أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الحصاد المر: النتائج التي ترتبت
على ضرب الدعوة السلفية في جزيرة العرب


بقلم: أحمد الظرافي

ما أن انتهت حرب محمد على باشا والدولة العثمانية على الدعوة السلفية، حتى بدأ العرب والمسلمون يحصدون الحصاد المر، وشوك الحسك والسعدان والعلقم، الذي زرعه العثمانيون ومحمد علي باشا، باستكبارهم وتجبرهم وغفلتهم، في القضاء" علي أماني دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تطبيق منهج السلف الصالح ومحاولة إعادة الخلافة الإسلامية الخالية من شوائب البدع، وتكوين دولة شرعية قوية تطبق فيها حاكمية الله لا حاكمية البشر " 1

وكان العثمانيون أول الحاصدين، لما زرعوه. وكذلك كان حظ العلماني الباطني محمد علي باشا، إلا أن أمة الإسلام عامة، كانت هي الخاسر الأكبر – كما أثبت ذلك التاريخ والأحداث اللاحقة-. فماذا حصد العثمانيون؟ وماذا حصد محمد علي باشا؟ وما ذا حصدت الأمة ككل؟

في الحقيقة إن النتائج التي ترتبت على ضرب مشروع الدعوة الإصلاحية السلفية في جزيرة العرب لم تُكتب بعد. وهذه مجرد محاولة بسيطة للبحث في هذا الموضوع. وقد تتلوها دراسة أعمق وأشمل في المستقبل إن شاء الله. علما بأن الهدف ليس إثارة المواجع وتفتيق الجروح، وإنما أخذ العبرة والعظة مما فات.

حصاد دولة الخلافة العثمانية

بعد أن أصبح الحرمان الشريفان والمدينتان المقدستان في الحجاز، تحت نفوذ محمد علي باشا، بفترة زمنية وجيزة، ورأى محمد علي باشا أنه نجح من حيث أخفقت الدولة العثمانية في القضاء على آل سعود، وتحجيم الدعوة الإصلاحية السلفية، واستخلاص الأراضي المقدسة منهم، وبعد أن شعر بتعاظم قوته أمام تدهور القوة العثمانية، أعلن التمرد على السلطان العثماني، وتطلع إلى ضم أجزاء كبيرة من دولة الخلافة، بل سولت له نفسه وراثة " الرجل المريض " وهو لا يزال حيا.

وبدلا من أن يعيد إلى الدولة العثمانية نفوذها على الحرمين الشريفين، اللذان كانت تحتاج إليهما لإضفاء شرعية شكلية على خلافتها الآفلة، حرمها منهما، وضربها بنفس هذا السلاح، فجعل من سيطرته على الحجاز وعلى الأماكن المقدسة، وسيلةً للسمو بمكانته لدى الشعوب الإسلامية، ولتدعيم مخططه في وراثة الدولة العثمانية، وإنشاء دولة إقليمية فتية جديدة في المنطقة، على أنقاضها، وباشر في إرسال حملة إلى الشام عام 1832 قادها ابنه إبراهيم باشا، الذي لم يكن يقل عنه طموحا وقسوةً وجهلا ونوازعا عدوانية واستبدادية.

وتمكن إبراهيم بن محمد علي من التوغل في أعماق سوريا واكتساح الشام كله، حيث مارس أسلوب والده في الظلم والتغريب ومصادرة الأوقاف، وتشجيع الأقليات الدينية فيها، والاعتماد عليها بدلا من القوى التقليدية ( أهل السنة والجماعة ).
وإلى جانب ذلك قام محمد علي باشا بتشجيع عدد من الولاة في وسط الأناضول على التمرد ضد السلطان محمود الثاني في استانبول، ثم أخذ جيش محمد علي يزحف شمالا لمهاجمة دولة الخلافة العثمانية في عقر دارها، وخاض الطرفان المسلمان حربا لا هوادة فيها ضد بعضهما البعض، مما أجهض مشاريع التحديث العثمانية التي أنفقت عليها الدولة دم قلبها، وأعاد دولة الخلافة إلى المربع الأول.

واستطاع جيش محمد علي، أن يلحق بقوات الخلافة الهزيمة تلو الهزيمة ومرغ كرامة السلطان محمود الثاني، وسمعة الدولة العثمانية بالوحل، حتى أن السلطنة اضطرت إلى أن ترتمي في أحضان الإمبراطورية الروسية عدوتها اللدود، بما يعني ذلك من تنازلات كبيرة وخطيرة قدمتها للروس، على حساب الإسلام والمسلمين - وخاصة في القوقاز وآسيا الوسطى بل وحتى داخل ولايات الدولة العثمانية نفسها بمنحها حق الوصاية على النصارى الأرثوذكس وتحقيق حلم الدب الروسي في اجتياز أساطيله لمضيق البسفور والوصول إلى مياه البحر المتوسط- حتى وقعت هزيمة جيش السلطان الأخيرة، في نصيبين، في 23 يونيو1839، والتي قضت على قوة العثمانيين الحربية، وانفتحت بعدها الطريق أمام جيش محمد علي نحو استانبول عاصمة السلطنة، ودار الخلافة العثمانية.واستسلم الأسطول العثماني إلي محمد علي، فباتت الدولة العثمانية بدون جيش أو أسطول.

ولما وصلت أنباء هذه الهزائم المتوالية القاصمة إلى السلطان العثماني محمود الثاني- وكان حينئذ على فراش المرض- صعق منها وأصابه الغم، وأسلم الروح من فوره على كرسي السلطنة، ويبدو أنه مات بحسرته، وذلك في (19 من ربيع الآخر 1255هـ = 2 من يوليو 1839م)، وخلفه السلطان عبد المجيد.

ولما رأت القوى الأوروبية انتصارات جيش محمد علي، ورجحان كفته، أسرعت للوقوف في وجهه، والتدخل لحل النزاع بين الجانبين، حيث تم توقيع اتفاقية لندرة 1840 ، بين إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا وتركيا، وإنقاذ العرش العثماني من طموح محمد علي. وذلك ليس حبا في السلطان أو في دولة الخلافة، وإنما دفاعا عن مصالحها وامتيازاتها، التي بات يهددها محمد علي، وللحفاظ على الكيان الهش للدولة العثمانية حتى تقوم بتقطيعه والإجهاز عليه في الوقت المناسب وفق مخطط مدروس، وبعد أن تتفاهم فيما بينها على اقتسام الغنائم، وبالشكل الذي لا يسمح بقيام أي دولة إسلامية من تحت عباءته تكون خطرا على المصالح الغربية.

وقد نجم عن ضعف الدولة العثمانية وعن اتفاقية لندرة المشارة إليها تحويل الولايات العثمانية بما فيها تركيا نفسها إلى سوق لتصريف المنتجات الصناعية الأوروبية، وتصعيد تدخل القوى الأوروبية في الشئون الداخلية للدولة العثمانية، فزاد نفوذهم ونفوذ قنصلياتهم، بشكل سافر ومهين، وأخذ الممثلون الدبلوماسيون والقنصليون الأوروبيون يتدخلون في كل أمر وفي أخص خصوصيات الحكومية العثمانية.

وفتحت بريطانيا امتياز "حماية اليهود" فعملت على تهجيرهم إلى فلسطين. وفي الوقت نفسه شرعت القوى الأوروبية الاستعمارية في مشروعها الرامي إلى تمزيق بلاد الشام، وتوزعت الأقليات الطائفية المختلفة فيها، فاتخذ الفرنسيون جانب الموارنة والعلويين، فيما برز البريطانيون بمظهر المدافع عن الدروز والشيعة، والروس بمظهر المدافع عن الأرثوذكس، وتنامى استقلال هذه الطوائف بتوالي صدور امتيازات الحماية لمختلف الدول الأوروبية، فخرجت هذه الأقليات من قماقمها لأول مرة، وبرزت النزاعات الطائفية فيما بينها بتأثير الاختراقات الأوروبية، فظهر الخلاف الماروني الدرزي على أشده في جبل لبنان، وأخذت كل طائفة من هذه الطوائف، تلعب دورا أكبر بكثير جدا من وزنها أو حجمها. واصبحت الشام بين عامي (1841، 1860)، مسرحا للنزاعات الطائفية بين الموارنة والدروز.. وهي النزاعات التي مزقت البلاد، وعمقت الطائفية في بلاد الشام، وشغلت حيزا كبيرا من اهتمامات الولاة العثمانيين الذين احترقت جهودهم أكثر من مرة وهم يحاولون التوسط بينهما دون جدوى، إذ أن مطالب كل منهما كانت تصطدم مع مطالب الطرف الأخر، مع وجود القناصل والممثلين الأجانب الذين كانوا يسهرون لإذكاء الخلافات بين الطائفتين للإمعان في إضعاف الدولة العثمانية.

ولم ترض الإصلاحات العثمانية في الشام، سوى عدد قليل من الناس، وكانت صدمة أعيان دمشق والقوى التقليدية في بلاد الشام ( أهل السنة والجماعة ) من تطبيق تلك الإصلاحات شديدة لأنها اقترنت بتغلغل الأجنبي عبر قنصلياته ووكلائه التجاريين. وضاعفت قدرات القيادات الروحية للأقليات، وعززت النفوذ الأجنبي في أوساطها، فلقد أحتكر أبناء الطوائف غير الإسلامية تجارة بلاد الشام في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكانوا واسطة نفوذ الرأسمالية الأوروبية في الشرق العربي. وكانت العائلات التي اغتنت أكثر من سواها هي العائلات المسيحية التي ارتبطت بشكل كامل بالسوق التجارية الأوروبية.

بل إن ذلك الضعف الذي لحق بالدولة العثمانية، قد شجع القوى الاستعمارية الصليبية على التنافس فيما بينها لاقتطاع العديد من الولايات الإسلامية من جسم الرجل المريض، أي الدولة العثمانية – وفي مقدمتها ولاياتها العربية، دون أن يكون في استطاعة الآستانة أن تفعل شيئا.
ومنذ عام 1830 – أي بعد حوالي عشر سنوات فقط من ضرب الدعوة الإصلاحية السلفية – تداعت القوى الأوروبية على بلاد المسلمين كتداعي الأكلة على قصعتها، فوقعت الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي في سنة (1245هـ = 1830م). وسقطت عدن والجنوب العربي بيد الانكليز في عام 1839 .

"وكانت الدولة العثمانية تدعي سيادة اسمية على عدن إلى ذلك التاريخ. والظاهر أن السلطان عبد المجيد وحكومته تقربا بهذه الهدية للانكليز طمعا في معونتهم على المصريين الذين خرجوا في تلك الأثناء على طاعة السلطان وملكوا الحجاز والشام حتى انعقدت معاهدة لوندرة سنة 1840م، توافق 1256 هـ، القاضية باعتبار محمد علي باشا من تابعي الدولة العثمانية، واستعان الأتراك بالجيوش والأساطيل البريطانية" 2. ثم توالت البلاد الإسلامية في السقوط بيد الغزاة الصليبيين دون أن تجد قوة رادعة لها.

يقول الدكتور شاكر مصطفى: في ذلك الحين كان الغرب كله في أوج جشعه الاستعماري يزداد عنفا في الهجوم على البلاد العربية. ولم يكن للسلطنة العثمانية من قوةٍ تدافع عنها، ولا كانت فيها قوى ذاتية للدفاع، فوقعت غنيمة سهلة للافتراس الأوربي 3.

كما تجرأ على الدولة العثمانية، القريب والبعيد، وانفتح الباب واسعا لتمرد الأقليات الطائفية، وتحالفها مع القوى الاستعمارية الأوروبية التي كثفت من ضغوطها على الدولة العثمانية، فانتزعت لهذه الأقليات ما تستحق وما لا يستحق من التنازلات والامتيازات، وكل ذلك نكاية بالإسلام وأهله وإمعانا في تفكيكه وضربه من الداخل، ومن ثم بروز هذه الأقليات إلى الواجهة، وقيامها بلعب أدوار خطيرة تتجاوز أحجامها وإمكاناتها على حساب أدوار القوى الإسلامية التقليدية ( أهل السنة والجماعة ) - التي أخذت مكانتها تتقلص وتئول من ضعفٍ إلى ضعف.

وتوالت النكبات والمصائب على الرجل المريض، ووصل إلى درجة من الذل والهوان لا يعلمها إلا الله.

ذلك أن الدول الغربية الكبرى التي كانت في القرن التاسع عشر تتربص بالدولة العثمانية وتمتنع في نفس الوقت عن فرض السيطرة المباشرة عليها أو اقتسامها، لا خوفا منها بل خوفا من بعضها البعض، وجدت الفرصة بعد الحرب العالمية الأولى سانحة لاقتسامها. وقد حدث ذلك في اتفاقية سايكس بيكو سيئة الصيت عام 1916.

وفي غضون ذلك أمسكت جمعية الاتحاد والترقي التركية العلمانية المأسونية، بخناق المارد العثماني، واستمرت تضغط على رقبته حتى رمت به جثة هامدة، عام 1922. وكان ذلك كما هو معروف على يد صنيعتها الذئب الأغبر، مصطفى كمال أتاتورك، الذي أصبح اليوم ثمثاله، وثنا يعبد من دون الله في تركيا.

وكان ما كان من ملكٍ ومن ملكٍ ** كما حكى عن خيال الطيف وسنانُ

حتى أن محمد واحد الدين، آخر خلفاء بني عثمان (1861-1926) ، الذي حكم من عام 1918 إلى عام 1922 ، خرج مطرودا لا يجد مكانا يؤيه، حيث رفضت معظم دول العالم استقباله على أراضيها إلى أن استقر في مدينة " سان ريمو " بايطاليا حتى مات في 15/5/1926 ، وتم حجز نعشه إلى أن دفع رئيس سورية آنذاك الديون المستحقة على السلطان البائس، واحضر جثمانه ليدفن في دمشق، بعد أن رفض أتاتورك دفنه في تركيا. "وإذا المسلمون المبعثرون في القارات الثلاث ينفرط عقدهم وتتناكر أنفسهم، ويحيون بلا إمامة روحية ولا ثقافة عقلية، ولا روابط إدارية ، ولا وحدة جامعة " 4 وعندئذ وجد كل شعب إسلامي نفسه، أضيع من الإيتام على مآدب اللئام، ودخلت الأمة نفقا مظلما لم تخرج منه إلى يوم الناس هذا.

هذا ما حصدته الدولة العثمانية منذ ضربها للدعوة السلفية الفتية في جزيرة العرب. فماذا كان حصاد محمد علي باشا؟