أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


قاعدة في مآلات النوازل
النوازل الزمانية التي يشاهدها الانسان وتؤثِّر في قلبه من طفولته إلى وفاته وإن كانت قاسية ومُرَّة ، لكن لا بُدّ في طياتها من حِكم وعِبر يستطيع الانسان أن يستفيد منها ، له ولغيره إن أحسن ذلك .

وهناك مجموعة من الفوائد التاريخية والشرعية التي يُمكن أن يستأنس بها المسلم لتخفيف ظروف الزمان والمكان على نفسه ، وبها تتبين مآلات النوازل . وهي إما فوائد معلومة لكنها مهجورة، أو فوائد بعيدة لكنها محجوبة ومستورة .

والزمن لا تأثير له في حدوث الأشياء، وإنما التأثير بيد الله تعالى فهو سبحانه كل يوم في شأن، يخلق ما يشاء ويختار .

والمسلم قد ينزعج من الأكدار الزمانية ، مما يجعله يطمع في تغييِّر الأحوال في عشية أو ضحاها ، إما بسبب الجهل المفزع أو الفقر المدقع أوالمرض المفجع !.

والله تبارك وتعالى استعمل التاريخ في الردِّ على أهل الكتاب ، كما في قوله سبحانه : "يا أهل الكتاب لم تُحاجُّون في إبراهيم وما أُنزلت التوراة والأنجيل إلاّ من بعده أفلا تعقلون " (آل عمران: 65) ، فلماذا لا نستعمله إذا في مداواة همومنا ونوازلنا ؟! .

ومن يتأمل بعض نوازل الزمان من معركة الجمل ( سنة : 36 هـ ) إلى نوازل الربيع العربي ( سنة :1432 هـ ) ، يلاحظ قاعدة يمكن الافادة منها في التخفيف من الأكدار الزمانية .
وهذه القاعدة هي أن كل أُمة تنظر ببصيرة في أحداث زمانها ، ستجد في التاريخ ما يفيدها في التخلُّص من عوائق زمانها . والعكس بالعكس ، فكل أمة لا تنظر إلى من قبلها يُسلَّط عليها بعض ما حَلَّ بغيرها . فالتسلية بالوقائع مما جاءت به الأدلة ورغبت فيه .

والنظر يكون بالقياس والاعتبار وتأمل العواقب واستخراج سنن الله من الحوادث .
وعوائق الزمان إما الأخطار المادية والمعنوية ، أو الهموم والأكدار النفسية . لكن يبدو أن الاعتبار والافادة من الأحداث لا تستقيم لكل أحد . والشواهد على هذا أكثر من أن تُحصر أو تُعدّ .
ولو تأمل العاقل في القرآن والسنة والتاريخ ، لوجد لكل حدث كبير في عصرنا ، أصلاً يُستأنس به في القياس عليه ، لأجل تخفيف أعباء الحياة .

قال الله تعالى : " كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم " ( الحشر : 59 ) .وقال سبحانه : " ويستعجلونك بالسيئة قبل الْحسنة وَقد خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِم الْمَثُلات "( الرعد : 6 ) . وقال سبحانه : " لقد كان لكم فيهم أُسوة حسنة " ( الممتحنة :6 ) . وضرب الأمثال في القرآن والسنة كثير ومستفيض .

• وبين يدي ثلاثة أمثلة تاريخية يمكن القياس عليها والافادة منها، وفيها حِكم ودروس بالغة لمن كان له عقل أو ألقى السمع وهو شهيد :

1- " لما هرب ابن الأشعث(ت: 85هـ ) بعد أن أثار فتنة أهلكت الحرث والنسل ، فقُتل من أتباعه من قُتل ، وأُسر كثيرٌ منهم ، فقتلهم الحجاج بن يوسف الثقفي(ت: 95هـ )، وهرب من بقي منهم ، ومنهم عامر الشعبي(ت: 103هـ ) رحمه الله تعالى ، فأمر الحجاج أن يُؤتى بالشعبي، فجيء به حتى دخل على الحجاج . قال الشعبي : فسلَّمتُ عليه بالإمرة ، ثم قلت : أيها الأمير ، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق ، ووالله لا أقول في هذا المقام إلا الحق ، قد والله تمرَّدنا عليك وحرَّضنا ، وجهدنا كل الجهد ، فما كنا بالأتقياء البررة ، ولا بالأشقياء الفجرة ، لقد نصرك الله علينا ، وأظفرك بنا ، فإن سطوتَ فبذنوبنا ، وما جرَّت إليك أيدينا، وإن عفوتَ عنَّا فبحلمك ، وبعد فالحجة لك علينا .

فقال الحجاج لما رأى اعترافه وإقراره : أنت يا شعبي أحبُّ إليَّ ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا، ثم يقول ما فعلتُ ولا شهدتُ ، قد أمنتَ عندنا يا شعبي .
ثم قال الحجاج : كيف وجدتَ الناس بعدنا يا شعبي ؟ وكان الحجاج يُكرمه قبل دخوله في الفتنة .
فقال الشعبيُّ مخبراً عن حاله بعد مفارقته للجماعة : أصلح الله الأمـير ؛ قد اكتحـلتُ بعدك السـهر ، واستـوعرت السـهول ، واستجلـست الخوف ، واستحليت الهمَّ وفقدتُ صالح الإخوان ، ولم أجد من الأمير خلفاً ! . فقال الحجاج : انصرف يا شعبي ، فانصرف آمنا " .

2- صلاح الدِّين الأيوبي( ت: 589هـ ) رحمه الله تعالى، أكرمه الله بالفتوحات الاسلامية والظفر على الحملات الصليبية ، ونشر الاسلام والسنة ورفع راية الجهاد . لكن دولته سقطت بعد وفاته بيسير ، بسبب تنازع أبنائه واخوانه على شؤون المملكة والاستبداد بأمور الدولة ! . وحكمت بعدهم امرأة قادت الرجال وكانت مِلء السمع والبصر ، ولكنها سقطت هي الأُخرى ، وكانت مُدة حكمها ثمانين يوماً ، وقد ماتت أبشع موتة ! .

3- من العلماء الربانييِّن قديماً من أكلوا الجلود والعِظام بسبب الجوع وضعف الحال ، لكنهم كانوا ثابتين على قِيمهم ومبادئهم وأُصولهم ، وما بدَّلوا تبديلا . ومنهم الامام الشاطبي(ت: 595هـ ) رحمه الله تعالى ، الذي هجر بلده بسبب فتنة الُأمراء التي شاعت في عصره ، فقد كانوا يحتجبون عن رعيتهم وضعفائهم ولا ينُصتون لمطالبهم . وفي الحديث المرفوع : " من ولَّاه الله عز وجل شيئاً من أمر المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخَلتهم وفقرهم ، احتجب الله عنه دون حاجته وخَلته وفقره " أخرجه أبو داود بإسناد صحيح .

وبالنظر إلى ما تقدَّم تتبين عِدة فوائد :
أ- الواجب على المسلم في ظل هذا الصراع والتجاذب ، أن يعلم أن الدنيا رحلة مؤقتة ،لا يستريح فيها أحد ، لا الغنيُّ في غِناه ، ولا الفقير في ضناه . والسعيد من وعظ بغيره .

ب- الخلاف بين الناس لا حَدَّ له ودائرته متسعة – لا سِّيما في هذا العصر - والناس كإبل مئة لا تكاد تجد فيها راحلة ! . والعضُّ بالنواجذ على الوحي يقي من التردِّي والوسوسة .

ج- اليوم تتزاحم المصالح والرغبات والأماني في الحياة ما بين مُنظِّر ومُقَرِّر ومُعَبِّر !
ومن كمال التعبُّد أن يُقدَّم النص على المصلحة بأنواعها الثلاثة : المعتبرة والملغاة والمرسلة ،لأن الله تعالى أعلم بخلقه وأرحم . وبهذا يمكن الجمع بين الأصالة والحداثة .

د- من الظالمين والمجرمين من يُدبِّر ، لكن الله تعالى قد جعل لكل أجلٍ كتاب . وتدبير الظالمين تدميرٌ لهم .وقد ورد الأمر في كتاب الله بالصبر وعدم الحزن على الظالمين المسرفين .

ه- من الإيمان المنسي تكرار المسلم للنظر والتدبُّر في حوداث التاريخ ، ليعرف العواقب ومآلات الأحداث في الأمم . وقد قال الأصوليون إن الأمر المطلق للتكرار ، فلا يصلح أن يُهمل النظر بعد ورود الأثر .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

أ/أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة
http://lojainiat.com/main/Author/2083