهي الأسبوع.
وأكثر ما يثير استغرابي هو وصولنا لدرجة إلقاء اللوم على شخص ووصفه بالتقصير لمجرد أنه لم يحضر سلسلة الحفلات واكتفى بحضور احتفال واحد، وآخر يتهم بالبُخل لأن هديته لم تكن تليق بالمقام، وتعدت الهدية من كونها وسيلة للتقدير والمحبة لمظهر آخر من مظاهر المجاملات وتولد لدينا جيل يهتم بالشكليات والمظاهر ويُهمل الجوهر ويضيع أوقاته وطاقاته وأمواله في مجاملات لا نخرج من مجالسها إلا بالقيل والقال والغيبة والنميمة.
وهناك عقليات شابة مفكرة بدأت بالتمرد على هذه العادات والمجاملات السطحية وركزت اهتمامها في أمور أخرى من أمور الحياة ولكنها تفاجأ بأن المجتمع يُعيدها إلى المجاملات مرة أخرى بمبررات معروفة، وكأننا نريد لأبنائنا أن يسيروا على خطانا مطلقا، مهما كان بها من العثرات والأخطاء والسطحية، وكأننا نريد لهم أن يبقوا مكبلين بقيود المجاملات وإرغامهم على حضورها والمشاركة فيها حتى لو لم تكن عن طيب خاطر، وأنشأنا جيلا يعطي لكلام الناس أهمية بالغة ويتقن فنون النفاق والكذب ورسم الابتسامات البلاستيكية، وفي الوقت ذاته ينزعج وتتولد لديه مشاعر البغض والحقد حينما لا يعطى نصيبه من تلك المجاملات التي دفع ثمنها مقدما.
أرى أنه حان الوقت لكسر تلك القيود والتمييز ما بين الواجبات التي حثنا عليها الإسلام وبين ضياع الوقت في المجاملات التي تثمر سطحية وتقليدًا أعمى، وأن نهتم بأبنائنا ورقيهم الفكري بدلا من جرفهم في تيار التقليد الأعمى.