أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


ملخص ورقة عمل الأستاذ جبران سحاري
بمناسبة اختيار المدينة المنورة عاصمة للثقافة الإسلاميّة لعام 1434هـ ـ 2013 م .

عنوان الورقة: (مكانة المدينة المنوّرة في العلم والثقافة في القرن الثاني الهجري ــ الإمام الزُّهري نموذجاً) .

القرن الثاني الهجري يُعدُّ عصر الرواية وتدوين الحديث النبوي، وقد حفل بالعلم والعلماء الذين نذروا
أنفسهم لخدمة السُّنة النبويّة وروايتها وتدوينها وتمييز صحيحها من سقيمها .
وكان الإمامُ ابنُ شهاب الزُّهري رحمه الله هو أجلَّ شيخٍ يتلقى عنه العلماء سنةَ النبيِّ صلى الله
عليه وسلم .
وهو محمد بن مسلم بن شهاب الزُّهري القرشي المدني الإمام الحافظ المتفق على جلالته وإمامته
(ت:124هــ) .
وقد كان المدنيُّون يروون حديثَه، ويتنافسون في تدوينه وحفظِه، بل كان الناس يرحلون إليه من
بلدانٍ شتى، فمن تلاميذه على سبيل المثال لا الحصر: يونس بن يزيد الأيلي[1] وشعيب بن أبي
حمزة وعُقَيل بن خالد الأيلي، ومحمد بن الوليد الزُّبَيْدي وهو من أثبت الناس في الزهري، وابن أخي
الزهري واسمه: محمد بن عبدالله بن مسلم بن شهاب، ومعمر بن راشد الأزدي، وهو من اليمن قدِم
لطلب العلم هناك، وصالح بن كيسان اليماني، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري، والإمام مالك
بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة، وابن أبي ذئب واسمه: محمد بن عبدالرحمن بن المغيرة، وسفيان
بن عيينة وغيرُهم كثير .
وكانوا يروون حديث الزهري، وربما خالفهم الإمام مالك في بعض القضايا .
مثال ذلك: روى جماعة من الحفاظ عن الإمام الزهري حديثاً مشهوراً، وخالفهم في ذلك الإمام مالك،
وهو من أجلِّ تلاميذ الزهري وهو ثاني الأئمة الأربعة بعد أبي حنيفة .
فروى جماعة من الحفاظ عن ابن شهاب الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه أخبره أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى
العوالي[2] فيأتي العوالي والشمس مرتفعة .
وفائدة هذا الحديث: التبكير بصلاة العصر؛ حيث يصلي العصرَ في المسجد النبوي ثم يذهب الذاهب
إلى العوالي فيأتي والشمس مرتفعة لم تغرب .
فهذا الحديث رواه جماعة من الحفاظ عن الإمام الزهري بهذا اللفظ (يذهب الذاهب إلى العوالي)
منهم: الليث بن سعدٍ وصالح بن كيسان وشعيب وعمرو بن الحارث ، ويُونس بن يزيد الأيْلي
ومَعْمر، وابن أبي ذئب وإبراهيم بن أبي عبلة، وابن أخي الزهري والنعمان، وأبُو أويس، وعَبد الرحمن
بن إسحاق .
فهؤلاء اثنا عشر رجلاً رووه عن الزهري بهذا اللفظ، وفيهم ثقاتٌ وحفاظٌ كبار .
جاء الإمام مالكٌ وهو واحدٌ من أئمة المدينة ومن تلاميذ الزهري وخالف هؤلاء فرواه بلفظ: (يذهب
الذاهب إلى قباء) والعوالي أعمُّ وقباء أخص .
فمن نُقدِّمُ في الزهري؟! هل نقدمُ اثني عشر راوياً عن الزهري أو نقدمُ الإمام مالكاً؟!
هذه المسألة بحثها الحفاظ والنقاد وأئمة العلل كالدارقطني في كتابه (التتبع) وغيره، ورأوا الجمعَ
ممكناً، ولأن الإمام مالكاً خالف الجماعة فلابد أنه حفظ ما لم يحفظوا؛ فيجمع بين الروايتين: بأن
يقال: إن قباء جزءٌ من العوالي، وأن رواية الإمام مالك عن الزهري من باب ذكر الخاص وإرادة
العام، وقد خرّج الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما الروايتين رواية (العوالي) للجماعة، ورواية
(قباء) التي تفرد بها الإمام مالك، وبهذا يزول الإشكال .
ومما يُذكرُ في هذه المناسبة: أن الصحابة رضي الله عنهم كان منهم الأنصارُ الذين قاموا بنُصرةِ
النبي صلى الله عليه وسلم بالأموال والأرواح، وهم الأوس والخزرج ابنا قيْلة، وأصلهم من اليمن،
واستوطنوا المدينة المنوّرة من وقتٍ قديم .
وقد كان لهم النفوذ والخبرة والتجارب الصائبة في أمر القتال والجهاد، وهم أصحاب الرأي والمشورة
السديدة في ذلك .
فمثلاً: النبيُّ صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى نزل منزلاً فقال له الحباب بن المنذر
الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا
نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة" فقال: يا رسول الله
فإن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغورُ ما وراءه من
القلب ثم نبنبي عليه حوضاً فنملؤه ماءً ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "لقد أشرت بالرأي" .
فصوّبه عليه الصلاة والسلام، وهكذا يكون التخطيط العسكري للمعركة؛ ولهذا ذكر بعضُ المؤرخين
أن أحد سلاطين الدولة العثمانية هُزم شرَّ هزيمة؛ لأنه نزل بجيشه في مكانٍ منخفضٍ والعدوُّ في
مكانٍ مرتفع، فوقعت الهزيمة والكارثة، وأُسِر هو، وقُتِل كثيرٌ من جيشِه .
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في مطلع غزوة بدر: "أشيروا عليّ أيها الناس" وهو يريد الأنصار
لما يعرف عنهم من قوةٍ وخبرةٍ نافذةٍ في أمر الحرب ولأنهم أكثر عدداً وعدةً وغير ذلك من مقومات النصر .
والخبر رواه ابن إسحاق في (سيرته) ونقله عنه ابن هشام وابن كثير وغيرُ واحد، وهو مشهورٌ
متداولٌ، وابنُ إسحاق إمامٌ ثقةٌ في المغازي، صدوقٌ في الحديث وإن رُمي بالقدر، فيُقبل حديثه ما لم
يُدلِّس؛ فإن دلّس في الحديث فلابد من التصريح بالتحديث كما هو متقرِّرٌ لمن عرف علم الحديث .
ومن روائع دروس الصحابة في المدينة: قصة أُسيد بن الحضير رضي الله عنه مع عائشة رضي
الله عنها لما نزلت آية التيمم .
حيث قالت: انقطع عِقْدٌ لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه
وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟
أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو
بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله صلى
الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ! قالت: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء
الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم على فخذي فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ماء فأنزل الله آية التيمم؛
فتيمموا فقال أسيد بن الحضير ـ وهو أحد النقباء ــ: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر فقالت
عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته .
والحديث متفق على صحته، وفي رواية للبخاري: "فأنزل الله آية التيمم فقال أسيد بن حُضَير
لعائشة: "جزاك الله خيراً فوالله ما نزل بك أمرٌ تكرهينه إلا جعل الله ذلك لكِ وللمسلمين فيه خيراً" .
وفي رواية لمسلم: " إلا جعل الله لكِ منه مخرجاً وجعل للمسلمين فيه بركة" .
فالله أكبر ! هذا استقراءٌ منه لحال أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما .
وقد صدق رضي الله عنه فقد تعرّضت لحادثة الإفك وجعل الله ذلك خيراً لها وللمؤمنين وفضح الله المنافقين .
فهذه بعض الدروس والعبر التي يمكن أن نستلمها في مثل هذه المناسبة مناسبة اختيار المدينة
المنوّرة عاصمةً للثقافة الإسلامية لهذا العام، والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد
وآله وصحبه .

جبران بن سلمان سحّاري .
المحاضر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة
3 / 6 / 1434 هــ .

ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ

[1] ـ الأيلي نسبةً إلى قرية (أيْلة) وتُسمى (أيلات) وهي تقع على خليج العقبة بين تبوك والأردن، وقيل: إنها القرية المقصودة
في قوله تعالى: (وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر) وقيل أيضاً: إنها القرية التي ذُكرتْ في قصة موسى والخضِر
عليهما الصلاة والسلام، والله أعلم .

[2] ـ والمقصود: عوالي المدينة، وهي المقصودة بالعوالي عند الإطلاق، وليس المقصود عوالي مكة .