أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


من فتن شباب الصحوة
من عدنان بن محمد آل عرعور إلى من يراه من إخوانه المسلمين في...، وفي غيرها من الأقطار ، حفظهم الله من كل فتنة وبلاء .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد :
فأحمد الله إليكم ، وأشهد أن لا إله إلا هو ، وأن محمداً عبده ورسوله r.
فإن الله عز وجل قد أوجب علينا النصح لكل مسلم ، وجعل عليه مدار الدين[1]، فقالr: ((الدين النصيحة ، قلنا: لمن؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))[رواه مسلم (55)] . وحرم كتمان العلم فقال سبحانه : } إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ {[البقرة 159] ، وأمر الناس باتباع ما أنزل من الكتاب والسنة ، والتزام منهج سلف الأمة ، وألزمهم سؤال أهل العلم - وبخاصة الراسخين منهم - فيما أشكل عليهم من أمر دينهم .
فقال تعالى: }فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ{[الأنبياء 7].
ومما لا شك فيه ؛ أن من يفتي نفسه أو غيره دون أن يكون أهلاً لذلك ، ويتصرف دون الرجوع إلى أهل الرسوخ في العلم يكون متبعاً هواه ، معدوداً في زمرة أهل الأهواء ، ساقطاً في الفتن والبلاء ، أعاذنا الله وإياكم من ذلك .
هذا ؛ وقد وصلت رسالتكم التي تتحدثون فيها عن الفتنة التي يتخبط فيها كثير من شباب الصحوة الإسلامية ، تلك الفتنة التي تجاوزت الحق والدليل ، لتسقط في حمأة الصراع حول الرجال .. والجماعات والأحزاب ، وقد بلغنا ما سببته هذه الفتنة ، من شقاق بينهم وتنافر ، وتباغض وتهاجر ، وخوض في القيل والقال ، والغيبة والنميمة ، باسم النصح تارة ، وباسم الإصلاح أو بيان الحق تارةً أخرى ، فأتت على الأُخوَّة الواجبة فأفسدتها ، ووثبت على المحبة الطيبة فأحرقتها ، فعطلت تعاونهم ، وأبطلت تشاورهم، فانقلب النصح فضحاً ، والتفاهم سِباباً ، والتحاور صراخاً ، والأخوة حقداً وحسداً ، والمحبة تباغضاً وتهاجراً ، فقست بذلك القلوب ، وغلظت الأكباد ، وجفت الألسن ، وساءت العبارات ، وضاعت الأوقات ، وقلت العبادات ، ونسيت الدعوة ، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ولقد حدثنا أقوام : أنهم نسوا كثيراً مما كانوا يحفظونه من كتاب الله تعالى ، بعد أن ولجوا هذه الفتنة ، وانشغلوا بـها عن تدارس كتاب الله ، وتعلم الحديث والفقه والعلوم النافعة ، وأقسموا بالله: أنهم كانوا يذكرون إخوانهم المسلمين بالسوء أكثر مما يذكرون الله تعالى ، وأنهم يغتابون ويثرثرون في الرجال أكثر من تلاوة كتاب ذي الجلال ، وأن معظم وقتهم في الفتنة .. في القيل والقال ، والمفاضلة بين الرجال ، حتى وقعوا في الاتهامات ، وخاضوا في الأعراض ، من غير بينة صحيحة ، ولابرهان من الله تعالى واضح ، إنما هو الظن الآثم ، والنقول المبتورة ، والحكم بالقرائن الخادعة ، التي لا تغني في بيان حق أو إبطال باطل ، ولا تفيد علماً ولا تكسب تقوى ، حتى قال بعضهم في حق بعض إخوانه (( إنهم شر من اليهود والنصارى ، وأخبث من الشياطين والدجال )) !غافلين عن قوله تعالى : }وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً {[الأحزاب 58]
وقوله صلى الله عليه وسلم: (( من قال في مؤمن ما ليس فيه ، أسكنه الله ردغة الخبال ، حتى يخرج مما قال ، وليس بخارج )) ([2]).
وإنه لمن المؤسف فعلاً ، بل المؤلم حقاً ؛ أن يقع هذا من شباب الصحوة .. بل من بعض دعاتهم وشيوخهم ، الذين هم ربّان السفينة ، وقادة الأمة وأسوتها ، الذين ينتظر الشيء الكثير - بإذن الله وفضله - على أيديهم .
والحقيقة .. إنها - والله - لكبيرة .. وأي كبيرة !؟ وإنها - تالله – من الشيطان لمكيدة.. وأي مكيدة !؟ لقد استطاع بخبثه ، وسذاجة أكثرنا ، وانقيادهم له - وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً - أن يغري بينهم العداوة والبغضاء ، بدل المحبة والإخاء ، وأن يشغلهم عما ينفعهم بما لا ينفعهم ، بل بما يضرهم، وأن يدفعهم للسعي فيما لا يقدرون عليه وترك ما يقدرون عليه، فانشغل- بعضهم ببعض - عن العلم النافع ، والعمل الصالح ، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وألهاهم الشيطان بأنفسهم عما يكيده لهم عدوهم ، فتعثروا بحباله ، وسقطوا في شباكه .
فكان ما كان مما أنت تعرفه فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
لقد آن الأوان لشباب هذه الصحوة ودعاتها وشيوخها ، أن يتنبهوا إلى هذا الخطر الداهم ، من جراء هذه النـزاعات الطاحنة ، والاختلافات المفرِّقة ، وآن لهم أن يصحوا الصحوة الثانية ، صحوة العلم والعمل ، صحوة الاتباع لمنهج السلف ، في العقيدة والمنهج والأخلاق ، لتتوحد الكلمة ، وترفع الراية ، ويومئذ يستحقون النصر الذي وعد الله به أهل الحق والاتباع ، والله لا يخلف الميعاد } وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِه.. {[التوبة: 111] .
وإجابة لرغبتكم في تحرير رسالة ، تعالج هذه الفتنة ، وتبين أسبابها ودوافعها الخفية ، وتضع لها العلاج الناجع بإذن الله تعالى .
أجيبكم على عجالة - باختصار – وشيء من ارتجال ، وتجميع من بعض كتبي ومقالاتي ، والوقت لا يتسع لأكثـر مما كتبت .
وإني لشاكر أعظم الشكر ، ومدين لشيخنا محمد عيد العباسي حفظه الله لمراجعته الرسالة ،وتصحيحها ، وتقديم النصح ، فجزاه الله خيراً ، وجعلها في ميزان حسناته .
والله وحده أسأل أن ينفع بها الجميع ، وأن يجعلها خالصة لوجهه سبحانه ، فإن أصبت فمن الله وحده ، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان ، والله أسأل العفو والغفران ، ونيل الدرجات والجنان ، لي ولكل مخلص وطالب حق ، وأن يوحد هذه الأمة ، ويعلي كلمتها ، ويخذل عدوها ، وأن يرفع عنهم الفتـن ، ما ظهر منها وما بطن ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .


وكتبه
عدنان بن محمد العرعور




وقد تضمنت الرسالة :
الفصل الأول : معنى الفتنة وأنواعها .
الفصل الثاني : أسباب السقوط في الفتن .
السبب الأول : قلة العلم والبعد عن العلماء .
السبب الثاني : قلة التقوى .
السبب الثالث : اتباع الهوى .
السبب الرابع : فقدان التربية وقلة المربيـن .
السبب الخامس : نسيان بعض ما ذكرنا به .
1) نسيان التثبت وأهميته .
2) نسيان الحكمة في الدعوة .
3) نسيان المحبة وحقوق الأخوة .
4) نسيان العدل والإنصاف .
السبب السادس : الغلو ودواؤه .
السبب السابع : التعنت والتربص .
السبب الثامن : الاستعجال :
1) الاستعجال في الحكم ونقل الأخبار .
2) الاستعجال في المواجهة
3) الاستعجال في تحقيق النتائج .
4) مضار الاستعجال .
5) دواء الاستعجال .
الفصل الثالث : من الفتـن المعاصرة

الأولى : التمحور .
الثانية : فتنة كثرة الجدال والردود .
الثالثة : التعصب .
الرابعة: الانشغال بما لا يجب عما يجب ، وبما لا نقدر عليه عما نقدر عليه.
الخامسة : التجريج والتصنيف .
الفصل الرابع : عقوبة نسيان ما أمرنا الله به .
الأولى : إغراء العداوة .
الثانية : الاستدراج .

الثالثة : المعيشة الضنك .
الرابعة : الفشل والذل في الدنيا .
الخامسة : العذاب الأخروي .
أمثلة ووقائع .
الفصل الخامس : سبل الوقاية من هذه الفتنة وطرق علاجها
السبيل الأول : العلم
السبيل الثاني : طاعة الراسخين
السبيل الثالث : الاتباع

السبيل الرابع : الصبر
السبيل الخامس : الإخلاص والتقوى .
الفصل السادس : القواعد النافعة في النجاة من مثل هذه الفتن .
الفصل السابع : كلمة حول فتنة التبديع والاختلاف في سيد رحمه الله تعالى .

الفتنة..معناها وأنواعها
الفتنة سنة الله في خلقه ، وحكمته الماضية في عباده ، ليـرى ما هم عاملون ، وفي الفتـن كيف يفعلون } الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً {[الملك: 2] .
وهو سبحانه يخلق العباد لفتنتهم ، وهو الذي لـم يرزقهم ويضحكهم ويبكيهم إلا لابتلائهم ، ولـم يهب لهم ويحرمهم إلا لامتحانهم .
}وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ، وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا .. وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ...{[النجم 43-44]
فكل ما يحيط بنا فتنة }إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً{[الكهف-7]
وكل ما مر بنا ...من أحداث .. من خير ومن شر ، هو فتنة لنا } وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً{[الأنبياء-35]، }وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {[البقرة - 155]
وكل ما يوهب لنا ، ويؤخذ منا فتنة لنا }إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ{[التغابن- 15]، }لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ {[آل عمران - 186]
وما يصدر من الناس للناس ، من قول أو فعل ، هو فتنة للطرفيـن ، حتى الهمزة والغمزة واللفظة تكون فتنة وابتلاء }وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً {[الفرقان - 20]
معنى الفتنة باختصار :
ترد كلمة الفتنة بمعانٍ كثيرة .
والأصل في معناها : الاختبار ، وهي من "فتن الشيء" : اختبره ، ليعلم الإنسان كذبه من صدقه ، وليعلم الشيء جودته من رداءته .
قال الراغب الأصفهاني في المفردات : (( أصل (الفتنة) إدخال الذهب النار ، لتظهر جودته من رداءته )).
وقال في اللسان (عن الأزهري وغيره) :(( جماع معنى الفتنة : الابتلاء والامتحان والاختبار )) .
قلت : وهي - بهذا المعنى - ليست شراً في ذاتها ولا خيراً ، وإنما الخير والشر في تصرف العبد حيالها ، وفي نتائجها ، وما يتولد عنها ، وعلى هذا يحمل قول نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام لربه } إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ {[الأعراف-155].
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية : (( أي : ابتلاؤك واختبارك وامتحانك ... ولا معنى لها غير ذلك ، يقول : إنِ الأمر إلا أمرك ، وإن الحكم إلا لك ، فما شئت كان ...)) .
وبهذا المعنى غالباً ما تنسب إلى الله تعالى ، وتكون منه سبحانه بحكمة بالغة ، وسنة ماضية ، لاختبار عباده وامتحانهم ، ليعلم - علم الحجة عليهم - إن كانوا صادقين أو كاذبين ، }أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {[ العنكبوت – 3 ] أي اختبرناهم .
وقال تعالى: }وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً{[الأنبياء: 35] .
وإذا أُطلقت على العباد ، أو نسبت إليهم، فغالباً ما تأتي على معان .
منها : التعذيب الذي يراد منه صدُّ المؤمنيـن عن الحق ، كقوله تعالى : }إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا {[ البروج – 10 ] أي عذبوهم ليصدوهم عن الهدى .
وكقوله تعالى : }وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ {[البقرة:191]
أي : إن تعذيب المؤمنين لردهم إلى الشرك ، وصدهم عن الإيمان ، أكبر من إزهاق الأنفس في الشهر الحرام عن خطأ .
وقد يراد بها ها هنا : الكفر نفسه والشرك ، أي : إن الشرك والكفر ، أعظم إثماً من القتل الذي يحدث في الجهاد .
قال القرطبي [2/351] عند قوله تعالى : }وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ { : (( وقال غيره ( أي غيرمجاهد) أي شركهم بالله وكفرهم به ، أعظم جرماً وأشد من القتل الذي عيّروكم به.. } وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ{[ البقرة : 193 ] أي :كفر .. قال ابن عباس : ( والفتنة هناك الشرك ، وما تابعه من أذى المؤمنين ) .
وقد يراد بها : تعذيب الله للكافرين : كقوله تعالى: }يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ{[ الذاريات:13] }إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ {[الصافات: 63]
وقد يراد بها : ما هو أخص من هذا : كالشدة والمصائب والمهالك }أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ{ [التوبة: 126] أي يُعرضون على البلاء والشدة .
وقد يراد منها: الإثم والفساد : يقال فلان افتتن ، أي : وقع في الإثم والفساد ،كقوله تعالى: }أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا {[ التوبة : 49 ]
وقد يراد منها : الشيء نفسه الذي أريد به الاختبار: كالمال والولد كقوله تعالى: }إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ{[ التغابن : 15 ]
وتأتي الفتنة بمعنى : صرف المرء مما هو فيه ، إلى ما يُراد له ، وأكثر ما يراد له الشر غالباً ، ولهذا تطلق الفتنة على الشر عموماً }أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا{[التوبة - 49]،}لا يفْتِنَنكُم الشيطان{[الأعراف: 27] ، أي لا يصرفنكم عما أنتم عليه من الخير ، ليوقعكم في الشر .
هذه هي معظم معانِ الفتنة ، وهي معانٍ متقاربةٌ ومتداخلة ، وفيها عموم وخصوص ، واشتراك في المعنى ، ولعل المعنى الأخير هو موضوع بحثنا ، وهو ما وقع فيه كثير من شباب الصحوة من الشر ، وصدوا عن الخير ، فأُشغلوا وصرفوا عما ينفعهم ، ليقعوا فيما لاينفعهم ، بل فيما يضرهم من الفتنة والفساد ، والله وحده المستعان على النجاة من الفتن ، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد .
و الفتـن بمعنى العذاب تكون عقوبةً من الله بما كسبت أيدي الناس ، قال تعالى: }وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً{[ الأنفال : 25] ، وقال سبحانه }فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{[ النور : 63 ]

تنوع الفتن بتنوع الذنوب :
تتنوع الفتن بتنوع ذنوب العباد ، فتارة تكون عدواً يذيق الناس الظلم والـهوان ، وتارة تكون خوفاً وفقراً ، أومرضاً وتشديداً ، }وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَ الجُوعِ وَنَقْصٍ في الأَمْوالِ وَالأَنْفُسِ و الثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{[ البقرة 155] .
وتارة تكون غنى وسلطاناً ، أو نعمة وأمانا ، }وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ و السَّيِئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{كل ذلك حسب حكمة الله ، وما يناسب الناس وأعمالهم }وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالبَأْسَاءِ و الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ . ثُمِّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتَى عَفُوا وَ قَالُوا قَدُ مَسَّ آبَاءَنَا السَّرَاءُ وَ الضَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ { .
قال r: ((خمس بخمس ، ما نقض قومٌ العهد إلا سلط عليهم عدوُّهم ، وما حكموا بغيـر ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، ولا ظهرت فيهما الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طففوا المكيال إلا مُنِعُوا النباتَ ، وأخِذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حُبسَ عنهمُ القطرُ))(1) .
وما هذا الذي حل بالمسلميـن من التفرق والتناحر ، والحسد والتشاتم ، والاتهام والتباغض ، وترصد بعضهم بعضا ، والتعالم والتطاول ، وتسليط الأعداء الداخليين والخارجيين ، ما هذا الذي يجري على المسلمين إلا من الفتن ، التي تحل بسبب الذنوب ، وتنـزل لتجاوز حدود الله بعامة ، وفي الاختلاف بخاصة .
] فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [[المائدة: 14]

الفتن .. حكمتها وشمولها :
إن هذه الفتن جارية كجري الأنـهار ، ودائمة مادام الليل والنهار ، وهي بين سنن كونية باقية ، وسنن شرعية ماضية ، تتنوع بتنوع مقاصدها ، وتـختلف باختلاف مواقعها .. فلكل قوم فتنة ، ولكل امرئ فتنة ، فلا يخلو عصر من فتن ، ولا ينجو مصر من محن .
وهكذا مضت فتن كثيرة في عصور ما قبلنا لا يحصيها إلا الله.. لاختبار العباد ، وامتحان أعمالهم.. فلم ينج منها قوم ، حتى الصحابة رضوان الله عليهم ، فقد وقع في عهدهم فتـن كثيرة .. منها : فتنة تهمة عائشة ، وفتنة علي ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين ، تحقيقاً لقوله تعالى :) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ([ محمد : 31 ]
وكذلك سنة الله في كل قوم وعصر ، ومع كل امرئ ومصر ، ليبتلي الله عباده ، فيعلم –علم الحجة- من يقف عند حدوده بالعلم والدليل ، ويعدل بين الناس بالتثبت والـحق والإنصاف ، ممن يتجاوز حدوده بالهوى والتقليد ، ويظلم الناس بالبغي والتعصب والحسد ، وذلك كله ليحقق الله حكمته في الخلق. قال تعالى:) ألم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ([العنكبوت-3]
أي لا يكفي العبد أن يقول – بلسانه -: آمنت ، ولا أن يمني نفسه بدخول الجنان ، دون أن يمر على مقعد الامتحان ، وأن يجلس على كرسي الابتلاء ، فيهزه هزة بل هزات ، حتى يظهر علمه من جهله ، وصدقه من كذبه ، وتنكشف حقيقته ، وتظهر دخيلته )أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ([آل عمران - 142]
إذ لا تظهر حقيقة المرء على نفسه ، ولا على غيره من الناس إلا بعد أن يبتلى ..
فلا يُعلم؛ أيصبر على المصائب ، وعلى أداء الطاعات ، وعن المعاصي ، إلا بعد أن يصاب بالمصيبة، ويتعرض للمعصية .
ولا يُدرى ، أيصبر على الفقر أم يتضجر..؟! أيشكر على الغنى أم يفجر..؟! إلا بعد أن يصبح فقيراً أو غنياً .
ولا يُعرف المرء ؛ أيعدل إن حكم أم يظلم ..أيتبع ، إن أفتى .. أم يتعصب ، إلا بعد أن يصبح قاضياً ومفتياً ..
ولا يُعلم ؛ أيتقي إن خاصم أم يفجر ، أيؤدي الأمانة أم يخون .. إلا بعد أن يخاصم ويؤتمن .
ولا يُعلم المرء ؛ أيكون عادلاً إذا أمر أم ظالماً.. حكيماً قديراًَ إن حكم... أم أرعن سفيهاً إذا تولى.. إلا بعد أن يتولى ويُؤمَّر ويحكم ويأمر .
ولا يُعلم ؛ أيكذب في الأخبار أم يصدق ، أيتثبت في الأنباء أم ينقل بلا علم ، أيغتاب العلماء ، ويجرح الدعاة أم ... إلا بعد أن يتعرض لهذا .
ولذلك يتنوع الابتلاء ، وتتنوع الفتن ،فتارة يكون بين المسلمين وأعدائهم ،) وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ( الآية [محمد-4]
وتارة يكون بين المسلمين أنفسهم ،كما حصل في فتنة عائشة ، وفتنة علي ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين ، وكذلك يحصل بين الشيوخ ، وهذا ما يسميه العلماء ( كلام الأقران ) قال تعالى: ) وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ … (الآية[الفرقان - 20]
فالراشد من أدرك سر الفتن ، فتصرف فيها كما أمر الله باتباع الدليل ، والإنصاف مع القريب والبعيد، وعصم يده ولسانه .
والخاسر من اتبع هواه ، وتعصب للشيوخ ، ونافح عن الأحزاب ، وحرف الكلام عن مواضعه، ونشر الفتنة بين العباد ، ولم يفرق بين حق وتزيين ، وبين شيخ ودليل ، فأثم حينئذ وهلك: ) لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ([الأنفال - 42]
فكن يا عبد الله راشداً متثبتاً ، وللحق طالبـاً متبعاً ، وبيـن الخلق منصفاً ، ولا تكن - إذا خاصمت - فاجراً ، وللشيخ والبلد متعصباً ، وعن الحزب أو الجمعية منافحاً ، وفي الحكم والفتوى متعجلاً، وللأخبار مذياعاً ، قال تعالى: ) إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً([الإسراء - 36]
وعلى هذا ؛ ينبغي أن يكون التقي في الفتن حذراً من أن يزل لسانه ، أو يضل موقفه ، بالتعصب لرأي ، أو الدفاع عن رجل أو جرحه ، فوالله لتسألن يا عبد الله عن كل لفظة وفعل ، ) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [[ق - 18]، ولتناقَشَن عن كل همزة ولمزة )وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ([الهمزة – 1] ، ووالله لتحاسبن على كل حكم وفتوى ، ولن يشفع لك تقليدك ، فمن حكم حوكم[3]، ومن نطق حوسب ، ومن أمسك سلم ، والله المستعان .

خلاصة فصل الفتـن :
- إن كل ما يعرض للإنسان هو فتنة ، صغيرة كانت أو كبيرة ، بكاء كان أو ضحكاً ، عطاءً كان أو منعاً ، صاحباً كان أو عدواً ، مالاً كان أو زوجاً أو ولداً ، أو حتى نفسه مع نفسه } وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ{[ق - 16]}لتبلون في أموالكم وأنفسكم{[آل عمران 186 ] ، فإما أن يكون الابتلاء عن ذنب عقوبة أو تكفيـراً .. وإما يكون امتحاناً وتثبيتاً .. فمن ثبت أفلح ونجا ، ومن خاض خسر وخاب .
- إن الفتنة ليست خيـراً في أصلها ولا شراً ، وإنما فعل العباد نحوها ، وتصرفهم حيالها ، يحيلها شراً أو خيـراً . قال تعالى : حاكياً عن موسى :} إن هي إلا فتنتك ... {ولايكون شر من الله أبداً [4]..
- على العبد أن يحذر مواقع الفتن ، بتعلم أنواعها ، والنظر في معالمها وأسبابها ، حتى لا يقع فيها .
قال حذيفة رضي الله عنه : ( كان الناس يسألون رسول الله عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ... ) [ خ 3411، 6673/ م 1847 ]
- الفتنة كغيرها من بلايا الشيطان تكون مزينة ، وتقع بالاستدراج .
}يا بني آدم لا يفتتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة {[ الأعراف : 27 ]
قال الشاعر :
الفتنــة أول ما تكون فتيـة





تسعى بزينتها لكــل جهول



حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها





ولت عجوزاً غيـر ذات حليل



شمطاء ينكر لونـها وتغيـرت





مكروهة للشـم والتقبـيـل



أسباب الوقوع في الفتن :

إن للوقوع في الفتن أسباباً كثيرة ، منها ما هو رئيس ، ومنها ماهو دون ذلك ، وسوف نذكر أهم الأسباب التي تورد الفتن ، وتوقع في المحن .
مع التنبه إلى أن كثيراً من الأسباب نفسها قد تكون فتناً كذلك ، فتكون في الوقت نفسه فتنة وسبباً لـها .
السبب الأول : الجهل أو قلة العلم ، والبعد عن العلماء :
لعل من أهم أسباب الوقوع في الفتن : الجهل ، أو قلة العلم ، ذلك لأن العلم للإنسان كالنور للسيارة ، يضيء لسائقها الطريق ، ويجنبه الانحراف ...
والعلم للسالك ؛ كالخريطة للجندي ، ترشده إلى الطريق في الصحراء ، وتمنعه من الضلال .
والعلم للدعاة ؛ كالموجّه ( البوصلة - الرادار ) في السفينة أو الطائرة ، يهدي في ظلمات البر والبحر والجو بإذن الله ، فإذا انعدم النور ، وفقدت الخريطة ، وتعطل الموجّه ، انحرفت السيارة ، وضل الجندي ، وهوت الطائرة .
وكذلك العلم إذا فقد ، أظلم الطريق ، وخرج الناس عن المحجة ، وتخبطوا في تيههم ، وهم يظنون أنهم سيَصِلون ، وعلى الطريق المستقيم سائرون ، وأنّى لهم ذلك! وقد فقدوا هاديهم: العلم ، ومن فقد العلم ، وقع في الظُّلَم و الظُّلْم ؟!؟
ولـهذا قالr: ((قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ))([5])
فمن خرج عن هذه المحجة البيضاء زاغ ، ومن زاغ هلك ، كما حصل للطوائف السابقة والمعاصرة ، ولا أدل على ذلك ؛ مما أحدثه الخوارج - عندما فقدوا العلم - فقد سفكوا الدم الحرام ، في الشهر الحرام ، وهم يظنون أنـهم يحسنون صنعا .. كل ذلك لأنهم جهلوا ، أن الإيمان يزيد وينقص ، وأن الذنب يجتمع مع الإيمان .. وأن الكفر كفران .. وأن الظلم ظلمان .. فأخذوا بظواهر النصوص التي تخالف - في زعمهم- مذهب الراسخيـن ، فراحوا يتخبطون في دماء المسلمين ، ويخوضون في أعراضهم ، حتى استحلوا دماء الأطهار من الصحابة رضوان الله عليهم، وغيرهم من الأبرار.
وهكذا تخبط المعتزلة حين فقدوا العلم .. فوصفوا الله بما لا يليق ، وسجنوا من خالفهم من الأبرياء ، وجلدوا ظهور الأطهار ..
كل ذلك بسبب جهلهم بعامة ، وانعزالهم عن العلماء ، وجهلهم بوجوب التزام مذهب السلف بخاصة ، وجهلهم المركب باللغة العربية ، ومن أمثلة ذلك : جهلهم أن اللفظة في اللغة العربية تستعمل في أكثر من معنى ، ففهموا {جَعَل} بـمعنى {خلق} فحسب ، ولذلك فسروا قوله تعالى: } إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاًً {[ الزخرف: 3] أي خلقناه .. أي أن الله خلق القرآن خلقاً ، ولم يتكلم به كلاما.. بل إن الله – عندهم - لا يتكلم أصلاً ... إلى غير ذلك من الهذيان ، ولم يعلم - هؤلاء الجهلة - أن لـ((جعل)) معاني كثيرة ، فهي تأتي بمعنى (( صيّر )) أي صير الأمر بعد أن كان ، وذلك حين تنصب مفعولين ، كقوله تعالى: }وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً{[النحل - 81] .. ولا أدري أين ذهبت عقولهم في فهم قوله تعالى: }أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ {[ص - 5] فمن هذا الذي يفهم أن جعل هنا بمعنى ((خلق)) ، وإذاً صار معنى الآية: " أخلق محمدr الآلهة إلهاً واحداً " ؟ إن هذا الجهل باللغة لشيء عجاب !
ولقد كنت أظن أن المعتزلة - وإن كانوا على جهل وضلال - لديهم شيء من العقل ، ثم تبين لي: أنهم بلا علم ولا عقل !!!
فمن كان يعتقد أن الله أخرس لا يتكلم ، وإنما يخلق الكلام خلقاً[6] ، ومن كان يُحكّم عقله في أوامر ربه وأخباره ، فيرد النصوص بدعوى مـخالفتها لعقله .. فلا شك أن مثل هذا بلا علم ولا عقل ، فهو كالأبله الذي يريد أن يعرف كل شيء ، ويحاول تصور كل شيء ، وأن عقله فوق كل العقول ، وهو لا يفقه شيئاً}فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ {[الحج-46]
وقلة العلم من قلة العلماء ، أو من مجافاتهم ، ومجانبة حلقاتهم ، والاستقلال عنهم ، تعالماً ، أو طلباً للرياسة .
كل ذلك مصداق قوله تعالى : }وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ { الآية [الأنعام 119] ، ومصداق قوله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله لا يْقِبضُ العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يُبق عالماًً ، اتخذ الناس رؤساً جهالاً ، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )) [أخرجه البخاري (100) ومسلم (2673) ].
وإذا قل العلماء قل العلم ، وكثـر المتعالمون ، ووقعت الفتـن ... وبوادر هذه الفتـن ، مقبلة نعوذ بالله منها .
وهذا الحديث ، شاهد قوي على ما نحن بصدده ، من أن الجهل سبب وأيما سبب للوقوع في الفتـن ، بفتاوى المتعجليـن ، وتعجل المتعالميـن .
* وأما السؤال : هل من قاعدة أو من مرشد يبين للناس العلم من التعالم ؟؟ ويُفرَّق به بين العلم والجهل ؟
فالجواب : أنه لا شك في وجود ذلك ، وليس في ذلك مشكلة .. ولكن المشكلة تكمن في إيصال ذلك ، وتلقينه ، والتدريب والتربية عليه .
ولا يمكن في هذه العجالة أن يبين كل شيء .. ولكن يكون ذلك بأحد الأمور التالية :
الأول : إدراك معنى الدليل ، والتفريق بينه وبين التزيين والتخييل .. وإذا فقد المسلم التمييز بينهما ضل ، ولذلك قيل : من فقد الدليل ضل السبيل . وقد فصلنا هذا في كتاب " قواعد معرفة الحق " يسر الله إتمامه .
الثاني : ثني الأرجل عند الراسخين في العلم ، والتزام منهجهم ، ولو بدا لطالب العلم أنه مخالف لظاهر بعض النصوص ، فإن رأي الراسخين ، ولو كان كذلك ،خير من اتباع آراء المبتدعيـن المتحمّسين وسلوك منهجهم ، فكم خطّأ قوم الراسخين ، ثمّ جاءت الأيام لتشهد صحة رأيهم ، وسداد فتاويهم ، وخطأ فتوى المتعجلين ، وفشل منهجهم...
الثالث : الإتباع .
الأصل في ديننا في كل شيء الاتباع ، إلا إذا دل الدليل على خلاف ذلك ...و سيأتي إن شاء الله تفصيل ذلك .
وقبل مغادرة هذا ، لابد لطالب العلم من تنبيهين:
التنبيه الأول : أن يكون عالماً بأدب الخلاف ، وأحكامه ، ومواقفه الشرعية لا العاطفية ، فكثيراً ما كان العلم المجرد عن أدبه، وفقه خلافه، ضرراً على صاحبه، والعلم بلا أدب، كالآلة لا روح فيها
التنبيه الثاني : أن يُحذر من التعالم ، فالتعالم طريقه سهل مزلة ، ودربه مزلقة ... والتعالـم أوله نشوة ، وأوسطه حيرة ، و آخره هلاك وفتنة ، وأكثر ما يكون في حدثاء الأسنان .. ولا يُنفى عن كثير من المثقفين والدعاة ، ولو علت أصواتهم ، وانتشرت محاضراتهم ، وكثرت كتبهم .
وبهذا يدرك العاقل سر تخبط الجماعات الإسلامية في مناهجها ، وذلك لجهل كثير من قادتها المنهج الحق ، واعتقادهم أن الإسلام : دين رأي وفكر .. لا دين علم واتباع ، فراحوا يجتهدون في مواجهة النصوص ، ويقدمون ظاهر واقعهم على حقيقة شرعهم .
قال أحدهم : إن الشيوعيين عرفوا من أين يبدؤون .. وإن القوميين عرفوا كيف يعملون .. ولكن المسلمين حتى الآن .. لم يعرفوا من أين يبدؤون .
قلت : إن كان قصد القائل : لم يسلكوا الطريق المرسوم .. فنعم .
وإن كان قصده ؛ أنهم فاقدون للطريق ، ولما ينشئوا طريقاً لهم ، فنعوذ بالله من الخذلان .. والله عز وجل يقول : }وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ{[الأعراف: 153] ويقول سبحانه : } قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني {[يوسف: 108].
ويقول} الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْلإِسْلامَ دِيناً {[المائدة: 3] أي : وضعت لكم طريقاً مأموناً ، ومنهجاً متكاملاً ، لا نقص فيه ولا اعوجاج . فلا حاجة لأحد أن يرسم طريقاً ، أو يخط منهجاً ، وإنما عليكم اتباعه والعمل به ، والدعوة إليه .
وكيف يقول – هذا القائل- ما يقول ، والرسولr يقول : (( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنتي ))[7].
ففي الكتاب والسنة ، الهدى والنور ، والمنهج والطريق إلى التمكين ، ولا يُعرف هذا الطريق بالعواطف الجياشة ، والخطب الرنانة ، وإنما يعرف بالعلم ، وبالعلم وحده ، فاللهم هداك .
وقد يقول قائل : إن ما ذكرته حق ..ولكن جميع الفرق والجماعات تدعو إليه ، وتزعم أنها تتبناه ، ومعظم المسلمين يحبون أن يعرفوا الحق ويعملوا به ، ومع ذلك فهم مختلفون ، وفيه متناحرون ، فكيف لي أن أعرف ذلك وأُمارسه ؟
لعل ذلك يدرك بالسبب التالي :

السبب الثاني من أسباب الوقوع في الفتن : قلة التقوى .
إن للتقوى أثراً بالغاً في دفع الفتـن ، والوقاية منها قبل وقوعها ، والنجاة منها بعد وقوعها ، وأخذ الدروس والعبـر منها بعد انقضائها ، قال تعالى : }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً {[ الأنفال: 29]
وقال تعالى} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يصلح لكم أعمالكم {[الأحزاب:70]
وإن للذنوب والمعاصي أثراً في إحداث الفتـن ، بل هي من الأسباب الرئيسة لوقوع الفتـن ، والسقوط في حمأتها ، والتلطخ بآثامها ، }ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {[الروم: 41]
والتقوى كما ورد عن علي رضي الله عنه : (( الخوف من الجليل ، والعمل بالتنـزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل )) .
وقال ابن القيم نقلاً عن بعض السلف : ( أن تعبد الله على نور من الله ، ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله ، على خوف من الله ، تخشى عذاب الله )[8].
فوقوع الذنوب من العباد ، يجلب غضب الله ، وغضب الله يجلب نزول الفتـن ، وحلول المصائب والمحن } وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ {[الشورى - 30].
ومشاركة العصاة في مجالسهم ، أو السكوت عن بعضهم ، وإن لـم ترتكب المعصية ، لا ينجي من الوقوع في الفتنة ،قال تعالى: }فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ{[النساء - 140].
وقال تعالى: } وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً{[الأنفال- 25] .
و تكون الفتن على قدر الذنوب ، شدة و كثرة .
ودور التقوى في الفتنة ؛ أن يوفقك الله لتكون بصيراً بأسبابها ، متجنباً السقوط فيها ، معتبراً بوقوعها .
و من التقوى : أن تحفظ في الفتنة سمعك ولسانك ، وتستشعر بسؤال الله لك عن كل كلمة تسمعها ، وكل لفظة تنطق بها .
قال تعالى : }مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ{[ق - 18]
وقال تعالى : } إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسؤولاً {[الإسراء - 36]
وبالتقوى يتقرب العبد من ربه ، فيحفظه في الفتن ، ويحفظ أعضاءه .
قال تعالى - في الحديث القدسي-: (( ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها..)) رواه البخاري [6137]
أي : إن اتقى العبد ربه ، وتقرب إليه بالعمل الصالح - وهذا من التقوى - حفظ الله سمعه وبصره ويده ... من أن تتصرف تصرفات غير شرعية ، وهذا بعينه هو الحفظ بالتقوى من الفتن ، والعاصم من الوقوع فيها .
}إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ {[الأعراف- 201]



من الخير إدراك سر الفتـن :
ولو أدرك المسلمون سر الفتـن وأنواعها ، ولماذا يخلقها الله وسبل النجاة منها ، لكان خيـراً لهم، ولكن أبى الله إلا أن تكون ، وأبى الناس إلا أن يخوضوها }وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ{[المائدة: 71]
فاللهم اجعلنا في الفتـن من المبصرين السامعين ، وأن لا نكون ممن قلت فيهم : }وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ{[الأنفال-21]، والله الهادي سواء السبيل .

السبب الثالث من أسباب الوقوع في الفتـن : الـهوى.
لقد حذر الإسلام من الهوى أيما تحذير ، بل ربما كان التحذير الأول منصباً عليه ، ذلك لأن الهوى سلاح الشيطان الرئيس ، وأصل الضلال و الفساد في البلاد وبين العباد .

]قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [[ الأنعام - 56 ]

]وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ … [[ المؤمنون – 71 ]

لكن المصيبة أننا نقع في الهوى ، ونحن نظن أننا نحسن صنعاً .

وفي هذا الفصل بعض المعالم المعينة على اجتناب الهوى ، من باب : ]إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [[ق - 37]

معنى الهوى :
الهوى لغة : (( محبة الإنسان لشيء ، وغلبته على قلبه )) قاله في اللسان .
وقال ابن الجوزي : (( الهوى ميل الطبع إلى مايلائمه ))
قلت: وفي التعريفين نظر ، لأن المرء قد يهوى الشيء ولا يغلب على قلبه ، وقد يكون ميل النفس إلى ما لا يلائمها ، ومع ذلك فهو هوى ، ولعل تعريف الراغب أصح إذ قال: (( الهوى : ميل النفس إلى الشهوة )) .
قلت: وأصوب من هذا كله ، أن يقال - في معنى الهوى -: ((هو ما تشتهيه النفس وترغبه)) .
وقد يكون ما تشتهيه يضرها ، وقد ينفعها ، وقد يغلب على قلبه وقد لا يغلب ، وقد يلائمه وقد لا يلائمه.
وعلى هذا ؛ قد يكون الهوى – كأصل ومعنى لغوي - محرماً ، وقد يكون مشروعاً أو مباحاً ، وعلى هذا يفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم - إن صح – (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ))[9] .
أي لا يكون العبد مؤمناً كامل الإيمان حتى يُخضع شهواته ورغباته لشرعه .
ومما يؤيد هذا المعنى اللغوي : ما ورد في حديث أسارى بدر ((فهوي رسول اللهrما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت ) [ م 1763 ] وفي حديث آخر في مسلم : ( كان رسول اللهr رجلاً سـهلاً ، إذا هويت – أي عائشة - الشيء تابعها عليه)) [ م 1213 ] .
ثم لما كان الغالب على الناس أتباع شهواتهم ، وتعطيل عقولهم ، وتغليبها على شرعهم ، أطلق الذم على الهوى والشهوات بعامة .
قال تعالى : ] فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا .. [[نساء: 135]
وقال تعالى: }فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً{. [ مريم – 59 ]
وقال سبحانه : }وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً{[النساء– 27]
ولذلك رد بعض أهل العلم متن الحديث السابق بعد تضعف سنده ، وقالوا : إن الهوى مذموم ، ولا يكون المذموم تبعاً للشرع ، ولكن يجاب عن ذلك : بأن المراد بالهوى هاهنا : المعنى اللغوي ، الذي لا يذم في الأصل ولا يمدح .
ويمكن تعريف الهوى شرعاً : (( تغليب الشهوة والرغبة على الشرع )) .
أو : (( تجاوز حدود الشرع تلبية لشهواته ورغباته )) .
أو : (( كل مخالفة للشرع دافعها الشهوة والرغبة )) .
وبهذا التعريف ؛ يندفع الهوى عن المجتهدين ،مما قد يحصل منهم من إباحة لمحُرّم ، أو تحريم لمباح ، لأن دافع المجتهدين تحري الصواب ، فضلاً عن أنهم أهل لذلك ، ودافع صاحب الهوى .. الشهوة والرغبة والمصلحة ، في مواجهة النصوص .
والهوى دركات ، تبدأ من الذنب الصغير ، وتنتهي بالكفر الأكبر ، والعياذ بالله تعالى .
من صور الهوى :
الأولى : التكلم في الدين بغير علم أو دليل :
ترى كثيراً من الناس يفتي أو يجادل ، ولما يتمكن العلم أو بعضه منه ، بل لم يسلك طريق الهداية إلا قبل بضع سنين أو بضعة شهور ، وهذا ملاحظ في كثير من شباب الصحوة .. يناقش عظائم المسائل التي تردد فيها كثير من الأئمة ، وتحير فيها الفحول من أهل السنة – كالتكفير والعذر بالجهل، والتبديع و الخروج والدماء ، وما شابه ذلك - وأما هو : فتراه متشدق العبارة ، متسرعاً في الفتاوى، وليس عنده من العلم والفقه ، سوى حفظ لنـزر يسير من النصوص ، يقيس عليها ، كما يقيس الجاهل النجمة على الشمعة ، لاشتراكهما في النور القليل .
}وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ {[الأنعام– 119]
}وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ {[الحج– 3]
}وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى{[ النجم - 3 ]
أي لا ينطق عن شهوة ورغبة ، ولا يتكلم بغير علم ، إنما ينطق بالوحي وبالعلم والدليل.
الثانية : تقديم التزيين على الدليل :
المقصود بالتزيين ؛ كل ما يخيل للمرء أنه دليل وليس بدليل ؛ كالواقع ، والسياسة ، والمصالح ، وما شابه ذلك .
فإذا قيل له: هكذا فعل الأنبياء ، قال: الواقع .. النتائج .. الظروف.. ، وإذا قيل له هذا محرم ... قال: الحالة الاقتصادية توجب مخالفة ذلك ، والمصالح تبيح ذلك ، وإذا قيل له: قال رسول الله r قال: هذا في زمانه ولا يناسب هذا زماننا فزماننا غير زمانه ، وإذا قيل له: هذا غلو ، قال: هذا ورع ، وإذا قيل له : هذا تمييع أو تفريط ، قال : هذا تسهيل .
}أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ {[ محمد- 14]
الصورة الثالثة من صور الهوى :
رد الأدلة وعدم الاستجابة لها :
ترى هذا الصنف ، يقف على النصوص ، ويفهم الدليل ، ولكنه لا يستجيب لها ، لما زُرع في نفسه من الهوى ، تقليداً لزيد ، أو تعصباً لعمرو ، أو عناداً في مخالفة ، أو استرواحاً لمصلحة .
وإذا قيل له: قال رسول اللهr، قال: قال فلان من العلماء.. أو يقول : هكذا مذهبي ، وهم أفهم مني ومنك وأعلم وأفضل ! واعلم أن كل قول يعارض قول الله وقول رسوله هو هوى كما ، قال سبحانه : }فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ {[ القصص- 50] .
الصورة الرابعة : عدم الإنصاف للحق ، وادعاء عدم فهم الدليل :
هذا الصنف من أصحاب الهوى يشابه السابق ، في اتخاذه قراره مسبقاً ، قبل استقراء النصوص ، وسماع الأدلة ، ويختلف عن الأول في أنه غير مستعد أصلاً لسماع الدليل أو لفهمه .
فإذا قيل له : اتبع ما جاء به الرسولr في عقيدتك ، وصلاتك ، ومنهجك .
قال : بل أقلد فلاناً ، أنا لست أهلاً للفهم ... رامياً نفسه بالعجز والكسل والغباوة .
ومنهم من يقول : ((الدين في القلب)) ((الدين المعاملة)) كلمات حق أريد بها باطل ، أو يقول: هذا تطرف .. هذا تشدد .. ؛ والحقيقة هذا منه تدليس ، وإعراض عن العمل .
}وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ : مَاذَا قَالَ آنِفاً ؟ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ {[ محمد– 16]
الصورة الخامسة : الحكم بغير الحق :
من صور الهوى ؛ الحكم بغير الحق ، لصالح قرابته ، أو لتثبيت عرشه ، أو خوفاً على مصالحه ، أو كفراً بشرع ربه .
والأول : هوى عملي .. والأخير هوى كفري يخرج من الملة .
قال تعالى: } فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب {[ ص- 26 ] .
الصورة السادسة : الإعراض عن طلب العلم و هجره :
ومن صور الهوى الإعراض عن طلب العلم ، وعدم فهم أصوله ، والالتفات إلى غيره ، وبعضهم ينقطع عن العالم لخطأ وقع فيه ، أو لهضمه حقاً له.. جرياً وراء ما لا ينفعه في دنيا ولا دين، كالسراب يحسبه الظمآن ماء .
] بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ...[[ الروم - 29 ].
قال تعالى: }وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ... وَاتَّبَعَ هَوَاهُ .. {[الأعراف : 175]
الصورة السابعة : الغفلة عن ذكر الله :
إن من أبرز علامات صاحب الهوى: قلة ذكر الله...
فقليلاً ما تراه ذاكراً ربه ، ذِكراً بالقلب واللسان ، أو ذكراً عملياً ، في بيعه وشرائه ، وفي خلقه ومعاملته .
}وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاًً{[الكهف- 28] .

الصورة الثامنة : ترك الهدى واتباع الكفار :
إنّ ترك التأسي بالرسول r ، و العمل بالسنة ، و التطلع إلى ما عند لكفار ، من أبرز صور الهوى ، و إنك –و للأسف- لترى في هذا الزمان كثيراً من المسلمين ، يعرض عن سنن الهدى والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، إلى التشبه بالكفار عملاً ، أو اعتقاداً في تشريع أو خُلُق ، أوحتى في مأكل أو ملبس } وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ{[البقرة - 120 ] .
وقالr: (( من تشبه بقوم فهو منهم ))[10].

الصورة التاسعة : الظلم بأي صورة من الصور :
كل ظلم يصدر من المرء مهما كانت صورته ، ومهما كانت أسبابه ، فهوظلم ،كظلم الزوجة ، وعدم العدل بين النساء ، وحرمان بعض الورثة لكراهيته لـهم ، وظلم العمال ، إلى غيـر ذلك من الصور التي لا تحصى .
] فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا... [[ النساء - 135 ]

الصورة العاشرة: الافتراء والخوض في الأعراض بالظن ، والإعراض عن الرد بالعلم والدليل:
ترى صاحب الهوى كثير الافتراء و الخوض في الأعراض بغير دليل ، تلبية لشهوته ، أو شفاء لما في صدره ، أو انقياداً لحسد ، أو تحطيماً لمخالف ، أو منافسة لقرين .
وانظر - إن شئت - كلام من يدعي العلم ، وهو يرد على أحد طلبة العلم ، في مسألة خلافية (( زيد جاهل ، من صفاته الكذب ، والتلبيس ، والتزوير ، وخداع النفس بالأماني الكاذبة يروج بالباطل ، وهو سارق ، ومجرم ، وسفيه ، ولص ..)) هذا هو مستوى الرد العلمي في مسألة خلافية عند بعض الرادين ؟!؟
والحقيقة : أن هذا يدل على حقد دفين ، ومرض في الصدور شديد … ولا يدل على بغية صاحبه للحق ، وإلا فأين النقاش العلمي وأدلته ؟ .
] إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُس ُ[[النجم- 23].
وللهوى صور كثيرة ، ومتشعبة ، منها : الصراع في الرجال دون الأقوال ، وتحكيم العاطفة ، وبيع الفتاوى ، وكتمان الحق ، ومداهنة الباطل ...
وحسبك ما عرفت من التأصيل ، من أن الهوى : رد الحق والدليل ، لشهوات النفس ، ورغبات القلب ، ومصالح الدنيا .


1)قال النووي في شرح مسلم 2/72 : هذا حديث عظيم الشأن وعليه مدار الإسلام ، أما ماقاله جماعات من العلماء أنه أحد أرباع الإسلام أي أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام فليس كما قالوه بل المدار على هذا وحده .اهـ

(1) أخرجه أبو داود (3597) وأحمد(2/70) والحاكم (2/27) وصححه شيخنا الألباني رحمه الله في إرواء الغليل (7/349) وفي الصحيحة (438) ] .


(1) أخرحه الطبراني في الكبير (10992) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير(3240).

([3]) حوكم بمعنى : حوسب ، و سيأتي تفصيل هذه العبارة .

(2) كون ألا يكون في فعل الله شر شيء ، وأن الله خالق كل شيء آخر .

(1) رواه أحمد ( 4/126) وابن ماجه (43) والحاكم ( 1/96) و غيرهم ، وصححه شيخنا الألباني في الصحيحة (936).

(1) قلت: علة المعتزلة أنهم تأثروا تأثراً كبيراً بفلسفة اليونان والثقافات الأخرى، فحكموها على الكتاب والسنة ، فما تعارض منها معها أولوه ليتفق معها ، فلم يجعلوا مصدرهم الكتاب والسنة فقط ، ولم يعرفوا حقهما وقيمتهما ، بينما عظموا الفلاسفة والثقافة...

(1) رواه مالك في الموطأ ( 1662) بلاغاً ، ووصله الحاكم 1/93 والبيهقي 10/114 والدارقطني 4/245 وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وللحديث شواهد كثيرة فالحديث صحيح بشواهده . انظر الصحيحة (1761)

(1) رواه هنا أبوداود في ( كتاب الزهد ) (522) عن عاصم الأحول قال : لقي بكرُ بن عبد الله طلقَ بن حبيب فقال : صف لنا شيئاً من التقوى يسيراً نحفظه قال: اعمل بطاعة الله، على نور من الله ،ترجو ثواب الله ،فالتقوى ترك معاصي الله ،على نور الله ،مخافة عقاب الله ) وسنده صحيح .

(1) رواه ابن أبي عاصم في السنة (15) والبيهقي في المدخل (209) وغيرهما ، قال البيهقي : تفرد به نعيم بن حماد . قلت : وهو ضعيف عند أكثر الأئمة ، بل قال الأزدي : كان يضع الحديث في تقوية السنة وحكايات عن العلماء في ثلب أبي حنيفة مزورة كذب! كما في الكامل لابن عدي 6/16 والتهذيب وغيرهما ومع ذلك قال النووي في الأربعين (41) : حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح . وقال الحافظ في الفتح 13/289 : رجاله ثقات ! قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم 1/387 : تصحيح هذا الحديث بعيد جداً من وجوه... وقد ضعفه شيخنا الألباني في تخريج مشكلة الفقر (167) وغيرها.

([10] أبو داود (4031) وغبره ، وصححه شيخنا الألباني في صحيح أبي داود .
(يتبع)