أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



((بسم الله الرحمن الرحيم))



-إزاحةُ الغُمّةِ في بيانِ ضِعفِ قِصّةٍ أكلُّ هِندٍ مِن كبِدِ حمزةِ-
-------
الحمدُ للهِ الذي قَبِلَ بصحيحِ النيّةِ حسنَ العملِ، وحَملَ الضعيفَ المنقطِعَ على مراسيلِ لُطفِهِ فاتّصلَ، ورفعَ مَنْ أسندَ في بابهِ، ووقفَ مَنْ شَذَّ عنْ جنابهِ وانفصلَ، ووصلَ مقاطيعَ حُبِّهِ، وأدرجَهُمْ في سلسلةِ حزبهِ؛ فسكنَتْ نفوسُهُم عن الاضطرابِ والعِللِ، فموضوعُهُم لا يكونُ محمولاً، ومقلوبُهُم لا يكونُ مقبُولاً ولا يُحْتَمَلُ.
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَه، الفردُ في الأزلِ. وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، أرسلَهُ والدينُ غريبٌ فأصبحَ عزيزاً مشهوراً واكتملَ، وأوضحَ به معضلاتِ الأُمورِ، وأزالَ به منكراتِ الدُّهُورِ الأُوَلِ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلمَ ما علا الإسنادُ ونزَلَ، وطلعَ نجمٌ وأفلَ.
فَهذِّه رسَالة لطيفة الحَجم، كُنت قد سَطرتها بعد سُؤال من أخ حبيب لي، مستفسراً عن قصة وحادثة أكل هند بنت عتبة-رضي الله عنها- زوج أبي سفيان وأم معاوية أبنهُ-رضي الله عنهما- من كبد حمزة بن عبد المطلب-رضي الله عنه- كما في معركة أحد، هل ورد ذلك عنها؟ وهل صح ذلك إن وجد؟ ودافع هذا أن الأخ وجد كثير من الرافضة-عليهم من الله ما يستحقون- يرمون ويسبون معاوية-رضي الله عنه- ويشغبون عليه بفعل أمه هذا. فأسرعت لإجابته وإزاحت الستر عنه وببان حال هذه القصة، وهل يصح الإستدلال لهم بها على مرداهم الخبيث! ،فكان:


أولاً: تخريج القصة:


روى الإمام أحمد في مسنده [4414]: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (..قَالَ: فَنَظَرُوا فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ، وَأَخَذَتْ هِنْدُ كَبِدَهُ فَلَاكَتْهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَأْكُلَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَأَكَلَتْ مِنْهُ شَيْئًا " قَالُوا: لَا. قَالَ: " مَا كَانَ اللهُ لِيُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ النَّارَ "..)
وأخرجها ابن سعد في طبقاته (3/16) وابن أبي شيبة في مصنفه (14/402) وأورده كل من ابن كثير في تفسيره (2/115) والهيثمي في مجمعه (6/109) وأعلوه بعطاء بن السائب، كا سيأتي.
قلت هذا الأثر معلول، وهاك بين ذلك:
الإنقطاع، بين الشعبي- عامر بن شرحيل- و ابن مسعود، وهو لم يسمع من ابن مسعود.[1]
قال أبو حاتم:( سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ لَمْ يَسْمَعْ الشَّعْبِيُّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيُّ عَنْ عَائِشَةَ مُرْسَلٌ إِنَّمَا يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ)[2]
وهو ظاهر صنيع الإمام أبو داود، في مراسيله ص(204) رقم(243).
وقال الدارقطني كما في سؤالات حمزة السهمي له:( لم يسمع من بن مسعود وإنما رآه رؤية) ا.ه
قال أبي عبد الله الحاكم:( ان الشعبي لم يسمع من عائشة، ولا من عبد الله بن مسعود..)[3] ا.ه
فيه "عطاء بن السائب" قال عنه الحافظ بن حجر(صدوق اختلط)[4]
قال بن معين عطاء بن السائب اختلط، ووصفه بذلك غيره كالعجلي[5] وابن عدي[6] وغيرهم.
قال البخاري:( عطاء بن السائب بن يزيد أَبُو زيد الثقفي الكوفي أحاديثه القديمة صحيحة)[7]
قلت-أبو بكر- يريد -رحمه الله- أنه قد إختلط ومن سمع منه قبل الإختلاط فسماعه صحيح.
سماع حماد بن سلمة من عطاء قبل الإختلاط وبعده، وهذا من ضمنها فلا يعُرف أكان منه قبل الإختلاط أم بعده، قال العقيلي أيضا:(وسماع حماد بن سلمة بعد الاختلاط كذا نقله عنه بن القطان.)[8]
قال ابن حجر معقباً: (فإستفدنا من هذه القصة أن رواية وهيب وحماد وأبي عوانة عنه في جملة ما يدخل في الإختلاط)[9] ا.ه
جاء في الضعفاء الكبير للعقيلي:( حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، فَقَالَ: اخْتَلَطَ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ، قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ فَجَيِّدٌ، وَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ، بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.)[10]
وقال ابن كثير معقباً على هذه القصة:( تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ فِيهِ ضَعْفٌ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ.) [11]ا.ه
فأنت ترى أن حماد بن سلمة سماعه من بعد الإختلاط وقبله ولم يُميز، فيكون سماعه منه لا شيء كما نص على ذلك ابن معين-رحمه الله-.
وهنا فائدة أحب أن أنبه عليها لمسيس الحاجة إليها، وهى أن المختلطين على قسمين، وكل قسم يعامل معاملة مغايرة للذي قبله، ولا يُخلط بينهما أو يُسوى بين المختلطين ولا يفرق بينهم ويعاملون معاملة واحدة، كما أستقر عمل كثير من المتأخرين والمعاصرين على ذلك.
قال شيخنا الفاضل المحدث عبد الله السعد:( وينبغي أن يُتنبه إلى مسألة الاختلاط ، فالاختلاط عند من تقدَّم من أهل العلم كالبخاري وابن المديني وابن معين وأحمد وغيرهم من الحفاظ عبارة عن تَغَيُّر الحفظ والضبط ، وهذا التغير على قسمين :
أ ـ أن يكون تغيراً كبيراً بحيث أصبحوا لا يضبطون ، وحديثهم الأخير مردود ، مثل سعيد بن أبي عروبة ، والمسعودي عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي ، فهؤلاء تغيروا تغيراً شبه كامل .
ب ـ أن يكون هذا التغير قليلاً وليس بالكبير ، مثل أبي إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله ، وصفه بعض الأئمة بالاختلاط ، ولكن هذا الاختلاط ليس بالكثير ، وحديثه صحيح ، ولكن وقع في بعض الأوهام القليلة بعدما تقدمت به السن ، فهذا القسم يعامل معاملة غير القسم الأول ومثل سفيان بن عيينة ، فقد وصفه يحيى بن سعيد القطان ـ أيضاً ـ بالاختلاط[12]ـ ولكن هذا الاختلاط يسير ، وإنما هو تغير للحفظ قليلاً .
فبالنسبة للقسم الأول يكون ما حدثوا به قبل الاختلاط هو الصحيح ، وما حدثوا به بعد الاختلاط يكتب ، فإن وجد ما يشهد له يُقبل ، وإن لم يوجد ما يشهد له فهنا يرد ولا يقبل ، وإذا كان الراوي عنهم من الأئمة الكبار الذين يعرفون صحيح حديثهم من سقيمه ففي رواية هؤلاء عنهم يكون روايتهم مقبولة ، بسبب رواية هؤلاء الرواة عنهم ، مثل عبد الله بن صالح كاتب الليث ، كان له جار يُدخل في حديثه ما ليس منه ، فأصبح في أحاديثه أحاديث ليست منها ، وهذه الأحاديث يعرف أنها ليست من أحاديث الحفاظ الكبار مثل البخاري وأبي حاتم وأبي زُرعة ، وأمثال هؤلاء ، وقد نَصَّ ابن حجر على ذلك[13]، وقد قال محمد بن إسماعيل البخاري في مواضع متعددة من ((العلل الكبير))[14] للترمذي : كل راوٍ لا أعرف صحيح حديثه من سقيمة ، أروي عنه ، فهو ـ رحمه الله ـ كثيراً ما يعرف حديثه الشخص من سقيمه ، ولذلك عندما أتى إلى إسماعيل بن أبي أويس قال : أخرج لي كتابك ، فعندما أخرج له كتابه انتقى من حديثه ما كان صحيحاً ، حتى أن إسماعيل ـ بعد ذلك ـ قال للبخاري عَلِّم لي على هذه الأحاديث ، فعلم له البخاري عليها ، فأخذ لا يحدث إلا بها[15]، ومثل وكيع بن الجراح الرؤاسي قال : كنا ندخل على سعيد بن أبي عروبة ، يعني بعد الاختلاط فيحدثا ، فما كان من حديثه كتبناه ، وما لم يكن من حديثه أسقطناه[16].
وأما منهج بعض من تأخر فهم يعاملون ا لمختلطين معاملة واحدة ، وهذا خطأ ، فالمختلطين ليسوا على درجة واحدة كما تقدم.)[17] ا.ه كلامه-حفظه الله-.
وقال الشيخ الدكتور حمزة المليباري-حفظه الله-:( الضعيف نوعان : نوع ينجبر ونوع لا ينجبر . وأما النوع الذي ينجبر هو الحديث الذي لم يتبين خطؤه للناقد ،ويقع تحته أحاديث الضعفاء غير المتروكين ،والتي لم يخطئوا فيها ،كما يقع تحته جميع أنواع الانقطاع مثل المعلق والمدلس والمرسل والمنقطع والمعضل . والنوع الذي لا ينجبر هو ما تبن خطؤه وكان معلولاً ، سواء كان الراوي ثقة أم ضعيفاً ، أو ما تبين كذبه وكان موضوعاً ، ويكون الفرق بينهما أن الأول من مرويات الثقات ، أو الضعفاء غير المتروكين ،والثاني من مرويات الكذابين والمتروكين .
والذي يلفت الانتباه في أسلوب المتأخرين ممن لا يسير على منهج النقاد في نقد المرويات والرواة ، هو : أن استخدام المتابعات والشواهد لتقوية الحديث كان على منهجية غير منضبطة بقواعد علمية معروفة لدى نقاد الحديث الأوائل تطبيقاً ، وذلك بناء على إطلاق القاعدة في التقوية ، بحيث يخيل لمن يتتبع بحوثهم أن شخصاً ما إذا حفظ تعريف المتابعات : الناقصة منها والقاصرة ،والشواهد صار إماماً في تطبيقها في التخريج والتحقيق.)[18] ا.ه
هذا نهاية ما أحببت أن أنبه عليه، ولا تستطل هذا الموضع فإنه كما أحسب من أهم مواضع هذه الورقات.
وخلاصة الأمر في هذا الحديث أنه ضعيف لا يحتج به للعلل التي في إسناده ولنكارة بعض مواضع متنه كما سيأتيك، والله أعلم.

*****
[المتن]

جاء في متن هذه القصة شيء مستنكر جداً، ألا وهو:( فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَأَكَلَتْ مِنْهُ شَيْئًا " قَالُوا: لَا. قَالَ: " مَا كَانَ اللهُ لِيُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ النَّارَ "..)
قلت هذه عبارة منكرة ، فقد أسلمت هند وحسن أسلامها، فقد رروى الشيخين في صحيحيهما[19]، من حديث عائشة أنها قالت:( جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ ، ثُمَّ مَا أَصْبَحَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ ، أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ..).
والإسلام يجب ما قبله، كما جاء في عدة أحاديث وآثار صحاح. فتأمل!

****

[تعقبات على الشيخ شعيب الأرنؤوط في تحسينه للحديث]

قد رأيت ضعف هذا الحديث من هذه الطريق ونكارته، ولكن مع كل هذا جاء من المعاصرين من يحسنه بشواهد له (كما قال)!!
ومنهم الشيخ شعيب الأرنؤوط ولجنة التحقيق معه، فقد قالوا عقب الحديث: (حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه، الشعبي - وهو عامر بن شراحيل - لم يسمع من عبد الله بن مسعود، وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح غير عطاء بن السائب، فقد روى له أصحاب السنن والبخاري متابعة، وهو صدوق اختلط بأخرة، وصححوا سماع حماد - وهو ابن سلمة - منه قبل اختلاطه قلنا: قد ضعَّفه ابن كثير والهيثمي من جهة عطاء بن السائب، وإنما ضَعْفُه من جهة انقطاعه، ولم يذكرا ذلك، وإلا فإن حماد بن سلمة قد سمع من عطاء قبل اختلاَطه ورواه عبد الرزاق (6653) عن الشعبي مرسلاً لم يذكر فيه ابن مسعود.
وقوله: أفرد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تسعة.. إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أنصفنا أصحابنا" له شاهد من حديث أنس عند مسلم (1789) .
وقوله: فجاء سفيان، فقال: اعل هبل ... إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الله مولانا والكافرون لا مولى لهم " له شاهد من حديث البراء عند البخاري (4043) .
وقوله: "اعل هبل " له شاهد من حديث ابن عباس تقدم برقم (2609) ، وفيه أن الذي أجابه هو عمر بن الخطاب....)[20] ثم أخذوا يأتوا لكل قطعة من الحديث بشاهد ليقويه!!

(التعليق)


[أولاً] قولهم: (وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح) قلت هذه شماعة أصبح أكثر المتأخرين يصححون بها أحدايث أنكرها المتقدمون بدعوى أن رجال السند رجال الشيخين، وهذه من طوام ما حل بهذا العلم في الوقت المتأخر، إذ قد فصل السند عن المتن ولم يعد يأبه له، كما كان صنيع الأئمة من المتقدمين، في الإهتمام بالحديث سنداً ومتناً والنظر لكليهما عند الإعلال أو التصحيح[21]، ثم إن الشيخين رويا لضعفاء ومختلف فيهم، وإنما كانت روايتهم لهم إنتقاء، حسب قرائن ومرجحات وجدت لديهم، وبدت لهم، ومن يستطيع أن يأتي بمثل هذا، وهذا خاص بهم -رحمهم الله- لما أعطاهم الله من علم واسع وفهم ثاقب وعظم دراية وواسع رواية..
ثم قد يروي لهم في المتابعات والشواهد، لا في الأصول، وبينها كبير فرق يعرفه كل من شم رائحة هذا العلم.
قال الدكتور بشار عواد-حفظه الله-:(شاع عند المتأخرين، ومنهم الحاكم، من قوله: إن هذا الحديث على شرط الشيخين، أو على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، وكأن شرطيهما كانت معروفة لكل أحد من الناس، نعم حاول بعض المتأخرين معرفة شروط الشيخين بالإستقراء وتقل بعض النصوص، كما فعل محمد بن طاهر المقدسي ت (507 ه) والحازمي ت (584 ه)، ولكن هذه في الحقيقة أمره مجرد تخمين واستنتاجات قائمة على استقراء غير تام لصنيع الشيخين في كتابيهما، فإن أحداً لا يمكنه الجزم بالطريقة التي تم بموجبها اختيار المؤلفين أحاديث كتابيهما، قال ابن طاهر المقدسي في مقدمة كتابه:( اعلم أن البخاري ومسلماً ومن ذكرنا بعدهما لم ينقل عن واحد منهم أنه قال: شرطت أن أخرج في كتابي ما يكون على الشرط الفلاني، وإنما يعرف ذلك من سبر كتبهم فيعلم بذلك شرط كل رجل منهم)[22]، وقد إنتقى الشيخان من الأحاديث إنتقاءً لا ندرك تماماً الأسس التي تم بموجبها هذا الإنتقاء، فلا ندري مثلاً لماذا انتقيا من موطأ مالك هذه الأحاديث، ولماذا انتقيا هذه المرويات من حديث نافع مولى ابن عمر-رضي الله عنه-، ولماذا انتقيا هذه المرويات من أحاديث الثقات أمثال: أيوب السختياني، وجرير بن حازم، وجعفر بن إياس اليشكري...وغيرهم..، إذن لماذاترك الشيخان ما تركا؟ وذكرا ما ذكرا من الحديث؟ ليس هناك جواب إلا القول بالإنتقاء.
وقل مثل ذلك في الرواة المتكلم فيهم الذين أخرجا لهم في صحيحهما، إذ إنتقيا من أحدايثهم أصحها، أو قل أسلمها من العيوب وما يصلح في بابه، إذا أخرجاها في غير أبواب الحلال والحرام. واستعاض بعضهم بقولهم:(رجاله رجال الصحيح)، أو (رجاله رجال البخاري) أو (رجاله رجال مسلم) وهذا فيه نظر من وجهيم:
إن رواة الإسناد من رجال الشيخين أو أحدهما لا يعني أن الشيخين قد أخرجا بهذا الإسناد، أعني برواية الواحد عن الآخر...
أن الشخين قد رويا لرجال من رجالهما ممن عرفوا بالضعف، فانتقيا قليلاً، أو كثيراً من حديثهم الصحيح، فكيف عندئذ نوهم بأن الحديث مثل حديث هذا الشيخ أو الراوي صحيح في جملته..)[23] أ.ه
وقال شيخنا العلامة المحدث ماهر الفحل-حفظه الله-: (ومما يختلف فيهِ الحال بين منهج المتقدمين والمتأخرين ما أحدث موخراً من قولهم : صحيح على شرط الشيخين ، أو على شرط الشيخين ، أو على شرط البخاري ، أو على شرط مسلم ، وهذه البلية أول من أظهرها الحاكم في مستدركه ثم انتشرت قليلاً بين المتأخرين حتى شاعت عندَ بعض عصريينا . وعند استخدامهم لهذه الطريقة ، أو المصطلح يشار به إلى أن شرط الشيخين معروف لكل الناس . وهو أمر خلاف الواقع ؛ لأن من حاول هذا لم يحاوله إلا عن طريق الاستقراء كما فعل بعض من كتب في شروط الأئمة الستة أو الخمسة ، وإن الحق الذي نعتقدهُ ، ولا يتخللهُ شك أنا لا نستطيع الجزم بالطريقة التي تم إنتقاء الشيخين البخاري ومسلم لها ، فنحن لا نعلم كيف انتقى البخاري من حديث سفيان ، أو الزهري ، أو يزيد بن زريع ، ولا ندري كيف انتقى من أحاديث سالم أو غيره من الثقات الأثبات ، ثم إنا نجزم بأنهما لم يريدا استيعاب جميع مارواه الثقة ، بل ليس كل مارواه الثقة صحيحاً .
إذن فصنيع الشيخين في أحاديث الثقات صنيع انتقائي وليس شمولياً ، ونحن لا نعرف الأسس والموازين التي من خلالها انتقى الشيخان أحاديث هؤلاء الثقات .
وما دام الأمر كذلك : فإن قصورنا يكون أكثر وعجزنا يكون أكبر ، أما طريقة انتقاء الشيخين من حديث من في حفظهم شيء مثل : إسماعيل بن أبي أويس ، والحسن ابن ذكوان ، وخالد بن مخلد القطواني.
قالَ الحافظ ابن حجر : (( روينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج لهُ أصوله ، وأذن له أن ينتقي منها وأن يعلم لهُ ما يحدث به ليحدث به ويعرض عما سواه ، وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه من صحيح حديثة لأنه كتب من أصوله ))[24]
وقال الزيلعي: (( خرج في الصحيح لخلق ممن تكلم فيهم ، ومنهم جعفر بن سليمان الصبغي ، والحارث بن عبد الإيادي ، وأيمن بن نايل الحبسثي ، وخالد مخلد القطواني وسويد بن سعيد الحدثاني ، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي ، وغيرهم ، ولكن صاحبا الصحيح -رحمهما الله- إذا أخرجا لمن يتكلم فيهِ فانهم ينتقون من حديثه ))[25] .
وقال ابن القيم مجيباً عما عيب على مسلم إخراج حديث من تكلم فيهِ : (( ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه ؛ لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيهِ ))[26] .
وإن من الأضرار والمفاسد التي تنجم من استخدام مصطلح : على شرط الشيخين ، أو على شرط أحدهما ، هوَ تصحيح جميع الأحاديث المروية عن الرجال الذين أخرج لهم مجتمعين أو منفردين وهو أمر خطير ، إذ ليس جمع الأحاديث التي رجالها رجال الشيخين ترتقي إلى هذه المرتبة بل ربما كانَ منها ما هوَ معلول بعلل قادحة سواء كانت ظاهرة أو خفية وهذا مما لا يدركه إلا من رزقه الله فهماً واسعاً واطلاعاً غائصاً ، ونظراً ثاقباً ، ومعرفة تامة بأحوال الرواة والطرق والروايات أو حفظ جملة كثيرة من المتون حتى اختلطت بلحمه ودمه .)[27] ا.ه

[ثانياً] قولهم: (وصححوا سماع حماد - وهو ابن سلمة - منه قبل اختلاطه)!!
قلت: والله لا أدري كيف غاب عنهم أن حماد قد سمع منه قبل الإختلاط وبعده، وأن سماعه أولاً صحيح وآخره لا شي كما قال ابن معين عن هذا الصنف، ولم يميز حديثه منه أكان قبل الإختلاط أم بعده، فعند أول نظرة في التهذيب، ترى أن الأئمة ينصون على سماعه منه قبل الإختلاط وبعده.

[ثالثاً] لم ينظر المحققون!! لهذه الطبعة ، إلى المتن ولم يعتبروا به، وهذا كما سبق قوله أنه من إحداث المتأخرين وسلوكهم منحى في التصحيح والتعديل غير المنحى والطريق التي سار عليها الجهابذة النقاد من المتأخرين، ولا حول ولا قوة إلا بالله وإنا إليه راجعون، فكتب المتقدمين طافحة بإعلال الحديث بسبب نكارة المتن[28] وعدم فصل كل منهما عن الآخر، إلى أن جاء عصر المتأخرين بدءً من أبي عبد الله الحاكم الذي أكثر من ذلك في مستدركه وأخترعه في مصنفاته، فكثير ما ترى قوله(صحيح الإسناد) (إسناده كلهم ثقات ).... وهلم جرا..
قلت هذه العبارة لا تقضي بصحة الحديث، إنما تعطينا شرط واحداً وهو خلوه من الضعفاء وأضرابهم، ويبقى النظر فيه هل هو سالم من الإنقطاع أو خالي من الشذوذ أو من الإرسال، وغير ذلك من شروط صحة الحديث الصحيح المقبول. بل قد يكون الحديث في متنه منكراً أو شاذاً عند المتقدمين، فيأتي بعض الباحثين فيطلق عليه(صحيح الإسناد) مثلاً فاصلاً المتن عن الإسناد غير آبه به، وهذا مما أولع بعض المتأخرين والمعاصرين به، والله المستعان.
قال الإمام النووي، مبيناً هذا الأمر وموضحه:( وَقَوْلُهُمْ: حَدِيثٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ أَوْ صَحِيحُهُ، دُونَ قَوْلِهِمْ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ: لِأَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ أَوْ يَحْسُنُ الْإِسْنَادُ دُونَ الْمَتْنِ لِشُذُوذٍ أَوْ عِلَّةٍ)[29] ا.ه
وقال الإمام الحافظ ابن الصلاح:( قَوْلُهُمْ " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، أَوْ حَسَنُ الْإِسْنَادِ " دُونَ قَوْلِهِمْ: " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَوْ حَدِيثٌ حَسَنٌ " لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ "، وَلَا يَصِحُّ، لِكَوْنِهِ شَاذًّا أَوْ مُعَلَّلًا.)[30]

[رابعاً] قولهم-عفا الله عنا وعنهم-: (وقوله: أفرد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تسعة.. إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أنصفنا أصحابنا" له شاهد من حديث أنس عند مسلم (1789) .
وقوله: فجاء سفيان، فقال: اعل هبل ... إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الله مولانا والكافرون لا مولى لهم " له شاهد من حديث البراء عند البخاري (4043) .
وقوله: "اعل هبل " له شاهد من حديث ابن عباس تقدم برقم (2609) ، وفيه أن الذي أجابه هو عمر بن الخطاب....)
قُلي بربك أين وُجد مثل هكذا طريقة للإتيان بالشواهد لكل قطعة مجزأة في المتن وسياقها كأنها عاضدة لهذا الحديث، إلا في كتب المعاصرين (ولا أقول المتأخرين) ولو أخذنا بهذه الطريقة لما بقي حديث ضعيف أو مُعل، وهذا من المصائب التي حلت بهذا العلم من قبل أُناس ولجوا فيه وهم بعيدن كل البعد عن طريقة الأئمة النقاد من المتقدمين، والله إن القلب ليُعل ويصبه الكمد ويواقعه الهم من هكذا طُرق ومناهج، والله المستعان.

* وقال الشيخ الألباني مضعفاً له ومتعقباً على الشيخ أحمد شاكر في تحسينه للحديث:( و فيه حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب و قد سمع منه في حالة الإختلاط كما سمع منه قبلها و لهذا قال الحافظ ابن كثير(4/41) : (هذا إسناد فيه ضعف) و هذا هو الصّواب ، خلافا لقول الشيخ أحمد محمد شاكر : إنه صحيح .... ثم قال الشيخ الألباني عن الشيخ أحمد شاكر : و قد صحح فضيلة الشيخ في تعليقه على المسند و غيره . كلها من هذا الطريق . فليتنبه لهذا)ا.ه

****
ما جاء عند الواقدي في مغازيه:
قال الواقدي كما في مغازيه (1/286- ط- دار الأعلمي) راوياً عن وحشي-قاتل حمزة- أنه قال:(.. فَأَضْرِبُ بِهَا فِي خَاصِرَتِهِ حَتّى خَرَجْت مِنْ مَثَانَتِهِ. وَكَرّ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ: أَبَا عُمَارَةَ! فَلَا يُجِيبُ، فَقُلْت: قَدْ، وَاَللهِ مَاتَ الرّجُلُ! وَذَكَرْت هِنْدًا وَمَا لَقِيَتْ عَلَى أَبِيهَا وَعَمّهَا وَأَخِيهَا، وَانْكَشَفَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ حِينَ أَيْقَنُوا مَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنِي، فَأَكُرّ عَلَيْهِ فَشَقَقْت بَطْنَهُ فَأَخْرَجْت كَبِدَهُ، فَجِئْت بِهَا إلَى هِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَ، فَقُلْت: مَاذَا لِي إنْ قَتَلْت قَاتِلَ أَبِيك؟ قَالَتْ: سَلَبِي! فَقُلْت: هَذِهِ كَبِدُ حَمْزَةَ. فَمَضَغَتْهَا ثُمّ لَفَظَتْهَا، فَلَا أَدْرِي لَمْ تُسِغْهَا أَوْ قَذَرَتْهَا..) ا.ه
قلت هذا الخبر من الواقدي لا يصح البته فهو منكر بمرة:
قال البخاري عنه:( الواقدي مدني سكن بغداد متروك الحديث تركه أحمد بن المبارك وابن نمير وإسماعيل بن زكريا وقال في موضع آخر كذبه أحمد.)[31]
وكذبه الإمام أحمد: (قال معاوية بن صالح قال لي أحمد بن حنبل الواقدي كذاب.)[32]
ويحى بن معين:( فقد رماه بالكذب. وقال مرة ليس بشيء وقال مرة كان يقلب حديث يونس يغيره عن معمر ليس بثقة وقال مرة ليس بشيء.)[33] وهذه العبارات من أردى عبارات التجريح عنده.
وقال النسائي:( مُحَمَّد بن عمر الْوَاقِدِيّ مَتْرُوك الحَدِيث)[34] ومرة (يضع الحديث)[35]
كذلك الإمام الشافعي رماه بالكذب و أتهمه به.[36]
وقال الذهبي عنه:( استقر الاجماع على وهن الواقدي.)[37]
فالقصة أعلاه باطلة منكرة، ثم هناك شيء آخر فيها وهو الإنقطاع الواقع بين الواقدي ووحشي بن حرب. فتأمل.

****
القصة عند ابن اسحاق:
ثم قد وجت ابن إسحاق في مغازيه(1/333) قد ذكرها من طريق صالح بن كيسان. فقال:( قد وقفت هند بنت عتبة كما حدثني صالح بن كيسان والنسوة الآتون معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والآناف حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنافهم خذماً وقلائداً..)
قلت هذه الرواية مرسلة، فصالح بن كسان[38] يصنف في زمرة صغار التابعين، ولم يدرك إلا النُزر اليسير من الصحابة ومن الأئمة من شكك في سماعه منهم-رضي الله عنه- وأكثر روايته عن التابعين، ولا يُعرف عمن أخذ هذه القصة، فيتوقف فيها، وتبقى على أرسالها الموجب الضعف لها!
يتبع...