أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


"أثر علم أصول الفقه في بنية الفكر الإسلامي المعاصر" موضوع لقاء علمي مبارك، نظمته الجمعية السعودية للدراسات الفكرية في الثامن عشر من محرم الحرام من السنة الهجرية الماضية 1433، بين ثلة من ذوي الاختصاص من أفاضل الأساتذة وجمهور الطلاب، وبين خبير الدرس الأصولي الأستاذ الزائر بقسم أصول الفقه من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية التابعة لجامعة القصيم الدكتور حميد الوافي حفظه الله.

وقد رشح اللقاء عن بدائع من الفوائد ركزها فضيلة الأستاذ النجم، وبجرأة علمية فائقة، في شكل إضاءات منهجية يستنار بها في دياجير التحصيل لفقه التأصيل والتنزيل والتشكيل، بعد أن اشتغل لأزيد من خمس سنين على نظم لآلئها في عقد قراءة نقدية للعلوم الإسلامية سماها "نظرية الوصل والفصل في العلوم الإسلامية: الطبيعة المعرفية والوظيفة المنهجية".

هذا، وألفت نظر القارئ الكريم إلى أنه كان بودنا نشر الموضوع في حينه، لولا أن قدر سبحانه الاطلاع على مادته على شاشة اليوتوب على أخرة، ولا ضير، إذ "لكل أجل كتاب" وحيثما وقع غيث العلم نفع، على أن ما تيسر إفراغه من التعقيبات عرضناه مختصرا بعد نجمتين، وما تعذر، إذ لم يكن مسموعا، عرضناه مقدرا بناء على مادة الردود بعد ثلاث نجمات، والله الموفق للصواب.

أثر علم أصول الفقه في بنية الفكر الإسلامي المعاصر

د: حميد الوافي



بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أتوجه ببالغ الشكر والتقدير للإخوة القائمين على أمر هذه الجمعية العلمية المباركة، لإتاحتهم لي الفرصة لأتبادل الرأي والنظر مع هؤلاء الإخوة الطيبين الحاضرين، آملا أن يجدوا في كلماتي بعض ما يفيد.

توطئة الإطار العام للإشكال

أبدأ بتقديم إطار عام أعتبره إليه يعود أساس هذا النظر "أثر علم أصول الفقه في بنية العقل الإسلامي أو الفكر الإسلامي المعاصر" ذلك أنه بالنسبة لأصول الفقه، إنما كان وجوده في الأصل إجابة عن مشكلات المنهج، فإفراده بالتدوين كما سيأتي لاحقا على يد الإمام الشافعي، إنما كان إجابة عن مشكلات علمية ومعرفية واجهتها الأمة الإسلامية، سواء تعلق الأمر بقضية بناء المرجعية التشريعية، أو ببناء المنهجية التشريعية، وأوثر ههنا عبارة عن الإمام مالك، إمام دار الهجرة رضي الله عنه، حين قال يوما "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" ومن ههنا أتصور أن مشكلة أمتنا الأولى هي مشكلة المنهج، وأحسب أن ما قدمه علم أصول الفقه من إشكالات نظرية وقواعد علمية أهل لأن ينير لنا الطريق في هذا المسار، مسار الفكر الإسلامي أو العقل الإسلامي المعاصر.

ذلك أننا اليوم حين ننظر في إشكالات الواقع الإسلامي المعاصر، والأمة تسعى إلى أن تستعيد رسالتها، وأن تتمثل وظيفتها التي أخرجت من أجلها، نرى أن الأمة لا تشكو من قلة في المبادئ، ونصوص الوحي ثابتة ثبات من أقام الأمر أول الأمر، لكن المشكلة إنما هي: كيف يتم فهم الخطاب الشرعي؟ وكيف يتم تنزيله على معطيات الواقع ومتغيرات أحوال الناس؟ وإن بلوغ الأمة إلى التحقق بهذا التكليف الرباني، الذي هو أمانة الاستخلاف والقيام بالشهادة على الناس، إنما يتم من خلال تأهيل النخبة العالمة في الأمة، ذلكم التأهيل الموعود به في أمانة التكليف الوارد في الخبر، الحاث على الإنشاء والتكوين، وليس مجرد إخبار عما سيكون تحذيرا مما سيؤول إليه الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين".

ومن هذا التصور أحسب أن علم أصول الفقه، بما يمدنا به من أدوات وقواعد، قادر على أن يوضح لنا الطريق، ويمهد السبيل بإذن الله عز وجل، ومن هنا سيكون محاور هذا اللقاء العلمي في مبحثين اثنين كبيرين:

المبحث الأول: علم أصول الفقه: قضاياه ومناهجه.

المبحث الثاني:أثر علم الأصول في بنية الفكر الإسلامي، أو العقل الإسلامي من خلال نقطتين اثنتين: العقل المؤسس لنظريات المعرفة في العلوم الإسلامية، والعقل القائد للأمة في معترك الحياة لبناء أجوبة وبدائل عن إشكالات الواقع وتجاوز إكراهاته.

أصول الفقه: المرجعية التشريعية والوظيفة المنهجية

في المبحث الأول الحديث عن علم أصول الفقه: قضاياه ومناهجه، الرؤية التي أقدمها بين أيديكم تختصر النظر في أصول الفقه في نقطتين اثنتين:

النقطة الأولى: علم أصول الفقه مسلك منهجي لبناء المرجعية التشريعية، وهذا يقتضي منا نظرا حوارا داخليا حول.. الأصول الشرعية التي يلزم العقل الإسلامي اليوم الرجوع إليها، وههنا بعد مباحثة إطارها طويل، نختصر أن الرؤية إنما تكون في الكتاب والسنة، المرجعية للعقل الإسلامي اليوم هي الكتاب والسنة، و بهذا التقدير سنلغي كثيرا من أسباب الخلاف والشقاق بين مختلف اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، أي إننا نحاول أن نوحد المرجعية، فتوحد الأمة من مختلف أطيافها واتجاهاتها في مرجعية واحدة هي الكتاب والسنة، فالأدلة المختلف فيها، وهذه نماذج من النظر ينبغي أن يعاد فيها النظر لنخلها وتبين موقعها حقيقة في بنية المنهج الأصولي، واعتبار القياس أيضا من هذا النظر من الأدلة المتفق عليها1 يحتاج إلى نظر، وهو النظر القاضي بأن يكون الأمر كله إلى الكتاب والسنة، وما سواه فله موقع آخر في بنية الفكر الأصولي، بهذا التصور الذي أقدمه بين أيديكم ويحتاج إلى تفصيل طويل.

بعد هذا نأتي إلى المنهجية التشريعية، والمقصود بالمنهجية التشريعية إثارة القواعد التي تمكننا من الإحسان في فقه الكتاب والسنة، وهذه المنهجية التشريعية تقوم على استيعاب أمرين اثنين، أحسب أن كل مظاهر الخلاف تعود إليهما.

الأمر الأول يتعلق بمراتب التكليف الشرعي، ذلك أن كثيرا من الاجتهادات في سياق فقه الكتاب والسنة، تضطرب رؤيتها في بنية الأحكام الشرعية، وحين تضطرب هذه الفكرة أو هذه النظريات ينشأ عن ذلك نوع من الجفاء في مختلف مكونات الفكر الإسلامي المعاصر، مما يجعل أولوياته في الكسب الاجتماعي والسياسي والثقافي لا تتجه إلى المطلوب شرعا، بل ترتد إلى أن تشكل جيوبا للإيذاء بين المسلمين العاملين على نفس المشروع الفكري والثقافي الكبير.

ومن ههنا تكون النقطة الثانية، بما سيمدنا به الأصول، وسيفصل ذلك لاحقا في المحور الثاني، يمدنا أيضا بإدراك دقيق لواقع المكلف المسلم، سواء كان فردا أو مؤسسة، يمكننا من أن ندرك حدود قدراته فلا نكلفه ما لا يطيق ولا نحمله فوق ما لا يستطيع، ومن ثم ننشئ فقها أقل ما يمكن أن يقال عنه فقه يأخذ الأمة بيسر إلى تحقيق التعبد لله عز وجل. هذه الخلاصة الفكرية في المبحث الأول.

أثر الأصول في بنية الفكر الإسلامي: من البناء إلى العطاء

ثم ننتقل بخلاصة أيضا إلى المبحث الثاني ليكون مجال النقاش إن شاء الله تعالى أوسع وتبادل الرأي فيه وتقويم الأفكار بشكل أرحب إن شاء الله عز وجل،لأتحدث عن أن المراد بالعقل ههنا هو مجموع الأفكار والنظريات والتصورات المعرفية، التي تصوغ رؤيتنا أولا للعلوم الإسلامية. اليوم حين ننظر في بناء المثقف المسلم أو بناء الداعية المسلم أو بناء الفقيه المسلم فيما يتلقاه من علوم ومعارف تؤهله لهذا النظر، نلحظ أن هذه العلوم تكاد تكون علوما عبارة عن جزر لا علاقة بينها، غياب كثير من وجوه التكامل بين هذه العلوم، وسأقترح ههنا عددا من الاعتبارات في علوم تكاد تكون إما مسلما فيها حضور الأصول، أو حاجتها إلى الأصول تبدو قوية وملحة.

بالنسبة للفقه حضور الأصول فيه يكاد يكون مكتسبا تاريخيا لا يحتاج إلى نقاش، بالنسبة لفقه الحديث الأمر فيه يحتاج إلى مناظرة وتنظير لمدى قوة علم الأصول في تحقيق فقه مكين بالسنة النبوية، وأتجاوز الجانب الفقهي الصرف إلى إثارة مدى حضور أصول الفقه في صياغة قواعد الجرح والتعديل في حد ذاتها، أو قواعد المصطلح الحديثي في حد ذاته.

بالنسبة لعلوم القرآن والتفسير أيضا نرى أن أصول الفقه ينبغي أن يكون حاضرا في صياغة علوم التفسير، ويمكن هنا أن أستحضر نظرين اثنين: النظر الأول هو للمفسر ابن جزي الغرناطي في كتابه "التسهيل في علوم التنزيل" حين أشار إلى أن المفسرين أغفلوا علم أصول الفقه في قواعد التفسير، وأيضا ما ورد عن السكاكي فيما أذكر في "مفتاح العلوم" في آخر كتاب البيان حين نص على أن من أولى ما يعين المفسر على تحصيل العلم بكتاب الله علم أصول الفقه.

ثم أنتقل بعد ذلك.. إلى علم العقيدة والتوحيد، لأقرر أن علم العقيدة بشقيه النظري العقلي القائم على نوع من الحجاج في الإثبات والنفي، أو علم العقيدة باعتباره منهجا في فقه النصوص الشرعية الواردة في الباب، باب الأسماء والصفات، أيضا حضور أصول الفقه في هذا المقام حضور ضروري وقوي، لأننا إذا تجاوزنا النظر العقلي، وله قواعد أصل فيها الأصوليون أصولا، في النظر التفسيري لهذه الآيات، نجد أن مدار الكلام على مصطلحين اثنين: مصطلح الظاهر ومصطلح التأويل، إجراؤها على ظاهرها، تؤول لاتؤول، حدود التأويل، هذا مدار الكلام بكامله بالمعنى التنظيري للإشكال.

هذه العلوم، العلوم الإسلامية الأصيلة، حاجتها إلى الأصول لا أقول من أجل الارتقاء بها، ولكن على الأقل من أجل أن يكون هناك نوع من التكامل المعرفي بين مختلف هذه التكوينات،لكي تخرج لنا فقيها أو مفسرا أو عالما بالعقائد، قادرا على أن يدرك حدود العلوم، سواء فيما يلقيه للطلاب، أو فيما يؤديه من مناظرات وأبحاث علمية في كسبه العلمي في الحياة بشكل عام.

وحين نأتي إلى القسم الأخير المتعلق بصناعة العقل الإسلامي، أو العقل المسلم اليوم، في قيادة الحياة بمختلف تلاوينها وارتباطاتها، يمكن أن نفصل فيه نقطتين اثنتين أيضا: الأمر الأول مرتبط بمناهج الاجتهاد بين فقه الخطاب وفقه الواقع، فقه الخطاب الشرعي يكاد أمره يكون بينا في حضوره في علم الأصول، وحاجة الفقهاء إليه. وفقه الواقع أيضا الحاجة فيه بينة وواضحة، لكن أريد ههنا أن أشير إلى أمر يترتب عن ذلك كله، وهو الذي يصوغ الخريطة العامة، أو الرؤية العامة للعقل الإسلامي، وهو يخوض معترك الحياة، وهو فقه الأولويات، كيف يساعدنا علم أصول الفقه على بناء فقه للأولويات، يحفظ الجهود، يقرب بين الاجتهادات، يسوق الأمة سوقا لطيفا إلى الغايات والمقاصد، دون كثرة الاحتكاكات التي تذهب قوة الأمة، أو ما عبر عنه القرآن الكريم بالخلاف الذي يذهب الريح، ريح الأمة أي قوتها وآفاقها، ويشغلها بغير ما هو مقصود، أو بغير ما يمكن أن تحصله من كسبها في معترك الحضارة والشهادة على الناس، وههنا لنا نصوص عن أئمة عظام: ابن القيم، ابن فرحون، الشاطبي، وغيرهم من الأئمة الأعلام الذين صاغوا هذه النظرية وهذه الرؤية، كيف نبني فقه الأولويات؟.

أحسب أن هذه رؤية مختصرة ومقتضبة للإشكال الذي وددت أن أعالجه من خلال هذا العنوان، أسأل الله لي ولكم القبول وشكر الله لكم وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قضايا اللقاء بين التعقيبات والردود

**..نشكر الجمعية السعودية على هذا اللقاء الطيب... دكتور حميد... البحث الفكري الإسلامي المعاصر في مجمله، في اعتقادي لا يقوم على العلاقة مع علم أصول الفقه، إنما هو بحث فكري إسلامي مجرد عن أصول الفقه، قد تدخل بعض التأثرات البعيدة من هنا ومن هناك، غير المؤسسة على علم أصول الفقه، فهل حديثنا عما ينبغي أن يكون من علاقة بين علم أصول الفقه وبين بنية الفكر الإسلامي المعاصر حتى ننهض به، أم عن الواقع الموجود؟ إذا كنا نتحدث عن الواقع فأزعم أن العلاقة ضعيفة.. وإذا كنا نتحدث عن المأمول فينبغي أن نفصل، كيف ينبغي أن تكون العلاقة حتى يكون المأمول مأمولا في هذا الجانب، هذه قضية.

القضية الأخرى، كنت تحدث مع الدكتور حميد.. فيما يتعلق بالتفسير، وعدم تأثر المفسرين بعلم أصول الفقه وإغفالهم للقواعد الأصولية في تفسير القرآن الكريم، نحن نعلم أن علماءنا المفسرين كانوا في معظمهم موسوعيين، معظمهم من أهل الفقه واللغة والأصول وغيرها، فهل كان علماؤنا الأعلام.. غافلين عن ضرورة قيام قواعد التفسير على هذا الجانب، أم أنهم لم يروا تلك العلاقة الكبيرة التي يمكن أن تفيد في هذا الجانب؟ وجزاكم الله خيرا..

قواعد التفسير وإشكال المفهوم

... في الواقع أبدأ من النقطة الثانية، في لقاءاتنا الخاصة تداولنا كثيرا في مثل هذه الأمور بشكل عام، والاعتراض كما هو قائم عندك قائم عند الآخرين، لكن نميز بين الحضور العملي التطبيقي، وبين التنظير لقواعد التفسير، ما أشك أن ابن جرير الطبري أو ابن كثير... أو أيا من هؤلاء الأعلام ... لم يكن على علم بهذه القواعد، أو ما كان يستعملها، بدليل أننا أجرينا بحوثا في الماجستير أو في البكالوريوس مع الطلاب، واستخرجوا هذه القواعد من أعمالهم، لكن أنا أتحدث عن التنظير لقواعد التفسير، و... أقول لك غير مبالغ، كل من كتب في قواعد التفسير اليوم، يشكو من عدم وجود تنظير علمي لقواعد التفسير، وغالب ما يكون عليه الأمر تفسير القرآن بالقرآن، والقرآن بالسنة، ما يقدم للطلاب ويقدم في الأبحاث الأكاديمية والعلمية، ههنا نحاول أن نعيد النظر في هذا الإشكال، وقد سبق أن تحدث وإياك، لكن للعموم أعيد هذا القول، فوجدت من المتخصصين في الموضوع المعاصر الدكتور فهد الرومي، على الأقل فيما كتب، يشير إلى أنه ليست هناك قواعد لعلم التفسير بالمعنى العلمي الأكاديمي، ولما أراد أن يكتب في هذا المقام ما خرج عن بعض المعاني العامة. الدكتور.. حبنكة الميداني.. في قواعد حسان أيضا ما قدم شيئا. الدكتور السبت أيضا جمع، وما هي بقواعد حين تنخلها، وحين تنظر في العمق المعرفي لما كتب تجد علم أصول الفقه. أخونا الدكتور خالد العك لما نظر قال الأصول والأصول فحسب، الدكتور محسن عبد الحميد في كتابه كذلك نفس الكلام.

... حين نظرت فيما كتب عدد من المتقدمين أيضا وجدت عندهم إشارة إلى قواعد الدلالة في أصول الفقه، فأظن أن هذا الإطار هو الذي دعاني إلى أن أعيد النظر في هذه الدعوى بالتمييز، على أن المتقدمين ما صاغوا قواعد وأشاروا إلى قواعد الدلالة، والمعاصرين أيضا يشكون من هذا الغياب ويحيلون على الأصول دون أن يكون هناك تنظير، ههنا أقول هل يمكن لعلم الأصول أن يكون كذلك، قناعتي أنا نعم، المتخصصون قد يكونون بنفس الرأي وغير هذا الرأي، لكن التداول في الأمر على بصيرة من واقع النصوص في التخصص تبرز إلى أي حد يمكن لهذا الأمر أن يكون أو لا يكون.

إشكال العلاقة بين الفكر الإسلامي المعاصر وبين أصول الفقه

بالنسبة للفكر الإسلامي وبنيته، هذا الذي قدمته الآن هو نوع من النقد غير الصريح، ما أردت أن أقول .. الفكر الإسلامي المعاصر في بنيته بعيد عن الأصول، بعيد عن الشريعة في بعض مناطاته، ما أردت أن أقول هذا الكلام، وإنما هي دعوى، كيف نراجع هذه البنية حتى لا نكون حكما قاسيا يشهر الورقة الحمراء، لا أريد أن يكون هذا تصوري في البناء المعرفي، أثير دعوى، هذه الدعوى "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" أثير الفكرة والدعوى ونتأمل، إلى أي حد هذا يمكن أن يكون أو لا يكون؟ فما أردت أن أتحدث عن كثير من الاجتهادات المعاصرة باسم الدين، وهي بعيدة عن قواعد الأصول، وبعيدة عن الدين، ليس هذا هو قصدي، ولا عن كتابات بعض من يحسب على العقل الإسلامي، ولكن اجتهاداته وأفكاره على الأقل في تقديري المتواضع بعيدة عن هذا، فالخوض في نماذج يطول، لكن أصل الدعوى هو هذا، كيف نبني هذه العلاقة، بناء العلاقة أنا قلت من خلال محورين اثنين: الأول من خلال إعادة النظر في العلاقة بين العلوم الإسلامية على سبيل التكامل، لأن بعض الخريجين يكون مفكرا إسلاميا من تخصص العقيدة.. أو من تخصص الحديث.. أو من تخصص الفقه، ما مدى حضور علم أصول الفقه في حصصه التكوينية، حتى يكون له هذا الجانب من العلم الذي أزعم.. أنه مؤهل لأن يعطي هذا العقل المتخصص بذلك التخصص قدرة علمية معينة، هذه دعاوى ، في تقديري أنا مقتنع بها، لكن في الحضور الكرام لا يمكن أن أقول هذه الحقيقة المطلقة، وإنما هي دعوى للتأمل والتفكر وهذا قصدي من المحاضرة بشكل عام.

**شكرا دكتور، وجزيت خيرا، ما رؤيتك حول الإشكال الفكري والطروحات المعاصرة وتباينها مع الخطاب الإسلامي؟

نقد الأدوات لا نقد الذوات

الأطروحات المعاصرة في عمومها تعبر عن بنية فكر معين، بحسب ثقافته المرجعية التي انطلق منها.. كما تعلمون طروحات ليبرالية، طروحات علمانية، طروحات ..إسلامية بأصناف ومراتب متعددة، عملية النقد والمراجعة إنما ينبغي أن تتجه إلى الأدوات لا إلى الذوات، حين تتجه إلى الذوات نسقط في اتجاهات غير أخلاقية أو غير علمية، في الاتهام والتنابز بالألقاب إلى غير ذلك، لكن ينبغي أن نتجه إلى الأفكار، إلى الأدوات المنهجية عند كل فريق، فنحاور ونتحاور في التفصيلات والاجتهادات.. ولكن ينبغي أن نفصل كما قلت بين الذات والأداة وأستغفر الله.

**... السؤال الذي يطرح نفسه دكتور: عن أي علم أصول فقه نتحدث؟ عندما تطالب بأن يكون علم أصول الفقه قيما على منهجية الفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية.. كأنك تريد أن ينضج هذا الفكر ليكون موافقا لمراد الله تعالى ومعرفة النصوص وفق منهج صحيح، لكن عن أي أصول فقه نتحدث؟ علم أصول الفقه كما لا يخفى عليك دكتور تأثر بمناهج مختلفة، ومن ثم قد تكون الأدوات التي تطالب أن ترحل إلى علوم أخرى.. بحاجة إلى مراجعة و..غربلة، ودراسة وتقييم، فبودي لو تحدثت عن هذا الجانب وشكر الله لك.

بين الأصول وبين الكلام والمنطق: حدود الفصل والوصل

في الواقع السؤال متجه إلى إعادة النظر في الأداة المعرفية التي منها انطلقت، وهو أمر مقبول ومحبوب وجيد، إذن أي أصول فقه تعتبر بهذا الميزان، هل هي مؤهلة فعلا لذلك المكان، طيب، في الواقع أنا قلت أصول الفقه لما أرجعتها في أصل البنية، أصل النشأة ، ما كان الأصول يومها متأثرا بهذه النزوعات التي وقعت عبر تاريخه، فاعتصمت بهذا المبدإ في النشأة ليعد منطلقا جامعا لكل الرؤى، ما طرأ على الأصول بعد في مساره التاريخي، هذا محل مراجعة ومناقشة وتبين وتثبت، مدى صلاحه أو عدم صلاحه للاعتبار، لكن أنا خلصت في النهاية إلى البناء من خلال مسلكين اثنين: المسلك الأول هو الحجاج الذي دار بين العلماء في بناء مرجعية الفقه، أي مبحث الدليل، سواء كان من الأدلة المتفق عليها أو الأدلة المختلف فيها، وهذه ما ارتبط بها من قضايا الكلام أو من قضايا المنطق.. ما لهم بها تعلق كبير في تحقيق القول فيها، فحديثهم عن حجية الكتاب، حجية السنة، حجية الإجماع، حجية القياس بهذا التصور، لم يكن بهذا المعنى الذي نحتاجه نحن، على أن النظر النقدي أيضا في مفهوم الدليل عند الأصوليين، بحسب ما استقر معي والله تعالى أعلم بالصواب، أن كل ما اعتبر أدلة مختلفا فيها يحتاج إلى نقاش آخر في تصوري، ليست أدلة مختلفا فيها، ولا ترقى إلى أن تكون دليلا، والقياس نفسه في تقديري ليس بدليل، والإجماع إما ناقل للدليل أو متضمن للدليل، على ما فصله علماؤنا في الغرب الإسلامي، فيبقى معنا مرجعية الكتاب والسنة وحسب، واقع سد الذريعة والمصلحة كلام كله ينتقل إلى قواعد أخرى لا علاقة لها بالدليل، من ههنا أطمئن إلى أن الأصول بهذه الرؤية تعين على الأقل في تحريك المرجعية بهذا التصور الذي نتحدث عنه.

من الناحية المنهجية الآن، تأثر الأصول بعلم الكلام.. وبعلم المنطق في صياغة بعض المقولات، تأثره بعلم الكلام ننطلق فيه من السؤال الآتي: لماذا اقترض علم الأصول من علم الكلام بعضا من مبادئه وقواعده؟ وهل هذا الاقتراض كان من أجل حاجة علمية قائمة، أو كان ترفا علميا، أو كان زيغا وضلالا؟

وإذا ما نظرنا في عمق الإشكال نجد أن النظرية القياسية في عمقها المعرفي، تقوم على جزء من علم الكلام وهو التعليل، فإذا ألغينا التعليل واعتبرناه دخيلا على الأصول بهذا التصور، لأنه قضية كلامية، انهارت نظرية القياس بكاملها، وإذا انهارت النظرية القياسية أفسدنا اجتهاد الصحابة أنفسهم، وطعنا فيما اعتبر توجيها نبويا لمبدإ القياس، وإذا أنكرنا التعليل بهذا التصور انهارت النظرية المقاصدية بكاملها، فإذن.. يكون السؤال: هل بالفعل التعليل حقيقة نشأته كلامية، أم نشأته في فقه الشريعة أصلا؟ هذا محل للمراجعة والنظر، وأتصور أنه من محل المراجعة، هي قضية شرعية قبل أن تكون كلامية، لأنها مستمدة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تعليل القرآن نفسه لكثير من الظواهر، وهذا الذي عمد إليه الشاطبي في نظريته للمصلحة أو المقاصد حين رد على الرازي الذي أنكر التعليل... بالاستقراء التام من نصوص الشريعة، على أن الله تعالى علل أصل الخلقة، خلق السموات والأرض، خلق الإنسان، بعثة الرسل، وتعليل التكليفات، كلها تعليل في القرآن، فلا علاقة لذلك بالكلام بهذا المعنى فتكون الحدود واضحة.

إذا جئنا إلى نظرية التحسين والتقبيح، هي نظرية كلامية..أثارها علماء الكلام كثيرا، حين نعمق النظر في هذا الأمر، ندرك لماذا كان نقاش الأصوليين للتحسين والتقبيح، ندرك أنهم كانوا يدافعون بذلك عن صفاء المرجعية التشريعية، لمن الحكم أ للعقل أم للشرع؟ ويمكن أن نطور هذا النظر اليوم، لمن الحكم للشرع أم للكونية القانونية الدولية أو للنظم العالمية؟.. بمبدإ التحسين والتقبيح الذي ناقش به علماؤنا الفكر الغازي، يمكن إذا فهمنا اليوم عمق المنهجية فيه أن نجيب على الفكر الوافد...

...الآن أين حدود النظرية المنطقية، هل هي في باب الحدود أم في باب الاستدلال؟ في باب الحدود الأمر هين، لأننا إذا أنكرنا المنطق في بناء الحدود والمفاهيم، سنبطل بالضرورة كثيرا من ثقافتنا، وأقدم هنا مثالا واحدا: مفهوم القاعدة الفقهية، ألا تجدونه يا سادة مبنيا بناء منطقيا، فإذن كيف نعيد بناءه من جديد، مذموم، مقبول، هذا كلام للنقاش.

حين نأتي إلى النظرية الدلالية، الأصوليون الذين أدخلوا مبدأ المطابقة والتضمن والالتزام، هم الذين أدخلوا المنطق إلى الأصول، وكان ذلك مع المتأخرين من أمثال الرازي والآمدي ومن جاء بعدهما، لكن الغزالي والجويني والشيرازي وابن السمعاني، هؤلاء الفئة من المتقدمين ما كان حضور المنطق بهذه الصورة في الاستدلال من الخطاب الشرعي حاضرا معهم، تبقى تفاصيل وجزئيات أخرى تحتاج إلى نظر أوسع.

***دكتور، ما تقويمك لعلاقة المستشرقين وذوي الأطروحات المعاصرة بأصول الفقه إن كان ثمة علاقة؟

أصول الفقه ومحاولات الهدم

.. التقويم بشكل عام يصعب، ينبغي أن تكون نماذج واضحة حتى نبدي فيها نظرا، لكن في الإطار العام هذا ملحظ مهم، حين نعود إلى تاريخ الفكر الغربي الذي أراد غزو ثقافتنا، نلحظ أن المستشرقين كتبوا في التفسير.. وفي علوم الحديث، وكتبوا في العقيدة.. وفي الفقه، وما استطاعوا لحصن الأصول نقبا، ما كتب أحد منهم في الأصول، راجع المستشرقين وما أحدثوه من النظريات، وإنما بدأ التحول في هدم الأصول على يد... باحثين، انتبه الغرب إلى أن الحصن المتين هو الأصول، فبدأ نوع من التحوير لقضايا الأصول بنظريات بدأت من مبحث الدلالة، كما كان مع حسن حنفي في بعض كتاباته، حاول أن ينقل الأصول بقراءة خاصة، وكما حصل مع أحد المغاربة عندنا الدكتور الصغير، لما تكلم عن علم الأصول والسلطة السياسية، فيه نوع من النزوع للشعوبية، اتهام الشافعي وعلاقته بالسلطة كلام غير علمي وغير تاريخي، ثم كتابات بدأت تتحدث عن المصلحة، وأن شرع الله هو المصلحة، وأينما كانت المصلحة فثم شرع الله، كل هذا كلام إذا ما عدنا إلى سياقين اثنين في الحوار، سياق بناء المفاهيم والتدقيق فيها، وسياق إعمال هاته المفاهيم ومدى قابليتها لأن تنتج مثلما أنتجوا، وهذا يحتاج إلى نقاش آخر بنماذج معينة في الردود عليها، لكن الذين كتبوا من أهل ثقافتنا في الردود على هؤلاء من الاتجاه الإسلامي العام، الموالي للسياق العلمي والتاريخي للأمة، الذين كتبوا في الردود متفاوتون في ردودهم، منهم المتمكن من الأصول الذي استطاع أن يرد، ومنهم من لم تكن بضاعته في الأصول بذاك، فكانت ردوده على كل حال تتناول الجزئيات والهوامش، ولم تتجه إلى البناء المعرفي الذي أقاموا عليه النظريات بشكل كبير، وهذا يحتاج إلى تفصيل أطول.

***ما حقيقة الفكر الإسلامي المعاصر ، وما ضابط الانتساب إليه في ظل تعدد المشارب والمصائب المحدقة بالأمة؟

الاشتغال بغير المقصود إعراض عن المقصود

الدعوى أو الهم الذي عندي هو هم يرتبط بإشكال كبير، كيف نقود الأمة إلى بر الأمان؟ هذا هو الهم الكبير، وحين أرى أبناء الأمة يشتغلون بغير المقصود، فاشتغالهم بغير المقصود إعراض عن المقصود، يشتغلون أحيانا بتفاريع وتفصيلات.. الشرع ما أقامها ذلك الموقع الذي أقاموها هم فيه، هذا الفكر الإسلامي المعاصر إذا أردت أن أفصل فيه، في بنية فقه الدعوة، في الفتوى، في الاجتهاد، في التربية، في التدريس، هل هذه المناهج والنماذج أقامت منهجها العلمي والدعوي والفقهي، على رؤية علمية موزونة خادمة لمقصود الأمة في حد ذاتها، فحينما حاولت بمنطق الأصول نوعا من تحقيق المناط، بمنهج السبر والتقسيم، الإلقاء والإبقاء، تبين لي أن الخلل في مناهج التدريس والتكوين، فركزت على الأصل وتركت التفصيلات فيما بعد، حين ننظر في مناهج التكوين في الجامعات التي هي مناط العقل الإسلامي المعاصر، العقل الإسلامي المعاصر أو الفكر الإسلامي المعاصر، المقصود به الفكر المنتسب إلى الإسلام، المضاف إلى الإسلام، المعتبر بقوة الشرع الإسلامي، هذا هو المقصود بالفكر الإسلامي المعاصر، لا أصنف في الفكر الإسلامي المعاصر الفكر الذي يتخذ من النصوص الشرعية مرجعا ليهدم الشريعة، لا أعتبر هذا في الفكر الإسلامي المعاصر في التدقيق، إنما أعتبر المفكر الإسلامي من كان بفكره خادما للإسلام، كيف أميز بين الخادم وغير الخادم، هنا أحتاج إلى قواعد الأصول والرؤية الشرعية في حد ذاتها للتمييز.

فحين نرى في مساق الاجتهاد الفكري المعاصر توجها قد لا يكون بعضه ظاهرا، لكن ما نلحظه منه فيما يسمي نفسه بالفكر.. اليساري الإسلامي، أو عند من يرى أن الليبرالية والإسلام شيئا واحدا، أو أن الإسلام والليبرالية يلتقيان في الحريات الفردية وحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية وحقوق التملك، الفكر الإسلامي الذي يرى أن الحرية بالمعنى العام لا تعارض اختيارات الناس المضادة للشريعة، ويحتج عليك بقوله تعالى "لا إكراه في الدين" فهذه أمور هي المقصودة عندي بالأصل، لا كما قلت لك، ما أريد أن أتعرض لهذه التفصيلات لأنها ستبعدنا عن المقصود، فركزت على الإطار الكلي لمفهوم الفكر الإسلامي، وقلت هو العقل الذي يصوغ النظم المعرفية، والعقل الذي يصوغ الإجابات العملية لواقع الحياة في الأمة الإسلامية، والله تعالى أعلم وأحكم.

**هل يمكن التمييز بين تعريف الأصوليين وتعريف المحدثين للعدالة؟

مفهوم العدالة بين الأصوليين والمحدثين

بسيط جدا إن شاء الله تعالى، مفهوم العدالة، هل يمكن أن نميز فيه بين تعريف الأصوليين وتعريف المحدثين، أظن أنك إذا رجعت إلى تعريفات المحدثين يحيلونك على مصادر أصول الفقه، مفهوم في قبول الأخبار بين المتواتر والآحاد نظرية أصولية، وفي نقد السند أو نقد المتن نظرية أصولية، وأعتقد أن النقد جزء من قواعد التحديث المتعلقة بالأخبار في ثبوتها قبل فهمها ودلالاتها، فإذن هناك أمور مشتركة في هذا الباب، وتفصيله يحتاج إلى أمور أخرى.

***في مقدور فقه المقاصد حل كثير من مشكلات الأمة اليوم، كيف يمكن استيعاب الواقع لتحقيق هذا المطلوب؟

المقاصد وحل المشكلات التعبدية والحضارية

... أنا معك في هذه الفكرة أن المقاصد بإمكانها أن تجيب عن كثير من المشكلات، مشكلات التدين اليوم في عالم المسلمين، وأن تجيب عن رسم أولويات كبرى، سواء تعلق الأمر بإدارة المعركة الخارجية، أو إدارة الاختلافات الداخلية، لكن كما تفضلت يحتاج الأمر إلى نقاش واستيعاب للواقع، واستيعاب للاتجاهات العامة في الفكر الإسلامي نفسه، ليتم صياغة رؤية علمية تكوينية تؤهل لهذا المطلوب إن شاء الله عز وجل.

***فيما يتعلق بالموازنة بين الغزالي والشاطبي في خدمة الأصول والمقاصد يبدو أن أبا إسحاق قد حاز قصب السبق لجملة اعتبارات... جعلت منه رائد مشروع التجديد فيهما حقا، وهو المشروع الذي أتمه كل من الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي على مستوى مقاصد الشريعة، وبنظرة مختلفة عن نظرة أصحاب الطروحات المعاصرة من أمثال حسن حنفي وعبد المجيد الشرفي وعابد الجابري ومحمد أركون، دكتور إلى أي حد يمتلك هؤلاء الباحثون سلطة تفسير النص الشرعي؟

سلطة تفسير النص بين الأصيل والدخيل

... في كلامك أشياء ربما تحتاج إلى مراجعة من الناحية العلمية، لكن أبدأ معك بالأخير، من يملك سلطة تفسير النص؟.. دعني أقول لك: أنت إذا هاتفك الجوال.. وقع فيه عطب، هل أول رجل تلتقي به، تقول له خذ أصلح لي هذا، أم تبحث عن خبير ومتخصص. منطق العلوم الآن هو منطق التخصص، فإذن ليست سلطة.. تفسير النص لعبة، إنه مصير.. فكر، مصير أمة.. هذا المنطلق الأول.

المنطلق الثاني.. دعني أقول لك ليس.. حسن حنفي ولا عابد الجابري، ولا أنا ولا أنت، هناك معايير موضوعية في العلوم، هل له صفة تؤهله للنظر أم لا؟ هذه الصفات العلمية نناقشها في اتجاهين اثنين: الاتجاه الأول في امتلاك الأدوات المؤهلة للنظر، والنقطة الثانية في امتلاك الأرضية العلمية التي بإمكانها أن تفسر النص.

فإذا ذهبت معك إلى الدكتور حسن حنفي في انطلاقه من المدرسة الألمانية الفيلولوجية الهرمنوتيقية2، هاته النظريات نناقش معه في مدى حجيتها عند الألمان أنفسهم، ونظهر له أنها بالفعل لم ترتق إلى حقائق علمية للتفسير، لأنها تفتقد شرط الموضوعية أو شرط الكفائية التفسيرية في النظريات العلمية الأربع، وغير متوفرة في النظرية الهرمنوتيقية بإجماع كل من رأى أو درس، ولكنها اندثرت ولم تبق إلا عند بعض الذين رأوا فيها، باعتبارها أداة تأويلية بدون قيود، مسلكا لهدم النصوص الشرعية، هذا أمر واضح ونحتاج إلى نقاش فيه.

الدكتور الجابري والدكتور الشرفي في تعلقهم ببناء القواعد نحوا منحى انتقائيا تأباه قواعد العلم، وأيضا بنوا من خلال نظريات لسانية غربية، نعرف حدودها ومنطلقاتها المعرفية والنتظيرية، فإذن ننقل النقاش من من يمتلك؟ إلى هل أنت لك السلطة العلمية لتناقش؟ فهذا نقاش آخر، لكن نحن على وعي في علم الأصول أن القواعد التي بني عليها النظر الأصولي إنما انطلق بمعيار اللغات اللسانية أو أهل التخصص اللساني في التداوليات أو في التوليدية أو في المدارس اللسانية المعيارية، كلها تعتبر أن الحاكمية للغة الأصل التي نزل بها الخطاب، أو هي لغة التخاطب، هذه قاعدة مفصلة عندهم، فكيف تأتي أنت لتبني نظرية لسانية باسم الكونية وأنت لم تدرس قواعد العربية، هذا الخلل الأكبر، هذا الاستكبار العالمي الذي يفرض علينا باسم الحرية الفكرية، ومن يملك سلطة تفسير النص، نعم أنا العربي المتخصص في الشريعة أملك سلطة تفسير النص، لأنني أنطلق من لغتي المعيارية التي نزل بها النص، وأنت دخيل على لسان النص، ولنا في كلام دكتورنا المغربي طه عبد الرحمن ردود عجيبة على هؤلاء القوم في النظرية اللسانية في حد ذاتها، ومدى كفايتها التفسيرية، في الخلفية المعرفية التي انطلقت منها، وفي مدى علمية قواعدها، وهذا تنهار به هذه النظريات، والكلام فيه طويل جدا.

بين الغزالي والشاطبي

بالنسبة لما ذكرت من اعتبارات أبدأ معك بالفرق بين الشاطبي والغزالي، أظن أنك لو تعمقت في كلام الشاطبي لجزمت، أنا أقول لك إن 80 في المائة من مادة الشاطبي العلمية من الغزالي، والعشرين الأخرى التي بقيت من الجويني، وما دون ذلك انتقد فيه الغزالي غيره من الأصوليين، فغير صحيح هذا التمييز بين الشاطبي والغزالي، هذا كلام غير علمي في تقديري على الأقل، والنصوص أمامنا ومجال الكلام أوسع من هذا.

مفترق القراءات للأصول والمقاصد

بالنسبة للمقاصد، نعم صحيح المقاصد ليست بالمعنى الذي فهمه لا حسن حنفي ولا الشرفي ولا الجابري ولا أركون ولا هؤلاء جميعا، ودون أن أدخل في أسماء أخرى، لكن ذكرت باعتبار من هو مذكور الآن في هذه الحلقة.

المقاصد إنما هي قراءة استقرائية لأحكام الشريعة، والشاطبي نص على هذا المبدأ في بدء كلامه حين قال تكاليف الشريعة تعود إلى حفظ مقصودها في الخلق، ومقصودها في الخلق هو كذا وكذا وكذا، وهم حين جاؤوا إلى هذه الأمور ما بدأوا فيها بإلغائها، وإنما بإيجاد ما يسمى في الأسلوب العلمي.. نماذج ظنا منهم أنها تنقضها، وأما التجديد الذي تتحدث عنه مما قدمه الشاطبي و.. الفاسي و.. ابن عاشور في رؤية نقدية للأصول، فهذا يحتاج إلى كلام آخر.

الشاطبي لما انتقد الأصول ما اعتبر الأصول لا تصلح لشيء، انتقد الأصول لخلل فيه، نعم الكمال لله وحده، أمور العلوم تحتاج إلى تطوير، إلى نقاش، إلى رأي، فيه خطأ، هذه حقيقة واقعة في العلوم، لكن هل دعا إلى إلغائه، أبدا فحين يناقش قضايا ونظريات يقول لك ارجع إلى الأصول، أو تفصيلها في الأصول، وحين بدأ أول مقدمة باعتبارها تنظيرا للعلم قال "إن أصول الفقه في الدين قطعية" انتهى الإشكال وتوظيفها نقاش معرفي ومنهجي آخر، فهل حسن حنفي والجابري بالفعل يقول بهذا، طبعا كلام... آخر.

***من مقام الدفاع عن أصول الفقه، كيف تنظر دكتور إلى من ينتقد الأصول بدعوى أنه اقتصر على الجانب اللغوي؟ ثم ما رأيكم فيمن كتب من ذوي الطروحات المعاصرة عن الإسلام والثقافة الإسلامية على أخرة، هل يخوله ذلك صفة المفكر الإسلامي؟

أصول الفقه وقضية النقد والتجديد

.. عفوا ..أولا أنا لست في مقام الدفاع، أنا قدمت رؤية تنظيرية اشتغلت عليها سنين، هذه الرؤية التي لخصتها بين أيديكم في ربع ساعة كما تفضل الشيخ.. اشتغلت عليها أكثر من خمس سنوات بقراءة نقدية للعلوم الإسلامية، في نظرية هي الآن موجودة عندي على الحاسب الآلي حول "نظرية الوصل والفصل في العلوم الإسلامية: الطبيعة المعرفية والوظيفة المنهجية" فما انطلقت من فراغ.

الأمر الثاني: النظرية الأصولية هذه التي ترى أنها اقتصرت على الجانب اللغوي، أنا أقول لك الذين ينتقدون الأصول بزعمهم أنه اقتصر على الجانب اللغوي ماذا قدموا؟ كل ما قدموه هو استلهام لما أنتجه الفكر الأصولي بناء على النظريات اللغوية في قضايا المقاصد وقضايا التعليل وقضايا مرتبطة بشأن آخر، ما أتوا بشيء، وما أردت أن أفصل في هذا الموضوع.. لكن إذا أردت يمكن أن نعقد لقاء آخر حول هذه التجديدات والإشكالات، ونتداول فيها في مائدة مستديرة، لا أكون فيها أنا الملقي.. ونتداول أفكارا بشكل ربما أكثر علمية من هذا.

بين الفكر الإسلامي وبين التقاعد في الإسلام

في جانب الفكر الإسلامي، طبعا ليس الإسلام، ودعني أبين لك فكرة حتى تتضح الصورة، في المغرب في 1989، كان عندنا ندوة بدار الحديث الحسنية، وكنت يومها طالبا بالمؤسسة، وكان عندنا فلاسفة من أمثال الجابري والحبابي، عدد كبير من الناس الذين كانوا في مساق علمي وثقافي وفكري مناهض للإسلامية، ثم بعد أن دب الوهن في العظم، واشتعل الرأس شيبا... رجعوا فبدأوا يكتبون عن الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية والإسلام وكذا، وكان معنا أحد المشايخ يدرسنا السيرة النبوية ومناهج تأليف المغاربة في السيرة النبوية، وعرض عليه أحد الشباب.. سؤالا.. ما هذا التحول؟ فقال لنا: هؤلاء يريدون التقاعد في الإسلام. لسنا ضد توبة الناس، بل نفرح، لكن أن تقرأ الإسلام وأنت بثقافة فكرية، ثقافة ما قبل الإسلام، هذا الدخن في الفكر هو الذي نحاول أن ندقق من خلاله في تحديد ما معنى الفكر الإسلامي؟ أما أن يأتي كل واحد يأخذ آية ويلوي عنقها ويسمي نفسه مفكرا إسلاميا، هذا غير منسجم، لو كان ليبراليا أو ماركسيا أو وجوديا هيدغيريا، وأتى بنظريات من المدرسة الفرنسية أو المدرسة الأنجلو سكسونية ليفسر به الظاهرة اللغوية أو الظاهرة الاجتماعية على مذهب آخر لاتهم بالجنون العلمي، وعندنا بمجرد أن يبدي بعضا من التحول، ظاهرا أو باطنا، لا يهمني نيته وعلانيته، فيزعم أنه صار مفكرا إسلاميا، ارفعوا أيديكم عن الفكر الإسلامي من العبث، الفكر الإسلامي قضية تعني أنك تتبنى خيارا مستندا إلى الإسلام، بعد ذلك نناقش جزئيات أخرى، مفكرون في القديم إذا قاسوا على ما قاسوا عليه، فذلك لاعتبارات، هل اليوم باسم هذا الاعتبار القديم نستصحبه نحن اليوم، اليوم المعركة الحضارية معركة فاصلة، لا نكفر أحدا، لا نتهم أحدا في إيمانه، لا نراجع أحدا، لسنا محكمة تفتيش، هذا كله أمر مرفوض شرعا، اعتقادا لا نفتش عنك، لكن حين تخرج إلى الساحة الفكرية ليكون لك رأي في قيادة الأمة ينبغي أن نحاسبك ههنا، هل بالفعل أنت مفكر إسلامي أم لا؟ وهذه صورة أعتقد أنها واضحة، على الأقل هذا رأيي، وهو رأي مشترك والله أعلم بالصواب.

**... أريد أن أسلط الضوء على قضية بسيطة، موضوع الفكر الإسلامي، المشكلة في أساسها هي في تحديد علاقة العقل بالنقل، وهي مستمرة منذ نزول الشرع الإسلامي إلى الآن.. عندي استدراك بسيط جدا، ربما نقول إن علم الأصول استعار من المنطق ومن علم الكلام.. لكن في حقيقة الأمر علم أصول الفقه عبارة عن قواعد عقلية منطقية مائة بالمائة، مستوحاة من الشرع، وبالتالي جعلنا الضابط الأساسي هو الشرع ثم من بعده.. العقل.. والفكر يتبع للشرع، الإشكال الآن فيمن يتولون توظيف أصول الفقه، إذ تجردوا في بعض الحالات عن الأصول الشرعية حتى صار عندهم الأصول علما مستقلا، ولذلك.. كل من تحدث في موضوع معين يقول.. عندنا مقاصد، مثلا المشقة تجلب التيسير حتى نقض أصول الشريعة...فرجعنا إلى حلقة مفرغة...

إذا كانت.. صياغة الألفاظ القرآنية وهي توقيفية دالة على وجوب أن يكون هناك خلاف.. قول الله عز وجل "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" لفظ القرء مشترك اختلف فيه العلماء... وبالتالي هذا الاختلاف هل هو قضية جيدة، ظاهرة صحية أم غير صحية، هل نريد أن نجعل الفكر الإسلامي كله على منهج واحد، على نتيجة واحدة؟ هنا السؤال وشكر الله لكم.

شكر الله لكم دكتور أسامة، في الواقع الإطار النظري يحتاج إلى نوع من التفصيل، لكن لا بأس أنا اختصرت بالفعل، لأنه أنتم أفاضل كرام، لست هنا بمرب ولا بملقن لكم، فأنتم بحمد الله دكاترة في الجامعة، نحتاج إلى إثارة فكرة للنقاش وحسب، وأما استعارة علم أصول الفقه من العلوم، بالفعل.. حينما نبحث في النظريات العلمية، ما يسمى في الغرب بالإبستمولوجيا، نجد أن كل علم يؤسس مبادئه بالمسلمات، يأخذ مسلمات من علم معين فيبني عليها استدلالاته، الرياضيات الفيزياء الكيمياء، كلها مقدماتها من علوم أخرى، ومن يدرس تاريخ هذه العلوم يدرك هذا الأمر بشكل واضح جلي، الآن مدى تأثر أو عدم تأثر أو كذا، لا أحد ينكر التأثر، ومستوى هذا التأثر بين الأشخاص.. وأعتقد أن ما كتبه الدكتور سامي النشار يبرز الذي تفضلت به أن علم الأصول منطق العقل الإسلامي، الذي كان ينظر ويقدر إلى غير ذلك. حين دعوت إلى اعتبار الأصول لم يكن قصدي هو نفي الاختلاف أبدا، لكن المقصود منه هو تدبير الاختلاف.. بالمعنى الذي يعود الاختلاف خادما لما نعتبره خيارات متعددة للأمة فقهيا وثقافيا من أجل خوض معركة الوجود ومعركة الاستمرار، وهكذا يكون الاختلاف أداة رحمة بدل أن يكون أداة نقمة والله من وراء القصد، شكر الله لك .3

الهوامش

1-لعل فضيلة الأستاذ يريد "من الأدلة المختلف فيها".

2-ينظر في مفهوميهما معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة للدكتور سعيد علوش مادة الفيلولوجيا رقم 489 ومادة الهرمونتيك رقم681.
3-بقي تعقيب أخير غير مسموع تقريبا والردعليه فيه خلل فني، لذلك آثرنا حذفهما.