أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الغصن الثالث :أحكام العبودية :
الفرع الأول : أحكام العبودية المتعلقة بالقلب :
القلب له عمل كما أن للجوارح عمل ، وعمل القلب يثاب ويعاقب عليه الإنسان كما يثاب ويعاقب على أعمال الجوارح ، فيثاب الإنسان على ما يفعله من واجبات القلب ومستحباته ويحاسب على محرماته ، وأعمال القلوب كثيرة منها ما يلي :
الإرادة وهو ما يعبر عنه بالنية والعزم والقصد – الحرص – الرغبة – الاختيار- الإخلاص – الصدق – الصفا – الطهارة والنقاء- الخوف – الرجاء – التفويض والتوكل والإلتجاء- الصبر – الغيرة – الهيبة – الحياء – التفكر والبصيرة – المعرفة واليقظة والمحاسبة – التوبة – الورع – التواضع – التسليم – الرضا – السكينة – الزهد الإنابة – الإخبات – الخشوع – المراقبة – الإيثار- الثقة بالله .
وسوف نتناول فيما يلي أحكام العبودية المتعلقة بالقلب :
1) الواجبات القلبية وهي :
1) الإخلاص :
الإخلاص واجب مستحق لدرجة المقربين والسابقين .
حقيقة الإخلاص :
إن حقيقة الإخلاص أن تجعل جميع أقوالك وأفعالك الظاهرة والباطنة صادرة عن إرادة خالصة لله ، ونية وقصد وعزم واختيار تريد به تحقيق التوحيد في العبادة(صرف العبادة لله وحده) .
فعن سعد بن أبي وقاص :( لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال : اقتلوهم وإن وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة : عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن خطل ، و مقيس ابن صبابة ، وعبد الله بن أبي سرح . فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة ، فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر ، فسبق سعيد عمارا وكان أشب الرجلين فقتله ، وأما مقيس بن صبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه ، وأما عكرمة بن أبي جهل فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أهل السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا ، فقال عكرمة : والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لا ينجني في البر غيره ، اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا غفورا كريما ، فجاء وأسلم ، وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله بايع عبد الله ، قال : فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث ، ثم أقبل على أصحابه فقال : أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن مبايعته فيقتله ؟ فقالوا : يا رسول الله ما ندري ما في نفسك ، ألا أومأت إلينا بعينك . قال : إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)صححه بن الملقن.
ومعنى قول أصحاب السفينة أخلصوا أي وحدوا ربكم في الدعاء والإستغاثة وقد كانوا يلجئون في الرخاء إلى اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وعند الشدائد يوحدون .
العلامات الدالة على قيام الإخلاص في القلب :
1- دوام الإستقامة على الموافقة والطاعة :
فالإخلاص يعرف بداوام الطاعة لأن المنافق قد يدعي الإستقامة في الظاهر وقلبه خال من الإخلاص لكنه لا يستطيع المداومة عليها ، قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)النساء142.
ولابد أن يكون العمل خالصا لله وموافقا لسنة رسول الله ، لأن المبتدع لديه إخلاص مشوب بإتباعه لتنفيذ مراد غير مراد الله ، فلا بد من الإخلاص والمتابعة معا والمقصود بالمتابعة هي متابعة الرسول في كل ما جاء به.
2- الجرأة في قول الحق ، والغيرة من الوقوع في المحرمات والشرك ، والخوف من الله وحده ، وقطع الرجاء فيمن سواه:
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)المائدة54.
وقال تعالى (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ* وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ* قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي)الزمر11 :14.
3- الزهد في الدنيا:
فمن علامات الإخلاص الزهد في متاع الدنيا لأنه متاع زائل ، وطلب الكفاية في الأمور فلا يطلب المرء إلا ما يكفيه ، والتعامل مع الأسباب كطريق للتجاوز والمرور فالأسباب ليست غاية في حد ذاتها ولكنها وسيلة لإدراك الأمور فالمال مثلا ليس غاية ولكنه وسيلة ليستعف المرء ويعف أهله عن الحرام وعن سؤال الناس فيكون به طعامه وشرابه ولباسه وعلاجه وذلك وسيلة لطاعة مولاه فتقوم به صلاته وصيامه وقيامه وجهاده وسائر أعماله ، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال (تَعِسَ عبدُ الدينارِ ، وعبدُ الدرهمِ ، وعبدُ الخميصةِ ، إن أُعْطِي رَضِيَ ، وإن لم يُعْطَ سَخِطَ ، تَعِسَ وانتكسَ ، وإذا شيكَ فلا انتقشَ ، طوبى لعبدٍ آخذٍ بعنانِ فرسِهِ في سبيلِ اللهِ ، أشعثَ رأسُهُ ، مغبرَّةً قدماهُ ، إن كان في الحراسةِ كان في الحراسةِ ، وإن كان في الساقةِ كان في الساقةِ ، إن استأذنَ لم يُؤْذَنْ لهُ ، وإن شَفَعَ لم يُشَفَّعْ)صحيح البخاري.
الخميصة : نوع من الثياب.
تَعِسَ وانتكسَ ، وإذا شيكَ فلا انتقشَ:دعى عليه الرسول بالتعاسة وبالانتكاسة وعدم تيسر الأمور له حتى في إخراج الشوكة من جسمه ، فلا يستطيع إخراجها.
4- صدق الحديث ، وعدم الغدر ، والوفاء بالوعد ، وانتفاء الحقد ، وعدم التجاوز في الخصومة :
فالمخلص لا يحقد على أحد ولا يحسد أحد ، فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال (أربعٌ من كن فيه كان منافقًا خالصًا ، ومن كانت فيه خَصْلةٌ منهن كانت فيه خَصْلَةٌ من النفاقِ حتى يدعَها: إذا اؤتُمِنَ خانَ ، وإذا حدَّثَ كذبَ ، وإذا عاهدَ غَدرَ ، وإذا خاصمَ فجرَ)صحيح البخاري.
ارتباط الإخلاص بالنية والإرادة :
الإرادة تعنى النية والقصد والعزم ، ولابد للعمل من نية وإرادة ، فعن عمر بن الخطاب أن رسول الله قال (يا أيها الناسُ ، إنما الأعمالُ بالنيةِ ، وإنما لامرئٍ ما نوى ، فمن كانت هجرتُه إلى اللهِ ورسولِه ، فهجرتُه إلى اللهِ ورسولِه ، ومن هاجر إلى دنيا يُصيبُها ، أو امرأةٍ يتزوَّجُها ، فهجرتُه إلى ما هاجر إليهِ)صحيح البخاري.
ولابد أن تكون الإرادة خالصة لله وليس لغير الله فيها نصيب أي أن يراد بالعمل وجه الله وليس أي مراد آخر.
لأن الإنسان قد يرد أن يتصدق ولا يريد وجه الله ولكن يريد أمرا من أمور الدنيا ، وقد يريد أن يصلي وهو يريد أمر من أمور الدنيا وهكذا .
2) محبة الله :
محبة الله من الواجبات القلبية وهي شرط من شروط التوحيد وهي واجبة للمقتصدين والسابقين .
والحب في القلب يدفع النفس إلى السعي في رضا المحبوب أو الحصول على المرغوب.
علامات المحبة :
هناك علامات ظاهرة من أعمال اللسان والجوارح تدل على وجود الحب في القلب وقد تناولنا هذه العلامات في شرط المحبة كشرط من شروط التوحيد ( لا إله إلا الله ) فلتراجع منعا للتكرار.
3) اليقين:
اليقين عمل من أعمال القلوب وهو التصديق الجازم بالله وهو التصديق الذي ينافي الوهم والشك والظن وهو شرط لازم لصحة توحيد العبادة فلا يصح إسلام ولا إيمان إلا به .
واليقين درجات هي علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين ، والدرجة اللازمة للدخول في الإسلام هي درجة علم اليقين ، ولمزيد من التفاصيل وبيان ما هو علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين وما هو الظن والشك والوهم فليراجع اليقين كشرط من شروط لا إله إلا الله وذلك منعا للتكرار.
العلامات الدالة على وجود اليقين وقوته في القلب :
1- صلاح اللسان وأعمال الجوارح :
فصلاح اللسان وأعمال الجوارح تدل عى وجود اليقين في القلب ، قال تعالى (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)السجدة12.
فأهل اليقين بمفهوم المخالفة هم الذين عملوا الصالحات.

2- الدعوة إلى العمل بشريعة الإسلام:
فليس بموقن من دعا إلى تطبيق القوانين الوضعية كبديل عن الشريعة ، قال تعالى (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)المائدة50.
فبينت الآية أن الموقنين هم الذين يبتغون حكم الله .
3- الصبر والثبات على الحق وعدم الجزع من إعراض الخلق :
قال تعالى (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)الروم60.
وفي الحديث الذي رواه صهيب بن سنان في قصة أصحاب الأخدود أن رسول الله قال(........فأتى الملكُ فقيل لهُ : أرأيتَ ما كنت تحذرُ ؟ قد ، واللهِ ! نزل بك حذرك . قد آمنَ الناسُ فأمر بالأخدودِ في أفواهِ السككِ فخُدَّت . وأُضرمَ النيرانُ . وقال : من لم يرجع عن دينِه فأحموهُ فيها . أو قيل له : اقتحم . ففعلوا حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها فتقاعست أن تقعَ فيها . فقال لها الغلامُ : يا أمه ! اصبري . فإنكِ على الحقِّ)صحيح مسلم.
وعن عبدالله بن عمر :(قلَّما كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يقومُ من مَجلسٍ حتَّى يدعوَ بِهَؤلاءِ الكلِماتِ لأصحابِهِ : اللَّهمَّ اقسِم لَنا من خشيتِكَ ما يَحولُ بينَنا وبينَ معاصيكَ ، ومن طاعتِكَ ما تبلِّغُنا بِهِ جنَّتَكَ ،ومنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَينا مُصيباتِ الدُّنيا، ومتِّعنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوَّتنا ما أحييتَنا ، واجعَلهُ الوارثَ منَّا ، واجعَل ثأرَنا على من ظلمَنا ، وانصُرنا علَى من عادانا ، ولا تجعَل مُصيبتَنا في دينِنا ، ولا تجعلِ الدُّنيا أَكْبرَ همِّنا ولا مبلغَ عِلمِنا ، ولا تسلِّط علَينا مَن لا يرحَمُنا)الترمذي وصححه الألباني.
4- حب الدعوة إلى الله وتنبي مسؤوليتها قولا وفعلا والصبر عليها :
قال تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)السجدة24.
5- قلة الوساوس في القلب:
فقلة الوساوس في القلب وعدم التأثر بوسوسة الشياطين وترك الإلتفات إلى الشبهات وكثرة الإستعاذة منها من علامات اليقين ، لأن دور الشيطان إلقاء الشبهات التي تحدث الريبة والتردد والشك في القلب واليقين بنفي الوهم والشك والظن فلا تؤثر الوسوسة في قلوب الموقنين ، قال تعالى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)سبأ 20.
4) الصدق:
الصدق من أعمال القلوب اللازمة للمقتصدين والسابقين .
و أصل الصدق من الموافقة والمصادقة والمصاحبة والمطابقة وإذا توافق قول الجنان مع قول اللسان وفعل الجنان مع حركة الأبدان ظهرت معاني الصدق في الإنسان وإن اختلف قول القلب مع قول اللسان وفعل القلب مع فعل الأبدان ظهرت حقيقة الكذب والخيانة والنفاق والغدر وانعدام الأمانة ، فالصدق مطابقة القول والفعل الظاهري للقول والفعل الباطني.


علامة الصدق في الخبر اليقين وعلامته في الأمر الطاعة:
فعلامة الصدق إن تعلق بالخبر تصديقه تصديقا يقينيا وعلامته إن تعلق بالأمر تنفيذه تنفيذا كاملا ووما ورد في الجمع بين الأمريين ما رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري :( أنَّ رجلًا أتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال : أخي يشتكي بطنَهُ ، فقال : ( اسقِهِ عسلًا ) . ثم أتاهُ الثانيةَ ، فقال : ( اسقِه عسلًا ) . ثم أتاهُ الثالثةَ فقال : ( اسقِه عسلًا ) . ثم أتاه فقال : قد فعلتُ ؟ فقال : ( صدقَ اللهُ ، وكذبَ بطنُ أخيكَ ، اسقِه عسلًا ) . فسقاهُ فبرأَ)صحيح البخاري.
والرسول يعني التصديق بقوله (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ)النحل69.
والصدق عماد الإيمان:
فالصدق عماد الإيمان وبه قيامه وفيه تمامه ونظامه ، والصديقون يعقبون الأنبياء ، أي منزلتهم بعد منزلة الأنبياء ، وأقل الصدق استواء السر والعلانية ، والصادق من صدق في أقواله ، والصديق من صدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله ، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)التوبة 119.
فليس للعبد شيء أنفع من الصدق مع ربه والصدق في تنفيذ أمره ، قال تعالى (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)محمد21.
والعبد سعادته في صدق عزيمته ثم صدق حركته وسكنته :
فصدق العزيمة جمعها وجزمها ، بحيث لا يشوبها تردد ، فإذا صدق في عزيمته بقى عليه الصدق في حركته وسكنته ، فيستفرغ وسعه في رضا الله وطاعته ، ويبذل جهده في ابتغاء قربه ومحبته ، وألا يتخلف عن عبوديته بشيء من ظاهره أو سريرته ، فعزيمة القصد تمنعه من ضعف إرادته وصدق الفعل يمنعه من فتور همته ، ومن صدق الله في جميع الأمور صدق في التوكل عليه وصح الإخلاص لديه ، ونجاه الله عند البلاء ورفع عنه أسباب الشقاء.
فعن أنس بن مالك :( غاب عِمِّي أنسُ بنُ النضرِ عن قتالِ بدرٍ ، فقال : يا رسولَ اللهِ ، غبتُ عن أولِ قتالٍ قاتلتَ المشركينَ ، لئن اللهُ أشهدني قتالَ المشركينَ ليَرَيَنَّ اللهُ ما أصنعُ . فلما كان يومَ أُحُدٍ ، وانكشفَ المسلمونَ ، قال : اللهمَّ إني أعتذرُ إليكَ مما صنع هؤلاءِ ، يعني أصحابَهُ ، وأبرأُ إليكَ مما صنعَ هؤلاءِ ، يعني المشركينَ . ثم تقدَّمَ فاستقبلَهُ سعدُ بنُ معاذٍ ، فقال : يا سعدُ بنَ معاذٍ الجنةُ وربِّ النضرِ ، إني أجدُ ريحها من دونِ أُحُدٍ ، قال سعدٌ : فما استطعتُ يا رسولَ اللهِ ما صنع ، قال أنسٌ : فوجدنا بهِ بضعًا وثمانينَ : ضربةً بالسيفِ أو طعنةً برمحٍ أو رميةً بسهمٍ ، ووجدناهُ قد قُتِلَ وقد مَثَّلَ به المشركونَ ، فما عرفَهُ أحدٌ إلا أختُهُ ببنانِهِ . قال أنسٌ : كنا نرى ، أو نظنُّ : أنَّ هذهِ الآيةَ نزلت فيهِ وفي أشباهِهِ : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوْا مَا عَاهَدُوْا اللهَ عَلَيْهِ })صحيح البخاري.
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال:( إنَّ أهل الجنَّةَ يَتَراءونَ أهلَ الغرفِ من فوقهم ، كما تَتَراءَونَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ في الأُفُقِ ، من المشرقِ أو المغربِ ، لِتَفاضُلِ ما بينهم . قالوا : يا رسولَ اللهِ تلك منازلُ الأنبياءِ لا يَبْلُغُها غيرُهم ، قال : بلى ، والذي نفسي بيَدهِ ، رجالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ)صحيح البخاري.
أي أن أهل الجنة يرون أهل الغرف فوقهم كما يرون النجوم البعيدة في السماء وذلك لأن أهل الغرف أفضل منهم ومفضلون عنهم منزلة وهذه المنزلة ليست للأنبياء كما أجاب الصحابة ولكنها منازل رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
5) الخوف والرهبة والوجل والخشية :
فالخوف والرهبة والوجل والخشية من الواجبات القلبية وهي واجبة للمقتصدين والسابقين وجميع المكلفين .
قال تعالى (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)آل عمران175.
وقال تعالى (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)المائدة44.
وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)المؤمنون 57 :60.
والخوف لازم في الشدة كما هو لازم في الرخاء:
ففي حديث أصحاب الغار الذي رواه النعمان بن بشير أن رسول الله قال:( ..... قال الآخر : قد عملت حسنة مرة ؛ كان لي فضل ، فأصابت الناس شدة ،فجاءتني امرأة تطلب مني معروفا ، قال : فقلت : والله ما هو دون نفسك ! فأبت علي فذهبت ، ثم رجعت فذكرتني بالله ، فأبيت عليها وقلت : لا والله ؛ ما هو دون نفسك ! فأبت علي وذهبت ، فذكرت لزوجها ، فقال لها : أعطيه نفسك ، وأغني عيالك ! فرجعت إلي ، فناشدتني بالله ، فأبيت عليها ، وقلت : والله ما هو دون نفسك ! فلما رأت ذلك أسلمت إلي نفسها ، فلما تكشفتها وهممت بها ؛ ارتعدت من تحتي ، فقلت : ما شأنك ؟ ! قالت : أخاف الله رب العالمين ! فقلت لها : خفتيه في الشدة ، ولم أخفه في الرخاء ! فتركتها وأعطيتها ما يحق علي بما تكشفتها)صححه الألباني.
والخشية والخوف والرهبة والوجل ألفاظ متقاربة وهي صفات مقارنة لحالة الخوف:
× فإن اقترن الخوف بالعلم والسكينة كانت الخشية ، كخشية العلماء من الله .
× وإن اقترن بالتعظيم والإكبار كانت الرهبة .
× وإن اقترن بالشكر على النعمة كان الوجل وهو رجفان القلب وانصداعه لذكر الله .
العلامات الظاهرة الدالة على وجود الخوف في القلوب:
1- الترقب وطلب النجاة:
قال تعالى (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)القصص21.
وعلامة الخائف كثرة المراقبة لله والاستعداد للرحيل عن الحياة والتعلق بما ينال به النجاة ، قال تعالى (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)الأنعام51.
2- الحرص على الطاعات:
قال تعالى (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)النور37.


3- قلة الضحك والبكاء عند تذكر الجنة والنار:
عن أنس بن مالك (صلى بنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ فلما قضى الصلاةَ أقبلَ علينا بوجهِه ، فقال: أيها الناسُ إني إمامُكم فلا تسبقوني بالركوعِ ولا بالسجودِ ولا بالقيامِ ولا بالانصرافِ فإني أراكم أمامي ومن خلفي. ثم قال:والذي نفسُ محمدٍ بيدِه لو رأيتُم ما رأيتُ لضحكتُم قليلاً ولبكيتُم كثيرًا.قالوا: وما رأيتَ يا رسولَ اللهِ ؟ قال: رأيتُ الجنةَ والنارَ)صحيح مسلم.
والخوف المحمود الصادق هو ما حال بين صاحبه وبين محارم الله ، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط.
4- قلة النوم وعدم الغفلة ودوام الفكرة وكثرة الدعاء:
قال تعالى (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)السجدة16.
6) الرجاء:
الرجاء من أعمال القلوب وهو لازم للمقتصدين والسابقين ، فالرجاء رغبة تقتضي حصول ما فيه مسرة من حصول نعمة أو دفع نقمة ، وهو يضاد الخوف ويلازمه قال تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)الإسراء57.
وعن أنس بن مالك :( أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ دخلَ على شابٍّ وَهوَ في الموتِ فقالَ كيفَ تجدُكَ قالَ واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أرجو اللَّهَ وإنِّي أخافُ ذنوبي فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ لا يجتَمِعانِ في قلبِ عبدٍ في مثلِ هذا الموطِنِ إلَّا أعطاهُ اللَّهُ ما يرجو وآمنَهُ ممَّا يخافُ)الترمذي وحسنه الألباني.
والرجاء في القرآن والسنة يدور حول معنى الرغبة والتمني والطلب وكثرة الإلحاح في الدعاء .
والرجاء ثلاثة أنواع :
1- رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه وهذا رجاء محمود.
2- رجاء رجل أذنب ذنوب ثم تاب منها فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه وهذا رجاء محمود.
3- رجاء رجل متماد في التفريط والخطايا ، يرجوا رحمة الله بلا عمل فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب وهذا رجاء مذموم.
7) الصبر :
الصبر :هوحبسالنفسعلىمايقتضيهالعقلوالشرعأوعمايقتضيانحبسهاعنه .
قال تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)الكهف28.
والصبر على ثلاثة أنواع:
1- الصبر على الطاعة .
2- الصبر عن المحرمات.
3- الصبر على المصائب والبلاء.
قال تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)البقرة45.
فوائد الصبر :
1- الصبر سبب للفلاح في الدنيا والآخرة:
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)آل عمران200.
ومن الفلاح دخول الجنة ، قال تعالى (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)الرعد24.
2- الصبر سبب للدخول في معية الله :
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)البقرة153.
ومعية الله هنا معية خاصة تتضمن الحفظ والنصر والتأييد وهي خاصة بالمؤمنين.
3- الصبر سبب لمحبة الله :
قال تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)آل عمران146.
وإذا أحب الله عبدا أحبه أهل السماء ووضع له القبول في الأرض.
4- الصبر سبب للتقوى:
قال تعالى (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)البقرة177.
وذلك لأن التقوى هي أداء الطاعات واجتناب المحرمات وأداء الطاعة واجتناب المحرم يتطلب الصبر.
5- الصبر خير لأصحابه :
قال تعالى (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)النحل126.
وقال تعالى (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ)النساء25.
6- الصبر سبب للبشارة بالرحمة:
قال تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)البقرة155 : 157.
7- الصبر سبب لزيادة الجزاء والثواب في الآخرة:
قال تعالى (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)النحل96.
وقال تعالى (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)الزمر10.
8- الصبر سبب للنصر وإمداد الموحدين بجنود السموات:
قال تعالى (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ)آل عمران125.

9- الصبر يورث صاحبه درجة الإمامة :
فالبصبر واليقين تنال الإمامة في الدين قال تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)السجدة24.
والصبر لازم للإسلام والإيمان فالصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فلا إيمان لمن لا صبر له.
8) التوكل:
التوكل من أعمال القلوب الواجبة على المقتصدين والسابقين ، والتوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة ، فإن الدين استعانة وعباة فالتوكل هو الإستعانة ، والإنابة هي العبادة ، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها ، قال تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)الفاتحة5.
حقيقة التوكل لا تتم إلا بأمور منها ما يلي:
1- معرفة الرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته :
فلا يصح التوكل لمن ينفي صفات الله ومن يقول بأن العبد يخلق أفعاله ويكون في ملك الله مالا يشاء.
2- الأخذ بالأسباب:
الأخذ بالأسباب من التوكل ولا يقدح فيه ، والأسباب كثيرة ومنها الدعاء والطاعات وغيرها ، والأخذ بالأسباب لا يعني الركون إليها فالأسباب لا تنفع بذاتها وقد تأتي بالنفع وقد لا تأتي حسب ما قدره الله وشاءه .
3- رسوخ القلب في التوحيد :
فمن تعلق قلبه بغير الله فقد نقص توكله ، والتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب وتعلق الجوارح بها ، فيكون منقطعا منها متصلا بها .
4- حسن الظن بالله :
فعلى قدر حسن الظن بالله ورجاءك فيه يكون توكلك عليه .
5- استسلام القلب لله قبل الأخذ بالأسباب وبعدها :
فالمتوكل على الله حقا لا بد له من الرضا بما يفعله وكيله ، فالرضا هو ثمرة التوكل ، فإذا توكل العبد حق التوكل رضي بما يفعله وكيله ، فالمقدرور يكتنفه أمران:
× الأول :التوكل قبله :
× الثاني :الرضا بعده:
ومن فعل ذلك فقد قام بالعبودية وهذا معنى دعاء الإستخارة ، فعن جابر بن عبدالله :( كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعَلِّمُنا الاستخارةَ في الأمورِ كما يُعَلِّمُنا السورةَ من القرآنِ، يقولُ : إذا هَمَّ أحدُكم بالأمرِ، فليركَعْ ركعتينِ من غيرِ الفريضةِ، ثم لْيقُلْ : اللهم إني أستَخيرُك بعِلمِك، وأستَقدِرُك بقُدرَتِك، وأسألُك من فضلِك العظيمِ، فإنك تَقدِرُ ولا أَقدِرُ، وتَعلَمُ ولا أَعلَمُ، وأنت علَّامُ الغُيوبِ . اللهم إن كنتَ تَعلَمُ أنَّ هذا الأمرَ خيرٌ لي، في ديني ومَعاشي وعاقِبةِ أمري، أو قال : عاجِلِ أمري وآجِلِه، فاقدُرْه لي ويسِّرْه لي، ثم بارِكْ لي فيه، وإن كنتَ تَعلَمُ أنَّ هذا الأمرَ شرٌّ لي، في ديني ومَعاشي وعاقبةِ أمري، أوقال : في عاجِلِ أمري وآجِلِه، فاصرِفْه عني واصرِفْني عنه، واقدُرْ لي الخيرَ حيث كان، ثم أرضِني به . قال : ويُسَمِّي حاجتَه)صحيح البخاري.
وفي هذا الدعاء التوكل والتفويض والتبرؤ من الحول والعلم والقوة والتوسل بصفات الله سبحانه وفيه الطلب والرضا .
وإن لم يرضى العبد بعد التفويض فتفويضه فاسد .
قال تعالى (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)آل عمران160.
وقال تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)آل عمران159.
9) الرضا من عبوديات القلب المترددة بين الواجب والمستحب:
لابد هنا أن نفرق بين نوعين من الرضا هما :
1- الرضا بقضاء الله الشرعي:
وهي أوامره الشرعية التكليفية كالرضا بالله ربا وبمحمد نبيا ورسولا والرضا بالإسلام دينا وما يترتب على ذلك من الرضا بتوحيد الله وطاعة رسوله وإلتزام أوامر الله والإنتهاء عن نواهيه والتسليم له في كل شيء فالأمر ينفذ والخبر يصدق وهذا الرضا محل إتفاق أنه واجب .
ومن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ذاق طعم الإيمان ، فعن العباس بن عبدالمطلب أن رسول الله قال (ذاقَ طعمَ الإيمانِ ، من رضيَ باللَّهِ ربًّا ، وبالإسلامِ دينًا ، وبمحمَّدٍ رسولًا)صحيح مسلم.
وعن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله قال (مَن قال حينَ يَسْمَعُ المؤذنَ : أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له وأن محمدًا عبدُه ورسولُه ، رَضِيتُ باللهِ ربًّا، وبمحمدٍ رسولًا، وبالإسلامِ دِينًا ؛ غُفِرَ له ذنبُه)صحيح مسلم.
وهذان الحديثان تضمنا الرضا بربوبيته وإلوهيته والرضا برسوله والإنقياد له والرضا بدينه والتسليم له ومن اجتمعت له هذه الأمور فهوالصديق حقا .
والرضا بإلوهيته : هو الرضا بمقتضى حكمته وهو يتضمن الرضا بمحبته وحده وخوفه ورجائه والإنابة إليه ، والتبتل إليه وإنجذاب قوى الإرادة والحب كلها إليه وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له ، فالرضا بإلوهيته يتضمن رضاه بشرعه وما يؤمر به.
والرضا بربوبيته : هو الرضا بمقتضى قدرته وهو يتضمن الرضا بتدبيره لعبده ، ويتضمن إفراده بالتوكل عليه والإستعانة به ، والثقة به ، والإعتماد عليه وأن يكون راضيا بكل ما يفعل به ، فالرضا بربوبيته يتضمن رضاه بما يقدر عليه.
والرضا بنبيه رسولا : يتضمن كمال الإنقياد له ، والتسليم المطلق إليه .
والرضا بالإسلام دينا : هو الرضا بأمره ونهيه وحكمه والتسلم له تسليما ولو كان مخالفا لمراد نفسه وهواها.
2- الرضا بقضاء الله الكوني :
وهو ما قدره الله وقضاه من الأمور وذلك بمراتب القدر الأربعة العلم ، والكتابة ، والمشيئة ، والخلق ، فأي مخلوق أو معلوم لابد أن يكون مقدرا في علم الله ثم كتبه الله في اللوح المحفوظ ثم شاء الله خلقه ثم مباشرة عملية خلقه وتنفيذه ، ومن ذلك الرضا بقضاء الله وقدره والرضا بالمصائب والإبتلاءات.
واختلف العلماء في هذا الرضا هل هو واجب أم مستحب على قولين :
الأول : أنه واجب: لأن التسخط حرام ولا خلاص عنه إلا بالرضا وما لا خلاص عن الحرام إلا به فهو واجب .
الثاني : أنه مستحب: لأنه لم يرد الأمر به في القرآن أو السنة ولكنه جاء الثناء على أهله.
وعن أنس بن مالك أن رسول الله قال (إنَّ عِظمَ الجزاءِ مع عِظمِ البلاءِ ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتَلاهم ، فمَن رَضي فله الرِّضَى ، ومَن سخِط فله السَّخطُ)الترمذي وحسنه الألباني.
الراجح عندي هو أن الرضا بقضاء الله الكوني واجب وليس مستحب:
بدليل الحديث السابق فالله قد قدر عقوبة على من سخط ولم يرضى والمستحب إذا تركه العبد لا يرتب الله عليه عقوبه.
ومراتب الناس في المقدور ثلاثة :
1- السخط :
وهو عدم الرضا بالمقدر .
2- الصبرعليه بدون الرضا :
وهذا قد قام بعبادة الصبر وترك عبادة الرضا.
3- الرضا :
وهذا قد جمع بين الصبر والرضا وهذا هو الكمال هنا.
وكثير من الناس يصبر على المقدور فلا يسخط وهو غير راض به فالرضا أمر أخر غير الصبر ، والتألم لا ينافي الصبر ولا ينافي الرضا ، فالمريض الشارب للدواء الكريه متألم به راضي به ، والصائم في شهر رمضان في شدة الحر متألم بصومه راضي به فالتألم لا ينافي الصبر ولا ينافي الرضا به .




µ فوائد الرضا :
1- الرضا يوجب الطمأنينة وبرد القلب وسكونه وقراره :
فمن علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما يخطئه لم يكن ليصيبه ورضي بقضاء مولاه الكوني والشرعي أورثه ذلك الطمأنينة والسكينة في قلبه ، كما أن السخط يوجب إضطراب القلب وانزعاجه وعدم قراره .
وفي الرضا السكينة ، والسكينة سبب السرور والأمن والدعة والراحة وطيب العيش ومن رضا بقضاء الله رضي عنه الله .
والرضا يجعل القلب سليما نقيا من الغش والحقد والغل والحسد و لاينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم ، ويستحيل سلامة القلب مع السخط وعد الرضا ، وكلما كان العبد أشد رضا كان قلبه أسلم ، فالخبث والغش والحسد قرين السخط.
2- أن الرضا يوجب ثبات العبد وعدم تلونه مع الله :
ذلك أن السخط يوجب تلون العبد وعدم ثباته فإنه لا يرضى إلا بما يلائمه والمقادير تجرى دائما بما يلائم العبد وبما لا يلائمه وكلما جرى عليه منها ما لا يلائمه أسخطه ، فلا تثبت له قدم على العبودية ، فإذا رضي عن ربه في جميع الحالات استقرت قدمه في مقام العبودية ، قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)الحج11.
ومن سخط وجد يقينه معلولا مريضا ضعيفا .
3- الرضا سبب للسعادة:
فمن رضي بالقضاء صار سعيدا ، ومن سخط عليه صار تعيسا شقيا ، فمن علم أن المقادير كلها بقدر الله وأنه قد رضي بفعل مولاه فيه وأن أمره كله له خير سواء كان خيرا في الدينا أو خيرا في الآخرة شعر العبد بالسعادة ، لأن قدر الله كله له خير فإن لم يكن في الدينا ففي الآخرة فإن لم يصب الشكر على النعمة أصاب جزاء الصبر على الضر، عن صهيب بن سنان أن رسول اللهقال (عجبًا لأمرِ المؤمنِ . إن أمرَه كلَّه خيرٌ . وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ . إن أصابته سراءُ شكرَ . فكان خيرًا له . وإن أصابته ضراءُ صبر . فكان خيرًا له)صحيح مسلم.
4- الرضا يثمر الشكر:
ويعد الشكر من أعلى مقامات الإيمان بل هو حقيقة الإيمان ، والسخط يثمر كفر النعم ، فمن رضي شكر ، ومن سخط كفر بالنعمة ، والرضا ينفي عن العبد آفات الحرص والتكالب على الدنيا وذلك رأس كل خطيئة وأصل كل بلية.



5- الرضا يجعل العبد في منعه من ظفرالشياطين به:
فالشيطان يظفر بالإنسان غالبا عند السخط والشهوة فهنا يصطاده ، ولاسيما إذا استحكم سخطه فيقول مالا يرضي الرب ويفعل ما لا يرضيه وينوي ما لايرضيه ولهذا قال النبي عند موت ابنه إبراهم:( ولا نقولُ إلَّا ما يُرْضِي ربُّنا).
6- الرضا أصل الطاعات:
فالطاعات كلها أصلها من الرضا ، والرضا يخرج الهوى من القلب فالراضي يكون هواه موافقا للكتاب والسنة فلا يجتمع الرضا واتباع الهوى في القلب والمقصود هنا الهوى المذموم.
7- الرضا حسن العاقبة وعدم الرضا يفتح باب البدعة:
فبدع الروافض والنواصب والخوارج ناشئة من عدم الرضا بالحكم الكوني أو الديني أو كليهما كما أن أول معصية عصي بها الله في هذا العالم إنما نشئت من عدم الرضا ، فإبليس لم يرضى بحكم الله الذي حكم به كونا من تفضيل آدم وتكريمه ، ولا بحكمه الديني من أمره بالسجود لآدم ، وآدم لم يرضى بما أبيح له من الجنة وأكل من الشجرة ثم ترتبت معاصى الذرية على عدم الصبر وعدم الرضا .
وكل واجب من الواجبات القلبية له درجتان هما :
1- واجب مستحق: وهو مرتبة أصحاب اليمين.
2- كمال مستحب : وهو مرتبة المقربين.
بمعنى أن قدر الإخلاص عند المقربين أعلى من الإخلاص عند أصحاب اليمين ، والقدر الواجب فيه يكون واجبا لأصحاب اليمين ، والإخلاص عند المقربين يكون أكثر من الإخلاص الواجب فهو قد وصل في الإخلاص إلى منتهاه وهذا الإخلاص لديه كمال مستحب ، وكذا اليقين عند المقربين أعلى من اليقين عند أصحاب اليمين والصبر عند المقربين أعلى من الصبر عند أصحاب اليمين وهكذا.
2) المستحبات القلبية وهي:
1- الخشوع في الصلاة .
2- الرضا بالمقدورعند البعض.
3) محرمات القلب وهي تنقسم إلى ما يلي:
1- كفر : وينقسم إلى ما يلي :
1- الشك .
2- النفاق.
3- الشرك.
2- معصية وتنقسم إلى ما يلي قسمين:
القسم الأول: الكبائر وتنقسم إلى ما يلي :
1- القنوط من رحمة الله .
2- اليأس من روح الله .
3- الأمن من مكر الله .
4- الرياء.
5- الكبر.
6- العجب.
7- الفخر.
8- الخيلاء.
9- محبة أن تشيع الفاحشة بالذين ءامنوا.
10- الشماتة بمعصية المؤمنين .
11- تمنى زوال النعم عن المسلمين.
12- حسد المسلمين على ما آتهم الله من فضله .
13- الفرح بأذى المسلمين.
ولابد من التوبة من هذه الكبائر فهي أشد تحريما من الزنا وشرب الخمر ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها والتوبة منها وإلا فهو قلب فاسد وإذا فسد القلب فسد البدن.
القسم الثاني : الصغائر :
الخــــــلاصـــــة

ومنها شهوة المعصية ، إلا إذا كانت كفرا أو شركا ، فشهوة الكفر والشرك كفرا.



1) القلب له واجبات يثاب المرء على فعلها وواجبات القلب المتفق عليها هي ما يلي:
1- الإخلاص .
2- المحبة.
3- الخوف.
4- الرجاء.
5- التوكل.
6- التصديق الجازم(اليقين).
7- الصبر.
8- النية للعبادة:
والنية قدر زائد على الإخلاص فإن الإخلاص هو إفراد المعبود عن غيره.
9- الإنابة.
10- الصدق .
2) كل واجب من الواجبات القلبية له قدر واجب وله قدر زائد مستحب عند المقربين.
3) القلب له مستحبات يثاب عليها والمستحاب القلبية هي ما يلي:
1- الخشوع في الصلاة .
2- الرضا بالمقدورعند البعض.
4) القلب له محرمات يحاسب عليها المرء وهي تنقسم إلى مايلي:
1- كفر : وينقسم إلى ما يلي :
1- الشك .
2- النفاق.
3- الشرك.
2- معصية وتنقسم إلى ما يلي قسمين:
القسم الأول: الكبائر وتنقسم إلى ما يلي :
1- القنوط من رحمة الله .
2- اليأس من روح الله .
3- الأمن من مكر الله .
4- الرياء.
5- الكبر.
6- العجب.
7- الفخر.
8- الخيلاء.
9- محبة أن تشيع الفاحشة بالذين ءامنوا.
10- الشماتة بمعصية المؤمنين .
11- تمنى زوال النعم عن المسلمين.
12- حسد المسلمين على ما آتهم الله من فضله .
13- الفرح بأذى المسلمين.
القسم الثاني : الصغائر :
ومنها شهوة المعصية ، إلا إذا كانت كفرا أو شركا ، فشهوة الكفر والشرك كفرا.

من كتاب السراج المنير في شرح العقيدة الإسلامية

رابط التحميل
http://arabsh.com/files/0d3e424e6cf5/السراج-المنير-في-شرح-العقيدة-الإسلامية-pdf.html