أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
حصل بيني وبين أحد أصحابي مدارسة في باب تقييد العلم و ذكر صورة الخلاف ونسيان الكلام حولها فكتبت هذه الجملة وصدّرتها بذكر فضل العلم ، فأقول :
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين ، نبينا محمد و على آله و صحبه و سلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد ،،

سأذكر لك يا صاحبي ما قد يفيد في باب استحضار العلم و تقييده خصوصًا إذا استحضر الطالب المسألة والخلاف مع نسيانه الأدلة والراجح ، فأقول و بالله التوفيق :

• اعلم رحمني الله و إياك أن الله سبحانه و تعالى قد امتدح العلماء فقال في كتابه : { شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم قائمًا بالقسط } فقرن شهادته بشهادة الملائكة و شهادة الملائكة بشهادة العلماء ، وقال { قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون } ففرق الله سبحانه بين العالم و بين الجاهل ، وقال { و لو ردوه الى الرسول وإلى أولي الأمر لعلمه الذين يستنبطونه منهم } فأوجب الله الرجوع إلى أولي الأمر وهم العلماء في هذه الآية وقال في الأخرى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وقال الرسول صلى الله عليه و سلم : " من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين " قال ابن باز : " ومعناه أن من لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيرًا والعياذ بالله " اهـ بتصرف .
وفي الأثر " من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة " و في الأثر الآخر : " أن العلماء هم ورثة الأنبياء ألا وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا و لا درهما وإنما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر "

وقال شاعرهم :

يسعون في طلب الحديث بعفةٍ
وفضائل جلت عن الإحصاءِ

ومداد ما تجري به أقلامهم
أزكى وأفضل من دم الشهداءِ

يا طالبي علم النبي محمدٍ
ما أنتم وسواكمُ بسواءِ

ومن فضل العلم أنه من الجهاد و لذلك لما أباح الله على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم المسابقة على عوض في النصل والخف والحافر لأنه معينٌ على الجهاد و لقد عدّ الإمام شيخ الإسلام أن المسابقة على عوض في العلم جائزة قياسًا على المسابقة على عوض في النصل و الخف والحافر بجامع أن كليهما مما يعين على الجهاد .


• ثانيًا : فرّق ابن عبدالبر بين التقليد في المسائل الخلافية و بين الاتّباع ، فقال :
الاتباع : هو تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه .
والتقليد : أن تقول بقوله وأنت لا تعرف وجه القول ولا معناه وتأبى من سواه ، أو يتبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه مع أنه قد بان لك فساد قوله . وهو محرّمٌ القول به في دين الله سبحانه وتعالى . راجع جامع بيان ابن عبدالبر .


• ثالثًا : لتعلم وفقني الله وإياك للعلم النافع أن حد العلم - كما ذكر ابن عبدالبر - هو ما تبينته و استيقنته . فكل من استيقن شيئًا فقد علمه . ومن لم يستيقن الشيء وقال به تقليدًا فلم يعلمه .
و العلم : هو معرفة الشيء بدليله . هذا هو العلم .
فطريقة التعلم عند العلماء :
هو أن يعمد طالب العلم إلى كتاب فقه معتمد في أحد المذاهب الأربعة يتفقه عليه و يزيد فيه من حواشيه و يقرأ منه على شيوخه ويطالع الشروح عليه . ثم ينتقل شيئًا فشيئًا من كتاب إلى آخر على أن يجعل كتابه الأصل هو عمدته في إطلاعه وفي تدريسه بعد ذلك . ليسهل عليه الرجوع إلى رؤوس المسائل التي درسها . أما أن ينتقل طالب العلم بين الكتب كتابًا كتابًا دون الضبط فهذه ليست من طرائق التعلم عند العلماء السابقين بل كانوا يتعلمون بطريقة منضبطة ، ثم لتعلم يا صاحبي أن العلماء السابقين لم يهتموا بطريقة الجرد وإنهاء الكتب الفقهية التأصيلية ، بل كانوا يتعلمون من شيوخهم طريقة التفقه على الكتاب و السنة ويتعلمون منهم طريقة التفهم والتعقل للمسائل المدونة في كتب الفقه في المذاهب الفقهية المختلفة . فلذلك لم يكن من اللازم عليهم أن يأخذوا كتابًا كاملًا فهم اهتموا بتنمية الملكة قبل اهتمامهم بالشكليات ولكن الغالب من طرائقهم هو إنهاء الكتاب كاملًا ولكن ذكرت ذلك من أجل أن لا يُغفل الذوق الفقهي أثناء الدراسة الفقهية . لأن حقيقة الفقه أن الطالب ينقل طريقة تعلمه التي تعلمها في صغره فإن وفّقه الله لشيخ حاذق له ملكة فقهية فإن ذلك سيؤثر في البناء الفقهي لدى الطالب إذا اشتد عوده . ذكرت ذلك للتنبيه على أن الطالب إذا تربى من صغره على الخلافات فإنه لا ينضج بعد ذلك ويبدأ في التخبط والشك في المسائل حتى تجده يظن في مسائل الإجماع أنها مسائل خلاف . وهذه علامة تخبط في الطالب يظهر أثرها حينما يكبر فتجده يشذ في المسائل الفقهية المشهورة ورأينا من هذا الشيء الكثير و لا تنسَ يا صاحبي أن ابن عباس فسر قول الله تعالى : { ولكن كونوا ربانين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } فقال : الرباني من يعلم صغار العلم قبل كباره . ولهذا ينقل أحد طلبة العلم أنه سمع الشيخ الإمام محمد بن عثيمين وقد سأله أحدهم عن أقوال العلماء في السواك ( أظنه يقصد بالنسبة للصائم ) فقال الشيخ : لا أعلم ماذا قال الناس ، ولكني أعلم قول الله وقول رسوله صلى الله عليه و سلم . أو كلمة نحوها .
يريد بذلك رحمه الله أن يربي طلابه على اتباع الدليل ، وما المهم حين يحفظ الطالب أقوال العلماء وأراءهم في كل مسألة وهو لم يعرف مراد الله في هذه المسألة .

فبعض العلماء من قوة ملكته يعرف الحكم أحيانًا دون الإطلاع على المسألة ذاتها في كتب الفقه . تجد مثال ذلك كثيرًا في باب المعاملات فإذا تبينت لك صورة المسألة قد تحكم بفسادها لأن فيها غررًا مع أنك لم تقرأ المسألة في كتب الفقه وهذا يكون من خلال التمرس ، و لا أعني بذلك التزهيد في معرفة خلاف العلماء ، بل هو مهم فقد تجد في صورة مسألة غررًا ولا تحكم بفسادها لأنه غررٌ يسير مغتفر ، أو تجد في مسألة مخالفة لقواعد صحة البيع كالسلم الذي يقول عنه بعض العلماء : خلاف القياس فصحت ، ووجه الصحة أنها مسألة منصوصة ، ولا ينبغي وصفها بأنها مخالفة للقياس ، ولكن أحببت التنبيه أن القواعد غير كافية في الحكم على المسألة فالقواعد أغلبية وقد يكون خلافها قد نص عليه في كتاب أوسنة ومن هنا يتعين معرفة خلاف العلماء ليتضح لنا وجه المسألة فهل نرد الحديث ونعلّه من أجل مخالفته للعمومات أو نعمل بالحديث ونجعله خاصًا في مسألة بعينها دون العموم .

ومن فائدة معرفة الخلاف معرفة ثمرة الخلاف إذ معرفتها هو التسلسل المنطقي الفقهي الذي من خلاله تستفيد معرفة فروع كثيرة تنبني على خلاف معين وهو باب في أصول الفقه نافع .


• رابعًا : وبعد ذلك لابد من تقييد العلم في الدفاتر ومراجعتها ، ولابد من مراجعة المكتوب مرة دون مرة ، ولقد عقد الإمام ابن عبدالبر بابًا في كتابه في حكاية قول من منع من الكتابة و وجه قولهم هو : أن الكتابة تفسد الحفظ والمراجعة فتبقى في القرطاس دون مراجعة ، وتعليلهم فيه قوة ولكن على طالب العلم أن يقيد ويراجع ليخرج من التبعة و لقد صنف العلماء في هذا الباب ، فعقد ابن عبدالبر بابًا في كتابه ، وتجد هذا منثورًا في كتب آداب الطلب ، وصنف الخطيب البغدادي فيه كتابًا سماه " تقييد العلم " فليُرجع في مظانه .

ولكن عليه أن يستحضر الدواء الذي قال عنه بعض العلماء من أنَّ دواء النسيان مداومة النظر في الكتب فإن هذا دواء نافع عليك أن لا تتركه وتلازم المطالعة بعدد أنفاسك . و من الطرق كذلك : أن تتحفظ المسألة مع أقوالها في كل قول دليل ترا أنه من أقوى أدلة القول وتوسع دائرة النظر لديك فتنظر بأفق واسع و لا يكون مدار ذلك على التحفظ دون التعقل ، فإن العلم هو الفهم ، وإذا لم تكن لك آلة التفهم فلا تطمع في التعلم .

فإذا أردت التحفظ فعليك بـ :
1 - تصوير المسألة .
2 - فهم الأقوال .
3 - معرفة القائلين .
4 - حفظ أدلتهم أو أبرزها .
5 - فهم أوجه الدلالة من الأدلة وارتباطه بالمسألة .
6 - ثم بعد ذلك معرفة أرجح الأقوال عن طريق أقرب الأقوال لمعنى الأدلة .
ولا يغرك وجود الدليل على قول ما فترجحه على الآخر بسبب وجود الدليل فقد يكون الدليل غير واضح الدلالة على المسألة أو فيه بُعد مع مخالفته قواعد الشريعة الثابتة من القطعيات .

تنبيه : إذا سألك يا صاحبي عاميٌّ فلا تذكر له الخلاف إذ إن العلماء عدّوا ذلك من فتح باب التشهي عند المستفتي ، والشريعة جاءت لكبح الهوى فتذكر له ما تدين الله به مقرونًا بالدليل فهو قد سألك عن رأيك ولم يسأل غيرك إذ الواجب عليه أن يتحرى أورعهم في الفتوى فيسأله . أنظر الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ( باب المفتي و المستفتي )

• وأخيرًا : لابد من سؤال الله التوفيق و السداد فإن العلماء الربانين كانوا متعلقين بالله سبحانه وتعالى يرجون منه السداد والتوفيق يلهجون بذكره و دعائه ، فلا بد من تعليق القلب بالله عز و جل ، فمن حرمه الله من التوفيق ضاع وكما قيل :
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى
فأكثر من يجني عليه اجتهاده

والله أعلم ،،