النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: الشك واليقين عند ابي العلاء المعري وجميل الزهاوي

  1. #1
    ~ [ نجم نشيط ] ~
    تاريخ التسجيل
    Jul 2006
    الدولة
    م ع س 001
    المشاركات
    277

    الشك واليقين عند ابي العلاء المعري وجميل الزهاوي

    الشك واليقين عند ابي العلاء المعري وجميل الزهاوي

    --------------------------------------------------------------------------------


    الشك عند أبى العلاء المعري
    د . محمد أبو الفضل بدران
    جامعة الإمارات العربية المتحدة

    1-1

    "أيها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقلٍ فاتّبعْهُ ، فكلّ عقلٍ نبي 1
    من هذه الرؤية ندخل إلى عالم أبى العلاء المعري ونظرية الشك لديه ، حيث نرى رؤيته الشكية في كل ما يجرى من حوله ، فلا جوامد ثابتة أو غير قابلة للتحليل والنقد ، وربما كان العمى عند أبى العلاء عاملا نحو رؤية الأشياء مجردة ، وهذا ما نراه في اشتقاقاته اللغوية التي نراها في مؤلفاته ، حيث تجري على الأقيسة اللغوية حتى لو لم تكن مستعملة في عصره ، فاللغة ليست مقدسة عند أبى العلاء بل هي قابلة للتأليف والنسخ والحذف والإضافة .
    من خلال المنهج التحليلي الذي سأتبعه هنا أحاول ترسيم نظرية الشك لدى المعري ، وكيفية وضع أُطُرٍ لها تساعدنا على نقد نظرية الشك لديه إيجابا أو سلبا .
    يصرح المعري في "رسالة الفصول والغايات" بتأرجحه بين القبول والرفض للحياة فيقول : " نفس تأمرني بذلك ، ونفس تنهاني"2 ؛وربما كان يعني التخلص من الحياة ولذا فهو يصرح في رسالة الغفران:"قد كدت ألحق برهط العدم ؛ من غير الأسف ولا الندم، ولكنما أرهب قدومي على الجبار" 3

    وكيف أنه ضاق بالعالم من حوله " طفت الآفاق ، فإذا الدنيا نفاق ؛ ومللت من مداراة العالم بما يضمر غيره ما يظهره الفؤاد، فاخترت الوحدة على جليس السوء"4

    ولقد عشتُ مع المعري سنوات عديدة في أثناء بحثي حول قضايا النقد والبلاغة في تراث أبى العلاء المعري"5 حيث أنني حاولت في هذه الدراسة بيان منهج المعري النقدي ؛ النظري والتطبيقي.وقد ساهم ضياع معظم مؤلفات المعري - على نحو ما سأوضح بعد-في اختلاف الباحثين حوله حيث إن كتبا كاملة فُقدت وأجزاء من كتب أخرى فُقدت أيضا ؛لذا فإن ما نعرفه عن المعري هو معرفة نسبية وبذلك تكون الأحكام النقدية نسبية أيضا .

    ولقد شُغل عدد كبير من الباحثين العرب بالمعري ولعل أشهر هذه الدراسات كتاب الجامع في أخبار أبى العلاء وآثاره لمحمد سليم الجندي؛6 لكن هذه الدراسة لم تكن إلا تجميعا لآراء المؤلفين العرب القدامى وعلى هذه الطريقة جمع الدكتور طه حسين وآخرون أخبار أبى العلاء في كتاب أطلق عليه " تعريف القدماء أبى العلاء " وهو تجميع لمعظم تراجم أبى العلاء في التراث العربي والفارسي ولكننا لا نرى فيها نقدا أو تحليلا. أما كتاب إبراهيم السامرائى "مع المعري اللغوي"7 فقد حفل بالأخطاء المنهجية على نحو ما وضحت في كتابي " قضايا النقد والبلاغة في تراث أبى العلاء المعري"8

    في مؤلفات طه حسين حول المعري:"صوت أبي العلاء " و " مع أبي العلاء في سجنه " نلمح الأديب طه حسين ويختفي الناقد ويظل المدافع عن المعري دائما ، وقد نحى الملوحي الطريق ذاته وهو الدفاع عن أبى العلاء إذ جاء كتابه "دفاع عن أبى العلاء المعري"9 في مسلك الدفاع إذ قسمه إلى قسمين : أولهما أبو العلاء مؤمن مسلم ؛والآخر شاعرية أبى العلاء .

    ومن عجب أن آخر ما نشر حول أبى العلاء من الدكتورة بنت الشاطئ جاء دفاعا عن أبى العلاء أيضا.

    وتأتى أبحاث المستشرقين حول أبى العلاء المعري ولعل أهم هذه الأبحاث هو ما كتبه Fischer A. حول Der Koran des abu al-Ala a al-Maarriالذي حاول أن يدفع عن المعري تهمة كتابة رسالته " الفصول والغايات " كمعارضة للقرآن لكنه وإن كان قد ألقى الضوء على هذا الكتاب النادر إلا أنه لم يستطع أن يفهم النصوص الأدبية فهما عميقا ويحللها تحليلا نقديا وربما كانت صعوبة لغة أبى العلاء وغموض تركيباته أحيانا سببا في هذا التناول من Fischerالذي رأى في المعري الشاعر العظيم والمفكر الكبير مما يوحي بإعجابه بالمعري .

    وقد جاء Richard Hartmann في كتابه " Zu dem Kitab al-Fusul wa al Ghayat des Abul alaa al-Maarryليتبع Fischerفي رؤيته تجاه كتاب الفصول والغايات إلا أن أهمية كتابه فيما أرى ترجع إلى إشارته إلى أن كتاب المعري " الفصول والغايات " محاولة ضد الكتابات النثرية في عصره ؛ إلا أن أبحاث Margoliouth حول أبي العلاء لا تكتسب أهمية لأنها ترديد لآراء بعض النقاد العرب القدامى وأحيانا دون فهم ، وربما كانت محاولته في تحقيق رسائل أبى العلاء ونشرها أفضل ما قام به على الرغم مما ثبت من أخطاء وقع فيها في التحقيق إذ لا تخلو صفحة من تحقيقه من أخطاء .

    وقد تناول Gabrieli F. و K.Brockelmannو A.Mezو Arthur wormhoudt في أبحاثهم أبا العلاء و ترجموا له نقلا عن تراجم العرب . وقد جاء مقال Nicholson في Enzyklopaedie des Islam مقالا مقتضبا حول المعرى وردد حوادث ثبت عدم حدوثها وقد أشار في مقاله إلى نقد المعري للتراث التقليدي في عصره . إلا أن مقال P.Smoorفي Encyclopaedia of Islamحول المعري يترجم ما حكاه القفطى وياقوت الحموي ، ورغم أنه كان مقالا abstractإلا أنه ساهم في عرض مؤلفات المعري بشكل واضح بُني عن فهمه لهذه المؤلفات . وقد تناولت Renataالمعري في ثلاث صفحات وركزت على قضية الزمن عند المعري وأهمية التركيب اللغوي لديه. ولقد قامت عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) بأفضل تحقيق لرسالتي أبى العلاء المعري : "رسالة الغفران" و "رسالة الصاهل والشاحج" ولا يستغنى عن تعليقاتها المصاحبة للتحقيق فقد كانت رسالة الغفران محققة تحقيقا سيئا من قبلها وقام باحث بسرقة تحقيقها ونسبه لنفسه فيما بعد .

    ومن عجب أن معظم المستشرقين لم يتوقفوا أمام نصوص أبى العلاء بل كان معظم اهتمامهم هو محاولة إثبات أثر الفلسفة الهندية والإغريقية على حياة أبى العلاء وتراثه.

    1-2

    وأبو العلاء المعري هو أحمد بن عبدالله بن سليمان 363-449 هـ(=973-1057م) المولود في معرة النعمان بسورية وقد عميَ من الجدري في عامه الرابع ورحل إلى بغداد سنة 398 وأقام بها سنة وسبعة أشهر ثم رجع إلى بلده معرة النعمان ولزم منزله في عزلة لا يبرح بيته ولا يأكل اللحم ولم يتزوج أيضا وكان يصوم كل أيام السنة ما عدا عيد الفطر وعيد الأضحى وكان يلبس خشن الثياب وعاش زاهدا حتى وفاته بمعرة النعمان سنة 449 هـ.
    وقد خلف من المؤلفات الكثير والكثير وأحصى القفطي في مؤلفه " إنباه الرواة " أكثر من خمسة وخمسين مصنفا ؛ ويعقب القفطي على ذلك بقوله : إن أكثر كتب أبى العلاء هذه عُدمت ، وإنما يوجد منها ما خرج عن المعرة قبل هجم الكفار عليها ، وقتل من قتل من أهلها ونهب ما وجد منها فأما الكتب الكبار التي لم تخرج من المعرة فعدمت وإن وجد شئ منها فإنما يوجد البعض من كل كتاب "
    وأهم ما بقى من مؤلفاته ديوان "سقط الزند" وأبياته نحو ثلاثة آلاف بيت ؛ وديوان "لزوم ما لا يلزم" الذي يشمل عشرة آلاف وسبعمائة وواحد وخمسين بيتا ورسالة "الصاهل والشاحج" و"رسالة الغفران" و"رسالة الملائكة" و"رسالة الهناء" و"رسالةالفصول والغايات" .كما ألف شروحا لدواوين كل من الشعراء أبي تمام والبحتري والمتنبي ؛ وقد حظي المعري بدراسات بعض النقاد والعرب أمثال طه حسين وعائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) وإحسان عباس وغيرهم.


    1-3

    إن الشك عند أبى العلاء المعري منهج معين يسير عليه نحو الوصول إلى الحقيقة ، والتناقض الظاهري لديه لا يعنى إلا مرحلة التردد بين اليقين وعدم اليقين ؛ بين المنقول والمعقول ، بين المتعارف عليه والجديد، بين التقليد والتجديد ، ويصطدم المعري في منهجية الشك لديه بكل ما هو متوارث ، فالمعطيات لديه ليست مقدسة والفضل - ليس كما قال القدامى - للمتقدم بل إنه يستطيع كما قال عن نفسه :
    وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانه لآتٍ بما لم تستطعهُ الأوائلُ
    لكننا نتساءل ما الهدف الذي سعى إليه المعري من خلال الشك كمنهج لديه؟ أظن إن المعري قد استخدم الشك طريقا للوصول إلى قناعة داخلية ، إنه في صراع أبدي مع نفسه ، مع مجتمعه ، مع السلطة ، مع الأديان ، إنه يشعر أن قوة داخلية تطارد فكره كي يرتقى إلى منزلة اليقين وفى خلال رحلته القلقة يصطدم مع كل المؤسسات القائمة ويسعى إلى تقويمها أو تحطيمها إن لم يجد إلى تقويمها سبيلا.
    وعندما ننظر إلى هذا الكم الهائل من مؤلفات المعري ( وما احتوته من فكر ) نجد أن أهم ما يدعو إليه المعري هو إعمال العقل " فكلُّ عقلٍ نبيُّ " وفى مرحلة تنبية العقل ينمو الشك لديه في كل ما حوله ويتخذ عند المعري ثلاثة أشكال :-

    ( أ ) الشك في الأديان .

    (ب) الشك في التراث الأدبي.
    (ج) الشك في المجتمع .
    وسوف أتوقف هنا عند الشك في البنية الدينية فقط .

    الشك في الأديان

    القارئ لتراث المعري الشعري والنثري يفاجأ بهذا التناقض الشكلي بين المعري الكافر ، الزنديق ، الملحد وبين المعري المؤمن ، التقى ، الورع .
    وفى الأدب العربي القديم نفتقد بشكل كبير زمنية التأليف ويزيد من حجم المشكلة أن المخطوطة الواحدة قد تكتب في عدة سنوات ويبقى أمام الباحث التشبث بإشارات التأريخ وهذه لا تسعف الباحث أحيانا في التحديد الدقيق ، وتزداد المشكلة تعقيدا لدى المعري الذي كثرت مؤلفاته وتضخمت ، ولا يعرف زمنية تأليفه ، وعلى سبيل المثال فقد كان الظن لدى معظم الباحثين أن ديوان سقط الزند هو أول ديوان ألفه المعري في حياة الصبا ؛ إلا أننا عندما نقرأ الديوان بتمعن نفاجأ أن الديوان قد أُلف عبر حياة المعري وأن بعض قصائده يعود زمنيتها إلى أواخر عمر المعري ، وأقصد من ذلك أن أقول إن التردد أو التناقض في مواقف المعري في الكتاب الواحد لا يعطى دليلا على أن الشك كان في مرحلة زمنية معينة من حياة المعري بل يؤكد أن الشك صاحَب المعري في معظم حياته.
    وينبغي قبل أن أورد أمثلة من أقوال المعري أن أركز على أن المعري يشكك أحيانا في جزئيات الأديان كنظرية لكن معظم شكه ونقده ينصب على متاجري الأديان ؛ فهاهو يردد : "ما أنا بالملحد الكفور ولا أسأل مولاي غير إلحاد"

    العقل في مواجهة ما وراء العقل :

    يؤمن المعري بالعقل ويتخذه نبيا ، وينادى في اللزوميات :
    يرتجي الناسُ أن يقـومَ إمــامٌ ناطقٌ في الكتيبة الخرســاء
    كذب الظنُّ لا إمام سوى العقل مشيرا في صبحه والمســاء
    فإذا ما أطعـتــه جلب الرحمة عند المسير والإرســـاء
    إنما هذه المذاهب أسبـــاب لجذب الدنيا إلى الرؤسـاء
    وينادي :
    ولا تصدق بما البرهان يبطله فتستفيد من التصديق تكذيبا
    ويصرح بأن الحكم الأول والأخير يجب أن يكون للعقل فيقول :
    جاءت أحاديثُ إن صــحتْ فإن لها شأنـا ولكن فيها ضعف إسنادِ
    فشاور العقل واترك غيره هـــدرا فالعقلُ خيرُ مشيٍر ضمّه النادي
    أو قوله :
    في كل أمرك تقليدٌ رضيتَ به حتى مقالك ربي واحدٌ ، أحدُ
    وقــد أُمرنا بفكرٍ في بدائعه وإن تفكر فيه معشر لحدوا ؟
    ويردد المعري الكثير من آراء ابن الراوندي تجاه العقل فقد أورد ابن الراوندي موقفه الرافض لكل ما يخالف العقل ، يقول ابن الراوندي : " إن الرسول شهد للعقل برفعته وجلالته ، فلمَ أتى بما ينافره إن كان صادقا؟"10
    ويمضى قائلا : "والعقل هو الذي يمتحن قيمة النبوة ، فإما أن تتفق تعاليم النبي مع العقل وحينئذ فلا لزوم لها ؛ وإما أنها تتناقض وإياه وحينئذ فهي باطلة"11 وعلى هذا فإن المعري يرى أن العقل هو الحكم والفيصل في الأديان وأن كل ما هو مقدس يجب أن يخضع للعقل .
    العقل في مواجهة النقل :
    يطرح المعري قضية الألوهية بشيء من الإنكار تارة وتارة أخرى بشكل إيماني عميق ،فالشك يبدأ لديه في مواجهة ما تناقله الفقهاء والمفسرون ولذلك يقول في اللزوميات :
    قلتم لنا خالقٌ حكيم قلنا صدقتم كذا نقـولُ
    زعمتموه بلا مكانٍ ولا زمانٍ ألا فقولــوا
    هذا كلام له خبـئٌ معناه ليست لنا عقولُ
    و يقول :
    أما الإله فأمرٌ لست مدركه فاحذر لجيلك فوق الأرض إسخاطا
    ويتعجب المعري لماذا لا يتألم الله لعذاب الناس :
    لوانى كلب لاعترتني حمية لجروي أن يلقى كما يلقى الإنس

    أو قوله : رأيت سجايا الناس فيها تظالم ولا ريب في عدل الذي خلق الظلما

    وأن هنالك تناقضا في الأحكام فيخاطب الله قائلا :

    أنهيتَ عن قتل النفوس تعمدا وبعثت أنت لقبضها ملكين؟
    وزعمت أن لنا معــادا ثانيا ما كان أغناها عن الحالين12
    ويخاطب الله متسائلا :
    إن كان لا يحظى برزقك عاقــل وترزق مجنونا وترزق أحمقا
    فلا ذنب يارب السماء على امرئ رأى من ما يشتهي فتزندقا
    لكن الشك لديه يجعله مترددا بين الإيمان والكفر ولذا نفاجأ عندما نراه يردد:
    سأعبد الله لا أرجو مثوبته لكن تعبد إعظام وإجلال
    وعندما ينظر المعري في بعض أحكام الفقه يجد أن هنالك أحكاما لا يقبلها العقل مثل حكم دية اليد إذا قطعت بخمسمائة دينار ذهب وإذا سرق أحد من الناس ربع دينار تقطع يده فيعترض قائلا :
    تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له وإن نعوذ بمولانا من النـار
    يد بخمس مئين عسجد فُديت ما بالها قُطعت في ربع دينار
    ولأنه يعيش في مرحلة الشك فإنه في شوق إلى اليقين بيد أنه هيهات:
    أما اليقين فـلا يقين وإنما أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا
    أو قوله : وقد عدم التيقن في زمان حصلنا من حجاه على التظني
    بل إن المعري عندما يفكر بعقله ويصطدم مع الشافعي أو مالك فإنه لا يأبه بذلك ويرى أن من حقه أن يجتهد طالما هو قادر على التفكير
    وينفر عقلي مغضبا إن تركته سدى وأتبعت الشافعي ومالكا
    ويفاجئنا المعري بأن العقل ينكر الأديان السابقة:
    هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ويهود حارت والمجوس مضللهْ
    اثنان أهل الأرض : ذو عقـل بلا ديــن وآخر ديِّن لا عقل لهْ
    وينكر أن يكون آدم واحدا
    وما آدم في مذهب العقل واحـد ولكنه عند القيــاس أو آدم
    ويشكك المعري في تدين الناس من حوله ويرى أنه تدين متوارث
    وينشأ ناشئ الفتيان منــا على ما كان عوّده أبوه
    وما دام الفتى بحجى ولكن يـعلمه التدين أقربوه
    الشك في الديانات والمذاهب :
    لا يسلم دين أو مذهب من نقد المعري والتشكيك في أصوله فاليهودية محرفة والمسيحية لا تقوم على أساس عقلي والحنيفية خرجت عن مسارها والمذاهب جميعها متطاحنة وأن الأديان والمذاهب هي المسئولة عن الصراعات الموجودة في العالم وان الأديان هي تأليف من القدماء فلا أنبياء ولا وحي في رؤية المعري الشكية :
    أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما دياناتكم مكرٌ من القدماء
    وقوله :
    ولا تطيعن قوما ما ديانتهم إلا احتيال على أخذ الإتاوات
    وإنما حمل التوراة قارئهـا كسب الفوائد لا حب التلاوات
    إن الشرائع ألقت بيننا إحنا وأودعتنا أفانين العـــداوات
    وقوله :
    مسيحية من قبلها موسوية حكت لك أخباراً بعيد ثبوتها
    ويسخر المعري من الأيام المقدسة فيقول :
    وجدنا اختــــلافا بيننا في إلهنا وفى غيـره عزَّ الذي جل واتحـد
    لنا جمعة والسبت يدعى لأمـــة طافت بموسى والنصارى لها الأحد
    فهل للبواقي السبعة الزّهر معشر يجلونها ممن تنسك أو جحــــد
    تقرب ناس بالمدام وعنـــدنا على كل حـال أن شــاربها يُحَد
    ويرى أن الأديان قد فشلت في خلق عالم مثالي :
    أمور تستخف بها حلوم وما يدرى الفتى لمن الثبور
    كتاب محمد وكتاب موسى وإنجيل ابن مريم والزبـور
    نهت أمما فما قبلت وبارت نصيحتها فكل القوم بور
    وعندما يصل الشك لدى المعري منتهاه يقول :
    توافقت اليهود مع النصارى على قتل المسيـح بلا خلاف
    وما اصطلحوا على ترك الدنايا بل اصطلحوا على شرب السلاف
    ويرى أن المسيح لا يكون منطقيا ابنا لله :
    عجبـا للمسيــح بين أناس و إلى الله والد نسبوه
    أسلمته إلى اليهود النصارى واقروا بأنهم صلبــوه
    يشفق الحازم اللبيب على الطفـــل إذا ما لداته ضربوه
    وإذا كان ما يقولون في عيسى صحيحا فأين كان أبوه
    كيف خلّى وليدَه للأعادي أم يظنون أنهم غلبوه ؟
    ويتساءل المعري وهو في قمة شكه أي الأديان هو الصحيح :
    في اللاذقية ضجةٌ ما بين أحمد والمسيح
    هذا بناقوس يدق وذا بمئـذنة يصيح
    كل يعظّم ديـنه ياليت شعري ما الصحيح ؟
    وفى شك المعري وتحكيمه للعقل كفيصل وحيد نحو الوصول إلى اليقين يشكك المعري في وجود الوحي :
    فلا تحسب مقال الرسل حقا ولكن قول زور سطّروه
    وكان الناس في يمنٍ رغيدٍ فجاءوا باالمحال فكدروه
    ويشكك في تناسق الأديان ووحدتها بل يشكك في الدين الواحد الذي تتشعب منه المذاهب المتعارضة والمتناقضة على نحو ما نرى في أبيات اللزوميات والتي لا داعي لذكرها هنا وأنه يعيش في شك لأنه لا يرى الهدى وإنما :
    دين وكفر وأنباء تقص وفرقان وتوراة وإنجيل
    في كل جيل أباطيل ، يدان بها فهل تفرد يوما بالهدى جيل ؟
    وقال عبدالسلام القزوينى : اجتمعت به ( أي المعري ) مرة فقال لي : لم أهج أحدا قط ! قال : صدقت إلا الأنبياء ! فتغير وجهه "
    وقد ألف المعري رسالة الفصول والغايات التي لم يصل إلينا سوى الجزء الأول منها وهو ما يساوى ثلثها تقريبا وأسماها " الفصول والغايات في محاذاة السور والآيات " كما يرى البعض بينما يرى الآخرون أنها في تمجيد الله والمواعظ ويروى أنه قيل له : ليس هذا مثل القرآن ، فقال : لم تصقله المحاريب أربعمائة سنة "13 ترى ماذا يفعل الناقد أمام هذه المقولة التي يقولها المعري وأمام شعره الذي يقول فيه:
    أقيم خمسي ، وصوم الدهر آلفه وأدمن الذكر أبكارا بآصال
    عيدين أفطر في عامي إذا حضرا عيد الأضاحي يقفو عيد شوال
    الشك في الفرائض :
    يقف المعري موقفا رافضا للحج ويرى أنه ليس فرضا على العجائز والعذارى طالما بقى هؤلاء الناس الأشرار حول الكعبة :
    أقيمي لا أعد الحج فرضا على عجز النساء ولا العذارى
    ففي بطحاء مكة شر فقوم وليسوا بالحماة ولا الغيـارى
    وكذلك قوله :
    هل تزدهي كعبة الحجاج إذا فقدت حسا بكثرة زوار وسدان
    فالحج في نظر المعري هو تقليد لا يقف أمام العقل :
    وما حجى إلى أحجار بيت كؤوس الخمر تشرب في زراها
    إذا رجع الحكيم إلى حجاه تهاون بالمذاهب وازدراها

    ويردد آراء بعض الناس أن طقوس الحج طقوس وثنية :

    ما الركن في قول ناس لست أذكرهم إلا بقية أوثان وأنصاب
    وكذلك قوله :
    أرى عالما يرجون عفو مليكهم بتقبيل ركن واتخاذ صليب
    ونستطيع أن نقول إن هذا الرأي يبدو متطابقا مع رأى ابن الراوندي تجاه الحج حيث يقول ابن الراوندى : " فما الفرق بين الصفا والمروة إلا كالفرق بين أبى قبيس وحرى (جبلان بمكة ) ، وما الطواف على البيت إلا كالطواف على غيره من البيوت"14 ويتفق مع رأى الكندي الذي يقول " هذا فعل الشمسية والبراهمة الذي يسمونه النسك لأصنامهم بالهند ، فإنهم يفعلون في بلدهم هذا الفعل بعينه الذي يفعله المسلمون اليوم من الحلق والتعري الذي يسمونه الاحترام والطواف"15

    1-4

    موقف معاصريه ولاحقيه منه :
    يتبقى لدينا سؤال : كيف نفسر تأرجح المعري في آرائه بين الإيمان والكفر .. ؟
    هل ذلك راجع إلى أعدائه الذين كما يزعم المعري يدسون أبياتا ينسبونها إليه؟ فقد ذكر في سقط الزند "أنا شيخ مكذوبٌ عليه"16
    أو أن ذلك يعود إلى موجة الإلحاد التي راجت قبيل عصر المعري وفى أثناء عصره فقد اتهم صالح بن عبدالقدوس وابن المقفع وبشار بن برد وحماد عجرد وأبوعيسى الوراق وابن الراوندى وأبوحيان التوحيدي (ت 400 = 1009 م ) بأنهم ملحدون .
    إننا لا نستطيع أن ننفي أثر العصر على المعري وعلى تكوينه الثقافي لكننا في الوقت نفسه لا نرى المعري المقلد بل هو المجدد كما أنه لا يتبع طرق من سبقه لكنه يشق بمفرده الطريق الوعر . فقد خالف المعري ابن الراوندى في موقفه تجاه إعجاز القرآن الكريم إذ يقول " وأجمع ملحد ومهتد ، وناكب عن المحجة ومقتد أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز"17 وفى الوقت ذاته فإننا لا نستطيع أن نقبل أن كل الأبيات والجمل النثرية التي تتعارض مع الأديان قد وُضعت على لسانه لأن ذلك الجدل حول كتاباته بدأ في حياته مما جعله يؤلف كتبا في تفسير ما اتهم به في كتبه السابقة وعندما نقرأ الرسائل التي بودلت بين المعري وبين داعي الدعاة الإسماعيلي (المؤيد في الدين هبة الله بن عمران الشيرازي الإسماعيلي داعي الدعاة في عصر الخليفة المستنصر بالله الفاطمي ) نجد أن ابن أبي عمران الشيرازي يقول في إحدى رسائله للمعرى : " ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه (أي المعري ) مختلفين"18 ويحكى الخطيب البغدادي (392 - 463 ) وهو معاصر للمعرى " أن المعري عارض سورا من القرآن ، وحكي عنه حكايات مختلفة في اعتقاده ، حتى رماه بعض الناس بالإلحاد"19 ويذكر ذلك الباخرزى (أبوالحسن على بن الحسن بن على بن أبى الطيب الباخرزى ) وهو معاصر للمعرى أيضا :
    " إنما تحدثت الألسن بإساءته للكتاب الذي زعموا أنه عارض به القرآن"20
    وصاح معاصره أبوجعفر محمد بن اسحق بن على البحاثى الزوزنى (ت 463) :
    كلب عوى بمعرة النعمان لما خلا عن ربعة الإيمان
    واختلف الأمر لدى النقاد والفقهاء الذين أتوا من بعده فبعضهم رأى أنه كافر وملحد وزنديق بينما رأى بعضهم أنه مؤمن بل وليٌّ من الأولياء فالسمعاني (506-562 هـ) ينقل في كتابه الأنساب رأى البغدادي ويقرر ابن الجوزي (أبوالفرج عبدالرحمن 510-597) في كتابه المنتظم في ترجمته للمعرى أن أحواله تدل على اختلاف عقيدته ، وقد حكى لنا عن أبى زكريا أنه قال : قال لي المعري : ما الذي تعتقد - فقلت في نفسي : اليوم أعرف اعتقاده - فقلت : ما أنا إلا شاك ! فقال : هكذا شيخك " ويضيف " وقد رماه جماعة من العلماء بالزندقة والإلحاد وذلك أمر ظاهر في كلامه وأشعاره وأنه يردّ على الرسل ، ويعيب الشرائع ، ويجحد البعث"21
    وقد وقف القفطي ( أبوالحسن على بن يوسف القفطي 568-646) موقفا وسطا بين الفئتين فقد نقل آراء الفريقين إلا أنه قد أورد لنا رواية نتوقف حيالها قليلا فقد ذكر أن المعري قد رحل إلى طرابلس الشام " فاجتاز باللاذقية ، ونزل دير الفاروس ، وكان به راهب يشدو شيئا من علوم الأوائل ، فسمع منه أبوالعلاء كلا ما من أوائل أقوال الفلاسفة ، حصل له به شكوك لم يكن عنده ما يدفعها به فعلق بخاطره ما حصل به بعض الانحلال .... ثم ارعوى ورجع واستغفر واعتذر"22 ولا يعقل أن يكون الراهب قد أثر على المعري في يوم أو ليلة ولذا أترك هذه الرواية إلا أنني أتوقف حيال أنه قد استغفر ربه عما قاله في شبابه وأنه قد غيّر آراءه الشكية قبيل وفاته.

    يرى القفطى أنه قد رأى المعري في المنام فقال له : ما الذي يحملك على الوقيعة في ديني ؟ وما يدريك لعل الله غفر لي " فخجلت من قوله …. فابتسمت متعجبا للرؤيا ، واستغفرت الله لي وله ، ولم أعد إلى الكلام في حقه إلا بخير"23

    ويصيح ياقوت الحموي 574-626 : كأن المعري حمار لا يفقه شيئا"24

    ويرى ابن الأثير( 555- 630 )"أن أكثر الناس يرمونه بالزندقة وفى شعره ما يدل على ذلك"25 ويذكر سبط ابن الجوزي (581-654 )في كتابه مرآة الزمان رواية على لسان المنازي الشاعر قال : "اجتمعت بأبى العلاء بمعرة النعمان فقلت له : ما هذا الذي يحكى عنك ؟ فقال : حسدني قوم ، فكذبوا عليَّ ؛ قلت علامَ حسدوك وقد تركتَ لهم الدنيا والآخرة ؟ قال : والآخرة ؟ قلت : إي والله"26 ويسوق الغزالي في كتابه "سر العالمين وكشف ما في الدارين" كرامة من كرامات المعري ليدلل على تقواه وإيمانه.27

    ويرى أبوالفداء( 672-732 )في كتابه "المختصر في أخبار البشر" أن أبا العلاء المعري " كان يُظهر الكفر"28 وإلى هذا ذهب الذهبي (673-748) في تاريخ الإسلام ويرى ابن الوردى أنه تقي .

    ولعل فيما أوردته من أمثله ما يدل على اختلاف الناس معاصرين ولاحقين في أمره ، وهذا التأرجح إنما هو ناتج من تأرجح المعري ذاته ومن الشك لديه الذي يجعل الناس في شك من أمره فقد يناصره بعضهم بينما يعاديه البعض الآخر " ويعمل - كما يذكر الصفدي - تلامذته وغيرهم على لسانه الأشعار ، يضمونها أقاويل الملاحدة ، قصدا لهلاكه"29

    لكن الثابت أن جدلا كبيرا دار حول كتابه " الفصول والغايات " وهل هو معارضة للقرآن الكريم أو كتاب مستقل ، وهذا الجدل بدأ أيضا في حياة المعري إذ زاره الرحالة الفارسي ناصري خسرو ودوّن في كتابه " سفر نامه " أن المعري " وضع كتابا اسماه " الفصول والغايات " ذكر به كلمات مرموز وأمثال في لفظ فصيح عجيب ، بحيث لا يقف الناس إلا على قليل منه ، ويفهمه من يقرؤه عليه . وقد اتهموه بقولهم "إنك وضعت هذا الكتاب معارضة للقرآن ؛ ويجلس حوله أكثر من مائتي رجل …. وسمعت أن له أكثر من مائة ألف بيت شعر"30 أي أن الغموض الذي كان يكتنف كتابات المعري وأسلوبه الصعب ساعد على عدم فهم مؤلفاته ، فقد كان واسع المعرفة ولم يتوقف المعري في نقده تجاه الأديان فقط بل نقد المجتمع والسلطة وتمنى إذا ما مات أن يحرق جسده وإذا قُبر فقد أوصى أن يكتب على قبره

    هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد

    لقد توقف النقاد القدامى والمحدثون أمام إيمان المعري أو كفره إلا أنني اختلف مع الفريقين إذ كان أحرى بهم أن ينظروا إلى المعري الذي يمثل العقلية العربية المستنيرة التي تحاول أن تشك في كل الحقائق لكي تستنتج حقيقة واحدة وهى البحث عن الحقيقة .




    --------------------------------------------------------------------------------


    أبو العلاء المعري : اللزوميات ج2 ص 439
    أبو العلاء المعري: رسالة الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ ص 544 تحقيق محمود
    حسن زناني ط. الهيئة المصرية للكتاب ، القاهرة 1977 م
    أبو العلاء المعري :رسالة الغفران ص395 تحقيق الدكتورة عائشة عبدالرحمن ،ط.دار المعارف
    القاهرة، 1995
    المعري :الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ ص 273
    محمد أبو الفضل بدران : (دكتور) قضايا النقد والبلاغة في تراث أبى العلاء المعري ، مطبعة
    السمان ، مصر ، 1992 .
    محمد سليم الجندي : الجامع في أخبار أبى العلاء و آثاره ، تحقيق عبدا لهادى هاشم ، ط.
    المجمع العلمي العربي ، دمشق ، 1384 هـ = 1964 م
    إبراهيم السامرائى : مع المعري اللغوي ، ط. مؤسسة الرسالة ، بيروت 1984 م .
    محمد أبو الفضل بدران : قضايا النقد والبلاغة في تراث أبى العلاء المعري ص 135-137
    عبدالمعين الملوحي : دفاع عن أبى العلاء المعري ط . دار الكنوز الأدبية ، بيروت ، 1994
    عبدالرحمن بدوي : من تاريخ الإلحاد في الإسلام ص 121
    السابق ص139
    القفطى : إنباه الرواه (تعريف القدماء ص 56-57 )
    ابن حجر :لسان الميزان (تعريف ص 314 )
    " عبدالرحمن بدوى : من تاريخ الإلحاد ص 120 .
    " السابق ص 154 .
    تعريف ص 212
    المعري : رسالة الغفران ص 471
    ( تعريف القدماء ص 134 )
    البغدادي:تاريخ مدينة السلام (تاريخ بغداد) ص 240 - 241 ) تعريف ص 7
    الباخرزى ( أبوالحسن على بن الحسن بن على بن أبى الطيب الباخرزى ) دمية القصر ص
    50-52 تعريف ص 8 .
    " ( تعريف ص 20 )
    القفطى : انباه الرواه على أنباه النحاه تعريف ص 30-31 )
    تعريف ص 52
    تعريف ص 115 .
    ابن الأثير:الكامل : جـ 9 ص 2380 = تعريف جـ 142
    تعريف ص 151 .
    ( انظر تعريف ص 152-153 ) .
    تعريف ص 187 .
    تعريف ص 270 .
    التعريف ص 463
    إرجع إلى الصفحة الأولى للمجلة (المحتويات)
    ++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++ ++

    جميـل صدقي الزهــاوي فيلسوف العراق الكبير في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وشاعرهـا في بداية القرن العشرين وحتى وفاته عام 1936 .. تميز منهجه الفلسفي بالاستناد إلى علم الطبيعة والظواهر وخاصة نسبية انشتاين ومنهجه الإجتماعي بالتحرر واحترام المرأة وتقدير دورها في بناء الوطن وشعره بالواقعية ورقة المشاعر ونبل الآراء وجرأة القول والتحريض على التحرر من قيود الدين والتقاليد والمفاهيم المتخلفة وعلى تبني الفكر الإشتراكي ..

    كان الزهاوي محبوبــاً كشاعر ومعلم وفيلسوف وإنسان في الأوساط الشعبية والأدبية والسياسية النهضوية في بلاد الشام ومصر والبلدان العربية الأخرى فضلاً عن مكانته الكبيرة لدى الشعب الكردي، فهو ابن لأبوين كرديين من بغــداد. وقد كتب فيه طه حسين:

    " لم يكن الزهــاوي شاعر العربية فحسب ولا شاعر العراق بل شاعر مصر وغيرها من الأقطار .. لقد كان شاعر العقل .. وكان معري هذا العصر .. ولكنه المعري الذي اتصل بأوروبا وتسلح بالعلم .."

    الفكر المادي واتساع الأفق والإيمان بقوى الطبيعة والتسلح بالعلم عند الزهــاوي سببها استيعابه لمفهوم اللانهاية في الكون، لقد قــــال:

    لا تقبــل الأجــــرام عــدا كلا ولا الأبعــــــاد حـــدا

    إن المجــــــرة لـم تــــكن إلا عــــوالم فقـن عــــــدا

    والسحب فيهـــا أنجـــــــم هـن الشموس بَعـُدن جـدا

    والأرض بنت الشمــــس تلـــــزم أمهــا جريــاً وتحـْـدى

    وتــدور في أطرافهــــــــا مشــدودة بالجذب شــــدا

    ويــدور محورها تـوجــــه نحــو نـــور الشمــس خـــدا

    ويؤكــــد:

    تحوي السماء نجومــــاً ذات أنظمة من الشمــوس كثاراً ليس تنحصـــر

    نخــالها ثــــابتـات وهي مســـرعـة كأنهــا الخيـل في البيــداء تحتضـــر

    أما نتيجة هذا المستوى الرفيع من فهم المادة والكون فقد انعكس تماماً على مواقفه من المجتمع والعادات والحياة العامة. كان الزهــاوي نصيراً عنيداً للمرأة وكتب في حريتها ومساواتها بالرجل الكثير من النثر والشعر. إحدى مقالاته في الدفاع عن المرأة نشرت في عام 1910 سببت له المتاعب وانتهت بتسريحه من وظيفته في إحدى مدارس بغداد وشن حملات كبيرة من قبل الكتاب المتشددين الذين وصفوه بالمارق .. قصـائده في تحـرر المرأة كـانت أشد وقعـاً على الرجعيين والمتخلفين ..

    في مقالته المذكورة أعـلاه عبر الزهاوي عن اعترافه الكامل بدور المرأة الهام والكبير في الحياة الأسرية والمجتمع وبناء الوطن وأشار إلى مساوئ المفاهيم السائدة التي تحط من قدرها وتظهرها كمتاع يمتلكه الرجل ويفعل به ما يشاء ويحق له التخلي عنه أو استبداله متى رغب في ذلك، تلك المفاهيم التي لا تعترف للمرأة بمقوماتها كإنسان وبالتالي بحقوقها البشرية .. واستشهد بأمثلة من نمط الحياة الأوروبية التي تتمتع المرأة في ظلها بحريتها مما يجعلها عنصراً فعالاً مساهماً في بناء المجتمع والحضارة ويوفر لها الكرامة الإنسانية واحترام كامل حقوقهــا .. في حين يرى بأن الدين الإسلامي أجـاز قسوة الرجل على المرأة وسمح له باعتبارها سقط متاع فلا رادع عنده من أن يكيل لها اللعنات والشتائم واللكمات ويعيدها إلى بيت أهلها مطلقة محرومة من الحياة الهادئة المستقرة .. وتساءل الزهاوي عن العدالة المزعومة في حق الرجل بتعـداد الزيجـات وفق معيار كمـي وبإعلان الطلاق متـى شـاء وحرمان المرأة من هذا الحق ..

    وأشار الشاعر والفيلسوف الكبير إلى الظلم المتعدد النواحي الذي تتعرض له المرأة إضافة إلى الزواج والطلاق .. فحق الميراث وقيمة الشهادة وشروط المظهر خارج المنزل وأسهـامها في الشأن العـام تثبت امتهاناً كبيراً للمرأة تبدو معه عبـدة لا وزن لها ولا حقوق .. أما في السماء فليس الأمر بأحسن .. فللمرأة المؤمنة في رحاب الجنة زوجها في أحسن الحـالات بينما لـه من حور العين سبــــعون إلى سبعيــن ألف ما يكرس اعتبار المرأة ملكاً ومتعة لا أكثر يكافأ الرجل بها، متـى حق له ذلك، وبالمعيار الكمـي أيضــاً ..

    عن حجاب المرأة وتسترها أمام الرجال تحدث الزهاوي مبيناً أن في الأمر امتهاناً فظيعاً لها وتكريس لثقافة الخوف والضعف والخيانة وانعدام الثقة بين بني البشر ومحدداً سلبيات الحجاب على كافة الأصعدة وإيجابيات السفور التربوية والإجتماعية وانعكاسه على قدرة المرأة على التفاعل مع الرجل في تطوير المجتمع وبناء الحضارة ..

    كان الحجــاب يسومها خســـــــفأ ويرهقهـــا عـذابــــــــــــــــا

    إن الأ ُلى قد أذنبــــــــــوا هـم صيـروه لها عقـــــــــابـا

    وسيطلب التــــــــاريخ من نــاس لهـــا ظلمـــــــوا الحســـابــا

    ويضيـف في قصيـدة أخرى:

    مزقي يا ابنة العراق الحجابا واسفـري فالحيـاة تبغـي انقلابا

    مـزقيـــه واحرقـيه بلا ريــث فقــد كــــان حـارسـاً كـــــذابـا

    لقـد أثار الزهـاوي واقع وصور اضطهاد الرجل للمرأة في المجتمع العراقي وسلوكية العنف والإرهاب التي تمارس بحقها والاستهتار بإنسانيتها وتعامله غير اللائق مع العذوبة والرقة الأنثوية:

    ما أتعـس الحسنـــــــــاء يمـلك أمرهــا الــزوج العنيـــف

    وهو إذ يرى في الشرق استهانة بقدر المرأة وتهميشاً لها خارج حياة العمل والعطاء والإبداع ومشاركة الرجل في تطوير المجتمع وبناء الوطن فإنه يقارن الحال بما هو عليه في الغرب حيث للمرأة احترامهـا ومكانتهـا وفرصها المتكافئة مع فرص الرجل وبالتالي تمتع المجتمعات الأوروبية بإسهام الجنسين بالعمل والبنــاء وإضفاء مظاهر الطبيعيـة والتحضر والرفاهية على الحياة الإجتماعية:

    في الغرب حيث كلا الجنسين يشتغل لا يفـْضل المرأة َ المقدامةَ َ الرجــلُ

    كلا القرينيــن معتـز بصـــــــــــاحبه عليه إن نـال منـه العجزُ يتــــــــكل

    وكـل جنس لــه نقصٌ بمفـــــــــــرده أما الحيــاة فبــــالجنسيــن تكتمـــــل

    أما العـراق ففيـه الأمــــــر مختلـــف فقــد ألـم بنصف الأمـــة الشلــــــــل

    ويقارن بحسرة تطور الغرب وسعي أبنائه إلى التقدم في حين يغط شرقنا بالسبـــــات العميق:

    الشرق ما زال يحبو وهو مغتمض والغرب يركض وثبــاً وهو يقظـان

    والغـرب أبنـاؤه بالعلـم قد سعـــدوا والشرق أهلـوه في جهـل كما كانوا

    ويرى أن السبب الرئيس في نقص حياتنا واكتمـال الحياة في الغرب هو موقع المرأة في المجتمـع:

    وكـل جنس لــه نقص بمفـــــــــرده أما الحيـاة فبــــالجنسيــن تكتمــــل

    ذلك الموقع الذي يجعل الناس مشغولين بالعمل والإبـداع والإنتـاج الوفيـر بينما نحن مشغولون بالترهات وبتبادل الإتهام في قضايا الديــــن:

    الغـرب يشغلـه مــــــال ومتربــة والشــرق يشغلـه كفـــرٌ وإيمـــان

    ولذلك نحن ضعفـــاء وقريبــون من الهوان:

    الغـرب عـزٌ بنــوه أينمــا نزلــوا والشــرق إلا قليــلاً أهلـُه هـانــوا

    ولكنه لم يفقد الأمل بنهضة العرب إن هم استيـــــــــــقظوا:

    سترقى بلاد الشرق بعـد انحطـاطها لو ان بنيــها استيـقظوا وتعلمـوا

    يـزول تمـاماً ما بها من تـــــــــأخر لو ان حكـومات البــــلاد تـُنظــم

    وفي معرض آخــر يعيد تأخر العرب إلـى التعصـب والتمسـك بمفاهيم الماضي المتخلفة وبمواقف الرجال الأنانيـة من المرأة بالتحديــد، تركت آثارها السيئـة على كل شيء:

    هو التعصب قـد واللــه أخـركــم عن الشعوب التي تسعى فتقـتــرب

    وفي الزواج غير المتكافيء من حيث السن ولا القائم على أساس من المودة والحب والإحترام والإعتراف للمرأة بإنسانيتهــا يصور الحياة الجحيمية وما تمتليء به من مآس:

    كـم قـد تــزوج ذو الستين يــافعـة والشيب في رأسه كــالنـار يشتعـل

    يقـضي لبانتـَـه منهـــــا إلى أجــل وقــد يكـون قصيــراً ذلك الأجــــل

    ولا يبــالي بحـبل الــــــود بعـد ئذ أكان متصـــلاً أم ليـس يتصـــــــل

    تزوجتْ وهي لا تـدري لشقوتهــا أزوجـُهــا أحـد الغيــلان أم رجــل

    يسبهــا لا لذنب ثـــــــم يركلــــها بالرجل مـنـه مهيــناً وهي تحتمــل

    وبعـد ذلك يعــــــدو كالنعــام إلـى أصحابـه وهو ممــا جـاءه جــزل

    ولــم تكـن أربـعٌ يشبــعن نهمتــه والذئب يشبعــه مــن جوعـه حمــل

    وهو يجـد في مستندات المجتمـع المتخلف سبـباً صريحـاً لاستمرار مظاهر قهر النساء واضطهادهن وحرمانهن من الحرية والمساواة:

    وددت من كل قلبي غير مختشــع لـو عـاد يـومـاً علـى أعقـابه الأزل

    فأســأل اللــه تقديــــــراً يغيـر مــا قضــــاه قبــلاً فـلا ظلـمٌ ولا دخـــل

    وأحد أكثر مظاهر قهر المرأة يتجلى في سهـولة الطلاق عند الرجـل، والعصمة في يـده، يلوح به حينمـا يشــاء وتحت أية حجـة أو حالة دون رادع أو تحسب لمـا يتركه هذا العمل الأنـاني من إهانة للمرأة وتحطيم للأسرة وبؤس وحرمـان:

    وقـد يطلقــها فـي حانة ثملاً وليـس تدري لماذا طلـق الثمـــل

    الظلم الواقـع على المرأة كمـا يراه الزهــاوي يبدأ في البيت وهي طفلة عنـد أهلهــا الذين أرضعوها الخوف والدونية مع حليب الطفولة وهيؤوهـا للزواج المبكر القسري في حالة تشبه بيع النعـاج بعيـداً عن أية قيمة إنسانية وفي بيئـة متخلفة ظالمة تتكرس فيهــا كل أشكـال العبودية والقهر:

    لقـــد روعـوها ثم نـامت عيــونـهـــمُ وليـس ســواء نـــــائم ومـــــروع

    وقـــد زوجــوهـا وهي غير مريـــدة بشيــخ كبيـــر جاء بالمـال يطمـع

    وفـي الــدار أزواج لـه غيــر هــــذه ثــلاث فـود الشيـــخ لو هـن أربع

    تضـاجعــه في البيت وهــو كـأنـــــه أبوها فـقـل في أمرها كيف تصنع

    هنــاك ستشــقى أو تمــوت كئيبـــــة على أن موت المـرء في الهم أنفع

    هناك سيبدو اليأس والبؤس والأسى لهـــــــا وتـلقــاها المصـائب أجمـع

    وفـي قصيـدة أخرى ينتهي الأمر بمأســاة حقيقيــة :

    جلـوهـا عروسـاً بعد سبع فزمـروا وفي مرح الأفـراح خبوا وأوضعـوا

    جلوهـا عروسـاً ما بها من غميـزة سوى صفرة فــوق الأسيليــن تلمـع

    وزفت إلى الشيخ الذي لشقـــــــائها أتـــى طــالباً كيمـا بهــــــا يتمتــــع

    فقــالت له لا تـدنُ يـاشيـخ راغبـــاً فأنت أبــي بل أنت فـي الســن أرفع

    فإن كان منك الشيب ليس بـــرادع لجهــلك يـا هـــــــــــــذا فإنـي أردع

    ولكــن ما بالشيـخ من شهـوة غلت أبى أن يعاف الشيـخ ما هو مـزمع

    فقطـب منه الوجــه ينفـخ غــاضبـاً ومـــد يديـه جــاذبـاً وهـــي تـدفـــع

    يقــول لهــا (أسماء) أنت حليلتـــي ولا بــد مــن أن الحليــــلة تخضــع

    أحلــك لــي رب السمـــاوات إنـــه حكيـــم وإن الحق ما هـــو يشــرع

    فلمــا رأت أن لا مناص يصـونهـا من الشيخ لما أوشك الشيخ يصرع

    أحالــــت على كأس هنــــاك معـدة من الســم واهتشــت لهــا تتجــرع

    ومـاتت (أسمــاء) وبكــتهـا أمهــا وبكى أبــوها نـادماً .. وهيهــات أن ينفع الندم بعدمـا حلت الفاجعة وتحـولت الفتــاة إلى جثة هـامدة لم يبق لهــا سوى ما يغطي جسدهـا من أزهار الربيــع:

    فلما بدا صبــح وشاعت فجيعــة وصـاح بها الناس والناس أسرعوا

    أتت أمها تجثو إلى الجنب رأسها وتلطم حر الوجه والوجــه أسفـــع

    وعـض أبــوهـا للنـدامة كفـــــــه ومــا أن لــه هذي النــدامة تنفــــع

    وهو إذ ذاك لا ينسى أن يخبرنــا بأن أسمــاء فتـاة ذات قلب ومشــاعر وقـد كان في قلبهــا خفقــات حب لشــاب هــام بهـا ولكنــه حرم من أبسط حق له في الحيــاة وهو أن يحظى بحبيبتـه فيعيشان حيــاة سعيدة متكــافئة:

    أكب (نعيم) باكيــاً فــوق قبرهــا وقـــال فأبكى كل من كـان يسمـــع

    وعــادوا به ذا رجفــة يسنــدونه بهم ليس فيـــــه للسلامـــة مـوضـع

    فعاش سقيـم الجسـم خمسة أشهر ومـات.. كذاك الحب بالناس يصنع

    فـواروه في قبر يجــاور قبرهــا على ربـــوة .. إنـا إلى الله نرجـــع

    هكذا صور الزهــاوي المجتمــع العراقي المتخلف تكبله قيـود المفاهيـم الرجعية والموقف اللاإنساني من المرأة ومن التحرر الإجتمــاعي .. وهو إذ يضع الإصبـع على الجراح في مرحلة مبـكرة نسبيــاً فإنه يرى أن الخلاص من هذا الواقع السيء ممكن والنهوض بالوطن والمجتمع ممكن بشرط التخلص من أسباب ومسوغات الظلم والتمييز المفروض على المرأة الإذعان لهمـا والخضوع للرجل على أساس هذه المسوغات ..

    إنـه، لقناعة راسخة عنده مبنية على أسس ومعايير إنسانية أثبتت الحضارة صحتهـا وجدواهـا، فخـور بدفـاعه عن المرأة وبربطـه تحرر الوطن وتقدمه بتحرر المرأة .. وقـد عرف الزهـاوي بين شعراء وفلاسفة وسياسيي العراق ومصر وبـلاد الشام بموقفه المتميز والصريـح تجـاه مسائل المرأة والدفاع عن حقوقهـا وقد قيل عنه الكثير .. فهذا الدكتور عبد الرحمن الشهبندر يقـول في تأبينه:

    " إذا أردنـا أن نكبر الزهــاوي ونخلد ذكـراه فعلينـا أن ننشئ باسمه في مسقط رأسه مدرسة للإنـاث يعلمن فيهـا من فنـون الأدب والعلم ..."

    دفاع الزهـاوي عن المرأة جلب له المتاعب وقد هجـاه لذلك كثيرون فيما لم ترقْ لأصدقـائه حملات الحاقدين .. فولي الدين يكن قال راداً هجوم المتشددين على الزهـاوي لشعره في تحرر المرأة:

    ألا قد بغت هذي العمــائم بغيهـــــــا فدارت علـى القـــوم الكـرام دوائـره

    بـأي كتــــاب أم بـأية سنــــــــــــــة يجـازى على قول الصـواب معـاشره

    بـأي كتــــاب أم بـأية سنــــــــــــــة يريــدون طـي الحــــق إن قام نـاشره

    سـلام على الدنيا سلام على الورى ســــلام علـى العهـد الذي قـل شـاكره

    ولكنه نـال بالمقـابل الكثير من المديح من قبل شعراء شاطروه الآراء التقدمية مثل معـروف الرصـافي:

    ومـا الآداب فـي بغــــــداد لـــولا يـــراعَ جميلـهــا إلا دعـــــــاوي

    إذا مـا قــــال فـي بغـــداد شعـراً رواه لــه بأقصـى الأرض راوي

    أعيــذك يا جميل الشعــر من أن يســوءك نقـد أربـاب المســــاوي

    وليسوا محوجيـــك إلـى معيــــن وهـم مـا بيــن مهزول وضـــاوي

    فنفـخ منـــك يجعلهــــم هبـــــــاء ويسقطهـــم إلى سفـــل المهـــاوي

    ومــــا احتــاج القـوي إلى معين إذا كــان الضعيــف هـو المقــاوي

    وبـــدوي الجبـــل، يحييه في دمشق ضيفـاً عزيـزاً ويحيي العراق فيه ويؤكـد تأييده للزهـاوي في فكـره الكفاحي:

    يــاشـاعر التــاج المضيء علـى جبيـن أغـــر فـاتح

    وفتـى القريحــة أعطيت عرش الإمـارة في القـرائح

    طيــب العـراق وإنـه للمسـك مـن برديـــك فـــــــائح

    أهــوى العــراق وإن تكن طاحت بسؤدده الطــوائح

    حــدث فقـد طــاب الحـديث ونام عن نجــواه كـاشح

    واذكــر لنـا عبر الحيــاة فأنـت مـأمــــون النصــائح

    هـذي الحيــاة لمـن كالليث مرهــــوب الجوانـــــــــح

    والعيـش معنــــاه الكفـــــاح وهــالك مـن لا يكــــافح

    لقد أحب شعراء الشرق جميل صدقي الزهـاوي ولم يفوتوا فرصة لإظهـار إعجـابهم به فكراً وشعراً وفلسفة وشخصية أيضــاً وهـو لذلك متفائـل رغـم مـا أحاط به من متاعب طالمــا الأمــل بـاق في النفـوس:

    تبقى الحيـاة على الأرزاء طيبة مـادامت النفــس بالآمال تتصل

    ومن لم تأته فرصة مديح الزهـاوي ومكانته الكبيرة في حياته أبنـه ورثــاه كمـا يستحق .. من بشارة الخـوري إلى علي الجـارم والجواهري وغيرهم ..

    محمد مهدي الجواهري قـال قصيدة رائعة في رثــاء الزهـاوي مطلعهـا:

    على رغم أنف الدهر ذكراك خالد ترن بسمع الدهر منك القصائد

    ومؤكـداً المكـانة الفكرية والعلمية الكبيرة للزهـاوي والتي كان يتمنى أن يستفيد الوطن والمجتمع منها أكثر قفل قصيدته قائلاً:

    أضاعوك حيـــاً وابتغــوك جنازة وهذا الذي تأبــاه صيد أمـــاجد

    ربـط الزهــاوي رؤيتـه للطبيعة والحيــاة والمجتمـع بصدق أحـاسيسه وبالتصـاقه الشـاعري بالطبيعة النقية السـاحرة والقويــة والكريمـة .. وهو لذلك يحب الغزل ويعشق الفن والغنـاء على الأخص .. أحب أم كلثــوم وعبد الوهـاب وغيرهمــا .. وقــال في أم كلثوم لدى زيارتهــا بغـداد سنة 1932:

    الفــن روض أنيـق غير مســـــؤوم وأنـت بلبـلــــه يـــــا أم كلثــــوم

    لأنت أقــدر من غنـــى بقـافيــــــــة لحنـــاً يرجعــه من بعـد ترنيـــم

    إني أخـــاف افتنانـاً فيه مفتضحـــي فــإنمـا أنـا شيــخ غير معصـوم

    سلــي بــي القوم قبل اللــوم باحـثـة وبعــــد ذلك يــا لوامتــي لـومي

    لا تفزع الكاعب الحسناء من كلمي فإن نصل سهــامي غير مسموم

    ويضيف ابن الخمسة والستين عـامـاً دون حـرج:

    يــا أم كلثــوم غنـي فالهوى نغــــــم تلــذه الشيب والشبــان كلــــــــــهمُ

    مـن أجل صـوت رخيـم منك يسمعه يـا أم كلثـوم جــاء الجمع يـزدحـم

    قد هــزه صـوتك المــوار يطربـــــه فهاج كالبحـر ذي الأمواج يرتطـم

    أشعار الزهــاوي في العلم والفلسفة والمجتمع وقصائده في فضح الاحتلال العثمـاني والمرتبطين به سياسة وثقافة لم تمنعه من قـول الغزل والتفنن في وصف الطبيعة والتعايش الرومانسي مع القيم الجمـالية ..

    وأعاد الشحـرور ألحــان وجــــد طــائراً مـن نهـد هنــاك لنهـــــــــد

    بيـن نبت يضــور عرفــــاً وورد مـن خزامـى ويـاسمين ورنـــــــــد

    وشقيــــق ونرجـــس وعـــــــرار

    قرب جــورية يفـــــــوح شـذاهــا ذات لـــون مـن السمـــاء أتاهـــــا

    في شعاع من الشمس طبق هواها قبلـت فــاه وهـو قبــــل فـاهــــــــا

    لتــــلاق مـن بـعـد شحـط المـزار

    إن حســن الربيـــع للعين فـاتـــن كـم بـه من زهـر كثيـر المحــاسن

    غـير أن الزمـــان يـا قوم خــائن فـلأزهـــاره جمـــال ولكــــــــــن

    هي آه قصيــــــــــرة الأعمـــــار

    لقـد كانت للزهـاوي صداقات وعلاقات مودة انطـلاقـاً من أرضية التفاهم الفكري مع العديد من أبرز الشخصيات الأدبية والفكرية والنضـالية في مختلف بلدان العـالم .. لقد قـال في طاغور، شاعر الهند الكبير وشاعر الحب والسلام وكان له صديقاً .. وقـال في جبران خليل جبران وأحمد شوقـي وفي أم كلثــوم وعبد الوهـاب وغيرهـم .. كمـا كتب لعظمـاء راحلين، كمـا هي الحـال في المتنبي وتولستوي وفي المعري أيضاً حيث قال مؤكداً التأثر الكبير به:

    إني تتلمـذت فـي بيتي عليك وإن أبلت عظـامك أدهـار وأزمــان
    http://www.kefaya.org/enough/040427mofeedmassouh3.htm


    وفيما يلي مجموعة منتقاة من ديوان الزهاوي من جمعي وتنسيقي
    تبين الشك واليقين لدى الفيلسوف الشاعر جميل الزهاوي

    تبوأ عرشاً في السموات ديان فناصبه فيها العداوات شيطان
    ووسوس للأقوام أن يكفروا به فكان له منهم هنالك إذعان
    فذاع على استحواذه الكفر في الورى وقل برب الناس للناس إيمان
    وجوهر بالإلحاد في كل بقعة وأعلن في الاصقاع لِلّه عصيان
    وقد بسط الشيطان في الأرض حكمه ولم يبق للديان حول وسلطان
    ألم فعم الكفر في عصرنا الورى ولم يبق بالديان يؤمن إنسان
    فما بقيت تنهاه نار جهنم ولا لبثت تغريه حور وغلمان
    فغاظ الذي قد جاء إبليس ربنا بأعلى عرشه وهو حردان
    فما زال ينمو الشر في كل جانب ويزداد بين الناس ظلم وعدوان
    مضى أن يعيش المرء في ظل دينه فيغضبه حق ويرضيه بطلان
    ونحن بعصر ليس يعتقد الورى بآلهة إلا إذا قام برهان
    وما المرء إلا كالنبات فبينما ترى عوده غضاً إذا هو صوحان
    وما فتئت تأتي الطبيعة فعلها فتنشأ أكوان وتخرب أكوان
    وما من حياة للفتى غير هذه فليس له يوماً إذا مات رجعان
    وأن نصيب الملحدين للذة وأن نصيب المؤمنين لحرمان


    ليست الشمس من الشر ق إلى الغرب تَسيرُ
    إِنَّما الأرض من الغر ب إلى الشرق تدورُ



    جاء ولم يدر السبب وهو كما جاء ذهب
    لعله أضطر فما عليه في ذاك عتب
    لا تعجبن من موته بل من حياته العجب
    جيء به إلى الوجود وهو قط ما طلب
    وقيدوه بالحلال والحرام والأدب
    ونازعوه ما قنا وقاسموه ما كسب
    وهبه الدهر قوى ثم استرد ما وهب
    حتى بدا الضعف به وارتجفت منه الركب
    وبات يشكو دهره مما استرد وسلب
    والدهر لا يسمعه وإن بكى وإن نحب
    يأسى ويطرب امرؤ عاش إذا كان السبب
    أما إذا مات الفتى فلا أسى ولا طرب
    إن الفتى مسير إذا نأى أو اقترب
    وأنه بعد الردى ليس يحس بالوصب
    وليس من جهنم لميت قد انشعب
    حتى يقول قائل تبت يدا ابي لهب
    هل أنت إلا واحد من القرود في النسب
    ألم تكن وانت في طور الجنين ذا ذنب
    مشابهاجنين حيو ان لو إسطاع وثب
    ألم يغط جسمك الشعر وبعده الزغب
    إني من إنكارك الأصل بقيت في عجب
    ما غالب الطبع امرؤ إلا وطبعه غلب
    انقلب الألى قد اغتروا فساء المنقلب
    قالوا هناك واجب فاعلمه تعل في الرتب
    أما أنا فلا أرى شيئاً على قد وجب
    غير اتباع سنة أورثها أم وأب
    لا يأمن الناس امرأ خاتلهم أو قد كذب
    ولا فتى قد قتل النفس البراء أو غصب
    ليس الحياة غير آلا م وسعى وتعب
    لا تدن من حياضها فإنما الماء نضب
    إذا الحياة أصبحت مريرة حلا العطب



    ما للشرائع أس مبين للصواب
    إلا رجاء ثواب أو خشية من عقاب
    قد صار شكي ظناً وصار ظني يقينا
    لولا الوعود بخلد لم يختر الناس دينا


    غايته من صومه جنة فيها له نخل وأعناب
    وغلمة كأنهم لؤلؤ وقاصرات الطرف أتراب


    تباين أهل الشرق والغرب في النهى و الدين أيا كان والعلم والكسب
    ففي الشرقي لا يحظى أخو العقل بالغنى وفي الغرب لا يرضى أخو العلم بالرب
    وبين الحجا والمال في الشرق خلفة كما يتنافى العلم والدين في الغرب

    إنما الكون أَثير واسع لا يَتَناهى
    مبدأ الأشياء منه وإليه منتهاها


    أتى العلم يسعى شاحذاً لسلاحه إلى الأرض بعد الدين فهو يحاربه
    وقد كان في الماضي له الدين غالباً ولكن في المستقبل العلم غالبه

    إن جسم المرء للرو ح الَّتي فيه يَقوتُ
    فإذا ما مات جسم ال مرء فالروح تموتُ



    قد كانت الأرض والسماء وكانت الشمس والضياء
    والأنجم الزاهرات ليلا يضم اشتاتها الفضاء
    وليس في الأرض من حياة يظهر في بذرها نماء
    حتى إذا ما الأرض استعدت وساعد الماء والهواء
    بدت عليها الحياة توا فكان منها لها رواء
    وليس في الأرض من حياة يظهر في بذرها نماء
    حتى إذا ما الأرض استعدت وساعد الماء والهواء
    بدت عليها الحياة توا فكان منها لها رواء
    ثم توالى الحيوان فيها واختلف الشكل والبناء
    محتدما بينها نزاع لأجل أن يحصل البقاء
    وامتاز من بينهما فريق سلاحه العقل والذكاء
    كذلك الحرب إن منها نتيجة الغالب ارتقاء
    فجاء منه الإنسان يعلو به على غيره الدهاء


    لا تخف بعد المنايا من عذاب وشقاء
    إن ما قالوه ترهيب لناس بسطاء

    لَيسَ ترقى الأبناء في أمة ما لَم تكن قد ترقَّتِ الأمهاتُ
    أَخر المسلمين عن أمم الار ض حجاب تشقى به المسلمات

    قالوا بأن حي له على عرشه ثبوت
    فقلت ما غير وهم أكبره الوصف والنعوت
    إن حيي العلم في أناس من ذاته هذه
    أوسعني المؤمنون سبا فكان بي يحسن السكوت
    لكنني قلتها لأني حسبتها فرصة تفوت

    لكَ في الحياةِ فلا تَخَف من أن تفارقها ثبوتُ
    ومن الطبيعةِ أنتَ جز ءٌ والطبيعةُ لا تموتُ


    تكره الفكر في حقيقة أمر خوف ما للشيطان من نزغات
    وتصلى لِلّه في اليوم خمساً ويك ماذا تريد بالصلوات

    لا يَفوق الإنسان في كونه الحي وانَ إلا في العقل والأخلاق
    أثبت العلم باكتشافاته لل ناس أن الإنسان قردٌ راقي


    بكل مقام وقفة لك تبهت فعقلك ينفي اللَه والقلب يثبت
    وما كل مرء للحقيقة قائل ولا كل مرء للحقيقة ينصت

    نحن عن تلك الغرا نيق عميٌ في دجى
    أترى أن الشفا عات منها ترتجى

    من رام يثبت صدق الدين بالحجج جنى على العلم والأسماع والمهج
    هي الحقيقة فاسمعها علانية من شاعر عربي غير ذي عوج


    متع حياتك وارضع دنيا عليك تجود
    فأنت إن سرت عنها يوماً فلست تعود


    جهنم للذين ماتوا في كفرهم حرها شديد
    لكنما الخالدون فيها نوابغ كلهم رشيد
    لتلك خير لي من جنان أكثر أصحابها بليد
    وليس من قد أباد قوماً لهم على ما أرى يعيد

    اعتقدن ما تشاء النفس أن تعتقدا
    ولا تبال ما تسمى مؤمناً أم ملحدا

    يرجون بالدين أنهم إن ماتوا يعيشون من جديد
    كم من شهيد للدين فيهم وليس للعلم من شهيد

    ولا تحسبني قد تزندقت عامداً لأحرز مكثاً في جهنم خالدا
    ولكنني لم أقتنع بكلامهم فأصبحت من جراء ذلك جاحدا


    اجعل قصارك في أن تعيش عيشاً رغيدا

    وإن حظيت بنعمى فاطلب عليها مزيدا
    وحد عن الحرب واحذر من أن تكون شهيدا
    واربأ بنفسك من أن تهون أو تستفيدا
    ولا تدع أن يكيدو ك واجتنب أن تكيدا
    ولا تصاحب لئيماً أو أحمقاً أو حسوداً
    وعش معيشة حر قد فك عنه القيودا
    عش ما تمكنت في هذه الحياة سعيدا
    ولا تؤمل إذا ما برحتها أن تعودا
    لا تفرحن بوعد ولا تخافن وعيدا
    فكل ذلك منهم كذب يغر البليدا


    لقد جاء إبراهيم للناس مرسلا وموسى وعيسى ثم جاء محمد
    وقد كان قبل الأنبياء وبعدهم بكل مكان ذو يقين وملحد


    يعد اضطهاد المنكرين ديانة فإن جئت لوما قيل لي أنت ملحد
    لقد جاء إبراهيم للناس مرسلا وموسى وعيسى ثم جاء محمد
    وقد كان قبل الأنبياء وبعدهم بكل مكان مشرك وموحد
    وفي الناس من يقفوا اعتقاداً بخالق وفي الناس من ينفي ومن يتردد


    أحقر بعصر به الإنسان يعبد ما في وهمه وله يعنو وينقاد
    أن الذي عبد الأصنام أفضل من ذي غرة هو للأوهام عباد

    قد أقاموا على الجحيم صراطاً عرضه شعرة فكيف العبور
    ليس أشقى من ابن آدم حي فهو في كل حالة مضرور
    أن يعش يلق منكراً وإذا ما ت تلقاه منكر ونكير
    هذه الدنيا دار كل جزاء فهي للناس جنة وسعير
    ولقد يعقب الظهور خفاء ثم لا يعقب الخفاء ظهور

    إن كان ذات اللَه لا تتصور فبأي شيء يؤمن المتفكر
    كم من حكيم يبتغي إنكاره بصراحة لكنه لا يجسر


    قد قيل لي صلى خمسا تطع لربك أمرا
    فقلت لو شاء ربي صليت في اليوم عشرا
    الخمس من صلواتي عبء على ثقيل
    أما لإرضاء ربي غير الصلاة سبيل
    الخمس من صلواتي عبء علي ثقيل
    والصوم في رمضان شهراً عذاب طويل


    إن اعتقاد المسلمين من التعاسة بالقدر

    والقول بالآجال فهي إذا أتت بطل الحذر
    وحجابهم فتياتهم عند الخروج من النظر
    والجمع بين الدين والدنيا كما جاء الخبر
    وتعدد الأزواج من إلى الهوى لمن اقتدر
    وطلاقهن لغير ذنب كان قبلا قد صدر
    لمن الدواعي أن يكونوا دون أصناف البشر

    ليس على الكفار في أمرهم عتب بل الإنصاف أن يعذروا
    فإن من أوعز أن يؤمنوا هو الذي قدر أن يكفروا

    صلى الإله على إبليس فهو له تصرف مثلما لِلّه في الناس
    اللَه يلقى بإلهام مقاصده في كل قلب وإبليس بوسواس

    قَد علمتني اختباراتي الَّتي كثرت أَنَّ الحَقيقَة شيء غير ما فرضوا
    وَما الأثير سوى الأم الَّتي ولدت طيف الشهود وأخت الجوهر العرض

    لَيسَ للكون أولٌ لَيسَ للكون آخرُ
    خدعتنا عن البوا طن منه الظواهر


    النفس فيَّ الكهرباء بها أَعى فاذا رديت فإنها تردى معي
    لَيسَ الحَياة سوى جماد ثائر وإلى سواه ما لها من مرجع

    إن دين الخلف من تراث السلف
    وهو اليوم بحا جاتهم ليس يفي
    ليس يلقى جنة أو جحيماً من هلك
    إنما الوهم كما تبتغي صور لك


    إنها العادات لا يخلعها غير ذاكَ المارق المنطلق
    قد تَلقَّاها تراثاً سيئاً أحمقٌ عن أحمقٍ عن أحمق

    أتحسب أن الكون قد كان عاطلاً فلا أرضنا تسعى ولا الشمس تشرق
    وقد خلق العوالم بغتة وكان زمانا قبلها ليس يخلق
    لئن كان هذا في اعتقادك راسخاً فأنت لعمري في الحقيقة أحمق

    توقفت لا أدري تجاه الحقائق أأني خلقت أم هو خالقي
    لئن وثق الجمهور خالقاً فرب حكيم بينهم غير واثق
    وكيف اعتقادي بالذي قد أراد لي شروراً وجازاني مجازاة حانق
    يقدر لي كفوا فإن جئته نكى وكان إلى وادي جهنم سائقي
    أأكفر لما شاء لي الكفر ساعة واخلد في النيران غير مفارق
    بقلبي أن يهدي عباده فاكتم ما في القلب كتم المنافق
    متى يصبح الإنسان حراً يقول ما يريد ويبدي ما يرى غير فارق
    وللناس زعم في الذي يعبدونه ولكن ذاك الزعم غير مطابق
    فمن قائل جسم على عرشه استوى ومن قائل نور زها في المشارق
    ومن قائل بل ربنا اللَه قوة سرى فعلها في جسم كل الخلائق
    ومن قائل ما اللَه جسما وقوة بل اللَه شيء فوق كل الخوارق
    يقولون ما يوحى إليهم ضميرهم وما أحد فيما يقول بصادق


    قلت الحقيقة طالباً أن ينظروا فيها فقالوا مارق زنديق
    وليشهد الثقلان أني مارق إن كان في قول الصواب مروق
    ما أنت زنديق تزور جهنما بل لا يزور جهنما زنديق
    إن كذبوك يضيرهم تكذيبهم إياك أعنى أيها الصديق
    مَنِ اطمأنَّ بدين كان يرضعه فَلَيسَ يسمع تأنيب البراهينِ

    وَلَيسَ يقبل في دين معارضةً إلا الَّذي هو في شك من الدينِ


    قال اترك المعقول لا تعمل به حتى يؤيد حكمَه المنقولُ
    قلت اترك المنقول لا تعمل به حتى يؤيد حكمه المعقولُ

    إن المجرة تحوى من كواكبها ما لَيسَ يحصيه من ذي حسبة قلمُ
    كأَنَّها حيوان والنجوم بها هي الخَلايا به والكَهرباء دمُ


    إن اليهود أصابوا من التجارة مالا
    وللنصارى مكان من الرقى تعالى
    والمسلمون تراهم بكل أرض كسالى

    قالوا إذا أنت زكيت المال يزداد مثلا
    وإن حججت إلى البيت أو لزمت المصلى
    فأنت تسعد ده را وتستريح وتسلى
    تحظى بحور وغلما ن ثم قصر معلى
    وتبصر اللَه جهرا فإنه يتجلى
    أسلك طريق العبادات إنما هي مثلى
    فقلت إيها أفي دنياي السعادة أم لا
    فقيل مت تر أن الحياة في تلك أحلى
    فقلت تلك لعمري سعادة ليس تقلى
    ما أجمل الوعد هذا لو أن للوعد أصلا
    أبعدما أنا تحت التراب في القبر أبلى
    كلا فما بعد موتي سعادة ثم كلا

    إن الذي خلق الإنسان من علق وصاغ خلقته في خير تقويم
    ماذا أراد بأثداء الرجال وما يصلحن يوماً لشيء في الأقاليم


    قد عبدت الإله ستين عاماً ودعوت الإله في كل عام
    ما استجاب الإله مني دعاء أوليس من أوهامي


    ما الناس إلا نبات يحور بعد هشيما
    فلا تخافن يوماً قيامة وجحيما
    ولا صراطا كما يذ كرونه مستقيما
    وفي حياتك فانعم إذا أردت نعيما
    فاشرب وكل وإله وانكح ما كنت فيها غليما
    ما كنت فيها فتى من سقم وفقر سليما
    لا تعتقر بقديم فليس شيء قديما
    إلا الأثير الذي كان في الوجود عميما
    ولا عظيم يدير ملكاً عظيما
    فلا عظيم سوى العقل لو سألت حكيما

    ما في الوجود سوى أَثير واسِع فهو القوى وَالروح والأجسامُ
    جسم الفَتى ما عاشَ مملكة بها تَجري أُمور للحَياة جسام
    السيد القمقام فيها حاكِمٌ وَالعَقل ذاكَ السيد القمقام
    في الكَون أَجمع أَرضه وَسمائه للكَهرباء النقض والإبرام


    تلك المَجَرَّة مثل النهر جاريةٌ فيها الكَواكِب وَالقنوان والسدمُ
    كأَنَّها حَيوان وَالنجوم بها هيَ الخَلايا له وَالكَهرباء دم
    تُهِيجُني رؤية الشعرى فإِنَّ لَها إذا بدت لمعاناً ضوؤه عمم
    كأنها غادة حسناء قد هُجرت من صاحب وَمقته فهيَ تلتدم
    وَما النجوم تَراها العين لامعة في اللَيل إلا شموس هاجَها الحدم
    لا يَعلَم الناس مَهما أَمعَنوا نظراً هَل الحدوث بها أَحرى أَم القدم
    الدين يضرب صفحاً عَن حقيقتها وَالعَقل في حكمه بالظن متهم
    لا يَنتَهي الكون والأجرام فيه إِلى حدّ يحيط به هَذا هُوَ العظم
    وَلي هنالك آراءٌ وأَسئلةٌ للناس أذكرها طوراً وأكتتم

    فكرت في كل شيء من حادث وقديم
    فلم أشاهد دليلا على حكيم
    قد آمن الناس طرا بالرب والرب
    برئت من كل كفري إن كان
    إن كان يوجد فإنه
    يلقى الخروف طعاماً إلى براثن ذئب


    يا أرض أنت الأم للإنسان يا أم ضميني إلى الأحضان
    إني سئمت من الحياة وطولها وسئمت ذكر اللَه والشيطان


    لا شيء في الدنيا على ما بان لي كالدين محبوب إلى الإنسان
    ما إن يضر الدين بعد شيوعه ما فيه من خطأ ومن هذيان

    صل ما شئت معيداً سورة السبع المثاني
    أنت بعد الموت لا تظفر بالحور الحسان

    المجمعون على التوحيد ما عبدوا من المقابر دون اللَه أوثانا
    عدت من الدين والإيمان طائفة ما لم يكن أصله ديناً وإيمانا
    إن يطلبوا ويح قومي من عبادتها ربحاً فقد كان هذا الربح خسرانا
    أتدخلون بهذا في الجنان غدا وتبتغون به حوراً وغلمانا
    وتشربون به كاساً مسنمة وتأكلون به نخلاً ورمانا
    إن الألى اعترفوا بالدين قد عبثوا بالدين غفرانك اللهم غفرانا

    الدين ليس بمحتاج إلى حجج إذا تمكن من قلب بتلقين
    وليس مرتضياً في دينه جدلاً إلا الذي هو في شك من الدين

    متع حياتك وارضع دنيا عليك تجودُ
    فأنت إن سرت عنها يوماً فلست تعودُ



    لا يَغضَب الناس من مَقالي إن قلتُ أَصل الإنسان حيوانْ
    فإنَّ إنساناً ابن قردٍ أفضل من قردٍ ابن إنسانْ

    قالوا سنحيا جميعا بعد الردى خالدينا
    فقلت هاتوا دليلا إن كنتم صادقينا
    قالوا لقد صح وحيا أنا نموت ونحيا
    فقلت آمنت إن كان العقل يثبت وحيا
    قالوا إذا نحن متنا هنا نعيش هناكا
    إن تصدقوا فلماذا تستنكرون الهلاكا

    لإبليس في الدنيا على الناس سلطة كما أن للرب المهيمن سلطانا
    شريكان فيها لا يموتان إنما يموت الذي قد كان في الأصل حيوانا
    لقد كان هذا يلهم الناس طاعة وذلك فيها يفعم القلب عصيانا
    وأكثر ما أوصى به لم يكن وأكثر ما قد شاء قد كانا
    وكم فقد الرحمن إذنا سميعة وكم وجد الشيطان للسمع آذانا

    لقد جاء شيطانٌ من الجن داعياً إلى جنةٍ فيها عذارى وغلمانُ
    فقلت له اغرب أنت لست بخادعي فإني شيطانٌ كما أنت شيطانُ

    لقد جاءوا إلى داري زرافات ووحدانا
    وقالوا لي يا كافر جدد لك إيمانا


    الناس طرا آمنوا بالله وأراك عنه بالطبيعة لاهى
    آه على أيام دين قد خلت آه عليها ثم آه آه
    إني لأسمع قائلاً يدعو إلى كفر دعاء أخى ضلال داهي
    يا قوم إن الدين اكبر مانع لرقيكم وبه الجميع يباهي
    لكم الطبيعة فاعبدوها أنها جلت عن الأمثال والأشباه
    ما للذي عبد الطبيعة مخلصاً غير الطبيعة آمر أو ناهي
    أف لقوم يؤمنون بخالق للكون أجمعه بلا استكناه
    الكفر لا إكراه فيه لآخذ والدين قد نشروه بالإكراه
    ليس الذي هو بالطبيعة مؤمن مثل الذي هو مؤمن باللَه
    إن الطبيعة للورى ملموسة واللَه مسموع من الأفواه
    العقل ينفي اللَه بعد روية ربأ بكون ليس بالمتناهى
    والمؤمنون بذي اختيار بارئ متمسكون بخيط ظن واهي
    هذا لعمري ما سمعت وانه للناس فيه مصائب ودواهي

    آمن الناس جميعاً باله لا نراه
    إنني أبرأ من كفر ي إذا كان

    أنا لو كنت مختاراً لما جئت إلى الدنيا
    وأكبر سلوتي أني بعد الموت لا أحيا

    تمتع بلذات الحياة فإنها إذا ما انقضت يوماً فليس لها بقيا
    وليس لإنسان حياة سوى التي يعيش بها الإنسان في هذه الدنيا

    وما بالذي قد دان باللَه من عمى ولكنما حب السلامة يعميه
    ولا يتحرى المرء ديناً لنفسه ولكنه يأبى معارضة فيه

    ثورة أهل الجحيم للزهاوي

    بعد أن مت واحتواني الحفير
    جاءني منكر وجاء نكير
    ملكان اسطاعا الظهور ولا أدري
    لماذا وكيف كان الظهور
    لهما وجهان ابتنت فيهما الشرَّةُ
    عشا ً كلاهما قمطرير
    ولكل ٍ أنفٌ غليظ ٌ طويل
    هو كالقرن بالنطاح جدير
    وفم ٌ مهروس ٌ يضاهي فم الليث
    يريني نابا ً هو العنقرير
    وبأيديهما أفاع ٍ غلاظ ٌ
    تتلوى مخيفة وتدور
    وإلى العيون ترسل ناراً
    شرها من وميضها مستدير
    كنت في رقدة ٍبقبري إلى أن
    أيقظاني منها وعاد الشعور
    فبدا القبر ضيقاً ذا وخوم
    ما به للهواء خرم صغير
    إن تحت الأرض إلا قليلاً
    منزل المرء ذي الطموح الأخير
    ألمن ْ خاب حفرة ٌ ذاتُ ضيق ٍ


    ولمن فاز روضة ٌ وغدير
    أتيا للسؤال فظين حيث الميتُ
    بعد استيقاظه مذعور
    عن أمور كثيرة قد أتاها يوم كان
    في الأرض حيا ً يسير
    نظرة ٌ صيحة ٌ ثم حوارٌ
    بين أقساهما وبيني يدور
    واقفا ً لي كأنما هو نسرٌ
    وكأني أمامه عصفور
    خار عزمي ولم أكن أتظنَّى
    أن عزميَ يوماً لشيء يخور
    ولقد كنت في البداية أشحى مثلما
    يشحى للخشاة الذًَّعور
    ثم إني ملكت نفسي كأني لست
    أخشى شيئا ً وإني جسور
    مظهرا ً أني كنت أحمل نفْساً
    لم يكن للشكوك فيها خطور
    غير أني صدعت بالحق في الآخر
    حتى التأثتْ عليَّ الأمور
    في الأديب الحر ِّ النفاق ذميمٌ
    وهو ما لا يرضاه مني الضمير
    فألمَّت ْ بي َ الرزيَّة ُ حتى
    ضجرت ْ من ضجيج قبري القبور


    حوار

    قال من أنت وهو ينظر شزراً
    قلت شيخ ٌ في لحده مقبور
    قال ماذا أتيت إذ كنت حياً
    قلت كلُّ الذي أتيت حقير
    ليس في أعمالي التي كنت آتيها
    على وجه الأرض أمر خطير
    قال في أي ٍّ من ضروب الصناعات
    تخصصت إنهن كثير
    قلت مارست الشعر أرعى به الحق َّ
    وقد لا يفوتني التصوير
    قال ما دينك الذي كنت في الدنيا
    عليه وأنت شيخ ٌ كبير
    قلت كان الإسلام دينيَ فيها
    وهو دين ٌ بالاحترام جدير
    قال من ذا الذي عبدتَ فقلت
    اللهَ ربي وهو السميع البصير
    قال ما ذا كانت حياتك قبلاً
    يوم أنت الحرُّ الطليق الغرير
    قلت لا تسألني عن حياة
    لم يكن في غضونها لي حبور
    كنت عبداً مسيراً غيرَ حرٍّ
    لا خيارَ له ولا تخيير
    ما حبوني شيئا ً من الحول والقدرة
    حتى أديرَ ما لا يدور
    كان خيرا ً مني الحجارة تثوى
    حيث لا آمرٌ ولا مأمور
    قال هلا كسبت غير المعاصي
    قلت إن لم اكسب ْ فربي غفور
    كان إثمي َ أني إذا سألوني
    لم أقل ما يقوله الجمهور
    إنهم من أوهامهم في إسار
    ولقد لا يرضيهم التحرير
    وإذا لم يكن هنالك رأي ٌ
    لي َ أفضي به فلا أستعير
    رب أمر يقول في شأنه العقل
    نقيض الذي يقول الضمير
    ثمرات الأحراث لا تتساوى
    هذه حنطةٌ وهذا شعير
    وقشور ٌ وما هناك لباب ٌ
    ولباب ٌ وما هناك قشور
    يتبع الجاهل الهوى أخاه
    مثلما يتبع الضرير َ الضرير
    قال هل صدَّقت النبيين فيما
    بلغوه ولم يعقك الغرور
    والكتاب َ الذي من الله قد
    جاء فأدلى به البشير النذير
    قلت في خشية بلى وفؤادي
    من شعاع به يكاد يطير
    إنه منزل ٌ من الله يهدي الناس
    طرا ً فهو السراج المنير
    قال هل كنت للصلاة مقيما ً
    قلت عنها ما أن عراني فتور
    إنما في اقتناء حور حسان
    بصلاة ٍ تجارة ٌ لا تبور
    قال هل صمت الشهر من رمضان
    قلت قد صمته وطاب الفطور
    قال هل كنت للزكاة بمؤتٍ
    قلت ما كان لي بها تأخير
    قال والحج ُّ ما جوابك فيه
    قلت قد كان لي بحجي سرور
    قال هل كنت للجهاد خفيفا ً
    قلت إني لبالجهاد فخور
    قال هل كنت قائلا ً بنشور
    قلت ربي على النشور قدير
    فإذا شاء للعباد نشوراً
    فمن السهل أن يكون نشور
    قال ماذا تقول في الحشر والميزان
    ثم الحساب وهو عسير
    والسؤال الدقيق عن كل شيء
    والصراط الذي عليه العبور
    والجنان التي بها العسل الماذيُّ
    قد صفوه وفيها الحور
    وبها البان تفيضُ ولهوٌ
    وأباريقُ ثرَّةٌ وخمور
    وبها رمانٌ ونخلٌ وأعنابٌ
    وطلحٌ تشدو عليه الطيور
    ليس فيها أذىً ولا موبقاتٌ
    ليس فيها شمسٌ ولا زمهرير
    والجحيم التي بها النار تذكو
    في دهور وراءهنَّ دهور
    إنما المهلُ ماؤها فهو يغلي
    والهواء الذي يهبُّ الحرور
    تلك فيها للمجرمين عذابٌ
    تلك فيها للكافرين سعير
    إن من كان كافراً فهو فيها
    وإن اعتاد أن يبرَّ خسير
    هو في نارها الشديدة حرَّانُ
    وفي زمهريرها مقرور

    قلت مهلاً يا أيها الملك الملحف
    مهلاً فإن هذا كثير
    كان إيمانيْ في شبابيَ جماً
    ما به نذرة ولا تقصير
    غير أن الشكوك هبت تلاحقني
    فلم يستقر مني الشعور
    ثم عاد الإيمان إلى أن
    سله الشيطان الرجيم الغرور
    ثم آمنت ثم ألحدت حتى
    قيل هذا مذبذبٌ ممرور
    ثم دافعت عنه بعد يقين
    مثلما يدافع الكميُّ الجسور
    وتعمقتُ في العقائد حتى
    قيل هذا علاّمةٌ نحرير
    ثم أني في الوقت هذا لخوفي
    لست أدري ماذا اعتقادي الأخير



    الصراط

    لم يربنيَ أمرُ الصراط مقاماً
    فوق وادٍ من الجحيم يفور
    غير أني أجلُّ ربك من إتين ما يأباه
    الحجى والضمير
    فإذا صحَّ أنه كغرار السيف
    أو شعرةٌ فكيف العبور
    لا تخلْ أنْ عبرَ جسرٍ دقيقٍ
    ذرعه آلاف السنين يسير
    أنَّ ألفاً من صعود وألفاً
    ذو استواء سمحٍ وألفاً حدور
    أنها شقة تطول فلا يقطعها
    إلا البهمة المحضير
    ولعلَّ الذين ضحوا بأكباش
    عليهم بهذا يهون المرور
    أنا لو كنت بالبعير أُضَحي
    سار بي مرقلاً عليه البعير
    ولو أني ركبت صهوة يعفور
    مضى بي يستعجل اليعفور
    ولو أني هويت-لا سمح الرحمن-
    منه فيها لساءَ المصير
    لا يطيب الخلود في لجج النار
    فإن الخلود شيء كثير
    ربنا لا ترسل علينا عذاباً
    ليس فينا على العذاب صبور
    ربنا ارفق بنا فإنا ضعافٌ
    مالنا من حول وأنت القدير



    الملائكة والشياطين

    قال ماذا رأيت في الجن قبلاً
    ومن الجن صالح شرير
    ثم في جبريلَ الذي هو بين الله
    ذي العرش والرسول سفير
    ثم في الأبرار الملائك حول العرش
    والعرش قد زهاه النور
    فتدوي السماء في السمع من تسبيحهم
    مثلما يدوي القفير
    ثم في الخناس الذي ليس من سواه
    في الحياة تخلو الصدور
    والعفاريت ذاهبين عراةً
    تجفل الوحشُ منهمُ والطيور
    والشياطين مفسدين بهم قد
    ضلَّ ناسٌ همُ الفريق الكبير
    قلت لله ما في السماوات والأرض
    وما بينهن خلق كثير
    غير أنيَ أرتاب في كل ما قد
    عجز العقل عنه والتفكير
    لم يكن في الكتاب من خطأ كلا
    ولكنْ أخطأ التفسير

    السفور والحجاب

    قال هل في السفور نفع يرَجى
    قلت خير من الحجاب السفور
    إنما في الحجاب شلٌ لشعب
    وخفاءٌ وفي السفور ظهور
    كيف يسمو إلى الحضارة شعبٌ
    منه نصف عن نصفه مستور
    ليس يأتيَ شعبٌ جلائلَ مالم
    تتقدم إنأثه والذكور
    إن في رونق النهار لناساً
    لم يزلْ عن عيونها الديجور



    الإله

    قال ماذا هو الله فهل أنت
    مجيبي كما يجيب الخبير
    قلت إن الإله فوق منال العقل منا
    وهو العزيز الكبير
    إنما هذه الطبيعة ذات اللاتناهي
    كتابه المسطور
    إنها للإله سفرٌ قديمٌ
    ذو فصول والكائنات سطور
    ولقد قال واصفوه هو العالم
    هنا بما تكن الصدور
    إنه في الجبال والبر والبحر
    من الأرض والسماوات نور
    فله الأرض ما لها من سكون
    والسماوات ما بهن فطور
    كل حيٍّ به يعيش ويردى
    ليس إلا كما أراد الأمور
    إنه واهب الوجوه فلولاه
    لما كان للوجود ظهور
    إنه واجب الوجود فقد كان
    ولا عالمٌ ولا دستور
    عرشه في السماء وهو عليه
    مستوٍ ما لأمره تغيير
    وهو يهتز للمعاصي كما
    يهتز في زرقة الصباح السرير
    وهو إن قال كنْ لشيء سيكون
    الشيءُ من فوره فلا تأخير
    إن هذا ما قد تلقنته والقلب
    من شكه يكاد يخور
    قلتُ ما قلتُ ثم إنك لا
    تدري أحقٌ ما قلته أم زور
    وأرى في الصفات ما هو لله
    تعالت شؤونه تصغير
    ما عقابي من بعد ما صح نقلاً
    إن ما قد أتيته مقدور
    ليس في ما جئته من خيار
    إنني في جميعه مجبور
    وإذا كان منه كفري وإيماني
    فإن الجزاء شيء ٌ نكير
    أللهوٍ والله ليس بلاهٍ
    أم لجورٍ والله ليس يجور
    أمن الحق خلقُ إبليس وهو
    المستبد المضلل الشرير
    إنه يلقي في النفوس شكوكاً
    ذاتَ أظفارٍ نزْعُهن عسير
    إنما في الدارين عسفٌ وحيفٌ
    غير أن السماء ليست تمور
    فلناسٍ تعاسةٌ وشقاءٌ
    ولناس سعادةٌ وحبور
    قال ما ذاته فقلتُ مجيباً
    بلسان قد خانه التفكير
    إنني لا أدري من الذات شيئاً
    فلقد أُسدِلتْ عليها الستور
    إنما علميَ كله هو أن الله
    حيٌ وأنه لا يبور
    ما لكل الأكوان إلا إلهٌ
    واحد لا يزول وهو الأثير
    ليس بين الأثير والله فرقٌ
    في سوى اللفظ إن هداك الشعور
    وبحسبي إني صدعتُ بما أدري
    على علمي أنه سيضير

    استمرار التحقيق والإعراب عن الملل

    وإذا لم أردْ لأبسطََ رأيي
    في جوابي فإنني معذور
    أمن السهل أن أغيرَ قلبي
    بعد ما في فؤاديَ بان القثير
    قال إني أرى بخدك تصعيراً
    فهل أنت يزدهيك الغرور
    قلت من مات لا يصعر خداً
    ليس بالموتى يُخلق التصعير
    إنني أخشى الظالمين فلا أفتي
    إليهم بما برأسي يدور
    أي ذي مشكة يقول صريحاً
    وعليه سيف الأذى مشهور
    لا تكونا علي فظين في قبري
    فإنيَ شيخ بعطف جدير
    إن قول الحق الصراح على الأحرار
    حتى في قبرهم محظور
    فدعاني في حفرتي مستريحاً
    أنا من ضوضاء الحياة نفور
    أتعبتني الأيام إذ كنت حياً
    وأنا اليوم للسكون فقير
    اتركاني وحدي ولا تزعجاني
    بزيارات ما بهنَّ سرور
    اتركاني ولا تزيدا عنائي
    بسؤال فإنني موتور
    لم تصنْ من جرأة المستبدين
    على الهالكين حتى القبور؟؟
    كيف أفضيتما إلي َّ بقبري
    وعليه جنادلٌ وصخور
    قلت لما هبطتُ أعماقَ قبري
    ليس خيراً من البطون الظهور
    فإذا القبر ضيق ٌ بذويه
    وإذا القبر فيه كربٌ كثير
    إنما الدائرات في كل وقت
    ومكان على الضعيف تدور

    قال هذا هو الهراء وما أن
    لاحتجاج تلغو به تأثير
    قلت في غصة إذن فاصنعا بي
    ما تريدانه فإني أسير
    عذباني هنا إذا شئتما أو
    ألقياني في النار وهي تثور
    كنت لا أدري يوم كنت علىالأرض
    طليقاً أن الحياة تدور
    وسأمشي إلى جهنم مدفوعاً
    وخلفي كالسيل جمعٌ غفير
    إنما سألتماني عن أمور
    هي ليست تغني وليست تضير
    ولماذا لم تسألا عن ضميري
    والفتى من يعفُّ منه الضمير
    ولماذا لم تسألا عن جهادي
    في سبيل الحقوق وهو شهير
    ولماذا لم تسألا عن زيادي
    عن بلادي أيام عزَ النصير
    ولماذا لم تسألا عن وفائي
    ووفائي لمن صحبت كثير
    ولماذا لم تسألا عن مساعي
    لإبطال الشر وهو خطير
    عن دفاعي عن النساء عليهن
    من الشقوة الرجالُ تجور
    وسلاني عما نظمت من الشعر
    فبالشعور يرتقي الجمهور
    وسلاني عن نصريَ الحق وثاباً
    به وهو بالسؤال جدير
    إنما الشعر سلَّم ٌ للمعالي
    ثم فيه لأمة تحرير
    إنه تارة لقوم غناءٌ
    ليناموا وتارة تحذير
    وسلاني عن جعليَ الصدقَ كالصخر
    أساساً تبنى عليه الأمور
    إنما الصدق فاسألاني عنه
    خير ما تنطوي عليه الصدور
    وسلاني عن حفظيَ الفن من أن
    يعتريه قبل التمام الدثور
    أسكوتٌ عن كل ما هو حقٌ
    وسؤالٌ عن كل ما هو زور؟!

    قال كل الذي عرضت علينا
    أيها الشيخ الهم شيءٌ حقير
    نحن لسنا بسائلين سوى ما
    كان حول الدين المبين يدور
    فإفدنا إذا ما كنت ذا صلة بالدين
    واذكر ماذا هو التقدير
    ثم زد ما تقول في جبل القاف
    أحقٌ فحواه أم أسطور
    جبلٌ من زمرد نصف أهله
    ذوو إيمان ونصف كفور
    جبلٌ إن أرسلت طرفا ًإليه
    رجع الطرف عنه وهو حسير
    وبيأجوج ثم مأجوج والسد
    وإنكار كل هذا غرور
    وبهاروت ثم ماروت والسحر
    الذي أُسدلتْ عليه السور
    قلت مالي بكل ذلك علم
    فبجحدي عقلي عليَّ يشير
    كنت حياً فمتُّ والموتُ حقٌ
    شاهدات بما هناك القبور
    كنت فوق التراب بالأمس أمشي
    وأنا اليوم تحته مقبور
    إنما الموتُ وهو لا بدَّ منه
    سنة ُ الله ما لها تغيير
    قال دعْ عنك ذا وقل ليَ مَنْ
    ربك قبل أن يسوء المصير
    قلت أمْهلني في الجواب رويداً
    إنني الآن خائفٌ مذعور
    لا تكنْ قاسياً عليَّ كثيراً
    أنا شيخٌ مهدَّمٌ مأطور
    كان ظني أنَّ الأثير هو الرب
    كريماً يمدُّني ويجير
    لم تزلْ لي ذات العقيدة حتى
    حال من هول القبر فيَّ الشعور
    إنك اليوم أنت وحدك ربي
    بك أحيا في حفرتي وأبور
    إنك الجبار الذي سوف تبقى
    تحت سلطانك العظيم القبور


    رحلة العذاب والإذلال

    قال ما أنت أيها الرجْس إلا
    ملحدٌ قد ضلَّ السبيل كفور
    ما جزاء الذين كفروا إلا
    عذابٌ برْحٌ وإلا سعير
    ثم تلاني َ للجبين وقالا
    ليَ ذقْ أنت الفيلسوف الكبير
    قلت صفحاً فكل فلسفتي قد
    كان مما يمليه عقلي الصغير
    ثم قولي من بعدها "أنت ربي"
    هو مني حماقة وقصور
    لم تكن أقوالي الجريئة إلا
    نفثات يرمي بها المصدور
    قد أسأت التعبير فالله ربي
    ماله في كل الوجود نظير
    فأجاباني قائلين بصوت
    لا يسر الأسماع منه الهدير
    قضي الأمر فاستعد لضرب
    منه تدمى بعد البطون الظهور
    لا يفيد الإيمان من بعد كفر
    وكذا جد الطائشين عثور
    وأمضاني بالمقامع ضرباً
    كدت منه في أرض قبري أغور
    لم يكن فيهما يثير حناناً
    جسدٌ ليَ دامٍ ودمعٌ غزير
    ولقد صحت للمضاضة أبغي
    لي مجيراً وأين مني المجير
    ثم صبا بقسوة فوق رأسي
    قطراناً لسوء حظي يفور
    فشوى رأسي ثم وجهي حتى
    بان مثل المجدور فيه بثور
    ثم أحسست أن رأسي يغلي
    مثلما تغلي بالوقود القدور
    وقد اشتدت الحرارة في قبريَ
    حتى كأنه تنور
    وأطالا في عذابي إلى أن
    غاب وعيي وزال عني الشعور
    ثم لما انتبهت ألفيت أني
    موثقٌ من يدي وحبلي مرير
    ثم طارا بي في الفضاء إلى الجنة
    حتى يغرى بلومي الضمير
    وأسرَّا في أذن رضوانَ شيئاً
    فأباح الجواز وهو عسير
    لمست إذ دخلتها الوجهُ مني
    نفحةً فاح عطرها والعبير
    أخذتني منها المشاهد حتى
    خلت أنيَ سكرانُ أو مسحور
    جنة عرضها السماوات والأرض
    بها من شتى النعيم الكثير
    فطعامٌ للآكلين لذيذٌ
    وشرابٌ للشاربين طهور
    سمكٌ مقليٌ وطير شويٌ
    ولذيذ من الشواء الطيور
    وبها بعد ذلكمْ ثمراتٌ
    وكؤوسٌ مليئة وخمور
    وبها دوحة ٌ يقال لها الطوبى
    لها ظلٌ حيث سرتَ يسير
    تتدلى غصونها فوق أرض
    عرضها من كل النواحي شهور
    وجرت تحتها من العسل المشتار
    أنهارٌ ما عليها خفير
    ومن الخمرة العتيقة أخرى
    طعمها الزنجبيل والكافور
    ومن الألبان اللذيذة ما يشربه
    خلقٌ وهو بعد غزير
    ثم للسلسبيل يطفح والتسنيم
    ماءٌ يجري به التفجير
    وجميع الحصباء درٌ وياقوتٌ
    وماسٌ شعاعه مستطير
    كل ما يرغبون لهم حلال
    كل ما يشتهونه ميسور
    وعلى أرضها ذرابي َ قد بثت
    حساناً كأنهن زهور
    وعليها أسرَّةٌ وفراش
    مثلما يهوى المؤمنون وثير
    وعلى تلكم الأسرة حورٌ
    في حلي لها ونعمَ الحور
    ليس يخشين في المجانة عاراً
    وإن اهتزَّ تحتهنَّ السرير
    كل من صلَّى قائماً وتزكَّى
    فمن الحور حظه موفور
    ولقد يعطى المرء سبعين حوراءَ
    عليهن سندسٌ وحرير
    يتهادين كالجمان حساناً
    فوق صرح كأنه البلور
    حبذا أجيادٌ تلِعنَ وأنظارٌ بها
    كل ُّ مُبصر مسحور
    وخصورٌ بها ضمورٌ وأعجازٌ
    ثقالٌ تعيا بهن الخصور
    وكأن الوالدان حين يطوفون
    على القوم لؤلؤ منثور
    إئتِ ما شِئتَ ولا تخشَ بأساً
    لا حرامٌ فيها ولا محظور
    إن فيها من الحدائق غاباً
    تتغنى من فوقهن الطيور
    أن فيها جميعُ ما تشتهيه
    النفس والعين واللهى والحجور
    فإذا ما اشتهيت طيراً هوى
    من غصنه مشوياً وجاء يزور
    طينها من فالوذج لا يملُّ
    المرء منه فهو اللذيذ الغزير
    وإذا رِمتَ أن يحالَ لك التينُ
    دجاجاً أتاك يطير
    أو إنك إذا أشئت أن تصير لك
    الحصباء دُرَّاً فإنها لتصير
    إن فيها مشيئة المرء تأتي
    عجباً عنه يعجز الإكسير
    ليس فيها موتٌ ولا موبقاتٌ
    ليس فيها شمسٌ ولا زمهرير
    لا شتاءٌ ولا خريفٌ وصيفٌ
    أترى أن الأرض ليست تدور؟
    جنةٌ فوق جنة فوق أخرى
    درجاتٌ في كلهن حبور
    وحياضٌ قد أترعت ورياضٌ
    قد سقى الطلُّ زهرها وقصور
    كلُّ هذا وكل ما فوق هذا
    منه طرف الأقوام فيها قرير
    ولقد حلوا فوق ذلك فيها
    فضةٌ في أساور تستنير
    ولهم فيها نعمةٌ بعد أخرى
    ولهم فيها لذةٌ وسرور
    ولقد رُمتُ شربةًً من نمير
    فتيمَّمته ففر النمير
    وكأن الماء الذي شئتُ أن
    أشربه بابتعاده مأمور
    وتذكرت أنني رجلٌ جيء
    به كي يُراعى منه الشعور
    أي حق في أن أنال شرابي
    بعد أن صح أنني مثبور؟
    قلت عودا من حيث جئتماني
    إنما هذه لهمي تثير
    أنا راضٍ من البيوت بقبر
    يتساوى عشيه والبكور
    أيها القبر إرحم طوالع شيبي
    أنا في كربتي إليك فقير





    عودة إلى الجحيم

    أخرَجانيَ منها وشدا وثاقي
    بنسوع كما يُشد البعير
    ثم قاما فدلَّياني ثلاثاً
    في صميم الجحيم وهي تفور
    وأخيراً في جوفها قذفا بي
    مثلما يقذف المتاع الحقير
    لست أسطيع وصفَ ما أنا
    قد قاسيت منها فإنه لعسير
    ربي إصرف عني العذاب فإني
    إن أكن خاطئاً فأنت الغفور
    لكأن الجحيم حفرة بركان
    عظيم لها فمٌ مغفور
    تدلع النارُ منه حمراءَ تلقي
    حمماً راح كالشواظ يطير
    ثم أني سمعت لها حثيثاً
    فاقشعرت منه برأسي الشعور
    خالطته استغاثة القوم فيها
    كهدير إذا استمر الهدير

    إنها في أعماقها طبقاتٌ
    بعضُها تحت بعضها محفور
    وأشدُ العذاب ما كان في الهاوية
    السفلى حيث يطغى العسير
    حيث لا ينصر الهضيمَ أخوه
    حيث لا ينجد العشيرَ العشير
    الطعام الزقوم في كل يوم
    والشراب اليحموم واليحمور
    ولقد يسقى الظامئون عصيرٌ
    هو من حنظل وساء العصير
    ولها من بعد الزفير شهيق
    ولها من بعد الشهيق زفير
    ولهم فيها كل يوم عذاب
    ولهم فيها كل يوم ثبور
    ثم فيها عقارب وأفاعٍ
    ثم فيها ضراغم ونمور
    يضرع المجرمون فيها عطاشى
    والضراعات ما لها تأثير
    ولهم من غيظ تأجج فيهم
    نظرات شرارها مستطير
    وُقدتْ نارها تئز فتغلي
    أنفسٌ فوق جمرها وتخور
    ولقد كانت الوجوه من الضالين
    سوداً كأنهن القير
    ولقد كانت الملامح تخفى
    ولقد كانت العيون تغور
    لست أنسى نيرانها مائجات
    تتلظى كأنهن بحور
    ولقد صاح الخاطئون يريدون
    نصيراً لهم وعز النصير
    وتساوى أشرافهم والأداني
    وتساوى غنيهم والفقير



    لقاء ليلى التي نالت عقابها بسبب الحب

    كنت أمشي فيها فصادفت ليلى
    بين أتراب كالجمان تسير
    فوق جمر يشوي ونار تلظى
    وأفاع في نابهن شرور
    وعيون الحسناء مغرورقات
    بدموع فيها الأسى منظور
    قلت ماذا يبكي الجميلة قالتْ
    أنا لا يبكيني اللظى والسعير
    إنما يبكيني فراق حبيبي
    وفراق الحبيب خطبٌ كبير
    هو عنيَّ ناءٍ كما أنا عنه
    فكلانا عمن أحبَّ شطير
    فرقوا بيننا فما أنا أرى اليوم
    سميراً و لا يراني سمير
    قذفوه في هوة ليس منها
    مخرج للمقذوف فيه قعور
    آهٍ إن الفراق أصعب من
    كل عذاب يشقى به الموزور
    ولو أننا كنا جميعاً لخف الخطب
    في قربه وهان العسير
    لا أبالي ناراً وعندي حبيبي
    كلُّ خطب دون الفراق يسير
    قلتُ ماذا جنيتِ في الأرض حتى
    كان حتماً عليك هذا المصير
    فأجابت قد كان لي وسميراً
    قبل أن نردى للجحيم نكور
    جهلنا للجحيم أوجب أنا
    بعد أن نردى للجحيم نزور




    لقاء الشعراء والعباقرة

    ولقد أبصرت الفرزدق نضواً
    يتلوى ووجهه معصور
    وإلى جنبه يقاسي اللظى
    الأخطلُ مستعبراً ويشكو جرير
    قلت ما شأنكم فقالوا دهانا
    من وراء الهجاء ضرٌ كثير
    ولقد كان آخرون حواليهم
    جثوماً وكلهم موتور
    منهم العالم الكبير ورب الفن
    والفيلسوف والنحرير
    لم أشاهد بعد التلفت فيها
    جاهلاً ليس عنده تفكير
    إنما مثوى الجاهلين جنانٌ
    شاهقاتُ القصور فيها الحور
    غيرَ قسم هو الأقلُّ سعى يصلح
    حتى اهتدى به الجمهور
    ثم حياني أحمدُ المتنبي
    والمعري الشيخ وهو ضرير
    وكلا الشاعرين بحرٌ خضم
    وكلا الشاعرين فحلٌ كبير
    ولقد كان يخنق الغيظ بشاراً
    وفي وجهه الدميم بثور
    ويليهمْ أبو نواس كئيباً
    وهو ذاك الممراحة السكير
    مثله الخيام العظيم ودانتي
    وإمام القريض وشيكسبير
    ولقد كان لامرىء القيس بين القوم
    صدرٌ وللملوك صدور
    قلت ماذا بكم فقالوا لقَينا
    من جزاء ما لا يطيق ثبير
    إننا كنا نستخف بأمر الدين
    في شعرنا فساء المصير


    عمر الخيام ولذة الخمر

    وسمعت الخيام في وسط الجمع
    يغني فيطرب الجمهور
    منشداً بينهم بصوت شجي
    قطعة من شعر غذاه الشعور
    حبذا خمرةٌ تعين على النيران
    حتى إذا ذكت لا تضير
    وتسلي من اللهيب فلا يبقى
    متى شبَّ منه إلا النور
    تشبه الخندريس ياقوتة ذابت
    ففيها للناظرين سرور
    وهي مثل النار التي تتلظى
    ولها مثلما لهذي زفير
    ثم إني بالخندريس لصبٌ
    ومن النار والجحيم نفور
    اسقني خمرة لعلي بها أرجع
    شيئاً مما سبتني السعير
    واصليني بالله أيتها الخمرة
    إني امرؤٌ إليك فقير
    أنت لو كنت في الجحيم بجنبي
    لم تُرعني نار ولا زمهرير



    سقراط يلقي خطبةً

    ثم إني سمعت سقراط يلقي
    خطبةً في الجحيم وهي تفور
    وإلى جنبه على النار أفلاطون
    يصغي كأنَّه مسرور
    وأرسطاليس الكبير وقد أغرق
    منه المشاعرَ التفكير
    ثم كوبيرنيك الذي كان قد
    أفهمنا أن الأرض جرمٌ يدور
    تتبع الشمسَ أين هي سارت
    وعليها مثل الفراش تطور
    ثم داروين وهو من قال إنا
    نسلُ قردٍ قد طورته الدهور
    ثم هيغل وبخنز وجيسندي
    ويليهمُ سبينسر المشهور
    ثم توماس ثم فاخت ومنهم
    إسبينوزا وهيلبك وجيور
    ونيوتن الحبر ثم رينان
    ثم روسو ومثله فولتير
    وزرادشت ثم ميزديك يأتي
    وجموعٌ أمامهم أبي قور
    والحكيم الكِندي ثم ابن سينا
    وابن رشدٍ وهو الحفيُّ الجَسور
    ثم هذا أبو دلامة منهم
    بعده الراوندي ثم نصير
    وجماعاتٌ غيرهم كلهمْ جلدٌ
    على نارها وكلٌ صبور
    كان سقراطُ أثبتَ القومِ جأشاً
    فهو ذو عزمٍ فائقٍ لا يخور
    قال من بعد شرحه منشأ النار
    وفي قوله إليها يشير
    سوف يقضي فيها التطور أن نقوى
    عليها وأن تهون الأمور
    إن في ذا الوادي السحيق عيوناً
    ثرةً للبترول فيها يغور
    ولقد تنضبُ العيونُ فلا نارٌ
    ولا ساعر ولا مسعور
    ثم لما أتمَّ خطبته عجوا له
    هاتفين وهو جدير



    منصور الحلاج معاتباً

    ورأيتُ الحلاجَ يرفع منه الطرف
    نحو السماء وهو حسير
    قائلاً أنت الله وحدك قيوماً
    وأما الأكوان فهي تبور
    إنك الواحد الذي أنا منه
    في حياتي شرارةٌ تستطير
    وبه لي بعد الظهور خفاءٌ
    وله بي بعد الخفاء ظهور
    لمْ شئت العذابَ لي ولماذا
    لم تجَرِّبْني وأنت منه المُجير
    كان في الدنيا القتلُ منهمْ نصيبي
    ونصيبي اليومَ العذابُ العسير
    قلت إن المكتوب لا بدَّ منه
    قدَراً وإن أخطأ المقدور


    اختراعات أهل الجحيم تحرض على الثورة

    مكثوا حتى جاء منهمْ حكيمٌ
    باختراع لم تنتظره الدهور
    آلةٌ تطفِيءُ السعيرَ إذا شاء
    فلا تحرقُ الجسومَ السعير
    وأتى آخرُ بخارقة يهلك
    في مرة بها الجمهور
    واهتدى غيره إلى ما به الإنسان
    يَخفى فلا يراه البصير
    ولقد قام في الأخير فتى يخطب
    فيهم والصوت منه جهور
    وأحاطت به الملاين
    يصغون إليه وكلُّهم موتور
    قال ياقومَنا جهنمُ غصتْ
    بالألى يُظلمون منكم فثوروا
    قال ياقومنا أرى الأمر من سوء
    إلى الأسوأ الأمضِّ يسير
    قال ياقومنا احتملتم من الحيف
    ثقالاً يعي بهنَّ البعير
    قال ياقوم إن هذا الذي
    أنتمْ تقاسونه لشيءٌ كثير
    قال يا قومُ إننا قد ظلمنا
    شرَّ ظلم فما لنا لا نثور ؟
    ومِن الناس من قضى الله أن
    يكفُرَ والموتُ منه دانٍ يزور
    فهل الحق أن يخلَّد في النار
    على الكُفر ساعةًً ً مجبور
    قال يا قوم لا تخافوا فما فوق
    شرورٍ تكابدون شرور
    اجسروا أيها الرفاقُ فما نال
    بعيدَ الآمال إلا الجَسور
    إنما فاز في الجهاد من الناس
    بآماله الكبارِ الكبير
    أنتم اليوم في جهنمَ أسرى
    وليكن منكمْ لكمْ تحرير
    قاوموا القوة التي غشمتْ
    بالمثل والدهرُ للقويِّ ظهير
    أنتم اليومَ الأكثرون وأما
    عدد الحارسين فهو صغير
    أيُّ شيءٍ نخاف منهم وإنَّا
    لو تحديناهمُ لجمٌ غفير
    أيها الناس دافعوا عن حقوق
    غصبوها والكاثر المنصور
    أَلأهلِ الجحيم بؤسٌ وتعسٌ
    ولمن حلَّ في الجنان سرور؟!
    أَلنا أسفلُ الجحيم مقامٌ
    ولهمْ في أعلى الجنان قصور؟!
    كلُّ ما قد أصابكمْ من عذابٍ
    فله ممن في السماء صدور
    إن أهل القضاء ما أنصفوكم
    فكأن القلوب منهم صخور
    قد خدمنا العلومَ شتى بدنيانا فهل
    من حسن الجزاء السعير
    كأن في تلكمُ اضطهاد وقتلٌ
    ثم في هذا العذاب الدهير
    فعلا من أهل الجحيم ضجيجٌ
    رجف الوادي منه والساعور
    ولقد هاجوا في الجحيم وماجوا
    كخضمٍ مرَّتْ عليه الدهور
    أطفأوا جمرةَ الجحيم فكانت
    فتنة ٌ ما جرى بها التقدير
    ثورةٌ في الجحيم أرجفت العرش
    وكادت منها السماء تمور
    لبسوا عدَّةَ الكفاح وساروا
    في نظام أتمَّه التدبير
    زحفوا ثائرين من كل صوبٍ
    في صفوفٍ كأنهن سطور
    للأناشيد ينْشدون بصوت
    في النفوس الحرى لها تأثير



    المعري يقود مسيرة الثائرين

    المعري: غصبوا حقكم فيا قوم ثوروا
    إن غصب الحقوق ظلمٌ كبير
    الثائرون: غصبوا حقنا ولم ينصفونا
    إنما نحن للحقوق نثور
    المعري: لكم الأكواخ المشيدة بالنار
    وللبله في الجنان القصور
    الثائرون: غصبوا حقنا ولم ينصفونا
    إنما نحن للحقوق نثور
    المعري: إن خضعْتمْ فما لكم من نصيب
    في طوال الدهور إلا السعير
    الثائرون: غصبوا حقنا ولم ينصفونا
    إنما نحن للحقوق نثور
    المعري: ما حياة الإنسان إلا جهادٌ
    إنما تؤْثرُ السكونَ القبور
    الثائرون: غصبوا حقنا ولم ينصفونا
    إنما نحن للحقوق نثور
    المعري: إنما النارُ للذين لديهم قد تسامى
    الإحساسُ، بئسَ المصير
    الثائرون: غصبوا حقنا ولم ينصفونا
    إنما نحن للحقوق نثور



    معركة مع الزبانية

    ولقد أسرعت زبانيةُ النار
    إليهم وكلهم مذعور
    يالها في الجحيم حرباً ضروساً
    ما لها في كل الحروب نظير
    ولقد عاضد الذكورَ إناثٌ
    ولقد عاضد الإناثَ ذكور
    ولقد كانوا يفتكون ولا يبْصَرُ
    منهم مهاجمٌ أو مغير
    ولقد كانت البطونُ تفرَّى
    ولقد كانتِ الرؤوس تطير
    ثم جاءتهمُ الشياطين أنصاراً
    وما جيش الماردين حقير
    كان إبليسُ قائداً للشياطينِ
    وإبليسُ حيثُ كان قدير
    ولقد جاء من ملائكة العرش
    لإرجاع الأمن جمٌ غفير
    والذي قاد الملائك منهم
    هو عزرائيل الذي لا يخور
    فهي بين الملائك البيض صفاً
    والشياطين السود صفاً تثور
    وتلاقى فوق الجحيم الفريقان
    وهذا نار وهذا نور
    فصِدامٌ كما تصادمِ شاهقات
    الجبال ومثلهن بحور
    وصراخُ الجرحى إلى العرش يعلو
    وجروحُ المجندلين تفور
    يترامون بالصواعق صفين
    فيشتد القتل والتدمير
    حاربوا بالرياح هوجاءَ بالإعصار
    في ناره تذوب الصخور
    حاربوا بالبروق تومضُ والرعد
    فيغلي في صوته التامور
    حاربوا بالبحار تلقى على الجيش
    بحولٍ وماؤها مسعور
    حاربوا بالجبال تقذف بالأيدي
    تباعاً كأنهن قشور
    بالبراكين ثائراتٍ جرتْ من
    حممٍ فيها أبحرٌ ونهور
    وقد اهتز عرش ربك من بعد
    سكون والدائراتُ تدور
    ولقد كادت السماء تهوي
    ولقد كادت النجوم تغور
    كانت الحرب في البداء سجالٌ
    ما لصبح النصر المبين سفور
    ثم للناظرين بان جلياً
    أن جيش الملائك المدحور
    هزموهم إلى معاقلهم في الليل
    حتى بدا الصبح المنير
    ولأهل الجحيم تمَّ بإنجاد
    الشياطين في القتال الظهور
    فاستراحوا من العذاب الذي كانوا
    يقاسونه وجاء السرور
    لم يخوضوا غمارها قبل أن
    تحكمَ فيها الآراء ُ والتدبير

    اجتياح الجنة

    ثم طاروا على ظهور الشياطين
    خفافاً كما تطير النسور
    يطلبون الجنانَ حتى إذا ما
    بلغوها جرى نضالٌ قصير
    ثم فازوا بها وقاموا بما
    يوجبه النصر والنهي والتدبير
    طردوا من بها من البُله واحتلوا
    القصور العليا .. ونعمَ القصور
    غير من كانوا مُصلحين فهذا
    القسم منهمْ بالإحترام جدير
    فر رضوانُ للنجاة ومِن أتباع
    رضوانَ مسرعاً جمهور
    وأقاموا لفتحهمْ حفلةً أعقبها
    منهمُ الهُتاف الكثير
    إنه أكبرُ انقلاب به جادت
    على كرِّها الطويل الدهور

    * * * * * * *

    وتنبَّهْتُ من مناميَ صبْحاً
    فإذا الشمس في السماء تنير
    وإذا الأمر ليس في الحق إلا
    حلمٌ قد أثاره الجرجير

  2. #2
    بنت الجنوب الصورة الرمزية الدندووووونه
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    7,520
    دموع ساهر

    الله يعطيك العافيه على هذا النقل الرائع...
    (( يـوماً ما كنتُ هنا .... " ومو نـــادمـه" ))



    http://ensan.org.sa/

  3. #3

    ابن الأردن

    الصورة الرمزية المؤمن بالله
    تاريخ التسجيل
    Apr 2006
    المشاركات
    3,754
    هذا هو رهين المحبسين

    والذي طلب ان يكتب على قبرة هذا ما جناه علي ابي وما جنيت على احد

    البعض يتهمه بالزندقة والاخرون لا

    واقول انه افضى الى الى ما قدم

    اشكرك اخي العزيز
    icon_evilicon_evilicon_evilicon_evilicon_evilicon_evilicon_evil

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الشك ...
    بواسطة الحان تعزف على اوتار الحب في المنتدى منتدى الخواطر والشعر الفصيح
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 23-11-2009, 10:19 AM
  2. ×؟! قط غريب وجميل وعجيب ×؟!
    بواسطة همس الرووح في المنتدى منتدى الصور والسياحة
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 16-12-2008, 09:12 PM
  3. سياره بالتقسيط المغري
    بواسطة رحيل الحزن في المنتدى المنتدى الإسلامي
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 28-11-2006, 10:55 PM
  4. تصنيف الناس بين الظن واليقين العلامة د/ بكر أبو زيد !!
    بواسطة هاني السلفي في المنتدى المنتدى الإسلامي
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 28-04-2003, 01:26 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •