أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :
فهذه خلاصة مهمة وصل إليها الباحث محمد إسحاق كندو -وفقه الله- في رسالته الموسومة ب"منهج الحافظ ابن حجر العسقلاني في العقيدة من خلال كتابه "فتح الباري" ، وهذا البحث مهم جداً يجب الوقوف عليه ، ونقلت هذه الخلاصة للفائدة ، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .
قال الباحث :((لقد انتهيت –بعون الله تعالى وتوفيقه- من دراسة منهج الحافظ ابن حجر العسقلاني في العقيدة من خلال كتابه (فتح الباري)، عرضاً ونقداً في ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة.
وأودُّ في هذه الخاتمة أن أجمل أهم النتائج التي توصّلت إليها فيما يلي:
1- أن الحافظ ابن حجر نشأ وعاش في بيئة كانت الحالة الدينية فيها مشوبةً بكثيرٍ من البدع والخرافات، وكان للعقيدة الأشعرية فيها سلطان وانتشار واسع، بحيث يكون من يخالفها في خطر.
2- أن الحافظ بدأ حياته العلمية في وقتٍ مبكرٍ جدَّاً، وأخذ العلم على أيدي مشايخ يزيد عددهم على (500) شيخ.
3- أن الله تعالى منح الحافظ مواهب نفسية، وهيَّأ له أسباباً كثيرة جعلته يبلغ إلى مرتبة عليا في العلم، ويصبح أحد أعلام الأمة الإسلامية ومشاهير علمائها المعدودين.
4- أن علم العقيدة هو أحد العلوم التي أولاها الحافظ عنايته دراسةً وروايةً، ولم تتمحّض دراسته إياه على المنهج السلفي الصافي؛ لأن أكثر مشايخه الذين درس عليهم كانوا على غير منهج السلف في العقيدة، بل كانوا أشاعرة تبعاً لحالة العصر، وإنما يتمثل الجانب السلفي في دراسة الحافظ للعقيدة في تلك الكتب التي يرويها عن بعض مشايخه رواية مما صنّفه علماء السلف في بيان العقيدة الصحيحة، والردّ على المخالفين فيها، كما يجدها من يطّلع على فهرس مرويات الحافظ من الكتب والأجزاء.
5- أن الحافظ ابن حجر قد خلّف للعلماء وطلاب العلم بعده تراثاً علميّاً ضخماً –خصوصاً في فنون علم الحديث- يحيي ذكره في الدنيا، ويناله أجره في الآخرة إن شاء الله تعالى.
6- أن كتابه (فتح الباري) يُعدُّ أهم كتبه على الإطلاق، من حيث موضوعه، ومادته العلمية، ومن حيث عناية الحافظ به، وطول المدّة التي قضاها في تأليفه وتحريره.
7- أن (فتح الباري) قد احتوى على جل مسائل العقيدة التي يبحثها العلماء في كتب العقيدة؛ وذلك لأنه شرح كتاب جامع لأدلة السنّة في جميع أبواب الدين، وأهمها باب العقيدة.
8- أن الحافظ قد استقى معلوماته في العقيدة من مصادر كثيرة متنوعة، زادت في إحصاء الباحث على (125) مصدراً، وهذه فيما يخص مصادره في المسائل العلمية، دون مصادره في الأدلة الحديثية التي يستدل بها على المسائل، فإنها إن لم تَزِد على هَذا العدد فلا تَقِلّ عنه.
9- اعتمد الحافظ كثيراً في تقرير مسائل العقيدة على كلام بعض أهل العلم من شُرَّاح صحيح البخاري قبله، ومن شُراح صحيح مسلم، ومن غيرهم، وفي مقدّمة الذين اعتمد عليهم الحافظ: البيهقي –في كتابيه (الأسماء والصفات) و (الاعتقاد)، والخطابي –في كتابيه (أعلام السنن في شرح صحيح البخاري) و (معالم السنن في شرح سنن أبي داود)، وابن بطال في (شرح البخاري)، والقاضي عياض، والقرطبي، والنووي، كلهم في (شرح صحيح مسلم)، وابن العربي في (شرح البخاري) و (شرح الترمذي) و (أحكام القرآن)، والطيبي في (شرح مشكاة المصابيح).
فهؤلاء ممن تبيّن للباحث أن الحافظ اعتمد عليهم أكثر من غيرهم في شرح الأحاديث بما تتضمنه من مسائل في العقيدة، إضافة إلى الإمام البخاري نفسه صاحب الصحيح، مع خطأٍ أحياناً في فهم مقصوده من كلامه.
وهؤلاء المذكورون غير الإمام البخاري ممن يعلم أهل العلم أنهم متأثرون بالعقيدة الأشعرية، وأنهم في كتبهم المذكورة يقررون معظم مسائل العقيدة وخصوصاً الأسماء والصفات على منهج الأشاعرة. واعتماد الحافظ على هؤلاء وغيرهم من العلماء ليس اعتماد تقليد، وإنما أخذ ببعض أقوالهم عن اجتهاد واقتناع بأنه هو الحق والصواب الموافق للأدلة حسب ما ظهر له، بدليل أنه في بعض المواضع يقف منهم موقف الناقد الرّاد بما ظهر له من الأدلة.
10- أن الحافظ لم يسر في تقريره لمسائل العقيدة في كتابه (فتح الباري) على منهجٍ واحدٍ، وإنما كان منهجه متأرجحاً بين السلفية والأشعرية، بحيث تجده في بعض المسائل مع المنهج السلفي مقرراً ومؤيداً، وفي بعضها مع المنهج الأشعري مقرراً ومؤيداً، وهذا من حيث العموم، وأما من حيث التفصيل فكما يلي:
أولاً: في منهج الاستدلال:
أ/ وافق السلف على الاحتجاج بأخبار الآحاد في العقيدة، ويرى أن خبر الواحد يفيد العلم إن احتفت به القرائن.
ب/ وافق السلف على تقديم النقل على العقل، لا بمعنى أنهما يتعارضان، وإنما بمعنى أن العقل تابعٌ للنقل في باب العقيدة، والعقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، بل يوافقه.
ثانياً: في تعريف التوحيد وبيان أقسامه:
أ/ وافق السلف في الجملة على تعريف التوحيد، وتحديد معناه شرعاً.
ب/ ووافقهم ضمنياً على انقسامه إلى ربوبية، وألوهية، وأسماء وصفات.
ثالثاً: في توحيد الربوبية:
أ/ قرر انفراد الله تعالى بالربوبية، وعدم جواز إطلاق لفظ (رب) بإطلاق من دون قيد إلاّ على الله تعالى.
ب/ وافق السّلف على أن معرفة الله في الأصل فطرية في البشر.
جـ/ وافق السلف في صحة إيمان المقلد إذا سلم من الشبهات والتزلزل.
د/ رد على المتكلمين في قولهم بأن معرفة الله تعالى نظرية، وفي إيجابهم النظر على العبيد، وزعمهم أن إيمان المقلد لا يصح.
هـ/ قرر الحافظ أن معرفة الله تعالى لا تنحصر في طريقة بعينها بحيث لا يعرف الله تعالى إلا منها، وإنما الأدلة الدالة على وجود الله تعالى كثيرة ومتنوعة.
و/ وافق أكثر أهل الكلام على جواز تسلسل الحوادث في المستقبل، وامتناع تسلسلها في الماضي.
والحق الذي دلت عليه الأدلة جواز تسلسلها في الماضي وفي المستقبل.
رابعاً: في القضاء و القدر:
أ/ وافق أهل السنة في تعريف القدر، وفي مراتبه الأربع.
ب/ وافق أهل السنة في خلق أفعال العباد.
جـ/ وافق الأشاعرة في القول بالكسب الأشعري.
خامساً: في بعض الأحكام المتعلقة بأفعال الله تعالى:
أ/ وافق أهل السنة والجماعة في إثبات الحكمةوالتعليل في أفعال الله تعالى.
ب/ وافق الأشاعرة في مسألة التحسين والتقبيح العقليين.
جـ/ وافق أهل السنة في عدم وجوب شيءٍ على الله تعالى، إلاّ ما أوجبه الله على نفسه.
د/ يظهر من كلامه على مسأله تكليف ما لا يطاق أنه لا يقول به.
سادساً: في أسماء الله تعالى:
أ/ وافق أهل السنة والجماعة في أن أسماء الله تعالى لا تنحصر في عددٍ معين.
ب/ وافق أهل السنة والجماعة في مبدأ التوقيف في أسماء الله تعالى؛ لكنه خالفهم حيث أجاز أن يشتق لله اسم من الفعل الثابت له في القرآن، إذا كان لا يوهم نقصاً.
سابعاً: في صفات الله تعالى:
أ/ وافق السلف في إثبات أن لله صفات كما دل عليه الكتاب والسنة، ورد على ابن حزم إنكاره إطلاق لفظ (صفة) على الله تعالى.
ب/ وافق السلف في أن صفات الله تعالى توقيفية، فلا يُوصف الله تعالى إلا بما ثبت نصاً وصفه به في الكتاب أو في السنة.
جـ/ وافق السلف على أن صفات الله تعالى تحذو حذو الذات، فكما أن ذات الله تعالى لا تشبه الذوات، فكذلك صفاته لا تشبه الصفات. فهذه قاعدة عظيمة قررها الحافظ، لكنه –مع الأسف- لم يلتزم بها عند الكلام على آحاد الصفات الإلهية، والله المستعان.
د/ وافق السلف في تقسيم الصفات إلى ذاتية وفعلية، ولكن هذه الموافقة في التقسيم اللفظي، وأما في المراد بكل نوع منهما فإنه لم يوافق السلف في ذلك، لما يلي:
هـ/ وافق الأشاعرة في جعل الصفات الذاتية قائمة بالله تعالى أزلاً وأبداً، وجعل الصفات الفعلية غير قائمة به سبحانه، وإنما يستحقها فيما لا يزال، وهي ثابتة له بالقدر والإرادة.
و/ خالف منهج السلف في تفسير نصوص الصفات، فجوّز فيها التفويض أو التأويل.
ثامناً: في الألفاظ التي لم يرد في الشرع إثباتها ولا نفيها:
أ/ خالف فيها منهج أهل السنة والجماعة، حيث جرى على نفيها نفياً مطلقاً من غير استفصال، ومنهج أهل السنة هو الاستفصال فيها.
تاسعاً: في رؤية الله تعالى:
أ/ وافق أهل السنة على أن الله تعالى لا يُرى بالعين في الدنيا.
ب/ وافق بعض أهل السنة على وقوع الرؤية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء.
جـ/ وافق أهل السنة على إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، ولكنه مع ذلك ينفي الجهة.
د/ يرى الحافظ أن الكفار لا يرون الله البتة في الآخرة.
عاشراً: في توحيد الألوهية ونواقضه:
أ/ قرر الحافظ أن العبادة حق الله تعالى وحده لا شريك له، فلا يجوز صرف شيءٍ منها لغير الله تعالى أيَّاً كان.
ب/ قرر الحافظ وجوب اجتناب الشرك بأنواعه، وأنّه أظلم الظلم وأعظم الذنوب على الإطلاق.
جـ/ زلت قدم الحافظ في بعض مسائل توحيد الألوهية، حيث جوّز الاستشفاع بالصالحين بعد موتهم، والتبرك بهم وبآثارهم وفضلاتهم الطاهرة، وجوّز شدّ الرحال إلى قبورهم لقصد التبرك بها.
حادي عشر: في مباحث الإيمان:
أ/ وافق السلف في تعريف الإيمان وأنّه: قولٌ باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، وأنه يزيد وينقص بالأمور المعتبرة فيه.
ب/ قرّر أن الإيمان والإسلام إذا ذُكرا معاً في سياق واحد حمل الإسلام على الأعمال الظاهرة، والإيمان على الاعتقاد الباطن، وإذا ذكر كلاً منهما على حده تضمن معنى الآخر، فإذا اقترنا افترقا، وإذا افترقا اقترنا.
جـ/ وافق أهل السنة على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، وإذا مات مصرّاً على كبيرته فهو تحت المشيئة.
ثاني عشر: في الإيمان بالنبوات:
أ/ هو موافق لأهل السنة في النبوات في الجملة.
ب/ قرر عصمة الأنبياء في الصغائر كما هم معصومون من الكبائر، وهو خلاف القول المعروف عن السلف وأكثر أهل السنة.
جـ/ لم يكن له موقفٌ واضحٌ من نبوّة النساء.
د/ قرر ختم النبوّة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعموم رسالته للثقلين، وأنه أفضل الأنبياء على الإطلاق.
ثالث عشر: في الإيمان بالمعاد:
أ/ وافق أهل السنة في التصديق بفتنة القبر وعذابه ونعيمه، وأنّ ذلك على الروح والبدن معاً.
ب/ قرر أن الأنبياء أحياء في قبورهم حياةً برزخيّة، ولكنه ذكر في بعض الأحيان عبارات قد يفهم منها أن حياتهم حقيقيّة كالحياة الدنيوية، وهذا ليس بصحيح، بل الصحيح أن حياتهم برزخيّة.
جـ/ قرر الإيمان بأشراط الساعة التي أخبرت عنها الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
د/ رجّح أن النفخ في الصور مرّتان فقط.
هـ/ رجّح أن الميزان يوم القيامة ميزانٌ واحد، وأن الذي يُوزن في الميزان هو الأعمال.
و/ وافق أهل السنة في إثبات الشفاعة يوم القيامة، ورجّح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة العظمى.
ز/ وافق أهل السنة في وجود الجنة والنار الآن، وأنهما مخلوقتان وباقيتان بإبقاء الله لهما، وأهلهما خالدون فيهما أبداً.
رابع عشر: في الصحابة والإمامة:
أ/ وافق أهل السنة والجماعة في اعتقاد فضل الصحابة وعدالتهم، وفي محبتهم والترضّي عنهم جميعاً، والكفّ عمّا شجر بينهم.
ب/ وافق أهل السنة والجماعة على صحة خلافة الخلفاء الراشدين، وعلى أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة.
جـ/ وافق أهل السنة والجماعة على أن الطعن في الصحابة علامة على خذلان صاحبه، وهو بدعة وضلالة.
د/ وافق أهل السنة والجماعة على وجوب الطاعة لولاة الأمر، وعدم الخروج عليهم وإن جاروا، وعلى صحّة الصلاة وراءهم والجهاد معهم أبراراً كانوا أو فسّاقاً، لما في الخروج عليهم من المفاسد الدينية والدنيوية، غير أنّهم لا يطاعون في المعصية.
خامس عشر: في البدع والفرق المبتدعة:
أ/ وافق أهل السنة على إنكار البدع بأنواعها.
ب/ جانب الصواب في تقسيمه البدع إلى حسنة وسيئة، وإلى الأحكام الخمسة.
جـ/ وافق أهل السنة والجماعة على ذم الفرق المبتدعة، والرد على بدعهم المختلفة.
كان هذا عرضاً موجزاً لمنهج الحافظ في العقيدة من خلال كتابه (فتح الباري)، كما توصل إليه الباحث من دراسته لهذا الموضوع، وبناءً على ما سبق يقرر الباحث ما يلي:
1- لم يكن الحافظ ابن حجر أشعريّ المذهب في جزئيات العقيدة ولا في كلياتها، وإنما وافق الأشاعرة في مسائل، وخالفهم في مسائل أخرى تُعدّ من أصول مذهبهم.
2- لقد كان الحافظ ابن حجر ذابَّاً عن السنة، محبَّاً للسلف، مفضلاً لمذهبهم وطريقتهم في العقيدة، كما كان ذامَّاً للبدعة، مبغضاً للمبتدعة، محذّراً من مذهب أهل الكلام، وله في كلّ ذلك كلامٌ صريحٌ واضح.
3- كان الحافظ مجتهداً في المسائل التي وافق فيها الأشاعرة مخالفاً بها السلف، غير قاصد مخالفتهم، حيث ظهر له أن ما اختاره في تلك المسائل هو الصَّواب، وقوّى ذلك عنده اختيار غيره لها من أَجِلّة العلماء قبله، كالبيهقي، والخطابي، والنووي، وابن الجوزي، وغير هؤلاء.
4- لم يكن الحافظ في جميع المسائل التي تعرّض لها قاصداً تقرير ما هو الصواب فيها فحسب، بل كان في بعض الأحيان قاصداً ذكر ما اطّلع عليه من أقوال في المسألة بصرف النظر عن كون القول صواباً أو خطأ، وهو مقصد واضح وإن كان غيره أولى منه.
5- لا يشك أحد يعرف شيئاً من العلم، ويطلع على أقوال العلماء أن الحافظ ابن حجر معدود في أفاضل علماء الإسلام الذين خدموا السنة النبويّة، وذادوا عنها بأقلامهم، وأن الله تعالى كتب لمصنفاته القبول لدى عامة المسلمين من جميع الطوائف، وأن أقوال أهل العلم من لدن عصر الحافظ إلى عصرنا هذا مجمعة على امتداحه والثناء عليه، والشهادة له بالفضل والديانة، ولمصنفاته بالتفوق والفائدة.
6- يعد كتاب (فتح الباري) من كبار كتب العلم التي لا يَستغني عنها عالم فضلاً عن طالب علم، وهو من الكتب التي أسهمت في الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح في جوانب عديدة، والأخذ بمذهبهم في أمور الديانة، مع نقل جملة طيبةٍ من أقوال علماء السلف في ذلك، وإن كان قد أخطأ في جوانب أخرى عديدة، سبق بيانها في هذا البحث.
وهو كذلك من الكتب التي أسهمت في الرد على الفرق المبتدعة بأصنافها، وفي فضح باطلهم، والتحذير من بدعهم.
وإذا ثبت هذا فالموقف الصحيح من الحافظ ابن حجر ومن كتابه (فتح الباري) هو أن يُترحّم عليه، ويُستغفر له، وأن يُسأل الله تعالى أن يجزل له الأجر والثواب فيما أصاب فيه، وأن يعفو عنه ما حصل من خطأ غير مقصود، مع ضرورة بيان هذه الأخطاء لتتجنّب، ولئلا يأخذ بها من يجعل حالها.
وهذا هو المنهج الصحيح المعروف عن أئمة أهل السنة والجماعة في مثل هذه المواقف.
قال الإمام ابن رجب الحنبلي –رحمه الله-: (لا يزال الناس بخير ما كان فيهم الحق وتبيين أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم التي يخطئ من خالفها، وإن كان معذوراً مجتهداً مغفوراً له، وهذا مما خصّ الله به هذه الأمة لحفظ دينها الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا تجتمع على ضلالة، بخلاف الأمم السالفة.
فههنا أمران: (أحداهما): أن من خالف أمر الرسول في شيءٍ خطأ مع اجتهاده في طاعته ومتابعته أوامره فإنه مغفور له، لا ينقص درجته بذلك. و (الثاني): أنه لا يمنعنا تعظيمه ومحبته من تبيين مخالفة قوله لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيحة الأمة بتبيين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ونفس ذلك الرجل المحبوب المعظم لو علم أنّ قوله مخالفٌ لأمر الرسول، فإنه يحبّ من يبين للأمة ذلك، ويُرشدهم إلى أمر الرسول، ويردّهم عن قوله في نفسه، وهذا النكتة تخفى على كثير من الجهال لأسباب، وظنّهم أن الرد على معظم من عالم وصالح تنقّص به، وليس كذلك، وبسبب الغفلة عن ذلك تبدّل دين أهل الكتاب، فإنّهم اتبعوا زلات علمائهم، وأعرضوا عما جاءت به أنبياؤهم، حتى تبدل دينهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) (1).
وقال الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان آل معمر (2) –رحمه الله-: (واعلم –رحمك الله- أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صادق، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد يكون منه الهفوة والزلّة، وهو فيها معذورٌ، بل مأجورٌ لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن يغمط مكانه وإمامته ومنْزلته في قلوب المسلمين) (3).
قلت: في كلام هذين العالمين الفاضلين من علماء أهل السنة والجماعة بلا امتراء، في كلامهما بيان للمنهج الصحيح الذي ينبغي السير عليه، ولئن كان كلاهما ينطبق على أحد فإن ممن ينطبق عليه الحافظ ابن حجر كما لا يخفى لكل ذي بصيرة، وياليت بعض طلبة العلم في هذا العصر يعون مثل هذه الكلمات النيّرة، فيلزمون جادة الصواب مع العلماء الأجلاء، فإن الله تعالى لم يكتب العصمة لأحدٍ غير أنبيائه، وليس على وجه الأرض كتابٌ خالٍ من خطأٍ غير كتاب الله الذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (4)، وإذا كان كُل عالمٍ وقعت منه زلة استحق الطعن لم يبق لنا عالم، وإذا كان كل كتاب عثر فيه على خطأ تُرك الاستفادة منه لم يسلم لنا كتاب بشرٍ أبداً.
وإنما كان منهج السلف النهي عن كتب البدع التي وضعت لتقرير الباطل، والدفاع عنه، من كتب أهل الكلام وأهل التصوف وما شاكلها، وأما الكتب التي تقرّر الحق وتردّ الباطل، ومع هذا وُجِدَت فيها أشياء تخالف الحق اجتهاداً لا قصداً، فالصواب أنّه مقبولٌ مع التنبيه على ما فيه من خلاف الحق، وقد تمثل هذا المنهج واضحاً فيما فعله العلامة السلفي في هذا العصر سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز –حفظه الله- حيث قام بإعادة طبع كتاب (فتح الباري) مع التعليق على بعض المواضع التي تحتاج إلى تعليق مما جانب فيه الحافظ الصواب، غير أنّ كثرة المشاغل منعته من إكمال هذا المشروع المهم، وحبذا لو يقوم بعض العلماء الأفاضل بإتمام ذلك حتى تعم الفائدة إن شاء الله تعالى.
وفي الختام أسأل الله العلي القدير أن يُلهمنا رشدنا، ويوفقنا لاتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والسير على منهج سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وأن يجنبنا البدع والأهواء، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والأموات، إنه تعالى سميعٌ مجيب، غفور رحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــ
(1) (الحكم الجديرة بالإذاعة)، لابن رجب الحنبلي، (ص 43-44).
(2) هو أحد علماء نجد البارزين، ولد سنة (1160هـ) في (العيينة)، ونشأ في بيت حكم وإمارة، وأخذ العلم عن جماعةٍ من العلماء الأجلاء، منهم الإمام محمد بن عبدالوهاب، وغيره، وأدرك علماً جماً حتى قصد بالأسئلة والفتاوى، وله بعض المصنفات المفيدة، توفي سنة (1225هـ) بمكة المكرمة، رحمه الله تعالى، مأخوذ باختصار من مقدمة كتاب الآتي ذكره.
(3) (النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين)، للشيخ حمد بن ناصر آل معمر، تحقيق الشيخ عبدالسلام بن برجس آل عبدالكريم، (ص 174).
(4) سورة فصلت، آية: (43).