أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


التدقيق في اختيار التحقيق
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد فمن المهم المذاكرة حول مسألة تتعلق بتحقيق النصوص وهي المسألة الأولى أعني بها مسألة اختيار النص.
فغالب التحقيقات لا تأتي إلا بعد اختيار، ولكن بعض المحققين تضيق عنده الخيارات فيختار حسب ما هو متاح أمامه، وكان الأولى أن تكون دائرة الاختيار واسعة.
فمن يحقق تحقيقا أكاديميا رسالة جامعية أو بحث تكميلي لا تكون الخيارات له بحجم خيارات من يحقق تحقيقا خاصا، وإن كانت القيود محدودة إلا أنها تعتبر قيودا، فمثلا يقولون له مخطوطة في فنك لا تقل أوراقها عن كذا ورقة، ولم تحقق من قبل، ولها أكثر من نسخة في العالم.
فكلامي هنا موجه لمن يحقق تحقيقا خاصا، منهم من يختار حسب الفن فتكون تحقيقاته في فن العقيدة مثلا سواء للمتقدمين أو المتأخرين وسواء لعلماء بلاده أو غيرهم وسواء لعلماء مذهبه في الفروع أو غيرهم، المهم عنده هو فن العقيدة، وداخل العقيدة تجد هناك خيارات فالأشاعرة لا يحققون إلا عقائد الأشاعرة وكذلك الماتريدية وغيرهم، فأصحابنا مثلا يعتنون بعقائد السلف فما أن تعرض عليه مخطوطة قيمة نفيسة في العقيدة إلا ويسألك ما هي عقيدة المؤلف؟!. وبهذا تضيق الاختيارات في دائرة الفن الواحد، وعلى العقيدة يقاس كل من يختار حسب الفن.
وهناك من يختار بحسب المؤلف فهو يلتزم مؤلفا معينا ويشتغل على كتبه الكبيرة والصغيرة التي حققت والتي لم تحقق، وقد صادفت عددا من هؤلاء، وهم يشكرون على جهودهم والأفضل في رأيي أن يشتغل المحقق الضابط المتقن المتفنن في إخراج مؤلفات عالم من العلماء المغمورين، ويترك المشاهير.
وهناك من يختار بحسب الحجم، فعمله على الرسائل الصغيرة التي هجرها المحققون، فيجمع عددا من الرسائل الصغيرة ويحققها إما في مجلد واحد أو كل رسالة تخرج مستقلة، وسواء اتفقت الرسائل أو اختلفت فهي متفقة بصغر حجمها.
وهناك من يختار بحسب المحتوى فينظر في مدى أهميته ونفعه للناس، وهذه النظرة وإن كانت ظاهريا إيجابية من أول وهلة إلا أنها ليست دقيقة، معلوم أن التحقيق أول من ينتفع به هو المحقق نفسه، ثم يتعدى الانتفاع للآخرين بحسب أمور: أهمها: الإخلاص في العمل، ثم أهمية المحتوى وحاجة الناس له...الخ.
لذا فإن المحقق يحرص على أن يوسع هذه الفكرة فيجعل أي اختيار يقوم به نافعا للناس ومفيدا لهم كل بحسبه، لكن عليه الإخلاص لله تعالى فهو الذي يبقى وهو الذي يبارك الله فيه.
وهناك من يختار التحقيق لكتب المتقدمين وقد يتجاوز ذلك من باب التسامح للمتوسطين فلا يحقق للمتأخرين، ومعلوم أن تصنيف الأمة لمتقدم ومتوسط ومتأخر ما هو إلا نسبي، فإلى نهاية القرن الخامس الهجري يعتبرهم البعض في مجال التصنيف طبقة المتقدمين، ومن بداية السادس إلى نهاية العاشر متوسطين وما بعدهم متأخرين، ومن عاش معنا أو عاصره الآباء والأجداد فيعتبر من المعاصرين، وبعض الناس قال غير ذلك.
وعكسه وهذا توجيه مني للمبتدئين أن تكون اختياراتهم التحقيقية من كتب المعاصرين ثم يترقون قليلا إلى كتب المتأخرين مدة من الزمن ثم بعد عشر تحقيقات مثلا يترقون إلى كتب المتوسطين وبعد عشر تحقيقات أخرى بالإمكان أن يحققوا كتب المتقدمين، وتكون البدايات برسائل صغيرة.

فالذي أراه أن يحرص المحقق المبتدئ على مسألة الاختيار ومدى مناسبتها له ولبدايته ولعلمه، يهتم بالحجم فتكون الرسالة صغيرة جدا، ثم ينظر في زمن المؤلف فيكون من المعاصرين أو من فوقهم، ثم ينظر في الفن.

فلسفة الاختيار: إذا اشتغل المحقق في فن يحسنه ويجيده كان عمله أقرب للإتقان، وإذا اشتغل في فن لا يحسنه ولا يجيده، فإنه على المحك، وعمله مزلة قدم، ويقد يأتي بالعجائب المضحكات.

ولا يعني هذا أن يتقوقع المحقق فلا يشتغل إلا بفن واحد من بداياته إلى الممات، ولكن عليه أن يعتني بالقاعدة في بداياته ثم يتفنن على استحياء في وسط الطريق ثم لا مانع أن يكون موسوعيا ويشتغل بعدة فنون إذا وجد في نفسه الأهلية، ولكن إن أتى بالعجائب فلا يلوما إلا نفسه.

على المحقق المبتدئ والمتوسط و المنتهي أن يولي الرسائل الصغيرة التي تأتي منفردة أو ضمن مجاميع عناية فائقة، أو يفتش في بعض الأعلام المغمورين وينظر في كتبهم فما وجد فيه نفع وفائدة اشتغل به.

كما أن على المحقق أن لا يشتغل بالتحقيق ويغفل عن الطلب، بل يجعلهما كجناحي طائر.
هذا ما لدي والله المستعان.