أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


مكابدة ضغط الدم في رحلة التحصيل العلمي!

كنت في مكتبة الجامعة فلمحت عيناي دورية تصدرها إحدى الجامعات الإسلامية، وعلى غلافها عنوان لفت انتباهي، وهو: "منهجية الفتوى لدى مجلس الفقه الإسلامي لدولة المريخ". فقلت في نفسي هذا مقال تهمني قراءته. فتحت المقال فإذا بصاحبه يبدأه بمقدمة في صفحتين. قلت هذا طبيعي! فكل أمر ذي بال لا بد له من تقديم، وحتى ممارسة الرياضة تحتاج إلى تسخين ... والدف أيضا يحتاج إلى تسخين ليكون صوته مطربا.

جاء المبحث الأول بعنوان: "حقيقة الاجتهاد الجماعي". انتابني شعور بالخوف من أن طالع المقال حشو ... وكان ما خشيت! شرع صاحب المقال في تعريف الاجتهاد لغة واصطلاحا (صفحة واحدة فقط، ولله الحمد)، ثم خصائص الاجتهاد الجماعي (صفحتان ونصف)، ثم مشروعية الاجتهاد الجماعي (صفحة واحدة، ولله الحمد)، ثم أهمية الاجتهاد الجماعي (صفحة ونصف). أحسست بتباشير ارتفاع الضغط، فسارعت إلى تهدئتها بأن هذا مجرد مدخل إلى الموضوع، ويُغتفر في المداخل ما لا يُغتفر في صلب الموضوع...


ولكن المبحث الثاني طلع بطالع سالفه، وكان تحت عنوان: "معالم منهجية الفتوى لدى مجلس الفقه الإسلامي لدولة المريخ"، وفيه: تمهيد (نصف صفحة)، ثم تعريف الفتوى لغة واصطلاحا (صفحتان)، ثم مشروعية الفتوى (ثلاث صفحات)... وعند هذا بدأ الدم في الفوران، فهدَّأتُه بأن هذا ليس بعيدا عن المدخل فيُغتفر بحكم الجوار، وللجوار حرمته! كيف لا؟ وقد أوصى الشرع برعاية حرمة الجار، وشدد في ذلك حتى ظن الصحابة رضي الله عنهم أنه سيورِّثه. ولكن ضغط دمي أصرّ على الارتفاع رافضا كل التعليلات.


بعدها جاء عنوان آخر: "مناهج الإفتاء لدى مجلس الفقه الإسلامي لدولة المريخ". كان بدايتها: منهج الاستكتاب ... وانتابني خوف من سكتة قلبية إذا شرع الكاتب في تعريف "الاستكتاب" لغة واصطلاحا، ولحسن الحظ لم يفعل، ولكن تحدث عن الضوابط المتعلقة بالمستكتَب (أكثر من ثلاث صفحات)، ثم الضوابط المتعلقة بالبحث المقدم كما ترد في خطاب الاستكتاب (أكثر من صفحة)، وقد أغنى ذلك عن إدراج أنموذج من خطاب الاستكتاب ضمن ملحقات المقال!


بعد هذا التطواف اقترب الكاتب من موضوع المقال، وبدأ يحوم حوله... فبدأت بوادر اعتدال ضغط الدم تبدو، ولله الحمد من قبل ومن بعد.


أعتذر لك أخي القارئ إن كنت قد رفعت ضغط دمك بهذه الثرثرة،
ولكن عذري أنها في ركن الاستراحة، فلعل ضغط دمك قد ارتفع أثناء البحث والتحصيل فأويت إلى ركن الاستراحة بحثا عما يخفضه! فتصرخ مع صرختي ... إنها مجرد صرخة للتنفيس!

لم أقصد من هذه الثرثرة التنقيص من المقال وصاحبه، فالمقال مفيد وكاتبه أستاذ جليل صاحب علم وفضل، وعلمي لا يبلغ معشار علمه. وإنما اخترته أنموذجا للتنفيس من ضغط دمي؛ لأني صادفته حين بلغ السيل الزبى، وكان الذي بلغ بضغط دمي الزبى كتاب آخر، وإنما تجنبت عرض ذلك الكتاب لطوله الشدييييييد (طبعا بالتعريفات اللغوية والاصطلاحية لكل عنصر يطرقه، وما أكثر تلك العناصر، وبالاستطرادات المرسلة)، فخشيت إن عرضته أن أبلغ بضغط دم القارئ الزبى.

فمعذرة لأستاذي الفاضل صاحب المقال، فهذا تأثّر بثقافة الحشو التي نشأنا فيها، وشاعت بيننا حتى صار من يتجنّبها يُنكر عليه، ويُعد ممن خالف قواعد البحث العلمي! وكثيرا ما أتساءل من بدأ هذه السنّة السيئة في البحث؟
عفا الله عمن سنّ هذه السنّة السيئة في البحث، وهدى الله من يصرّ على اتباعها أو فرضها على طلابه الذين يشرف عليهم.
إن التخلص من هذه السنّة السيئة يوفّر على الأمة ملايير الأوراق ومئات الصهاريج من الحبر مما يستخدم في الطباعة، وكل هذا يساوي ملايين الدولارات؛ ليتها تجد طريقها إلى إخواننا المسلمين في بعض مناطق افريقيا وآسيا، الذين لا يجدون نسخة من المصحف لقراءة القرآن الكريم.

واختم بنكتة كنا نتداولها صغارا. لقد كان متعارفا أن يطلب منا معلم اللغة العربية في الاختبار كتابة مقالة بسيطة في الإنشاء عن موضوع ما. واستعدادا للاختبار قام أحدهم بإعداد مقالة عن دودة القز وحفظها، توقعا منه أن يكون موضوع الإنشاء حولها. وفي الاختبار كانت المفاجأة السيئة بأن كان موضوع الإنشاء حول "الفيل". وبعد تفكير وجد صاحبنا مخرجا (من نوع الحيل الفقهية، وإن شئت فاجعله من باب العدول عن القياس إلى الاستحسان) فكتب قائلا: الفيل حيوان ضخم له خرطوم طويل يشبه دودة القز، ودودة القز ..... وكتب كل ما حفظه عن دودة القز.
وفي الختام لن يعدم بضع كلمات عن الفيل يختم بها موضوعه، فتكون فاتحة الموضوع بالفيل وخاتمته بالفيل حتى تصح عنونته ب"الفيل"!