أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


مع الواقدي، إيضاحاً لتباين منهج المتقدمين والمتأخرين

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فقد طال الخلاف بين ما يسمى اليوم عند المحدثين وطلاب العلم، منهج المتقدمين والمتأخرين ..
فمن قائل: نعم بينهما تفاوت ظاهر، والأخذ بجهود المتقدمين أولى وآكد.
ومن راد عليه: أن منهج المتأخرين جاء بعد السبر وكثرة المطالعة وتقرير المصطلح، فتقديم جهودهم وتقريراتهم أولى من تقديم جهود المتقدمين.
والحق إما مع أحد الفريقين، أو بينهما توسطاً، أو خلافهما جميعاً ..
وتقرير الصواب في هذا لا يأتي إلا بعد مناقشة متأنية طويلة، تتحلى بالنقل الموثوق، والمرجع المرموق..
غير أني هنا أورد مثالاً أرى فيه فتحاً لباب المناقشة، كي تعم الفائدة وكلٌ يدلوا بدلوه ..
المثال: عما قيل في ترجمة الإمام الواقدي محمد بن عمر ..
وهو قول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء [8/78] عند ترجمة ابن أبي ذئب:
والواقدي - وإن كان لا نزاع في ضعفه - فهو صادق اللسان، كبير القدر.اهـ
وقال في [10/ 403] : وجمع، فأوعى، وخلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، فأطرحوه لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي، وأيام الصحابة وأخبارهم.اهـ
وقال في ختام ترجمته [سير أعلام النبلاء 10/ 417]:
وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات، والتاريخ، ونورد آثاره من غير احتجاج، أما في الفرائض، فلا ينبغي أن يذكر، فهذه الكتب الستة، ومسند أحمد، وعامة من جمع في الأحكام، نراهم يترخصون في إخراج أحاديث أناس ضعفاء، بل ومتروكين، ومع هذا لا يخرجون لمحمد بن عمر شيئا، مع أن وزنه عندي أنه مع ضعفه يكتب حديثه، ويروى، لأني لا أتهمه بالوضع، وقول من أهدره فيه مجازفة من بعض الوجوه، كما أنه لا عبرة بتوثيق من وثقه، كيزيد، وأبي عبيد، والصاغاني، والحربي، ومعن، وتمام عشرة محدثين، إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة، وأن حديثه في عداد الواهي، رحمه الله.اهـ
وقال الذهبي [سير أعلام النبلاء (10/ 406)]
قد كانت للواقدي في وقته جلالة عجيبة، ووقع في النفوس بحيث إن أبا عامر العقدي قال: نحن نسأل عن الواقدي؟ ما كان يفيدنا الشيوخ والحديث إلا الواقدي. اهـ
فأفاد كلامه عدة أمور:
الأول: تقريره أولاً أنه لا نزاع في ضعفه.
وهذا ينظر له من قوله آخراً أنه وثقه عشرة من المحدثين القدماء.
الثاني: وصفه بأنه " صادق اللسان، كبير القدر " .
ويقال: هل هذا يعتبر تحسينا لروايته؟ أم ماذا أراد بصدق اللسان ؟
الثالث: وصفه بأنه " لا يستغنى عنه في المغازي، وأيام الصحابة وأخبارهم ".
وهل يقال هنا: أنه إمام في هذا الفن؟ وبالتالي فروايته لها قدر في هذا الباب؟ أم أنه يترك حديثه بالمرة؟
ولا ننسى الثناء من الذهبي على قدره في قوله في أول ترجمته: " محمد بن عمر بن واقد الأسلمي مولاهم الواقدي المديني القاضي، صاحب التصانيف والمغازي، العلامة الإمام أبو عبد الله، أحد أوعية العلم على ضعفه المتفق عليه".
الرابع: أنه لما قرر ضعفه، أتبعه - كما في السابق - بأنه يحتاج إليه في الغزوات، والتاريخ.
ويقال هنا: وهل الغزوات والتاريخ ليست روايات؟ أليس حكم روايته في هذا الفن، هي بالضرورة حكم روايته في غيره كالفرائض؟
إذ ما معنى أنه صادق اللسان، إمام في فن التاريخ والمغازي، ومع ذلك نرد حديثه في الفرائض؟
هذا إشكال يرجى حله.
الخامس: أنه أشار إلى أن العلماء تركوا الرواية عنه في الفرائض، واحتج لذلك بأن أصحاب الكتب الستة والإمام أحمد لم يرووا عنه شيئاً.
ويقال: هل المتعين هنا ترك روايته في الفرائض لأنهم لم يخرجوا له؟ أم لأنهم وغيرهم تركوا حديثه وبعضهم كذبه كما في ترجمته؟
وهل رواية الحفاظ المحدثين - أمثال أبو خيثمة زهير بن حرب، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبو بكر بن أبي شيبة، والحارث بن أبي أسامة وهم من أئمة المحدثين أصحاب كتب الحديث- لا تدخل في رواية العلماء الحفاظ عنه ؟
هذه الإشكال أيضا في حاجة إلى حل.
السادس: أنه أفصح في آخر ترجمته أن وزنه عنده مع ضعفه أنه يكتب حديثه ويروى. وصرح أنه لا يتهمه بالوضع.
إذا فحديثه يكتب للاعتبار أو الاعتضاد والاستشهاد عند الحافظ الذهبي، فلماذا ترك الناس الاستشهاد بحديثه؟
السابع: أنه نعى على فريقي التعديل والتجريح في حق الواقدي، فلم يرضى قول من كذبه وأهدر روايته بالكلية، وأن قولهم هذا فيه مجازفة من بعض الوجوه، كما أنه لم يعتبر بتوثيق من وثقه كذلك.
فهل يقال هنا لهذا التقرير: الرجل يحتمل حديثه، ويحسن إذ إنه بين فريقين جافٍ وغالٍ ؟
سؤال في حاجة إلى إجابة علمية.
الثامن: أنه عد عشرة من المحدثين ممن وثقوه، ورد توثيقهم بمسألة هي فحوى هذا المقال وهو قوله " إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة، وأن حديثه في عداد الواهي ".
ثم ترحم عليه في آخر ترجمته، رحمهما الله وجميع أهل السنة.

وهذه الفقرة الأخيرة ب الثامنة ] هي مثار الجدل ها هنا ..
كيف يكون قد وثقه عشرة محدثين، وينعقد الإجماع من المتأخرين في عصر الذهبي أن حديثه ليس بحجة وفي عداد الواهي ؟
هذه مسائل تحتاج إلى نقاش موسع كي نفيد ونستفيد ..
التاسع: أن الواقدي كما ذكر الذهبي عن أبي عامر العقدي قال: نحن نسأل عن الواقدي؟ ما كان يفيدنا الشيوخ والحديث إلا الواقدي. ونقل مثل ذلك عن عبد الله بن المبارك.
أي أنه له مكانة في الحكم على الرواة من الشيوخ جرحاً وتعديلاً .
وهذا له مكانته عند نقل من ترجم له.
ومن عجيب أمره وتحير الناس فيه، ما وقع بينه وبين هشيم بن بشير، في قصة ذكرها الذهبي، وقال هشيم عقبها: لئن كان كذابا، فما في الدنيا مثله، وإن كان صادقاً، فما في الدنيا مثله.

ملحوظة: لم أتوسع في نقل ترجمة الواقدي، ولم أستوفي ما نقل فيه من جرح وتعديل، إذ إنني أردت التمثيل للقضية الكبرى، بمثال واحد وضع فيه علامة المحدثين وزهرتهم الإمام الذهبي خلاصة ما يراه.

وأرجوا ممن يشارك:
أن ينقل ما يجده مناسباً هنا مختصراً وافياً، ولا يحولنا على روابط فتتسع هوة النقاش ويتوه القراء.
وأن يتقيد بالمراجع لكلك نقل يورده كي يتسنى لغيرنا الإطلاع عليه.
أن يتم التركيز على القضية الأصل وهي منهج المتقدمين والمتأخرين، بغض النظر عن المثال المضروب للواقدي أو غيره.
أن يتحلى بأدب الخلاف، ولا يثور ثورة المتعصب لفريق، إذ إننا كلنا نبحث عن الحق ونسعى جهدنا إليه.
شكر الله لكم وزادكم نفعاً لإخوانكم.